تفسير قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قل من ينجّيكم من ظلمات البرّ والبحر تدعونه تضرّعاً وخفيةً لئن أنجانا من هذه لنكوننّ من الشّاكرين (63) قل اللّه ينجّيكم منها ومن كلّ كربٍ ثمّ أنتم تشركون (64)}
هذا تماد في توبيخ العادلين بالله الأوثان، وتوقيفهم على سوء الفعل في عبادتهم الأصنام وتركهم الذي ينجي من المهلكات ويلجأ إليه في الشدائد، ومن استفهام رفع بالابتداء، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «من ينجّيكم قل الله ينجّيكم» بتشديد الجيم وفتح النون، وقرأ أبو عمرو في رواية علي بن نصر عنه وحميد بن قيس ويعقوب «ينجيكم» فيها بتخفيف الجيم وسكون النون، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالتشديد في الأولى والتخفيف في الثانية فجمعوا بين التعدية بالألف والتعدية بالتضعيف كما جاء ذلك في قوله تبارك وتعالى:{ فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً }[الطارق: 17] وظلمات البرّ والبحر يراد به شدائدهما، فهو لفظ عام يستغرق ما كان من الشدائد بظلمة حقيقية وما كان بغير ظلمة، والعرب تقول عام أسود ويوم مظلم ويوم ذو كواكب ونحو هذا يريدون به الشدة، قال قتادة: المعنى من كرب البر والبحر، وقاله الزجّاج وتدعونه في موضع الحال وتضرّعاً نصب على المصدر والعامل فيه تدعونه، والتضرع صفة بادية على الإنسان، وخفيةً معناه الاختفاء والسر، فكأن نسق القول: تدعونه جهرا وسرا هذه العبارة بمعان زائدة، وقرأ الجميع غير عاصم: «وخفية» بضم الخاء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «وخفية» بكسر الخاء، وقرأ الأعمش: «وخيفة» من الخوف وقرأ الحجازيون وأهل الشام: «أنجيتنا»، وقرأ الكوفيون «أنجانا» على ذكر الغائب، وأمال حمزة والكسائي الجيم، ومن الشّاكرين أي على الحقيقة، والشكر على الحقيقة يتضمن الإيمان، وحكى الطبري في قوله ظلمات أنه ضلال الطرق في الظلمات ونحوه المهدوي أنه ظلام الليل والغيم والبحر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو لفظ عام لأنواع الشدائد في المعنى، وخص لفظ «الظلمات» بالذكر لما تقرر في النفوس من هول الظلمة). [المحرر الوجيز: 3/ 380-381]
تفسير قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {قل اللّه ينجّيكم ... الآية}: سبق في المجادلة إلى الجواب، إذ لا محيد عنه، ومن كلّ كربٍ لفظ عام أيضا ليتضح العموم الذي في الظلمات، ويصح أن يتأول من قوله ومن كلّ كربٍ تخصيص الظلمات قبل، ونص عليها لهولها، وعطف في هذا الموضع ب {ثمّ} للمهلة التي تبين قبح فعلهم، أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققكم به أنتم تشركون). [المحرر الوجيز: 3/ 381]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعضٍ انظر كيف نصرّف الآيات لعلّهم يفقهون (65) وكذّب به قومك وهو الحقّ قل لست عليكم بوكيلٍ (66) لكلّ نبإٍ مستقرٌّ وسوف تعلمون (67)}
هذا إخبار يتضمن الوعيد، والأظهر من نسق الآيات أن هذا الخطاب للكفار الذين تقدم ذكرهم وهو مذهب الطبري، وقال أبيّ بن كعب وأبو العالية وجماعة معهما: هي للمؤمنين وهم المراد، قال أبي بن كعب: هي أربع خلال وكلهن عذاب وكلهن واقع قبل يوم القيامة فمضت اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، ثم لبسوا شيعا وأذيق بعضهم بأس بعض، واثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم، وقال الحسن بن أبي الحسن: بعضها للكفار وبعضها للمؤمنين بعث العذاب من فوق وتحت للكفار وسائرها للمؤمنين، وهذا الاختلاف إنما هو بحسب ما يظهر من أن الآية تتناول معانيها المشركين والمؤمنين، وروي من حديث جابر وخالد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم قال: «أعوذ بوجهك» فلما نزلت: {أو من تحت أرجلكم} قال: «أعوذ بوجهك» فلما نزلت أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعضٍ قال هذه أهون أو هذه أيسر، فاحتج بهذا من قال إنها نزلت في المؤمنين، وقال الطبري: وغير ممتنع أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- تعوذ لأمته من هذه الأشياء التي توعد بها الكفار، وهون الثالثة لأنها بالمعنى هي التي دعا بها فمنع حسب حديث الموطأ وغيره، وقد قال ابن مسعود: إنها أسوأ الثلاث، وهذا عندي على جهة الإغلاظ في الموعظة، والحق أنها أيسرها كما قال عليه السلام، {ومن فوقكم ومن تحت أرجلكم} لفظ عام للمنطبقين على الإنسان وقال السدي عن أبي مالك: من فوقكم الرجم أو من تحت أرجلكم الخسف وقاله سعيد بن جبير ومجاهد، وقال ابن عباس رضي الله عنه: {من فوقكم}: ولاة الجور، {أو من تحت أرجلكم}: سفلة السوء وخدمة السوء.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذه كلها أمثلة لا أنها هي المقصود، إذ هذه وغيرها من القحوط والغرق وغير ذلك داخل في عموم اللفظ ويلبسكم على قراءة الستة معناه يخلطكم شيعا فرقا يتشيع بعضها لبعض، واللبس الخلط، وقال المفسرون هو افتراق الأهواء والقتال بين الأمة، وقرأ أبو عبد الله المدني «يلبسكم» بضم الياء من ألبس فهو على هذه استعارة من اللباس، فالمعنى أو يلبسكم الفتنة شيعا وشيعاً منصوب على الحال وقد قال الشاعر [النابغة الجعدي]: [المتقارب]
لبست أناسا فأفنيتهم ....... ... ... ... ...
فهذه عبارة عن الخلطة والمقاساة، والبأس القتل وما أشبهه من المكاره، ويذيق استعارة إذ هي من أجل حواس الاختبار، وهي استعارة مستعملة في كثير من كلام العرب وفي القرآن، وقرأ الأعمش «ونذيق» بنون الجماعة، وهي نون العظمة في جهة الله عز وجل، وتقول أذقت فلانا العلقم تريد كراهية شيء صنعته به ونحو هذا.
وفي قوله تعالى: {انظر كيف نصرّف ... الآية}، استرجاع لهم وإن كان لفظها لفظ تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم فمضمنها أن هذه الآيات والدلائل إنما هي لاستصرافهم عن طريق غيهم، و «الفقه» الفهم). [المحرر الوجيز: 3/ 382-384]
تفسير قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) }قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والضمير في به عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات، قاله السدي وهذا هو الظاهر، وقيل يعود على النبي -عليه السلام- وهذا بعيد لقرب مخاطبته بعد ذلك بالكاف في قوله: قومك ويحتمل أن يعود الضمير على الوعيد الذي تضمنته الآية ونحا إليه الطبري، وقرأ ابن أبي عبلة «وكذبت قومك» بزيادة تاء، وبوكيلٍ معناه بمدفوع إلى أخذكم بالإيمان والهدى، والوكيل بمعنى الحفيظ، وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ، وقيل لا نسخ في هذا إذ هو خبر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ لست الآن، وليس فيه أنه لا يكون في المسأنف). [المحرر الوجيز: 3/ 384]
تفسير قوله تعالى: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله:{لكلّ نبإٍ مستقرٌّ} أي غاية يعرف عندها صدقه من كذبه، وسوف تعلمون تهديد محض ووعيد). [المحرر الوجيز: 3/ 384]