سورة التوبة
[ من الآية (107) إلى الآية (110) ]
{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) }
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (والّذين اتّخذوا مسجدًا ضرارًا... (107)
قرأ نافع وابن عامر (الّذين اتّخذوا) بغير واوه وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة، وأهل الشام.
وقرأ الباقون (والّذين) بواو.
قال أبو منصور: من قرأ بالواو عطف جملة على جملة، ومن قرأ بغير الواو فهو تابع لما قبله، نعتٌ له). [معاني القراءات وعللها: 1/464]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (23- وقوله تعالى: {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا} [107].
قرأ نافع وابن عامر {الذين ...} بغير واو.
وقرأ الباقون بالواو {والذين ...} وكذلك في مصاحفهم {وضرارًا وكفرًا وتفريقًا} ينتصب بشيئين:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/256]
على المصدر: لأن اتخاذهم مسجدًا لما قدمت ذكره «ضررًا» فكأنه في التقدير: ضاروا ضرارًا، وكفروا كفرًا وفرقوا تفريقًا.
والوجه الثاني: أن تجعلها مفعولات كأنه في التقدير: والذين اتخذوا مسجدًا للضرار والكفر والتفريق، وكلا الوجهين حسن). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/257]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في إدخال الواو وإخراجها من قوله [جلّ وعزّ]: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا [التوبة/ 107].
فقرأ نافع وابن عامر: الذين اتخذوا مسجدا بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام.
وقرأ الباقون: والذين اتخذوا وكذلك هي في مصاحفهم.
قال أبو علي: وجه قول من ألحق الواو: أنه معطوف على ما قبله من نحو قوله: ومنهم من عاهد الله [التوبة/ 75] ومنهم من يلمزك في الصدقات [التوبة/ 58] ومنهم الذين يؤذون النبي [التوبة/ 61] وآخرون مرجون
[الحجة للقراء السبعة: 4/239]
لأمر الله [التوبة/ 106] أي: منهم آخرون، ومنهم الّذين اتّخذوا مسجدا ضرارا وكفرا.
ومن لم يلحق الواو لم يجز أن يكون الذين بدلا من قوله: وآخرون مرجون كما تبدل المعرفة من النّكرة، لأنّ المرجئين لأمر الله هم غير الذين اتخذوا المسجد ضرارا وكفرا، ألا ترى أن متخذي المسجد قد أخبر عنهم أنّهم لا يؤمنون، ولا تثلج قلوبهم بالإيمان في قوله: لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم [التوبة/ 110] وإذا وقع الخبر بتاتا على أنهم لا يؤمنون حتى الممات، والمرجون لأمر الله، قد جوّز عليهم الإيمان، علمت أنهم ليسوا إياهم، فإذا لم يكونوا هم، لم يجز أن يبدلوا منهم.
ولكن من لم يلحق الواو جاز قوله على أمرين: على أن يضمر: ومنهم الذين اتخذوا، كما أضمرت المبتدأ مع الحرف الداخل عليه في قولهم: لاها الله ذا، والمعنى:
للأمر ذا، وكما أضمرت الحرف مع الفعل في قوله سبحانه:
[الحجة للقراء السبعة: 4/240]
فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم [آل عمران/ 106] أي: فيقال لهم: أكفرتم، وكذلك حذف الخبر مع الحرف اللاحق له في قول من قرأ: الذين اتخذوا بغير واو، ويجوز أن يكون أضمر الخبر بعد، كما أضمر بعد في قوله: إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام [الحج/ 25] إلى قوله: والبادي [الحج/ 45] والمعنى فيه: ينتقم منهم، أو: يعذّبون، ونحو ذلك مما يليق بهذا المبتدأ، وحسن الحذف في الموضعين جميعا لطول الكلام بالمبتدإ وصلته). [الحجة للقراء السبعة: 4/241]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({والّذين اتّخذوا مسجدا ضرارًا}
قرأ نافع وابن عامر (الّذين اتّخذوا مسجدا) بغير واو وكذلك في مصاحفهم
وقرأ الباقون {والّذين} بالواو وهكذا في مصاحفهم). [حجة القراءات: 323]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (24- قوله: {والذين اتخذوا} قرأ نافع وابن عامر «الذين» بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة وأهل الشام، جعلوه مستأنفا، وأضمروا الخبر، أو جعله خبرًا، وأضمروا المبتدأ، ولا يحسن أن يكون «الذين» في هذه القراءة بدلًا من «وآخرين» لأن «آخرين» تُرجى لهم التوبة، و«الذين اتخذوا» لا ترجى لهم توبة لقوله: {لا يزال بنيانهم} إلى قوله: {إلى أن تقطع قلوبهم} «110» فالقراءتان مختلفتان في المعنى، وقرأ الباقون بالواو لأنها كذلك في مصاحفهم، فهو معطوف على قوله: {ومنهم من عاهد الله} «75» أي: «منهم من عاهد الله، ومنهم من يلمزك، ومنهم الذين يؤذون النبي، ومنهم آخرون مرجون، ومنهم الذين اتخذوا مسجدًا»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/507]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (25- {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا} [آية/ 107] بغير واو في أوله:
قرأها نافع وابن عامر.
والوجه أنه مبتدأ، وخبره مضمر فيما بعد، والتقدير: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا} إلى قوله {وإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ الله ورَسُولَهُ مِن قَبْلُ} يعذبهم الله أو ينتقم الله منهم.
ويجوز أن يكون على حذف خبرٍ مقدمٍ وهو منهم، والتقدير: ومنهم الذين اتخذوا مسجداً، فحذف الواو مع منهم.
وقرأ الباقون {والَّذِينَ اتَّخَذُوا} بالواو.
والوجه أنه معطوف على ما قبله من قولهم {ومِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} ثم قال {وآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} أي ومنهم آخرون، ثم قال {والَّذِينَ اتَّخَذُوا} أي ومنهم الذين اتخذوا). [الموضح: 605]
قوله تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة عبد الله بن يزيد: [أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهُ رِجَالٌ] بكسر هاء "فيه" الأولى، وضم هاء "فيه" الآخرة مختَلَستين.
قال أبو الفتح: أصل حركة هذه الهاء الضم، وإنما تكسر إذا وقع قبلها كسرة أو ياء ساكنة، كقولك: مررت به، ونزلت عليه، وقد يجوز الضم مع الكسرة والياء، وقد يجوز إشباع الكسرة والضمة ومطلهما إلى أن تحدث الواو والياء بعدهما، نحو: مررت بهِي وبهُو، ونزلْتُ عليهِي وعليهُو، وهذا مشروح في أماكنه؛ لكن القول في كسر "فيه" الأولى وضم "فيه" الثانية.
والجواب أنه لو كسرهما جميعًا أو ضمهما جميعًا لكان جميلًا حسنًا، غير أن الذي سوَّغ الخلاف بينهما عندي هو تكرير اللفظ بعينه؛ لأنه لو قال: [فيهِ فيهِ]، أو [فيهُ فيهُ] لتكرَّر اللفظ عينه ألبتة، وقد عرفنا ما عليهم في استثقالهم تكرير اللفظ حتى أنهم لا يتعاطونه إلا فيما يتناهى عنايتهم به، فيجعلون ما ظهر من تَجشمهم إياه دلالة على قوة مراعاتهم له، نحو قولهم:
[المحتسب: 1/301]
ضربت زيدًا ضربت، وضربت زيدًا زيدًا، وقولهم: قم قائمًا قم قائمًا، وقولهم فيما لا محالة في توكيده؛ أعني الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.
ومما يدلك على قوة الكلفة عليهم في التكرير أنهم لما صاغوا ألفاظ التوكيد لم يُرَدِّدوها بأعيانها؛ وذلك كقولهم: جاءني القوم أجمعون أكتعون أبصعون، فخالفوا بين الحروف؛ لكن أعادوا حرفًا واحدًا منها تنبيهًا على عنايتهم وإعلانهم أنه موضع يختارون تجشم التكرير من أجله، وجعلوا الحرف المعاد منه لامَه لأنه مقطع، والعناية بالمقاطع أقوى منها بِمَدْرَج الألفاظ.
ألا تراهم يتسمحون بحشو البيت في اختلافه، فإذا وصلوا إلى القافية راعوها ووفَّقوا بين أحكامها؛ أعني: في الروي والوصل والخروج والرِّدْف والتأسيس والحركات؟ وسبب ذلك أنه مقطع، والمعول في أكثر الأمر عليه.
ومنه إجماع الناس في الدعاء على أن يقولوا: اختِم بخير، ومنه قول الله سبحانه: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي: طَعْم مقطعه في طيب رائحة المسك، وهذا ألطف معنى من أن يكون المراد به أن هناك خاتمًا عليه، وأنه من مسك.
ومن تجنب التكرير قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}، ولم يقل: من بعد الفتح؛ تجنبًا للتكرير؛ ولهذا -في التكرير وكراهيتهم إياه إلا فيما يدُلُّون بتجشمهم تكريره على قوة اهتمامهم بما هم بسبيله- نظائر، وفيما ذكرنا كافٍ، فعلى هذا تكون هذه القراءة التي هي: [فيهِ فيهُ] اختيرت لوقوع الخلاف بين الحرفين على ما ذكرنا.
فإن قيل: فَلِمَ كُسر الأول وضُم الآخر وهلا عُكس الأمر؟ ففيه قولان؛ أحدهما: أن الكسر في نحو هذا أفشى في اللغة فقُدِّم، والضم أقل استعمالًا فأُخر، والثاني: وهو أغمض؛ وهو أن "فيه" الأولى ليست في موضع رفع؛ بل هي منصوبة الموضع بقوله تعالى: {تَقُوم} من قوله: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}، و[فيه] من قوله: {فِيهِ رِجَالٌ} في موضع الرفع؛ لأنه خبر مبتدأ مقدم عليه، والمبتدأ "رجال"، و"فيه" خبر عنه، فهو مرفوع الموضع، فلما كان كذلك سُبقت الضمة لتصور معنى الظرف.
[المحتسب: 1/302]
ومعاذ الله أن نقول: إن ضمة الهاء من "فيه" عَلَم رفع، كيف ذلك والهاء مجرورة الموضع "بفي"؟ نعم وهي اسم مضمر، والمضمر لا إعراب في شيء منه، وهي أيضًا مكسورة في أكثر اللغة، هل يجوز أن يظن أحد أن الضمة فيها علَم رفع؟ لكن الكلمة مرفوعة الموضع، وتصوُّر معنى الرفع فيها أسبق إلى اللفظ، كما ذهب بعضهم في ضمة تاء المتكلم في نحو: قمتُ وذهبتُ إلى أنها إنما بُنيت على الضم لَمْحا لموضعها من الإعراب؛ إذ هي مرفوعة، وكانت أقوى من تاء المذكر والمؤنث في نحو: قمتَ وقمتِ؛ فكانت لذلك أحق بذلك.
وليس الظرف هنا وصفًا لمسجد؛ بل هو على الاستئناف، والوقف عندنا على قوله: {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}، ثم استؤنف الكلام فقيل: {فِيهِ رِجَالٌ} . وهذا أولى من أن يُجعل الظرف وصفًا "لمسجد"؛ لما فيه من الفصل بين النكرة وصفتها بالخبر الذي هو "أحق"، ولأنك إذا استأنفت صار هناك كلامان، فكان أفخر من الوصف من حيث كانت الصفة مع موصوفها كالجزء الواحد). [المحتسب: 1/303]
قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (أفمن أسّس بنيانه... (109).
[معاني القراءات وعللها: 1/464]
قرأ نافع وابن عامر (أفمن أسّس بنيانه... خيرٌ أم من أسّس بنيانه) بضم الألف في الحرفين، ورفع البنيان.
وقرأ الباقون بفتح الألف فيهما، ونصب البنيان.
قال أبو منصور: المعنى واحد في القراءتين، إلا أن الضم يدل على أنه لم يسم فاعله، والنصب يدل على الفاعل والمفعول، وكل ذلك جائز). [معاني القراءات وعللها: 1/465]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (على شفا جرفٍ هارٍ... (109).
قرأ ابن عامر وحمزة ويحيى عن أبي بكر عن عاصم (على شفا جرفٍ) بسكون الراء، وقرأ حفص والأعشى عن أبي بكر عن عاصم (جرفٍ) مثقل، وكذلك قرأ الباقون (جرفٍ) بضمتين.
قال أبو منصور: هما لغتان: جرفٍ وجرفٍ.
والعرب تقول للرجل لا حزم له ولا عقل: فلانٌ جرف منهار.
ومن أمثالهم أيضًا: لا أحفر لك" جرفًا، معناه: لا أغشّك.
والجرف في كلام العرب: أن
[معاني القراءات وعللها: 1/465]
يجنح ماء السيل عدوة الوادي فيأكل أصلها، فإذا وطئت دابة أو إنسان الموضع الذي أكل السيل ما تحته انقطع فانهار به). [معاني القراءات وعللها: 1/466]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (هارٍ فانهار به... (109).
قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم وحمزة ويعقوب (هارٍ) مفخمًا، وقرأ نافع وابن عامر ويحيى عن أبي بكر عن عاصم والكسائي ممالاً.
قال الأزهري: هما لغتان، والتفخيم أفصح اللغتين، وفيه لغتان أخريان لم يقرأ بهما، يقال: جرف "هائر، وهارٌ.
كما يقال: كبش صائفٌ، وصافٌ). [معاني القراءات وعللها: 1/466]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (18- وقوله تعالى: {جرف هار} [109].
قرأ حمزة وابن عام روعاصم برواية أبي بكر: {جرف} بإسكان الراء والباقون بالتحريك). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/255]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (19- وقوله تعالى: {جرف هار} [109].
قرأ ابن كثير وحمزة وحفص عن عاصم {هار} بالفتح. والباقون {هار} من أجل كسرة الراء. والأصل في هارٍ: هاير، وكذلك في شاكٍ: شايكٍ، قال الشاعر:
فتعرفوني إنني أناذاكم = شاك سلاحي في الحوادث معلم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/255]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (21- وقوله تعالى: {أفمن أسس بنيانه} [109].
قرأ نافع وابن عامر {أفمن أسس بنيانه} على ما لم يسم فاعله {أمن أسس بنيانه} [109] مثله.
وقرأ الباقون {أسس} بفتح الهمزة فيهما. والبنيان: نصب بوقوع الفعل عليه، ومعناه: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على الكفر؛ وذلك أن المنافقين بنو مسجدًا لينفض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصلاهم ويصيروا إلى ذلك المسجد.
وأجمع الناس على {تقوى} بترك التنوين إلا عيسى بن عمر فإنه نون). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/256]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضمّ الألف وفتحها من قوله [جلّ وعزّ]: أفمن أسس بنيانه [التوبة/ 109].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: بفتح الألف في الحرفين جميعا، وفتح النون فيهما.
وقرأ نافع وابن عامر أسس* بضم الألف بنيانه* برفع النون.
[الحجة للقراء السبعة: 4/218]
[قال أبو علي]: البنيان: مصدر، وهو جمع على حد شعيرة وشعير لأنّهم قد قالوا: بنيانه في الواحد، قال أوس:
كبنيانة القرييّ موضع رحلها... وآثار نسعيها من الدّفّ أبلق
وجاء بناء المصادر على هذا المثال في غير هذا الحرف، وذلك نحو: الغفران، وليس بنيان جمع بناء، لأن فعلانا إذا كان جمعا نحو كثبان، وقضبان، لم تلحقه تاء التأنيث، وقد يكون ذلك في المصادر نحو ضرب ضربة وأكل أكلة، ونحو ذلك مما يكثر.
قال أبو زيد: يقال: بنيت أبني بنيا، وبناء وبنية، وجماعها: البنى، وأنشد:
بنى السماء فسوّاها ببنيتها... ولم تمدّ بأطناب ولا عمد
فالبناء والبنية مصدران، ومن ثمّ قوبل به الفراش في
[الحجة للقراء السبعة: 4/219]
قوله: هو الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء [البقرة/ 22]. فالبناء لمّا كان رفعا للمبني قوبل به الفراش الذي هو خلاف البناء.
ومن ثمّ وقع على ما كان فيه ارتفاع في نصبته، وإن لم يكن مصدرا كقول الشاعر:
لو وصل الغيث أبنين امرأ... كانت له قبّة سحق بجاد
أي: جعلت بناءه بعد القبّة خلق كساء، كأنه كان يستبدل بالقباب خباء من سحق كساء لإغارة هذه الخيل عليهن.
فأما قراءة من قرأ: أفمن أسس بنيانه فبنى الفعل للفاعل، فلأنه الباني والمؤسس فأسند الفعل إليه، وبناه له، كما أضاف البنيان إليه في قوله: بنيانه فكما أن المصدر مضاف إلى الفاعل كذلك يكون الفعل مبنيا له. ويدلّ على
[الحجة للقراء السبعة: 4/220]
ترجيح هذا الوجه اتفاقهم على قوله: أمن أسس بنيانه على.
ومن بنى الفعل للمفعول به لم يبعد أن يكون في المعنى كالأول، لأنه إذا أسس بنيانه فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنيانه هو له، وكان القول الأول أرجح لما قلنا). [الحجة للقراء السبعة: 4/221]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في التثقيل والتخفيف من قوله [جل وعز]: جرف هار [التوبة/ 109].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: شفا جرف مثقل.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة جرف مثقل.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة جرف ساكنة الراء.
وروى حفص عن عاصم جرف مثقّل مثل أبي عمرو.
قال أبو عبيدة: الشّفاء هو: الشّفير. والجرف: ما تجرّف من السيول من الأودية.
قال أبو علي: الجرف: بضم العين الأصل، والإسكان تخفيف، ومثله: الشغل والشغل وقال: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل [يس/ 55] وقال البعيث:
[الحجة للقراء السبعة: 4/221]
غداة لقينا من لؤيّ بن غالب... هجان الثنايا واللقاء على شغل
ومثله: الطنب والطنب، والعنق والعنق، وكلا الوجهين حسن.
وقال أبو عبيدة: على شفا جرف هار مثقّل، قال: لأن ما يبنى على التقوى فهو أثبت أساسا من بناء يبنى على شفاء جرف.
والقول في ذلك أنه يجوز أن تكون المعادلة وقعت بين البناءين، ويجوز أن يكون بين البانيين، فإذا عادلت بين البانيين، كان المعنى: المؤسس بنيانه متّقيا خير أم المؤسّس بنيانه غير متّق؟ لأن قوله: على شفا جرف يدلّ على أن بانيه غير متّق لله ولا خاش له، ويجوز أن يقدّر حذف المضاف كأنّه أبناء من أسّس بنيانه متّقيا خير أم بناء من أسّس بنيانه على شفا جرف؟ والبنيان: مصدر وقع على المبني مثل الخلق إذا عنيت به المخلوق، وضرب الأمير: إذا أردت به المضروب، وكذلك نسج اليمن. يدلّك على ذلك أنه لا يخلو من أن يراد
[الحجة للقراء السبعة: 4/222]
به اسم الحدث، أو اسم العين، فلا يجوز أن يكون الحدث، لأنه إنّما يؤسس المبني الذي هو عين.
ويبين ذلك أيضا قوله على شفا جرف والحدث لا يعلو شفا جرف.
والجار في قوله: أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله في موضع نصب على الحال تقديره: أفمن أسّس بنيانه متّقيا خير، أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار؟. والمعنى:
أمّن أسّس بنيانه غير متق، أو: من أسس بنيانه معاقبا على بنائه؟ وفاعل انهار: البنيان، أي: انهار البنيان بالباني في نار جهنم، لأنه معصية، وفعل لما كرهه الله سبحانه من الضرار، والكفر، والتفريق بين المؤمنين، وعلى شفا جرف: حال كما كان قوله جلّ وعز: على تقوى من الله حالا). [الحجة للقراء السبعة: 4/223]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الإمالة والفتح من قوله جل وعز: هار فانهار [التوبة/ 109].
فقرأ ابن كثير، وعاصم في رواية هبيرة عن حفص وحمزة: هار بفتح الهاء.
[الحجة للقراء السبعة: 4/223]
الأعشى عن أبي بكر (هار) مفخّمة.
وأمال الهاء نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية يحيى عن أبي بكر، والكسائي، بالإمالة وليس عندي عن ابن عامر في هذا شيء.
وقال غير أحمد بن موسى: قراءة ابن عامر مفخّمة.
قال أبو علي: أما حجّة من لم يمل؛ فإنّ كثيرا من العرب لا يميلون هذه الألفات، وترك الإمالة هو الأصل.
والإمالة في هار حسنة لما في الراء من التكرير، فكأنك قد لفظت براءين مكسورتين، وبحسب كثرة الكسرات تحسن الإمالة، وكذلك لو أملتها في الوقف كان أحسن من إمالتك نحو: هذا ماش وداع، لأنّك لم تلفظ هنا بكسرة، وفي الراء كأنك قد لفظت بها لما فيها من التكرير بحرف مكسور إذا وقفت عليها.
وقد يجوز أن تميل نحو: هذا ماش في الوقف، وإن زالت الكسرة التي لها كنت تميل الألف كما جاز أن تميل الفتحة من نحو القتلى الحر [البقرة/ 178] مع ذهاب ما
[الحجة للقراء السبعة: 4/224]
أملت الفتحة من أجله وهو الألف من القتلى.
ومثل هذا قولهم: صعقيّ، تركت الفاء التي كان كسرها لكسرة العين مع زوال كسرتها. وأما الهمزة من هار فمنقلبة عن الواو لأنّهم قد قالوا تهور البناء: إذا تساقط وتداعى، وفي الحديث: «حتى تهوّر الليل» فهذا في الليل كالمثل والتشبيه بالبناء.
ويجوز في العين إذا قلبت همزة في هذا النحو ضربان:
أحدهما: أن تعلّ بالحذف كما أعلّت بالقلب، فيقال:
هار وشاك السلاح. ويجوز في قولهم: يوم راح، أن يكون فاعلا على الحذف وفعلا على غير الحذف.
والآخر: أن يعلّ بقلبها إلى موضع اللام فيصير في التقدير: فالع.
ويجوز في قولهم:
ضربت على شزن فهنّ شواعي
[الحجة للقراء السبعة: 4/225]
أن تكون فوالع من الشيء الشائع، ويكون المعنى: إنها متفرقة، ويكون فواعل من قولهم: غارة شعواء، وكذلك يجوز في قوله:
خفضوا أسنّتهم فكل ناعي ضربان: أحدهما: أن يكون مقلوبا من النائع الذي يراد به العطشان في قوله:
.. والأسل النيّاعا أي: العطاش إلى دماء من يغزون.
[الحجة للقراء السبعة: 4/226]
ويجوز أن يكون ناع من قولك: نعى ينعي، أي يقول: يا لثارات فلان.
ويجوز في هار التي في الآية أن يكون على قول من حذف. ويجوز أن تكون في قول من قلب.
فأما جوازه على الحذف؛ فلأن هذه الهمزة قد حذفت من نحو هذه الكلم. وجوازه على القلب أن يكون مثل:
قاض، وداع، وقد سقطت اللام لالتقاء الساكنين.
وقال أبو الحسن: يقال: هرت تهار، مثل: خفت تخاف، قال: وجعله بعضهم من الياء، وبعضهم من الواو، فقال: يتهير، فإنه كان التجويز في عين يتهور أنه ياء من أجل قولهم: يتهير، فإنه يمكن أن يكون: يتهيّر، مثل: يتحيّر، فلا دلالة حينئذ في ذلك على كونها من الياء، ولعله سمع شيئا غير هذا يعلم به أنه من الياء، فإن لم يسمع شيئا غير هذا، فإنه يجوز أن يقول:
إنّ يتهيّر: يتفعّل مثل يتبيع، لأن باب التفعّل أكثر من باب التفعيل، فيحمل على الأكثر فيجوز على هذا فيما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
[الحجة للقراء السبعة: 4/227]
خليليّ لا يبقى على الدهر فادر... بتيهورة بين الطّخاف العصائب
يجوز أن يكون تيهورة: تفعولة، مثل: تعضوضة، إلا أنه قلبه ولو كان من الواو لكان توهورة.. ويجوز أن يكون تيهورة في الأصل فيعولا، مثل: سيهوب، وعيثوم، إلا أنه قلبت الواو التي هي عين إلى موضع الفاء، ثم أبدل منها التاء، كما أبدل في قولهم: تقوى وتقيّة، ونحو ذلك، فيكون على هذا: عيفولة. ويدلك على أن الكلمة من هذا الباب قول العجاج:
[الحجة للقراء السبعة: 4/228]
إلى أراط ونقا تيهور فإنّما وصفه بالانهيار، كما وصفه الآخر به في قوله:
كمثل هيل النّقا طاف الوليد به... ينهار حينا وينهاه الثّرى حينا
والانهيار، والانهيال، يتقاربان في المعنى كما يتقاربان في اللفظ، ومثل ذلك في المعنى قول العجاج في صفة رمل:
شدّد منه وهو معطي الإسهال... ضرب السّواري متنه بالتّهتال). [الحجة للقراء السبعة: 4/229]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة نصر بن عاصم بخلاف: [أفمن أَسَسُ بُنْيانِه خيرٌ أم من أَسَسُ بُنيانِه] في وزن فَعَل، وقرأ: [أَساسُ بُنْيَانِه] بفتح الألف وألف بين السينين نصر بن علي بخلاف، ورُوي عنه أيضًا: [أُسُّ بُنْيانِه] برفع الألف وخفض النون في [بنيانه] والسين مشددة.
قال أبو الفتح: يقال: هو أس الحائط وأساسه، فُعْل وفَعَال. وقد قالوا: له أَسّ بفتح الألف، وقد أَسّ البناء يؤسه أَسًّا: إذا بناه على أساس، وقالوا في جمع أُس: آساس، كقفل وأقفال، وقالوا في جمع أساس: إساس وأُسُس، ونظير أساس وإساس ناقة هِجان ونوق هِجَان، ودرع دِلاص وأدرع دِلاص، وإن كان هذا مكسور الأول، فإن فَعَالًا وفِعَالًا تجريان مجرى المثال الواحد، ألا ترى كل واحد منهما ثلاثيًّا وفيه الألف زائدة ثالثة؟ وقد اعتقبا أيضًا
[المحتسب: 1/303]
على المعنى الواحد فقالوا: أَوان وإِوان، ودَواء ودِواء، وحَصاد وحِصاد، وجَزَاز وجِزَاز، وجَرَام وجِرَام.
وقد يجوز أن يكون إِسَاس جمع أُسّ كبُرد وبِرَاد، وقد يجوز أن يكون حمع أَس كفَرخ وفراخ، وأما أُسُس فجع أساس كقُذُل وقَذَال. قال كَذَّاب بني الحِرْماز:
وأُس مجد ثابتٌ وطيد ... نال السماءَ فرعُه المديد). [المحتسب: 1/304]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما حكاه ابن سلام قال: قال سيبويه: كان عيسى بن عمر يقرأ: [على تقوًى من الله]، قلت: على أي شيء نوَّن؟ قال: لا أدري ولا أعرفه، قلت: فهل نوَّن أحد غيره؟ قال: لا.
قال أبو الفتح: أخبرنا بهذه الحكاية أبو بكر جعفر بن علي بن الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الْحُبَاب عن محمد بن سلام. فأما التنوين فإنه وإن كان غير مسموع إلا في هذه القراءة فإن قياسه أن تكون ألفه للإلحاق لا للتأنيث، كتَتْرًى فيمن نون وجعلها ملحقة بجعفر.
وكان الأشبه بقدر سيبويه ألا يقف في قياس ذلك، وألا يقول: لا أدري، ولولا أن هذه الحكاية رواها ابن مجاهد ورويناها عن شيخنا أبي بكر لتوقفت فيها. فأما أن يقول سيبويه: لم يقرأ بها أحد فجائز؛ يعني: فيما سمعه؛ لكن لا عذر له في أن يقول: لا أدري؛ لأن قياس ذلك أخف وأسهل على ما شرحنا من كون ألفه للإلحاق). [المحتسب: 1/304]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار}
قرأ نافع وابن عامر {أفمن أسس} بضم الألف وكسر السّين {بنيانه} برفع النّون وكذلك {أم من أسس بنيانه} على ما لم يسم فاعله وحجتهما قوله قبلها {لمسجد أسس على التّقوى} قالوا وإنّما كان يحسن تسمية الفاعل لو كان للفاعل ذكر فأما
[حجة القراءات: 323]
إذا لم يكن للفاعل ذكر وقد تقدمه {لمسجد أسس على التّقوى} على ترك تسمية الفاعل فترك التّسمية أيضا في هذا أقرب وأولى على أن المسجد الّذي أسس على التّقوى هو المسجد الّذي بنيانه على تقوى من الله وهو مسجد الرّسول صلى الله عليه
وقرأ الباقون {أسس} بفتح الهمز ونصب {بنيانه} في الحرفين وحجتهم في ذلك أن صدر هذه القصّة هو مبنيّ على تسمية الفاعل وهو قوله {والّذين اتّخذوا مسجدا} فجعل الاتخاذ لهم فكذلك التأسيس يجعل لهم ليكون الكلام واحدًا ثمّ قال بعد ذلك {لا يزال بنيانهم الّذي بنوا ريبة} والّذين بنوا ريبة هم الّذين أسسوا فلذلك آثروا تسمية الفاعل
قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر {على شفا جرف} ساكنة الرّاء كأنّهم استثقلوا ضمتين
وقرأ الباقون {جرف} بالرّفع وإنّما يستثقل ثلاث ضمات فأما اثنتان فلا يستثقل). [حجة القراءات: 324]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (25- قوله: {أفمن أسس بنيانه}، {خير ٌ أم من أسس بنيانه} قرأهما نافع وابن عامر بضم الهمزة، وكسر السين الأولى، ورفع «البنيان» على ما لم يسم فاعله، فأضاف الفعل إلى «البنيان»، فارتفع به، وقد أجمعوا على الضم في قوله: {لمسجد أسس على التقوى} «108» فأضاف الفعل إلى المسجد، ففي «أسس» ضمير والمسجد هو البنيان بعينه، فلذلك حسن رفع البنيان، وقرأ الباقون بفتح الهمزة والسين ونصب البنيان، أضافوا الفعل إلى «من» في قوله: {أفمن}، و{خير أم من} ففي الفعلين ضمير «من»، وهو صاحب البنيان، ويقوي ذلك أنه قد أضيف «البنيان» إلى ضمير، وهو الهاء في «بنيانه»، وهو صاحب «البنيان» فكما أضيف «البنيان» إلى «من» كذلك يجب أن يضاف الفعل إليه، و«البنيان» مصدر كالغفران، وهو بمعنى المبنى، كالخلق الذي هو بمعنى المخلوق، ويجوز أن يكون «البنيان» جمع
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/507]
بنيانه كثمرة وثمر). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/508]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (26- قوله: {على شفا جرفٍ} قرأه أبو بكر وابن عامر وحمزة بإسكان الراء تخفيفًا كـ «قرية»، وقرأ الباقون بالضم على الأصل، و«الجرف» ما تجرف من الوادي في السيل، وهو مثل، وقد ذكرنا إمالة «هار» ونحوه، وأصل «هار» «هارو» ثم قلب، فصارت الواو في موضع الراء، وانقلبت ياء؛ إذ ليس في كلام العرب اسم آخره واو قبلها متحرك، فأذهبهما التنوين مثل «غاز وداع» ويدل على أنه من الواو قولهم: تهور البناء إذا تساقط، وقد قالوا: تهير، وحكى الأخفش: هرت تهار كـ «خفت تخاف»، وكثير من العرب يجري «هار» على الحذف مجرى السالم، فيرفعه في موضع الرفع وينصبه في موضع النصب بخلاف «قاض وغاز»، ومنهم من يجريه مجرى «قاض وغاز» مخفوضًا في الرفع والخفض، مفتوحًا في النصب منونًا، وفي الحديث: «حتى تهور الليل»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/508]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (26- {أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانَهُ} [آية/ 109] بضم الألف من {أُسَّسَ}، ورفع البنيان:
قرأها نافع وابن عامر، وكذلك {أَمَنْ أُسَّسَ بُنْيَانَهُ} مثله.
[الموضح: 605]
والوجه أن الفعل مسند إلى المفعول به، لأن المقصود هو الإعلام بأن تأسيس البنيان إنما هو على التقوى، ولم يقصد إلى تعريف المؤسس؛ لأنه إذا كان البنيان المنسوب إليه مؤسسًا على التقوى، فسواء فعله هو أم فعله غيره.
وقرأ الباقون {أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} بفتح الهمزة ونصب البنيان.
والوجه أن الفعل مسند إلى الفاعل وهو ضمير {مَنْ} و{بُنْيَانَهُ} منصوب بأسس، وأسند الفعل إلى الفاعل؛ لأنه هو الباني والمؤسس، فكما أن المصدر الذي هو البنيان مضاف إلى الفاعل، كذلك الفعل مبني له). [الموضح: 606]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (27- {عَلَى شَفَا جُرُفٍ} [آية/ 109] بسكون الراء:
قرأها ابن عامر وحمزة وعاصم- ياش-، وقرأ الباقون {جُرُفٍ} بضم الراء.
والوجه أنهما جائزان، والأصل جرف بضم الراء، والإسكان تخفيف منه، كالشغل والشغل والعنق والعنق.
والجرف في كلام العرب ما يأكله الماء من أسفل الشاطئ، فإذا وطئه دابة أو إنسان انهار). [الموضح: 606]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (28- {هَارٍ} [آية/ 109] بالإمالة:
قرأها أبو عمرو وعاصم- ياش-، والكسائي وكان (نافع) يضجعها قليلاً.
[الموضح: 606]
والوجه في الإمالة أن الراء مكسورة، والكسرة في الراء تجري مجرى كسرتين؛ لما فيها من التكرير، ويقوي الإمالة في الكلمة أن الكسرة لازمة، وحكم الإضجاع كحكم الإمالة، وقد تقدم من أحكام الإمالة ما فيه كفاية.
وقرأ الباقون و- ص- عن عاصم {هَارٍ} بالفتح.
والوجه أن ترك الإمالة هو الأصل، ومن العرب من لا يرى من الإمالة شيئًا). [الموضح: 607]
قوله تعالى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (إلّا أن تقطّع قلوبهم... (110).
قرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب (إلّا أن تقطّع) بفتح التاء، وقرأ الباقون (إلّا أن تقطّع) بضم التاء.
قال أبو منصور: من قرأ (إلّا أن تقطّع) فالأصل: إلا أن تتقطع، بالتاءين، فحذفت التاء الأولى استثقالاً للجمع بينهما.
[معاني القراءات وعللها: 1/466]
ومن قرأ (إلّا أن تقطّع) فهو من: قطّعت تقطّع، والمعنى فيهما: إلا أن يموتوا. وتقطع فعل لازم، وتقطّع متعدٍّ، يقال: قطّعته فتقطّع). [معاني القراءات وعللها: 1/467]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (20- وقوله تعالى: {إلا أن تقطع قلوبهم} [110].
قرأ حمزة وحفص عن عاصم وابن عامر {تقطع} فعل مضارع، والقلوب رفع بفعلها، والأصل: إلا أن تتقطع، فحذفوا إحدى التاءين.
وقرأ الباقون {تقطع} على ما لم يسم فاعله، ومعنى {إلا أن تقطع
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/255]
قلوبهم} إلا أن يموتوا. وقال آخرون: إلا أن يتوبوا، فتقطع قلوبهم ندامةً على ما فرطوا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/256]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح التاء وضمّها من قوله جلّ وعزّ إلا أن تقطع قلوبهم [التوبة/ 110] فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي تقطع* بضم التاء.
وقرأ ابن عامر وحمزة: إلا أن تقطع بفتح التاء.
واختلف عن عاصم، فروى أبو بكر عنه مثل أبي عمرو، وروى حفص عنه مثل حمزة تقطع* بفتح التاء.
قال أبو علي: قوله: لا يزال بنيانهم الذي بنوا [التوبة/ 110] البنيان: مصدر واقع على المبني، وإذا كان كذلك كان المضاف محذوفا تقديره: لا يزال بناء المبني الذي بنوا ريبة، أي: شكا في قلوبهم فيما كان من إظهار إسلامهم، وثباتا على النفاق إلا أن تقطع قلوبهم بالموت والبلاء، لا يخلص لهم إيمان ولا ينزعون عن النفاق.
فأما قراءة من قرأ: إلا أن تقطع فلأنه يريد: حتى تبلى وتقطّع بالبلى، أي: لا تثلج قلوبهم بالإيمان أبدا، ولا يندمون على الخطيئة التي كانت منهم في بناء المسجد.
[الحجة للقراء السبعة: 4/230]
فأما قراءة من قرأ: تقطع* فهو في المعنى مثل الأول؛ إلّا أن الفعل أضيف إلى المقطّع المبلي للقلوب بالموت في المعنى. وفي الوجه الأول أسند إلى القلوب لمّا كانت هي البالية، وهذا مثل: مات زيد ومرض عمرو، وسقط الحائط، ونحو ذلك مما يسند فيه الفعل إلى من حدث فيه، وإن لم يكن له، وتقطع* نسب الفعل فيه إلى المقطّع المبلي، وإن لم يذكر في اللفظ؛ فأسند الفعل الذي هو لغير القلوب في الحقيقة إلى القلوب. وزعموا أنّ في حرف أبيّ: حتى الممات وهذا يدلّ أنهم يموتون على نفاقهم، فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوا من الإيمان وأخذوا من الكفر). [الحجة للقراء السبعة: 4/231]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({لا يزال بنيانهم الّذي بنوا ريبة في قلوبهم إلّا أن تقطع قلوبهم}
قرأ ابن عامر وحفص {إلّا أن تقطع} بفتح التّاء أي إلّا أن تتقطع قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم والقلوب رفع بفعلها
وقرأ الباقون {إلّا أن تقطع} بضم التّاء على ما لم يسم فاعله أي إلّا أن يفعل ذلك بها وهما في المعنى شيء واحد). [حجة القراءات: 324]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (27- قوله: {إلا أن تقطع قلوبهم} قرأه حفص وابن عامر وحمزة بفتح التاء، وقرأ الباقون بضم التاء.
وحجة من قرأ بفتح التاء أنه جعله فعلًا لـ «القلوب»، فرفعها به، لأنها هي المتقطعة بالبلاء، فهو محمول على معنى «تبلى قلوبهم فتتقطع»، وبنى الفعل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/508]
على «تنفعل»، لكن حذف إحدى التاءين لاجتماع المثلين بحركة واحدة، وماضيه «تقطعت» فهي «تنقطع».
28- وحجة من ضم التاء أنه بنى الفعل للمفعول، فرفع «القلوب» لمقامها مقام الفاعل، والفعل في الأصل مضاف إلى المقطع لها المبلي لها، فلما حذف من اللفظ ولم يسم قامت القلوب مقامه، فارتفعت بالفعل، فالمعنى: إلا أن تقطع قلوبهم بالموت والبلاء، وفي حرف أبي «حتى الممات» و«البنيان» مصدر في معنى المبني، على ما ذكرنا، وماضي الفعل في هذه القراءة «قطع» تقول: قطعت القلوب فهي تقطع، وقد ذكرنا {فيقتلون ويقتلون} «111» في آل عمران وعلته). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/509]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (29- {إلى أَن تَقَطَّعَ} [آية/ 110] بتخفيف لام {إلى} جارة غير مستثنى بها:
قرأها يعقوب وحده.
والوجه أن {إلى} جارة، وهي كحتى في المعنى، كأنه قال حتى تقطع قلوبهم، والمراد لا يزال بنيانهم ريبة في قلوبهم إلى أن تقطع قلوبهم بالموت، وأن وما بعده في تأويل المصدر، وإلى لانتهاء الغاية، والمعنى لا يزال ما اعتقدوه في بناء مسجد الضرار من الكفر لازمًا لقلوبهم حتى يموتوا.
وقرأ الباقون {إلاَّ أَن تَقَطَّعَ} بتشديد لام {إلاَّ} على أنها مستثنى بها.
والوجه أنها التي هي أداة الاستثناء، والمعنى لا يزال بناؤهم ريبة إلا وقت تقطع قلوبهم بالموت، فإنه لا تكون ريبة حينئذٍ؛ لأن الريبة تتقطع بموتهم،
[الموضح: 607]
فالاستثناء من قوله {لا يَزَالُ} ). [الموضح: 608]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (30- {تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [آية/ 110] بفتح التاء:
قرأها ابن عامر وحمزة وعاصم- ص- ويعقوب.
والوجه أنه يراد به تتقطع، فحذف إحدى التاءين تخفيفًا، وإنما أسند الفعل إلى القلوب؛ لأنها هي الهالكة، كما يقال مرض زيد ومات عمرو، وإن كان الممرض والمميت هو الله تعالى، والمعنى تتقطع قلوبهم بالموت.
وقرأ الباقون {تُقَطَّعَ} بضم التاء.
والوجه أن المقطع المميت هو الله تعالى، فبنى الفعل من التقطيع لذلك، وأسند إلى المفعول به، فالقلوب في هذا الوجه اسم لما لم يسم فاعله، وهي في الوجه الأول فاعل {تَقَطَّعَ} ). [الموضح: 608]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين