الحكمة من تقديم {إياك نعبد} على {إياك نستعين}.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الحكمة من تقديم {إياك نعبد} على {إياك نستعين}.
هذه المسألة من مسائل التفسير البياني، وهي مسألة ظهرت عناية المفسّرين بها واشتهرت، وتعددت أقوالهم فيه وكثرت، وتنوّعت مسالكهم في الجواب عنها، والبيان عن حِكَم هذا التقديم العجيب، في سورة قد أُحكمت غاية الإحكام.
وأشهر الأقوال في هذه المسألة ستة أقوال:
القول الأول: الحكمة مراعاة فواصل الآيات في السورة، وهذا القول ذكره البيضاوي وجهاً وكذلك النسفي وابن عاشور وغيرهم.
والقول الثاني: أنه لا فرق في المعنى بين تقديم العبادة على الاستعانة والعكس ، وهذا القول قاله ابن جرير قال: (لمَّا كان معلومًا أن العبادة لا سبيلَ للعبد إليها إلا بمعونة من الله جلّ ثناؤه، وكان محالا أن يكون العبْد عابدًا إلا وهو على العبادة مُعان، وأن يكون مُعانًا عليها إلا وهو لها فاعل- كان سواءً تقديمُ ما قُدمّ منهما على صاحبه . كما سواءٌ قولك للرجل إذا قضى حاجَتَك فأحسن إليك في قضائها: "قضيتَ حاجتي فأحسنتَ إليّ " ، فقدّمت ذكر قضائه حاجتَك، أو قلتَ: أحسنتَ إليّ فقضيتَ حاجتي"، فقدَّمتَ ذكر الإحسان على ذكر قضاء الحاجة. لأنه لا يكون قاضيًا حاجتَك إلا وهو إليك محسن، ولا محسنًا إليك إلا وهو لحاجتك قاضٍ. فكذلك سواءٌ قول القائل: اللهم إنّا إياك نعبُدُ فأعِنَّا على عبادتك، وقوله : اللهم أعنَّا على عبادتك فإنّا إياك نعبُدُ)ا.هـ.
وهذا القول فيه نظر.
القول الثالث: أن العبادة أعم من الاستعانة ، لأن الاستعانة نوع من أنواع العبادة فقدم الأعم على الأخص، وهذا القول ذكره البغوي في تفسيره.
القول الرابع: أن العبادة هي المقصودة والاستعانة وسيلة إليها، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، وقال به ابن كثير في تفسيره.
قال ابن تيمية: (قال في الفاتحة: {إياك نعبد وإياك نستعين} فقدَّم قوله: {إياك نعبد} لأنه المقصود لنفسه [تعالى] على قوله: {وإياك نستعين} لأنه وسيلة إلى ذلك، والمقاصد مقدمة في القصد والقول على الوسائل).ا.هـ.
وقال ابن كثير رحمه الله: (وإنما قدم: { إياك نعبد } على { وإياك نستعين } لأن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والاهتمام والحزم هو أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، والله أعلم)ا.ه.
القول الخامس: أنه لبيان أن عبادة العبد لربه لا تكون إلا بإعانة الله تعالى وتوفيقه وهذا مما يستوجب الشكر ويذهب العجب فلذلك ناسب أن يتبع قوله: (إياك نعبد) بـ(إياك نستعين) للاعتراف بفضل الله تعالى في توفيقه للعبادة والإعانة عليها، وهذا القول ذكره البيضاوي وجها، وألمح إليه أبو السعود.
القول السادس: قول ابن عاشور إذ قال في التحرير والتنوير: (ووجه تقديم قوله { إياك نعبد } على قوله : { وإياك نستعين } أن العبادة تَقَرُّبٌ للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة ، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدِّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك، ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبوداً للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل . وقد حصل من ذلك التقديم أيضاً إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان)ا.هـ.
وفي المسألة أقوال أخرى حتى أوصلها الألوسي في روح المعاني إلى أحد عشر وجهاً، وفي بعضها نظر.
وهذه الأقوال كما ترى مبناها على تلمّس الحكمة من تقديم {إياك نعبد} على {إيَّاك نستعين} ، وقد تقرر أنَّ الله تعالى حكيم عليم، وأن الله قد أحكم كتابه غاية الإحكام، وأن القرآن قد بلغ الذروة العليا في الفصاحة وحسن البيان، فلذلك قد يجتمع في المسألة الواحدة من المسائل البيانية حِكَمٌ متعدّدة ويتفاوت العلماء في إدراكها وحسن البيان عنها.
والقاعدة في مثل هذه المسائل أن يُقبل ما يحتمله السياق وترتيب الكلام ومقاصد الآيات وغيرها من الدلالات بشرطين:
أحدهما: أن يكون القول في نفسه صحيحاً.
والثاني: أن يكون لنظم الآية دلالة معتبرة عليه.
ومن أمعن النظر في هذه الأمور وكانت له معرفة حسنة بعلم البيان تبيّنت له حكم متعدّدة في غالب الأمر، بل ربّما ظهر له من الدلائل ما غفل عن ذكره كثيرون، كما فعل ابن القيّم رحمه الله تعالى في كتابه "مدارج السالكين" في جوابه على هذا السؤال؛ فقد أحسن بيان جملة من الحكم والأسرار البديعة التي لا تكاد تجدها في كتب التفسير بمثل تنبيهه وبيانه، وقد استفاد أصلها من شيخه ابن تيمية لكنَّه بنى على هذا الأصل من التفصيل والتفريع ما أجاد فيه وأفاد.
فقال رحمه الله: (تقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ العبادة غاية العباد التي خُلقوا لها، والاستعانة وسيلة إليها.
- ولأن {إياك نعبد} متعلق بألوهيته واسمه "الله"، {وإياك نستعين} متعلق بربوبيته واسمه "الرب" فقدم {إياك نعبد} على {إياك نستعين} كما قدم اسم "الله" على "الرب" في أول السورة.
- ولأن {إياك نعبد} قِسْم "الرب"؛ فكان من الشطر الأول، الذي هو ثناء على الله تعالى، لكونه أولى به، و{إياك نستعين} قِسْم العبد؛ فكان من الشطر الذي له، وهو " {اهدنا الصراط المستقيم} " إلى آخر السورة.
- ولأن "العبادة" المطلقة تتضمن "الاستعانة" من غير عكس، فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به ولا ينعكس، لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته، فكانت العبادة أكمل وأتم، ولهذا كانت قسم الرب.
- ولأن "الاستعانة" جزء من "العبادة" من غير عكس.
- ولأن "الاستعانة" طلب منه، و"العبادة" طلب له.
- ولأن "العبادة" لا تكون إلا من مخلص، و"الاستعانة" تكون من مخلص ومن غير مخلص.
- ولأن "العبادة" حقّه الذي أوجبه عليك، و"الاستعانة" طلب العون على "العبادة"، وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته.
- ولأن "العبادة" شكر نعمته عليك، والله يحب أن يُشكر، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك، فإذا التزمت عبوديته، ودخلت تحت رقها أعانك عليها، فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم، والعبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها والقيام بها، وإعانة بعدها على عبودية أخرى، وهكذا أبدا، حتى يقضي العبد نحبه.
- ولأن {إياك نعبد} له، و{إياك نستعين} به، وما له مقدم على ما به، لأن ما له متعلق بمحبته ورضاه، وما به متعلق بمشيئته، وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته، فإن الكون كله متعلق بمشيئته، والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار، والطاعات والمعاصي، والمتعلق بمحبته: طاعتهم وإيمانهم، فالكفار أهل مشيئته، والمؤمنون أهل محبته، ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا، وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته.
فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم {إياك نعبد} على {إياك نستعين})ا.هـ.
وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي وجهاً حسناً فقال: (وإتيانه بقوله: {وإياك نستعين} بعد قوله: {إياك نعبد} فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة؛ لأن غيره ليس بيده الأمر، وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبيناً واضحاً في آيات أخر كقوله: {فاعبده وتوكل عليه})). [تفسير سورة الفاتحة:185 - 190]