تفسير قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {من جاء بالحسنة....الآية}. قال أبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر: هذه الآية نزلت في الأعراب الذين آمنوا بعد الهجرة فضاعف الله حسناتهم للحسنة عشر. وكان المهاجرون قد ضوعف لهم الحسنة سبعمائة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا تأويل يحتاج إلى سند يقطع العذر، وقالت فرقة: هذه الآية لجميع الأمة، أي إن الله يضاعف الحسنة بعشرة ثم بعد هذا المضمون قد يزيد ما يشاء، وقد يزيد أيضا على بعض الأعمال كنفقة الجهاد، وقال ابن مسعود ومجاهد والقاسم بن أبي بزة وغيرهم: (الحسنة) لا إله إلا الله (والسيئة) الكفر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه هي الغاية من الطرفين، وقالت فرقة: ذلك لفظ عام في جميع الحسنات والسيئات، وهذا هو الظاهر. وأنث لفظ (العشر) لأن الأمثال هاهنا بالمعنى حسنات، ويحتمل أن الأمثال أنث لما أضيفت إلى مؤنث، وهو الضمير كما قال الشاعر: [الطويل]
مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت ....... أعاليها مرّ الرياح النواسم
فأنث وقرأ الحسن وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر والأعمش ويعقوب (فله عشر) بالتنوين (أمثالها) بالرفع.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأعمال ست موجبة وموجبة ومضعفة ومضعفة ومثل ومثل. فلا إله إلا الله توجب الجنة. والشرك يوجب النار. ونفقة الجهاد تضعف سبعمائة ضعف، والنفقة على الأهل حسنتها بعشرة، والسيئة جزاؤها مثلها، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة مثلها»، وقوله تعالى: {لا يظلمون} أي لا يوضع في جزائهم شيء في غير موضعه، وتقدير الآية من جاء بالحسنة فله ثواب عشر أمثالها، والمماثلة بين الحسنة والثواب مترتبة إذا تدبرت، وقال الطبري قوله من جاء بالحسنة الآية، يريد من الذين فرقوا دينهم أي من جاء مؤمنا فله الجنة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والقصد بالآية إلى العموم في جميع العالم أليق باللفظ). [المحرر الوجيز: 3/ 502-504]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قل إنّني هداني ربّي إلى صراطٍ مستقيمٍ ديناً قيماً ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين (161) قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوّل المسلمين (163)}
هذا أمر من الله عز وجل نبيه عليه السلام بالإعلان بشريعته والانتباه من سواها من أضاليلهم،
ووصف الشريعة بما هي عليه من الحسن والفضل والاستقامة، وهداني معناه أرشدني بخلق الهدى في قلبي. والرب المالك، ولفظه مصدر من قولك ربه يربه، وإنما هو مثل عدل ورضى في أنه مصدر وصف به وأصله ذو الرب ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل الرب. و (الصراط) الطريق.
وديناً منصوب ب هداني المقدر الذي يدل عليه هداني الأول، وهذا الضمير إنما يصل وحده دون أن يحتاج إلى إضمار إلى. إذ هدى يصل بنفسه إلى مفعوله الثاني وبحرف الجر، فهو فعل متردد.
وقيل نصب ديناً فعل مضمر تقديره عرفني دينا. وقيل تقديره فاتبعوا دينا أو فالزموا دينا، وقيل نصب على البدل من صراطٍ على الموضع، أن تقديره هداني ربي صراطا مستقيما، وقيماً نعت للدين، ومعناه مستقيما معتدلا.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «قيّما» بفتح القاف وكسر الياء وشدها. وأصله قيوم عللت كتعليل سيد وميت، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي (قيما) بكسر القاف وفتح الياء على وزن فعل، وكأن الأصل أن يجيء فيه قوما كعوض وحول إلا أنه شذ كشذوذ قولهم جياد في جمع جواد وثيرة في جمع ثور، وملّة بدل من الدين، والملة الشريعة وحنيفاً نصب على الحال من إبراهيم، والحنف في كلام العرب الميل فقد يكون الميل إلى فساد كحنف الرجل.
وكقوله: {فمن خاف من موصٍ جنفاً}[البقرة: 182] على قراءة من قرأ بالحاء غير المنقوطة ونحو ذلك. وقد يكون الحنف إلى الصلاح كقوله عليه السلام: «الحنيفية السمحة»، و «الدين الحنيف» ونحوه، وقال ابن قتيبة: الحنف الاستقامة وإنما سمي الأحنف في الرجل على جهة التفاؤل له. وما كان من المشركين نفي للنقيصة عنه صلى الله عليه وسلم). [المحرر الوجيز: 3/ 504-505]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله {قل إنّ صلاتي.....الآية}، أمر من الله عز وجل أن يعلن بأن مقصده في صلاته وطاعته من ذبيحة وغيرها وتصرفه مدة حياته وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل وإرادة وجهه وطلب رضاه، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة أن صلاته ونسكه وحياته وموته بيد الله عز وجل، يصرفه في جميع ذلك كيف شاء، وأنه قد هداه من ذلك إلى صراط مستقيم، ويكون قوله بذلك أمرت على هذا التأويل راجعا إلى قوله لا شريك له فقط أو راجعا إلى القول الأول وعلى التأويل الأول يرجع على جميع ما ذكر من صلاة وغيرها، أي أمرت بأن أقصد وجه الله عز وجل في ذلك وأن ألتزم العمل، وقرأ جمهور الناس: {ونسكي}بضم السين، وقرأ أبو حيوة والحسن بإسكان السين، وقالت فرقة (النسك) في هذه الآية الذبائح.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية أنها نازلة قد تقدم ذكرها والجدل فيها في السورة، وقالت فرقة: (النسك) في هذه الآية جميع أعمال الطاعات من قولك نسك فلان فهو ناسك إذا تعبد، وقرأ السبعة سوى نافع و {محياي ومماتي} بفتح الياء من «محياي» وسكونها من {مماتي}، وقرأ نافع وحده و {محياي} بسكون الياء من {محياي}، قال أبو علي الفارسي وهي شاذة في القياس لأنها جمعت بين ساكنين، وشاذة في الاستعمال ووجهها أنه قد سمع من العرب التقت حلقتا البطان ولفلان ثلثا المال، وروى أبو خليد عن نافع و {محياي} بكسر الياء، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري و (محيي)، وهذه لغة هذيل ومنه قول أبي ذؤيب:
سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم....... فتصرعوا ولكل جنب مصرع
وقرأ عيسى بن عمر {صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي} بفتح الياء فيهن وروي ذلك عن عاصم). [المحرر الوجيز: 3/ 505-506]
تفسير قوله تعالى: {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وأنا أوّل المسلمين} أي من هذه الأمة، وقال النقاش من أهل مكة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والمعنى واحد بل الأول أعم وأحسن وقرأت فرقة {وأنا} بإشباع الألف وجمهور القراء على القراءة {وأنا}دون إشباع، وهذا كله في الوصل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وترك الإشباع أحسن لأنها ألف وقف فإذا اتصل الكلام استغنى عنها لا سيما إذا وليتها همزة). [المحرر الوجيز: 3/ 506-507]