قوله عند دخول الخلاء
قال أبو سليمان حَمْدُ بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت: 388هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا الشيخ الحافظ أبو مسلم عمر بن علي الليثي البخاري بقراءتي عليه، قلت: أخبركم الشيخ أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد بن محمد الخطابي قراءة عليه، قال: قال أبو سليمان الخطابي:
[69] [و] قوله: عند دخول الخلاء: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث»، الخبث – مضمومة الباء – جمع الخبيث. والخبائث: جمع الخبيثة، يريد: [به] ذكران الشياطين وإناثهم. وعامة أصحاب الحديث يقولون: الخبث – ساكنة الباء – وضمها أصوب على ما فسرناه. ورواه أبو عبيد: «من الخبث» - ساكنة الباء – وقال: معناه ذو البخث.
[70] قوله عند خروجه من الخلاء: «غفرانك [ربنا وإليك المصير]». [الغفران: مصدر كالمغفرة، ونصبه على إضمار الطلب والمسألة، كأنه يقول: اللهم إني أسألك غفرانك. كما يقول: «عفوك يا رب ورحمتك» أي: هب لي عفوك ورحمتك. والمعنى في تعقيبه الخروج من الخلاء بهذا الدعاء يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه إنما استغفر لتركه ذكر الله سبحانه مدة لبثه على الخلاء. وكان صلى الله عليه وسلم: «لا يهجر ذكر الله إلا عند الحاجة والخلاء». فكأنه رأى هجران الذكر في تلك الحال تقصيرًا، وعده على نفسه ذنبًا فتداركه بالاستغفار. وقيل: معناه: التوبة من تقصيره في شكر النعمة التي أنعم بها الله عليه؛ فأطعمه، ثم هضمه، ثم سهل خروج الأذى منه؛ فرأى شكره قاصرًا عن بلوغ حقوق هذه النعمة؛ ففزع إلى الاستغفار] [منه] وكان الحسن البصري يقول إذا بال: «يا لها نعمة، تدخل لذة، وتخرج سرحا».
وأخبرني أبو محمد الكراني، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، قال: حدثنا زكريا بن يحيى المنقري، قال: حدثنا الأصمعي، قال: دخل ابن السماك على هارون، فقال له: «عظني» فقال: «[يا] أمير المؤمنين، أرأيت إن منعت شربة ماء عند العطش أكنت تفديها بنصف ملكك؟ قال: نعم، فقال: أرأيت إن منعت خروجها عند الحاجة، أكنت تفديه بالشطر الآخر؟ قال: نعم، قال: فما فرحك بشيء قيمته شربة وبولة».
[71] [و] قوله: عند الفراغ من وضوئه: «سبحانك اللهم وبحمدك». قال النحويون: «سبحان» مصدر من قولك: سبحت الله تسبيحا وسبحانا، أي: نزهته تنزيها و[برأته] تبرئة. ومنه قول الأعشى:
أقول لما جاءني فخره
سبحان من علقمة الفاخر
يريد: التعجب من فخره، والتبرؤ منه. ويقال: إن التسبيح مأخوذ من قولك: سبح الرجل في الأرض، إذا: ذهب فيها. ومنه قيل للفرس – إذا كان جيد الركض -: سابح.
وأما دخول الواو في قوله: «وبحمدك» فإن الحسن بن خلاد أخبرني، قال: سألت عنه الزجاج؛ فقال: سألت عما سألتني [عنه] أبا العباس، محمد بن يزيد، فقال: سألت أبا عثمان المازني عما سألتني [عنه]، فقال: المعنى: سبحتك اللهم بجميع آلائك، وبحمدك سبحتك قال: ومعنى سبحانك: سبحتك.
قال أبو سليمان يريد بقوله: «وبحمدك سبحتك» أي: وبمعونتك التي هي نعمة توجب علي حمدًا سبحتك، لا بحولي وقوتي.
وسمعت أبا عمر يقول: سئل أبو العباس أحمد بن يحيي عن قوله: «وبحمدك» فقال: أراد: «سبحتك بحمدك» كأنه يذهب إلى أن الواو صلة.
[72] [و] قوله: «اللهم اجعل في قلبي نورًا واجعل في لساني نورا واجعل في سمعي نورا، واجعل في بصري نورا، واجعل [من] خلفي نورًا، ومن أمامي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا».
معنى النور في هذا: ضياء الحق وبيانه، كأنه يقول: اللهم استعمل هذه الأعضاء مني في الحق، واجعل تصرفي وتقلبي في هذه الجهات على سبيل الحق. وكذلك معنى قوله بعد ركعتي السنة:
[73] «اللهم اجعل نورًا في قلبي، ونورًا في سمعي، ونورًا في بصري، ونورًا في شعري، ونورًا في بشري، ونورًا في لحمي، ونورًا في دمي، ونورًا في عظامي». وإنما ذلك لأن القلب أمير البدن، وهو الذي يستعمل سائر الأعضاء، وهي على إرادته تتصرف، فإذا استنار القلب انبث نوره في سائر البدن، وفاض على جميع أجزائه. وقد يكون أيضًا معنى النور: في اللحم، والدم، والعظام، والشعر، والبشر منصرفًا إلى القوت الذي به يغتدي البدن ومنه تستمد هذه الأعضاء قواها. سأل الله بأن يجعل رزقه طيبًا، فإن أكل الحلال يصلح عليه القلب وتحسن معه الأخلاق، وأكل الحرام يفسد عليه القلب وتخبث معه الأخلاق.
وقد ضرب الله سبحانه مثل الحق والباطل بالنور والظلمات، كقوله سبحانه: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} [البقرة: 257] وذلك أن أمر الضلالة والباطل مظلم غير بين، وأمر [الهدى و] الحق بين واضح كبيان النور.
[74] [و] قوله: صلى الله عليه وسلم: «أسألك يا قاضي الأمور ويا شافي الصدور كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور».
أصل الثبور: الهلاك، [يقال]: ثبر الرجل فهو مثبور، إذا: أصابه الهلاك. ومن هذا [قول الله تعالى]: {وإني أظنك يا فرعون مثبورا} [الإسراء: 102] أي: [أظنك] مهلكًا. وقال الفراء في قوله: «مثبورًا» أي: ملعونًا ممنوعًا من الخير. يقال: ما ثبرك عن هذا الأمر؟ أي: ما منعك [منه] وما صدك عنه؟
ودعوة الثبور: دعوة أهل النار، يدعون على أنفسهم بالهلاك وبالموت، ليتخلصوا من العذاب. بالله نستعيذ من عذابه وسخطه.
وفتنة القبور؛ معناها: مسألة القبر،
[75] [و] روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فتنة القبر فقال: «بي تفتنون وعني تسألون» يريد قول الملك: «من ربك؟ ومن نبيك؟» ومعنى الفتنة: الامتحان.
وأخبرني أبو عمر عن أبي العباس، قال: أصل الفتنة من قولك: فتنت الذهب، إذا أدخلته [في] النار؛ تمتحنه؛ لتعرف جيده من رديئه.
[76] [و] قوله: «اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، حربا لأعدائك، سلما لأوليائك». الحرب: المحارب. والسلم: المسالم، أقيم الاسم فيه مقام الفعل. يقال: رجل حرب وقوم حرب، ورجل سلم، وقوم سلم الواحد والجمع فيه سواء ومثله رجل عدو، وقوم عدو، كقوله تعالى: {وهم لكم عدو} [الكهف: 50] ويقال: هو لك صديق، وهم صديق.
وحكى أبو حاتم: أن عجوزا من الأعراب أقبلت من السوق، وكان الطريق غاصا بأصحاب أبي زيد النحوي فقالت:
تنح للعجوز عن طريقها
إذا أقبلت جائية من سوقها
دعها فما النحوي من صديقها
تريد: من أصدقائها.
[77] [و] قوله: «اللهم ذا الحبل الشديد، والأمر الرشيد، أسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود» الحبل: السبب الذي يتمسك به، والحبل: العهد؛ ومنه قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعا} [آل عمران: 103] قال الأعشى:
وإذا تجوزها حبال قبيلة
أخذت من الأخرى إليك حبالها
وقيل: حبل الله: القرآن. وفيه عهده، وأمره، ونهيه. ووصف الحبل بالشدة لأن من تعلق به أمن انبتاته وانقطاعه.
[78] [و] قوله: «سبحان من تعطف العز وقال به، سبحان الذي لبس المجد وتكرم به». تعطف مأخوذ من العطاف، وهو الرداء. وإنما هو مثل كما جاء: «أن الكبرياء رداء الله» ومعناه: الاختصاص بالعز والاتصاف به لا يفارقه بمنزلة الرداء للابسه الذي اتخذه زينة ولباسًا، لا يضعه ولا يفارقه. ومعنى «قال به»: حكم به فينفذ حكمه، ولا يرد أمره. يقال منه: قال الرجل، واقتال، إذا: تحكم فمضى حكمه، ومنه سمي «القيل» وهو الملك. وأنشد أبو العباس عن ابن الأعرابي:
نحن ضربناه على نطابه
قلنا به قلنا به قلنا به
قال أبو العباس: معناه: حكمنا به.
وقال علقمة بن عبدة:
فلو أن ميتا يفتدي لفديته
بما اقتال من حكم علي طبييب
وقوله: «لبس المجد» مثله، والقول فيه كما قلنا في «تعطف» سواء.
[79] [و] قوله: «والخير كله في يدك والشر ليس إليك».
معنى هذا الكلام الإرشاد إلى استعمال الأدب في الثناء على الله تعالى والمدح له بأن تضاف إليه محاسن الأمور دون مساوئها ولم يقع القصد إلى إثبات شيء وإدخاله له تحت قدرته ونفي ضده عنها، فإن الخير والشر صادران عن خلقه، وقدرته، لا موجد لشيء من الخلق غيره. وقد تضاف محاسن الأمور ومحامد الأفعال إلى الله تعالى عند الثناء عليه دون مساوئها ومذامها كقوله تعالى: {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 80] وكقوله تعالى: «وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن» [يوسف: 100] ولم يضف سبب وقوعه في السجن إليه. وكما تضاف معاظم الخليقة إليه عند الثناء والدعاء فيقال: «يا رب السموات والأرضين» كما يقال: «يا رب الأنبياء والمرسلين» ولا يحسن أن يقال: يا رب الكلاب، ويا رب القردة والخنازير، ونحوها من سفل الحيوان، وحشرات الأرض، وإن كانت إضافة جميع المكونات إليه من جهة الخلق لها، والقدرة عليها شاملة لجميع أصنافها.
وسئل الخليل عن قوله: «والشر ليس إليك» فقال: معناه:
ليس مما يتقرب به إليك؛ كأنه يذهب إلى مثل قول القائل لرئيسه: أنا منك وإليك، أي: عدادي منك، وميلي وانقطاعي إليك، في نحو هذا من الكلام).[شأن الدعاء: 140-154]