جمهرة تفاسير السلف
تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ومن أظلم ممّن ذكّر بآيات ربّه فأعرض عنها ونسي ما قدّمت يداه إنّا جعلنا على قلوبهم أكنّةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذًا أبدًا}.
يقول عزّ ذكره: وأيّ النّاس أوضع للإعراض والصّدّ في غير موضعهما ممّن ذكّره بآياته وحججه، فدلّه بها على سبيل الرّشاد، وهداه بها إلى طريق النّجاة، فأعرض عن آياته وأدلّته الّتي في استدلاله بها الوصول إلى الخلاص من الهلاك {ونسي ما قدّمت يداه} يقول: ونسي ما أسلف من الذّنوب المهلكة فلم يتب، منها ولم ينب، كما؛
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {ونسي ما قدّمت يداه} أي نسي ما سلف من الذّنوب.
وقوله: {إنّا جعلنا على قلوبهم أكنّةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا} يقول تعالى ذكره: إنّا جعلنا على قلوب هؤلاء الّذين يعرضون عن آيات اللّه إذا ذكّروا بها أغطيةً لئلاّ يفقهوه، لأنّ المعنى أن يفقهوا ما ذكّروا به.
وقوله: {وفي آذانهم وقرًا} يقول: في آذانهم ثقلاً لئلاّ يسمعوه {وإن تدعهم إلى الهدى} يقول عزّ ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: وإن تدع يا محمّد هؤلاء المعرضين عن آيات اللّه عند التّذكير بها إلى الاستقامة على محجّة الحقّ والإيمان باللّه، وما جئتهم به من عند ربّك {فلن يهتدوا إذًا أبدًا} يقول: فلن يستقيموا إذًا أبدًا على الحقّ، ولن يؤمنوا بما دعوتهم إليه، لأنّ اللّه قد طبع على قلوبهم، وسمعهم وأبصارهم). [جامع البيان: 15/303-304]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ونسي ما قدمت يداه} أي نسي ما سلف من الذنوب الكثيرة). [الدر المنثور: 9/575]
تفسير قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله موئلا قال منجيا). [تفسير عبد الرزاق: 1/405]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (وقال غيره: " وألت تئل: تنجو " وقال مجاهدٌ: {موئلًا} [الكهف: 58] : «محرزًا»). [صحيح البخاري: 6/87-88]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله وقال مجاهدٌ موئلًا محرزًا وصله الفريابيّ وروى عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن قتادة في قوله موئلًا قال ملجأً ورجّحه بن قتيبة وقال هو من وأل إذا لجأ إليه وهو هنا مصدرٌ وأصل الموئل المرجع قوله وألت تئل تنجو قال أبو عبيدة في قوله موئلا ملجأ ومنجأ قال الشّاعر:
فلا وألت نفسٌ عليها تحاذر أي لا نجت). [فتح الباري: 8/407]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قوله فيه
وقال مجاهد {موئلا} محرزا {لا يستطيعون سمعا} لا يعقلون
قال الفريابيّ ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله 58 الكهف {لن يجدوا من دونه موئلا} قال محرزا). [تغليق التعليق: 4/247]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (وقال غيره وألت تئل تنجو: وقال مجاهدٌ موئلاً محرزاً
أي: وقال غير ابن عبّاس في قوله: {بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً} (الكهف: 58) أراد أن لفظ موئلاً مشتقّ من: (وألت تئل) من باب فعل يفعل بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل، ومعنى: (تئل تنجو) وقال الجوهري: وأل إليه يئل وألا ووؤلاً على فعول، أي: لجأ، والموئل الملجأ. قوله: (وقال مجاهد موئلاً محرزا) يعني معناه: محرزا، وعن قتادة معناه ملجأ ورجح ابن قتيبة هذا المعنى). [عمدة القاري: 19/38]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( (وقال غيره) أي غير ابن عباس وسقط وقال سعيد عن ابن عباس إلى هنا لأبي ذر في قوله تعالى: {بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلًا} [الكهف: 58] مشتق من (وألت تئل) من باب فعل يفعل بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل أي (تنجو) يقال وأل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه والموئل الملجأ (وقال مجاهد موئلًا) أي (محرزًا) بفتح الميم وكسر الراء بينهما حاء مهملة ساكنة). [إرشاد الساري: 7/214-215]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وربّك الغفور ذو الرّحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: وربّك السّاتر يا محمّد على ذنوب عباده بعفوه عنهم إذا تابوا منهم {ذو الرّحمة} بهم {لو يؤاخذهم بما كسبوا} هؤلاء المعرضين عن آياته إذا ذكّروا بها بما كسبوا من الذّنوب والآثام {لعجّل لهم العذاب} ولكنّه لرحمته بخلقه غير فاعلٍ ذلك بهم إلى ميقاتهم وآجالهم {بل لهم موعدٌ} يقول: لكن لهم موعدٌ، وذلك ميقات محلّ عذابهم، وهو يوم بدرٍ {لن يجدوا من دونه مؤئلاً}. يقول تعالى ذكره: لن يجد هؤلاء المشركون، وإن لم يعجّل لهم العذاب في الدّنيا من دون الموعد الّذي جعلته ميقاتًا لعذابهم، ممّا يلجئون إليه، ومنجًى ينجون معه، يعني أنّهم لا يجدون معقلاً يعتقلون به من عذاب اللّه، يقال منه: وألت من كذا إلى كذا، أئل وءولاً، مثل وعولاً، ومنه قول الشّاعر:
لا وألت نفسك خلّيتها = للعامريّين ولم تكلم
يقول: لا نجت، وقول الأعشى:
وقد أخالس ربّ البيت غفلته = وقد يحاذر منّي ثمّ ما يئل
وبنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، ح وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {موئلاً} قال: محرزًا.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثني عليٌّ، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {لن يجدوا من دونه موئلاً} يقول: ملجأً.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، {لن يجدوا من دونه موئلاً} أي لن يجدوا من دونه وليًّا ولا ملجأً.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {لن يجدوا من دونه موئلاً} قال: ليس من دونه ملجأً يئلون إليه). [جامع البيان: 15/304-305]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله موئلا قال محرزا). [تفسير مجاهد: 378]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {بما كسبوا} يقول: بما علموا). [الدر المنثور: 9/575]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {بل لهم موعد} قال: الموعد يوم القيامة). [الدر المنثور: 9/575]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله: {لن يجدوا من دونه موئلا} قال: ملجأ). [الدر المنثور: 9/575]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {لن يجدوا من دونه موئلا} قال: مجوزا، وفي قوله: {وجعلنا لمهلكهم موعدا} قال: أجلا). [الدر المنثور: 9/575]
تفسير قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدًا}.
يقول تعالى ذكره: وتلك القرى من عادٍ وثمود وأصحاب الأيكة أهلكنا أهلها لمّا ظلموا، فكفروا باللّه وآياته {وجعلنا لمهلكهم موعدًا} يعني ميقاتًا وأجلاً، حين بلغوه جاءهم عذاب فأهلكناهم به، يقول: فكذلك جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك يا محمّد الّذين لا يؤمنون بك أبدًا موعدًا، إذا جاءهم ذلك الموعد أهلكناهم سنّتنا في الّذين خلوا من قبلهم من ضربائهم، كما؛
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، ح، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {لمهلكهم موعدًا} قال: أجلاً.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثني الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله {لمهلكهم} فقرأ ذلك عامّة قرّاء الحجاز والعراق: ( لمهلكهم ) بضمّ الميم وفتح اللاّم على توجيه ذلك إلى أنّه مصدرٌ من أهلكوا إهلاكًا. وقرأه عاصمٌ: ( لمهلكهم ) بفتح الميم واللاّم إلى توجيهه إلى المصدر من هلكوا هلاكًا ومهلكًا.
وأولى القراءتين بالصّواب عندي في ذلك قراءة من قرأه: " لمهلكهمٍ " بضمّ الميم وفتح اللاّم لإجماع الحجّة من القرّاء عليه، واستدلالاً بقوله: {وتلك القرى أهلكناهم} فأن يكون المصدر من أهلكنا، إذ كان قد تقدّم قبله أولى.
وقيل: أهلكناهم، وقد قال قبل: {وتلك القرى} لأنّ الهلاك إنّما حل بأهل القرى، فعاد إلى المعنى، وأجرى الكلام عليه دون اللّفظ.
وقال بعض نحويّي البصرة: قال: {وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا} يعني أهلها، كما قال: {واسأل القرية} ولم يجر بلفظ القرى، ولكن أجرى اللّفظ على القوم، وأجرى اللّفظ في القرية عليها إلى قوله {الّتي كنّا فيها} وقال: {أهلكناهم} ولم يقل: أهلكناها، حمله على القوم، كما قال: جاءت تميمٌ، وجعل الفعل لبني تميمٍ، ولم يجعله لتميمٍ، ولو فعل ذلك لقال: جاء تميمٌ، وهذا لا يحسن في نحو هذا، لأنّه قد أراد غير تميمٍ في نحو هذا الموضع، فجعله اسمًا، ولم يحتمل إذا اعتلّ أن يحذف ما قبله كلّه معنى التّاء من جاءت مع بني، وترك الفعل على ما كان ليعلم أنّه قد حذف شيئًا قبل تميمٍ.
وقال بعضهم: إنّما جاز أن يقال: تلك القرى أهلكناهم، لأنّ القرية قامت مقام الأهل، فجاز أن تردّ على الأهل مرّةً وعليها مرّةً، ولا يجوز ذلك في تميمٍ، لأنّ القبيلة تعرف به وليس تميمٌ هو القبيلة، وإنّما عرفت القبيلة به، ولو كانت القبيلة قد سمّيت بالرّجل لجرت عليه، كما تقول: وقعت في هودٍ، تريد في سورة هودٍ وليس هودٌ اسمًا للسّورة وإنّما عرفت السّورة به، فلو سمّيت السّورة بهودٍ لم تجر، فقيل: وقعت في هودٍ يا هذا، فلم يجر، وكذلك لو سمّي بني تميمٍ تميمًا لقيل: هذه تميم قد أقبلت.
فتأويل الكلام: وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا، وجعلنا لإهلاكهم موعدًا). [جامع البيان: 15/306-308]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وجعلنا لمهلكهم موعدا قال أجلا). [تفسير مجاهد: 378]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {لن يجدوا من دونه موئلا} قال: مجوزا، وفي قوله: {وجعلنا لمهلكهم موعدا} قال: أجلا). [الدر المنثور: 9/575] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن العباس بن عزوان أسنده في قوله: {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا} قال: قضى الله العقوبة حين عصي ثم أخرها حتى جاء أجلها ثم أرسلها). [الدر المنثور: 9/575-576]