الترجمة فى المصحف | غير مصنف
الكلام على قضية الترجمة فى المصحف يتناول مسائل :
· إحداها : ماهية الترجمة على وجه العموم , والترجمة فى المصحف على وجه الخصوص .
· المسألة الثانية : تتعلق بالأثر الوارد فى ابن عباس رضى عنهما , وتسميته بترجمان القرآن
· المسألة الثالثة : فى مدى إمكان ترجمة القرآن , وموقف العلماء من ذلك وما الذى يثبت لتلك الترجمة من أحكام القرآن على تقدير إمكانها وجوازها .
· والمسألة الرابعة : التعرف على أول ترجمة للقرآن وجدت فى تاريخ الإسلام , ومدى صحة المروى عن سلمان الفارسى رضى الله عنه فى ذلك , وكيف تأولها أهل العلم على تقدير ثبوتها .
· والمسألة الخامسة : فى الفرق بين قراءة القرآن بغير العربية وبين كتابته بالأعجمية
· المسألة السادسة : فى ذكر طائفة من النقول عن أهل العلم المقتضية لمنع الترجمة للقرآن مطلقا , وحكم تعاطيها , وأثرها على صحة الصلاة ونحوها .
· المسألة السابعة : فى ذكر طائفة من النقول عمن رخص فى الترجمة من أهل العلم , وحدود القدر المرخص فيه , وحال من يرخص له , ومستندهم فى ذلك .
· والمسألة الثامنة : فى كتابة القرآن والأعجمية وبشكل يمكن معه قراءة القرآن بالعربية , مع التنويه عن شبهة مروجى هذا التوجه وتفنيد تلك الشبهة .
· المسألة التاسعة : التمييز بين ترجمة القرآن وبين ترجمة تفسيره ومعانيه , وكون ذلك فى حدود ضرورات التبليغ , وتقدير تلك الضرورات بقدرها , وبيان التدابير التى يتعين اتخاذها فى هذا الباب رعاية لوحدة المسلمين وحذرا من مكائد الساعين للتفريق بين المؤمنين من المستشرقين أو مغتر بهم ممن قصر نظره من المسلمين أو انطلت عليه أراجيف الزنادقة والملحدين .
ماهية الترجمة :
الترجمة : مصدر ترجم , ويقال : ترجم كلامه إذا بينه , ويقال : ترجم كلام غيره إذا عبر عنه بلسان آخر , ومنه الترجمان والترجمان وهو المفسر للسان , وهو بالضم والفتح هو الذى يترجم الكلام أى ينقله من لغة إلى لغة أخرى . قال ابن الأثير فى النهاية " ترجم " " هـ" فى حديث هرقل " أنه قال لترجمانه " الترجمان بالضم والفتح : هو الذى يترجم الكلام , أى ينقله من لغة إلى لغة أخرى , والجمع التراجم والتاء والنون زائدتان .
قال الذهبى : ( والترجمة فى اللغة تطلق على معنيين :
الأول / نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى بدون بيان لمعنى الأصل المترجم , وذلك كوضع رديف من لغة واحدة . {322}
والثانى / تفسير الكلام وبيان معناه بلغة أخرى . قال فى تاج العروس :" والترجمان المفسر للسان , وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر ". قال الجوهرى :" وقيل نقله من لغة إلى لغة أخرى " وعلى هذا فالترجمة تنقسم إلى قسمين : ترجمة حرفية , وترجمة معنوية أو تفسيرية .
أما الترجمة الحرفية : فهى نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى مع مراعاة الموافقة فى النظم والترتيب , والمحافظة على جميع معانى الأصل المترجم .
وأما الترجمة التفسيرية : فهى شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى بدون مراعة لنظم الأصل وتربيته وبدون المحافظة على جميع معانيه المراده منه )
وذكر الزرقانى أن الترجمة فى اللغة العربية وضعت لتدل على أحد معان أربعة :
" أولها " : تبليغ الكلام لمن لم يبلغه , ومنه قول الشاعر :
إن الثمانين - وبلغتها قد أحوجت سمعى إلى ترجمان
" ثانيهما " : تفسير الكلام بلغته التى جاء بها , ومنه قيل فى ابن عباس : إنه ترجمان القرآن . ولعل الزمخشرى فى كتابه أساس البلاغة يقصد هذا المعنى إذ يقول :" كل ما ترجم عن حال شئ فهو تفسرته "
" ثالثهما " : تفسير الكلام بلغة غير لغته . ثم ذكر كلام صاحب اللسان وصاحب التاج بنحو مما مر , وذكر أن رابع معانى الترجمة هو نقل الكلام من لغة إلى أخرى , واستشهد بكلام ابن منظور والزبيدى السالف ذكره , ثم قال : ولكون هذه المعانى الأربعة فيها بيان جاز على سبيل التوسع إطلاق الترجمة على كل ما فيه بيان مما عدا هذه الأربعة , فقيل ترجم لهذا الباب بكذا أى عنون له , وترجم لفلان أى بين تاريخه وترجم حياته أى بين ما كان فيها , وترجمة هذا الباب أى بيان المقصود منه , وهلم جرا . ثم مضى رحمه الله فى الكلام عن الترجمة فى العرف , وبيان المراد بالعرف هنا , وأنه عرف التخاطب العام لا عرف طائفة خاصة وأمة معينة , إلى أن قال ويمكننا أن نعرف الترجمة فى هذا العرف العام بعبارة مبسوطة فنقول : هى التعبير من معنى الكلام فى لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده , ثم شرح محترزات هذا التعريف , وذكر أقسام الترجمة العرفية , وأنها تنقسم بهذا المعنى العرفى إلى قسمين : حرفية وتفسيرية . فالترجمة الحرفية هى التى تراعى فيها محاكاة الأصل فى نظمه وترتيبه , فهى تشبه وضع المرادف مكان مرادفه , وبعض الناس يسمى هذه الترجمة ترجمة لفظية , وبعضهم يسميها مساوية .
والترجمة التفسيرية : هى التى لا تراعى فيها تلك المحاكاة أى محاكاة الأصل فى نظمه وترتيبه , بل المهم فيها حسن تصوير المعانى والأغراض كاملة , لهذا تسمى أيضا بالترجمة المعنوية , وسميت تفسيرية , لأن حسن تصوير المعانى والأغراض جعلها تشبه التفسير , وما هى بتفسير كما تبين لك بعد , فالمترجم ترجمة حرفية يقصد إلى كل كلمة فى الأصل فيفهمها , ثم يستبدل بها كلمة تساويها فى اللغة الأخرى مع وضعها وإحلالها محلها , وإن أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد من الأصل بسبب اختلاف اللغتين فى مواقع استعمال الكلام فى المعانى المرادة إلفا واستحسانا , أما المترجم ترجمة تفسيرية فإنه يعمد إلى المعنى الذى يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه ثم يصبه فى قالب يؤديه من اللغة الأخرى , موافقا لمراد صاب الأصل ممن غير أن يكلف نفسه عناء الوقوف عند كل مفرد ولا استبدال غيره فى موضعه .
اعتراض على تعريف الترجمة الحرفية :
وقد تعقب الزرقانى ومن تابعه فى تعريف الترجمة الحرفية بأنها ليست كما ذكروا آنفا , وإنما هى الترجمة التى تعنى بالضبط الدقيق عن إيراد النص الأصلى , وليس {324}
معنى ذلك أن يعمد المترجم إلى كل كلمة أو حرف فيضع مقابلها من اللغة الأخرى بلا مراعة لأصول اللغة المنقول إليها , لأن هذا يولد الاضطراب فعلا . ومضى صاحب الاعتراض قائلا : ولم أورد ذلك لأن الترجمة الحرفية ممكنة فى نظرى , ولكنى أوردته للتنبيه على أن معالجة استحالة الترجمة بهذه الكيفية قد يوقعنا فى متناول النقد من الآخرين , وقد يلزمنا الحجة فى النهاية لعدم تعرفنا على الترجمة الحرفية فنكون قد سلمنا سلاح الانتصار علينا بأيدينا إلى أعدائنا , وهذا أمر غير مراد للكاتبين , ولو كان كذلك لمنعنا الترجمة بهذا المفهوم من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية لعدم الوفاء بالشروط التى ذكروها والضوابط التى ارتضوها , وليس لها فى الواقع المعاش وجود لأن الترجمة الحرفية بالمعنى المتعارف عليه عند علماء اللغات أمر يجرى عليه العمل فى كل زمان وما ترجمة المعاهدات , والوثائق إلا مثال لذلك , والظاهر أن كلام الزرقانى ومن وافقه فى بيان حد الترجمة ينسجم مع المنقول عن أسلافهم من علماء هذه الأمة كالإمام الشافعى فى الرسالة , وابن قتيبة فى مشكل القرآن , وابن تيمية فى غير موضع من كتبه , والشاطبى فى موافقاته .
1- ماهية الترجمة المتعلقة بالقرآن على وجه الخصوص :
2- وترجمة القرآن أو الترجمة فى المصحف مشترك لفظى يصدق على عدة معانى :
3- أحدها : الترجمة بمعنى التبليغ , وذلك بإيصال ألفاظه ومعانيه إلى من يقع عليه البلاغ , وقد مر قريبا قول الشاعر :
4- إن الثمانين – وبلغتها قد أحوجت سمعى إلى ترجمان
أى : مبلغ . {325}
وثانى : هذه المعانى النقل : أى نقل الألفاظ من لغة إلى لغة , ومن لسان إلى لسان .
وثالثهما : التفسير والبيان , ومنه تسمية ابن عباس بترجمان القرآن .
ورابعهما : ترجمة التفسير بمعنى نقل معانية من لغة إلى لغة .
وخامسها : كتابة القرآن بغير العربية مع المحافظة على نظمه وترتيبه والاعتياض برموز ومصطلحات عما يترتب على مثل هذه الترجمة من فوات لحروف وحركات ليس لها نظير فى رسم اللغة المنقول إليها , وبعض هذه المعانى غير مسلمة , بل يكاد ينعقد الإجماع على استحالتها وتعذرها على ما سيأتى موضحا قريبا .
2- أثر ابن عباس بترجمان القرآن :
وقد ورد الأثر بتسمية ابن عباس بترجمان القرآن مرفوعا وقوفا , فقد أخرج المرفوع أبو نعيم فى الحلية قال :( حدثنا أبو بكر الطلحى قال : حدثنا جعفر بن أحمد بن عمران قال : حدثنا إبراهيم ابن يوسف الصيرفى الكوفى قال: حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنه قال :" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير كثير , وقال : نعم ترجمان القرآن أنت ") .
وأما الموقوف فقد أخرجه ابن سعد فى طبقاته , ويعقوب الفسوى فى تاريخه , والحاكم فى المستدرك أن عبد الله بن مسعود قال: {326}
" ولنعم ترجمان القرآن ابن عباس "
مدى إمكان ترجمة القرآن الكريم :
المنقول عن المحققين من أهل العلم وفيهم الأئمة الثلاثة مالك , والشافعى , وأحمد أن ترجمة القرآن متعذرة مستحيلة , وأن الإقدام عليها {327}
أمر محرم , لكون القرآن معجزا بلفظه ومعناه , فالترجمة إخراج للقرآن عن إعجازه , وإفساد لنظمه وترتيبه وإخلال بمقاصده ومعانيه , وانتهاك لحرمته وقدسيته . قال ابن قتيبه وهو بصدد الكلام عن خصائص اللغة العربية :( وللعرب " المجازات " فى الكلام ومعناها : طرق القول ومآخذه , ففيها الاستعارة , والتمثيل , والقلب , والتقديم , والتأخير , والحذف , والتكرار , والإخفاء والإظهار , والتعريض , والإفصاح , والكناية والإيضاح , ومخاطبة الجميع , والجميع خطاب الواحد , والواحد والجميع خطاب الاثنين , والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم , وبلفظ العموم لمعنى الخصوص , وبكل " هذه المذاهب " نزل القرآن , ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شئ من الألسنة , كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرمية , وترجمة التوراة والزبور , وسائر كتب الله تعالى بالعربية , لأن " العجم" لم تتسع فى " المجاز " اتساع العرب , ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى : "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء"), لم تستطع أن تأتى بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذى أودعته حتى تبسط مجموعها وتصل مقطوعها , {328}
وتظهر مستورها , فتقول : إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضا , فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم , وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم فى العلم بالنقض على استواء . وكذلك فى قوله تعالى : (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً), إن أردت أن تنقله بلفظه لم يفهمه المنقول إليه , فإن قلت أنمناهم سنين عددا , لكنت مترجما للمعنى دون اللفظ. وكذلك قوله : (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً) إن ترجمته بمثل لفظه استغلق , وإن قلت لم يتغافلوا أديت المعنى بلفظ آخر ) وذكر ابن فارس طرفا من كلام بن قتيبة هذا فى كتاب فقه اللغة المعروف بالصاحبى , وصدره بقوله : قال بعض علمائنا . وكان ابن فارس شافعى المذهب , ثم تحول إلى المذهب المالكى .
وقال أبو عباس ابن تيمية فى غير موضع من كتبه : ( فأما القرآن فلا يقرؤه بغير {329} العربية , سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور , وهو الصواب الذى لا ريب فيه بل قد قال غير واحد : إنه يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز ).
وقال الزركشى فى كتابه البحر المحيط وعنه الزرقانى فى المناهل : (" مسألة " لا يجوز ترجمة القرآن بالفارسية وغيرها , بل يجب قراءته على هيئته التى يتعلق بها الإعجاز , لتقصير الترجمة عنه , ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذى خص به دون سائر الألسن . قال تعالى : (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) , وهذا لو لم يكن متحدى بنظمه وأسلوبه , وإذا لم تجز قراءته بالتفسير العربى المتحدى بنظمه فأحرى ألا تجوز بالترجمة بلسان غيره , ومن هنا قال القفال فى فتاويه : (عندى أنه لا يقدر أحد أن يأتى بالقرآن بالفارسية . قيل له : فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن ؟ قال : ليس كذلك لأن هناك يجوز أن يأتى ببعض مراد الله ويعجز عن البعض , وأما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتى بجميع مراد الله )
وفرق غيره الترجمة والتفسير فقال :" يجوز تفسير الألسن بعضها ببعض لأن التفسير عبارة عما قام فى النفس من المعنى للحاجة والضرورة , والترجمة هى إبدال اللفظة بلفظة تقوم مقامها فى مفهوم المعنى للسامع المعتبر لتلك الألفاظ , فكأن الترجمة إحالة فهم السامع على الاعتبار , والتفسير تعريف السامع بما فهم المترجم وهذا فرق حسن ")أ. هـ . {330}
النقول عن أهل العلم فى ترجمة القرآن وحكمها
أولا / النقول عن المانعين :
ذهب الجمهور من أهل العلم إلى ترجمة القرآن غير جائزة , وأن الصلاة تبطل بها , وأن المترجم على تقدير جواز الترجمة لا يكون قرآنا ولا يثبت له شئ من أحكام القرآن , إذ هو كلام آدميين كسائر كلامهم , والقول بمنع ترجمة القرآن يتناول كافة ضروب الترجمة عند أكثر أهل العلم , ولم يجر فيه خلاف بينهم فى الصدر الأول , ولم ينقل تجويز الترجمة عن أحد من فقهاء السلف قبل أبى حنيفة وأصحابه , ولذا اشتد نكير أهل العلم عليه , واعتبروا القول بجواز الترجمة بدعة من البدع ..
وهاك طائفة من النقول فى هذا الباب يتجلى من خلالها موقف المانعين ومستندهم فى هذا المنع , وردهم لحجج المجوزين , وتفنديهم لكافة شبه المروجين للترجمة :
1 / قال ابن المنذر فى الأوسط : ( اختلفوا فيمن قرأ فى صلاته بالفارسية وهو يحسن العربية , ففى مذهب الشافعى لا يجوز , وكذلك نقول .
وكذلك قال يعقوب ومحمد إذا كان يحسن العربية , وقال النعمان :" تجزيه القراءة بالفارسية وإن أحسن العربية ".
قال أبو بكر : وليس كما قال : لايكون المرء قارئا إلا أن يقرأ كما أنزله الله جل ثناؤه , فمن قرأ على غير ما أنزل الله فغير مجزئ عنه صلاته , إذ قارئه قارئ خلاف ما أنزله الله فى كتابه , وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أ. هـ {331}
وقد بحث القاضى أبو بكر الباقلانى فى كتابه الانتصار لنقل القرآن مسألتى قراءة القرآن على المعنى دون اللفظ , وقراءة القرآن بالفارسية , وفصل فى تفنيد وابطال القول بجواز كل منهما . وقد أجمل أبو عبد الله الصيرفى فى نكت الانتصار كلام القاضى واختصره , بيد أنه لم يكن فى اختصاره له مبالغا , فقد وقع البحث عنده فى اثنتين وثلاثين صحيفة تقريبا .
2/ قال الإمام أبو الحسن الماوردى فى كتاب الحاوى الكبير : ( فصل : فإذا ثبت ما وصفنا من وجوب الفاتحة واستحباب السورة فلا يجوز أن يقرأ بالفارسية ولا بلغة غير العربية , وأجازه أبو حنيفة إن أحسن العربية أو لا يحسنها , وأجازه أبو يوسف ومحمد لمن لا يحسن العربية دون من يحسنها . واستدلوا بقوله تعالى : (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) , وبقوله : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ), فأخبر أنه كان فى صحفهم وزبرهم . ومعلوم أنها لم تكن بالعربية , وإنما كانت بلغتهم , فبعضها عبرانى , وبعضها سريانى . وقال تعالى { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} فأخبر أنه أنذار للكافة من العرب والعجم , ولا يمكن إنذار العجم إلا بلسانهم ).
3/ قال ابن حزم فى المحلى: ( ومن قرأ أم القرآن أو شيئا منها أو شيئا من القرآن فى صلاته مترجما بغير العربية , أو بألفاظ عربية غير الألفاظ التى أنزل الله تعالى , عامدا لذلك , أو قدم كلمة أو أخرها عامدا لذلك بطلت صلاته وهو فاسق , لأن الله تعالى { قُرْآناً عَرَبِيّاً }, وغير العربى ليس عربيا , فليس قرآنا , وإحالة رتبة القرآن تحريف كلام الله تعالى , وقد ذم الله تعالى قوما فعلوا ذلك فقال: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ }. {332}
وقال أبو حنيفة :" تجزيه صلاته " , واحتج له من قلده بقوله تعالى :( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ). قال على : لا حجة لهم فى هذا , لأن القرآن المنزل علينا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم لم ينزل على الأولين , وإنما فى زبر الأولين ذكره والإقرار به فقط , ولو أنزل على غيره عليه السلام لما كان آية له , ولا فضيلة له , وهذا لا يقوله مسلم ..
ومن كان لا يحسن العربية فليذكر الله تعالى بلغته , لقول الله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } , ولا يحل له أن يقرأ أم القرآن ولا شيئا من القرآن مترجما على أنه الذى افترض عليه أن يقرأه , لأنه غير الذى افترض عليه كما ذكرنا , فيكون مفتريا على الله تعالى ) أ. هــ
وقال فى موضع من المحلى أيضا : ( ومن أحال القرآن متعمدا فقد كفر , وهذا مالا خلاف فيه , ومن كانت لغته العربية جاز له أن يدعو بها فى صلاته , ولا يجوز له أن يقرأ بها , ومن قرأ بغير العربية فلا صلاة له ).
وقال أبو حنيفة : ( من قرأ بالفارسية فى صلاته جازت صلاته . قال على : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن " , وقال تعالى :{ قُرْآناً عَرَبِيّاً }, وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } فصح أن غير العربية لم يرسل به الله تعالى به نبيه عليه السلام , ولا قرأ القرآن , بل لعب بصلاته فلا صلاة له إذ لم يصل كما أمر .
فإن ذكروا قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } قلنا : نعم .. ذكر القرآن والإنذار به فى زبر الأولين , وأما أن يكون الله تعالى أنزل هذا القرآن على أحد قبل رسول صلى الله عليه وسلم فباطل وكذب ممن ادعى ذلك , ولو كان هذا ما كان فضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا معجزة له , وما نعلم أحدا قال هذا قبل أبى حنيفة . {333} ومن لم يحفظ أم القرآن صلى كما هو , وعليه أن يتعلمها , لقول الله تعالى : (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فهو غير مكلف ما لم يقدر عليه , فإن حفظ شيئا من القرآن غيرها لزمه فرضا أن يصلى به , ويتعلم أم القرآن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة إلا بقراءة ", ولقول الله تعالى : { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } بل أن بن حزم فى موضع من المحلى قد قال بوجوب الالتزام بالألفاظ الشرعية الواردة فى العبادات والمعاملات والبراءة ممن تعمد ترك ذلك , ومثله كتابة المصحف بغير رسمه المأثور .
4/ قال أبو الخطاب الكلوذانى فى كتاب الانتصار فى المسائل الكبار :{334}
(لا تصح الصلاة بترجمة القرآن بالفارسية وغيرها , قال فى رواية إسماعيل بن سعيد : فمن يقرأ بالفارسية وهو يحسن العربية لا يجزئه , وإذا كان لا يحسن العربية لا يدعو فى الصلاة بالفارسية .. وبه قال مالك , والشافعى , وأبو يوسف و محمد .
قال أبو حنيفة : " تصح الصلاة بذلك " لنا : انعقاد الإجماع على أن الواجب فى الصلاة قراءة القرآن , قال تعالى : { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } , وقال عليه الصلاة والسلام : " صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الآدميين إنما هى التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " , وترجمة القرآن ليست قرآنا , لأن القرآن نزل بلسان العرب على نظم مخصوص , قال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }, وقال سبحانه : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }, فدل على أنه لم يجعله أعجميا .
فإن قيل فهذا يدل على أنه لو جعله بلغة أخرى لكان قرآنا ؟ قلنا : نعم .. ولكن لم يجعله .
فإن قيل فقد قال : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً }, ولم يدل على أنه لا يكون {335}
قلنا : يحتمل إنا أنزلناه حكما بلفظ عربى , ويحتمل حكما أى محكما عربيا , ولم يرد به القضاء والله أعلم , فإن ذلك لا يتغير بالعجمية والعربية أن يكون حكما , لأنه معنى مفهوم , فأما القرآن فلا يكون بالترجمة قرآنا , ولهذا تفسير القرآن لا يسمى قرآنا , وترجمة الشعر لا تسمى شعرا , ولهذا تحدى الله سبحانه بالقرآن فى نظمه دون حكمه , ولهذا قال تعالى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } والحكم الذى هو المعنى ميسر بلسان كل أحد , ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " حبوا العرب لأنى عربى , ولأن القرآن عربى ".
فإن قيل : فقد قال تعالى {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } فدل على أنهم لا يأتون بقرآن لا مثله وفيهم العجم .
وقال تعالى : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى × صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } وقال تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , ومعلوم أن الصحف والزبر لم تكن بالعربية . قلنا : الله تعالى نفى الإتيان بالمثل , وكذا لم يكن مثله لم يكن قرآنا . قوله : إنه فى المصحف والزبر أراد به الأحكام والمعانى مثل قوله : { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى{17} إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى }
, إذ لو أراد اللفظ لما جاز أن يؤمر نبينا عليه {336} السلام بالتحدى , وقد قال تعالى : {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ }, {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}. وقد قيل المراد به صفة نبينا والإخبار ببعثه .
فإن قيل : فقد قال تعالى :{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} ومعلوم أن من بلغه من غير العرب لا يمكنه أن ينذره به إلا بلغته , وقد فهمت الصحابة رضى الله عنهم ذلك , فإنه روى عن سليمان :" أنه كتب إلى قوم من الفرس فاتحة الكتاب بالفارسية "
وقرأ ابن مسعود : {طَعَامُ الْأَثِيمِ} " طعام الفاجر " {337}
وقرأ أنس : {وَأَقْوَمُ قِيلاً} " وأصوب قيلا " .
قلنا : أما النذارة فقال ابن عباس :" ومن بلغ ", فالنبى عليه الصلاة والسلام نذيره بدعائه له , لأنه لا يكلف ما لا يحسن , ولم يكن يحسن بغير العربية , لأن النذارة تقع بالعلم بالترغيب والترهيب وما شرع من مكارم الأخلاق ومحاسنها وتعريف التوحيد , وذلك يقع بتفهم المعانى , وكلامنا فيما جعل شرطا فى الصلاة من القرآن , وأن معناه لا يسمى قرآنا , لأن التسمية توقيف , وأما الصحابة فأرادوا بما ذكروا {338} التفسير , ولهذا قال عمر :" إن الله تعالى أنزل القرآن عربيا بلغة هذا الحى من قريش , لا بلغة هذيل " لما بلغه أن ابن مسعود أقرأ رجلا " ليسسجننه حتى حين "
ملحوظه هناك خطأ فى الاية فى صفحة {339}من الكتاب
وكذلك قال عثمان لما اختلفوا فى " التابوت والتابوه " : " اكتبوه بالتاء , فإنه نزل بلغة قريش " واحتج بما تقدم فى مسألة التكبير أن المستحق عمل على اللسان يتأدى به معنى القرآن واللفظ ليس بمقصود على ما يعرف فى سائر الأذكار من الخطبة والتسبيح والتسمية وغير ذلك .
قلنا: بل المستحق قراءة القرآن وهو هذا اللفظ المخصوص بالنظم المعجز , والبلاغة الباهرة , وهو الذى تحدى الله به , فأما التفسير فمستحقه للحكم , ولهذا لا يحرم على المحدث مس التفسير ولا قراءته ولا يسمى قرآنا , ولأنه تعالى أمر فى الصلاة بالقرآن , وهذا هو المنزل بعينه , ولأن حفظه بهذا النظم المخصوص واجب فى الجملة , لأنه حجة النبوة كما أن معناه مقصود للحكم فكان بنظمه ومعناه هو الركم لا غير , وأما سائر الأذكار فقد تقدم الجواب فيها فى المسألة قبلها بما فيه كفاية , والله أعلم بالصواب ). آخر كلام أبى الخطاب . {339}
5/ قال فخر الرازى فى تفسيره وهو بصدد ذكر المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة : ( المسألة الحادية عشرة : قال الشافعى : ترجمة القرآن لا تكفى فى صحة الصلاة , لا فى حق من يحسن القراءة , ولا فى حق من لا يحسنها . وقال أبو حنيفة : " أنها كافية فى حق القادر والعاجز " . وقال أبو يوسف ومحمد :" أنها كافية فى حق العاجز وغير كافية فى حق القادر , واعلم أن مذهب أبى حنيفه فى هذه المسألة بعيدا جدا , ولهذا السبب فإن الفقيه أبا الليث السمرقندى والقاضى أبا يزيد الدبوسى صرحا بتركه .
لنا حجج ووجوه :
الحجة الأولى : أنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بالقرآن المنزل من عند الله تعالى باللفظ العربى وواظب عليه طوال عمره فوجب أن يجب علينا مثله , لقوله تعالى : {فاتبعوه }, والعجب أنه احتج بأنه عليه السلام مسح على ناصيته مرة على كونه شرطا فى صحة الوضوء , ولم يلتفت إلى مواظبته طول عمره على قراءة القرآن باللسان العربى .
الحجة الثانية : أن الخلفاء الراشدين صلوا بالقرآن العربى , فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه السلام :" اقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر وعمر " . ولقوله عليه السلام :" عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى , عضوا عليها بالنواجذ " .
الحجة الثالثة : أن الرسول وجميع الصحابة ما قرؤا فى الصلاة إلا هذا القرآن العربى , فوجب أن يجب عليه ذلك لقوله عليه السلام : " ستفترق أمتى على نيف وسبعين فرقة , كلهم فى النار إلا فرقة واحدة . قيل : ومن هم يارسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابى " . وجه الدليل أنه عليه السلام وهو وجميع أصحابه كانوا متفقين {340}
على القراءة فى الصلاة بهذا القرآن العربى فوجب أن يكون القارئ بالفارسية من أهل النار .
الحجة الرابعة : أن أهل ديار الإسلام مطبقون بالكلية على قراءة القرآن فى الصلاة كما أنزل الله تعالى , فمن عدل عن هذا الطريق دخل تحت قوله تعالى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}
الحجة الخامسة : أن الرجل أمر بقراءة القرآن فى الصلاة , ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن , فوجب أن لا يخرج عن العهدة , إنما قولنا إنه أمر بقراءة القرآن لقوله تعالى : {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} , ولقوله عليه السلام للأعرابى :" ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن " . وإنما قلنا إن الكلام المرتب بالفارسية ليس بقرآن لوجوه :
[الأول ] قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}, إلى قوله تعالى : {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }
[الثانى ] قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ }
[الثالث] قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً}, وكلمة " لو " تفيد انتفاء الشئ لانتفاء غيره , وهذا يدل على أنه تعالى ما جعله قرآنا أعجميا , فيلزم أن يقال أن كل ما كان أعجميا فهو ليس بقرآن .
[الرابع ] قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} , فهذا الكلام المنظوم بالفارسية إما {341}
أن يقال إنه عين الكلام العربى أو مثله , أو لا عينه ولا مثله , والأول معلوم البطلان بالضروره , والثانى باطل إذ لو كان هذا النظم الفارسى مثلا لذلك الكلام العربى لكان الآتى به آتيا بمثل القرآن , وذلك يوجب تكذيب الله سبحانه فى قوله : {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} , ولما ثبت أن هذا الكلام المنظوم بالفارسية ليس عين القرآن ولا مثله ثبت أن قارئه لم يكن قارئا للقرآن وهو المطلوب , فثبت أن المكلف أمر بقراءة القرآن , ولم يأت به , فوجب أن يبقى فى العهدة .
الحجة السادسة : ما رواه ابن المنذر عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تجزى صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " , فنقول : هذه الكلمات المنظومة بالفارسية إما أن يقول أبو حنيفة إنها قرآن , أو يقول إنها ليست بقرآن , والأول جهل عظيم وخروج عن الإجماع , وبيانه من وجوه :
[الأول ] أن أحد من العقلاء لا يجوز فى عقله ودينه أن يقول إن قول القائل :
" دوستها دربهشت " قرآن .
[الثانى ] يلزم أن يكون القادر على ترجمة القادر على ترجمة القرآن آتيا بقرآن مثل الأول , وذلك باطل .
الحجة السابعة : روى عبد الله بن أبى أوفى أن رجلا قال : يارسول الله , إنى لا أستطيع أن أحفظ القرآن كما يحسن فى الصلاة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قل سبحان الله والحمد لله ...." إلى آخرها هذا الذكر . وجه الدليل : أن الرجل لما سأله عما يجزيه فى الصلاة عند العجز عن قراءة القرآن العربى أمره الرسول عليه السلام بالتسبيح , وذلك يبطل قول من يقول إنه يكفيه أن يقول :" دوستان دربشهت "
الحجة الثامنة : يقال أن أول الإنجيل هو قوله :" بسم الاها رحمانا ومر حيانا " وهذا هو عين ترجمة بسم الله الرحمن الرحيم , فلو كانت ترجمة القرآن نفس القرآن لقالت النصارى أن هذا القرآن إنما أخذته من عين الإنجيل , ولما لم يقل أحد هذا علمنا أن ترجمة القرآن لا تكون قرآنا .
الحجة التاسعة : أنا إذا ترجمنا قوله تعالى : {َابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} كان ترجمته : " بفر ستيديكى أزشمابا نقرة بشهر بس بنكر دكه كدام طعام بهترست باره ازان بياورد " , ومعلوم أن هذا الكلام من جنس كلام الناس لفظا ومعنى فوجب أن لا تجوز الصلاة به لقوله عليه الصلاة والسلام :" إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الناس " , وإذا لم تنعقد الصلاة بترجمة هذه الآية فكذا بترجمة سائر الآيات , لأنه لا قائل بالفرق , وأيضا فهذه الحجة جارية فى ترجمة قوله تعالى : {هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } إلى قوله : {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } , فإن ترجمتها لا تكون شتما من جنس كلام الناس فى اللفظ والمعنى , وكذلك قوله تعالى : {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا} , فإن ترجمة هذه الآية تكون من جنس كلام الناس لفظا ومعنى , وهذا بخلاف ما إذا قرأنا عين هذه الآيات بهذه الألفاظ لأنها بحسب تركيبها المعجز ونظمها البديع تمتاز عن كلام الناس , والعجيب من الخصوم أنهم قالوا إنه لو ذكر فى آخر التشهد دعاء يكون من جنس كلام الناس فسدت صلاته . ثم قالوا : تصح الصلاة بترجمة هذه الآيات مع أن ترجمتها عين كلام الناس لفظا ومعنى .
الحجة العاشرة : قوله تعالى عليه الصلاة والسلام : " أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف " , ولو كانت ترجمة القرآن بحسب كل لغة قرآن على حدة , وحينئذ لا يصح حصر حروف القرآن فى السبعة .
الحجة الحادية عشرة : أن عند أبى حنيفة تصح الصلاة بجميع الآيات , ولا شك أنه قد حصل فى التوراة آيات كثيرة مطابقة لما فى القرآن من الثناء على الله ومن تعظيم أمر الآخرة وتقبيح الدنيا , فعلى قول الخصم تكون الصلاة صحيحة بقراءة {343} الإنجيل والتوراة , وبقراءة زيد و إنسان ولو أنه دخل الدنيا وعاش مائة سنة ولم يقرأ حرفا من القرآن بل كان مواظبا على قراءة زيد وإنسان , فإنه يلقى الله تعالى مطيعا , ومعلوم بالضرورة أن هذا الكلام لا يليق بدين المسلمين .
الحجة الثانية عشرة : أنه لا ترجمة للفاتحة , ألا نقول الثناء لله رب العالمين ورحمان المحتاجين , والقادر على يوم الدين , أنت المعبود وأنت المستعان , إهدنا إلى طريق أهل العرفان لا إلى طريق أهل الخذلان , وإذا ثبت أن ترجمة الفاتحة ليست إلا هذا القدر أو ما يقرب منه , فمعلوم أنه لا خطبة إلا وقد حصل فيها هذا القدر فوجب أن يقال الصلاة صحيحة بقراءة جميع الخطب , ولما كان باطلا علمنا فساد هذا القول .
الحجة الثالثة عشرة : لو كان هذا جائزا لكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسى فى أن يقرأ القرآن بالفارسية ويصلى بها , ولكان قد أذن لصهيب فى أن يقرأ بالرومية , ولبلال فى أن يقرأ بالحبشية , ولو كان هذا الأمر مشروعا لاشتهر جوازه فى الخلق , فإنه يعظم فى أسماع أرباب اللغات بهذا الطريق , لأن ذلك يزيل عنهم أتعاب النفس فى تعلم اللغة العربية , ويحصل لكل قوم فخر عظيم فى أن يحصل لهم قرآن بلغتهم الخاصة , ومعلوم أن تجويزه يفضى إلى اندارس القرآن بالكلية , وذلك لا يقوله مسلم .
الحجة الرابعة عشرة : لو جازت الصلاة بالقراءة بالفارسية لما جازت بالقراءة بالعربية , وهذا جائز وذاك غير جائز , بيان الملازمة أن الفارسى الذى لا يفهم من العربية شيئا لم يفهم من القرآن شيئا البتة , أما إذا قرأ القرآن بالفارسية فهم المعنى وأحاط بالمقصود , وعرف ما فيه من الثناء على الله ومن الترغيب فى الآخرة , والتنفير عن الدنيا , ومعلوم أن المقصد الأقصى من إقامة الصلوات حصول هذه المعانى .
قال تعالى : {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} , وقال تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } , فثبت أن قراءة الترجمة تفيد هذه الفوائد بالفارسية قائمة مقام القراءة بالعربية فى الصحة ثم إن القراءة بالفارسية تفيد هذه الفوائد العظيمة {344} والقراءة بالعربية مانعه منها لوجب أن تكون القراءة بالعربية محرمة , وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القراءة بالفارسية غير جائزة .
الحجة الخامسة عشرة : المقتضى لبقاء الأمر بالصلاة قائم , والفارق ظاهر , وأما المقتضى فلأن التكليف كان ثانيا , والأصل فى الثابت البقاء , وأما الفارق فهو أن القرآن العربى كما أنه يطلب قراءة لمعناه كذلك تطلب قراءته لأجل لفظه , وذلك من وجهين :
[الأول ] أن الإعجاز فى فصاحته , وفصاحته فى لفظه .
[والثانى ] أن توقيف صحة الصلاة على قراءة لفظه يوجب حفظ تلك الألفاظ , وكثرة الحفظ من الخلق العظيم يوجب بقاءه على وجه الدهر مصونا عن التحريف , وذلك يوجب تحقيق ما وعد الله تعالى بقوله : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . أما إذا قلنا إنه لا يتوقف صحة الصلاة على قراءة هذا النظم العربى فإنه يختل هذا المقصود , فثبت أن المقتضى قائم , والفارق ظاهر . واحتج المخالف على صحة مذهبه بأنه أمر بقراءة القرآن , وقراءة الترجمة قراءة القرآن , ويدل عليه وجوه :
[الأول ] روى أن عبد الله بن مسعود كان يعلم رجلا القرآن فقال : {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعَامُ الْأَثِيمِ} وكان الرجل عجميا , فكان يقول : " طعام اليتيم " فقال : قل طعام الفاجر .
ثم قال عبد الله : " إنه ليس الخطأ فى القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم , بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب " {345}
[الثانى ] قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , فأخبر أن القرآن فى زبر الأولين . وقال تعالى : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } . ثم أجمعنا على أنه ما كان القرآن فى زبر الأولين بهذا اللفظ , لكن كان بالعبرانية والسريانية .
[الثالث] أنه تعالى قال : {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ} , ثم إن العجم لا يفهمون اللفظ العربى إلا إذا ذكر تلك المعانى لهم بلسانهم , ثم إنه تعالى سماه قرآنا فثبت أن هذا المنظوم بالفارسية قرآن .
والجواب عن الأول : أن نقول إن أحوال هؤلاء عجيبة جدا , فإن ابن مسعود نقل عنه أنه كان يقول : " أنا مؤمن إن شاء الله " , ولم ينقل عن أحد من الصحابة المبالغة فى نصرة هذا المذهب كما نقل عن ابن مسعود , ثم إن الحنفية لا تلتفت إلى هذا , بل تقول : إن القائل به شاك فى دينه , والشاك لا يكون مؤمنا , فإن كان قول ابن مسعود حجة فلم يقبلوا قوله فى تلك المسألة ؟ وإن لم يكن حجة فلم عول عليه فى هذه المسألة ؟{347}
ولعمرى هذه المناقضات عجيبة , وأيضا فقد نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين , وحذف الفاتحة عن القرآن , ويجب علينا إحسان الظن به , وأن نقول : إنه رجع عن هذه المذاهب . وأما قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} فالمعنى : أن هذه القصص موجودة فى زبر الأولين , وقوله تعالى :{لأُنذِرَكُم } فالمعنى لأنذركم معناه . وهذا القدر القليل من المجاز يجوز تحمله لأجل الدلائل الغامرة القاطعة التى ذكرناها ). أ . هـ كلام الفخر الرازى .
6/ قال الكيا الهراسى فى أحكام القرآن : ( قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} وإذا فيه دليل على أن القرآن بلغة العرب , وأنه ليس أعجميا ... وإذا نقل عن اللسان العربى إلى غيره لم يكن قرآنا ) .
7/ وقال أبو بكر بن العربى فى أحكام القرآن عند قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} : ( قال علماؤنا : هذا يبطل قول أبى حنيفة فى قوله : " إن ترجمة القرآن بإبدال اللغة العربية بالفارسية جائز , لأن الله تعالى قال : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا} كذا , لنفى أن يكون للعجمة إليه طريق , فكيف يصرف إلى ما نهى الله عنه , فأخبر أنه لم ينزل به , وقد بيناه فى مسألة الخلاف , وأوضحنا أن التبيان {348}
والإعجاز إنما يكون بلغة العرب , فلو قلب إلى غير هذا لما كان قرآنا , ولا بيانا , ولا اقتضى إعجازا , فلينظر هنالك على التمام إن شاء الله لا رب غيره , ولا خير إلا خيره ).
8/ وقال أبو عبد الله القرطبى فى تفسيره عند ذكره للماسائل المتعلقة بأحكام الفاتحة ( الثامنة عشرة : من لم يواته لسانه إلى التكلم بالعربية من الأعجميين وغيرهم ترجم له الدعاء العربى بلسانه الذى يفقه لإقامة صلاته , فإن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى.
التاسعة عشرة : لا تجزئ صلاة من قرأ بالفارسية وإن أحسن العربية , لأن المقصود إصابة المعنى . قال بن المنذر : لا يجزئه ذلك , لإنه خلاف ما أمر الله به , وخلاف ما علم النبى صلى الله عليه وسلم وخلاف جماعات المسلمين , ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال ).
وقال القرطبى فى موضع من تفسيره أيضا عند قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} : ( أى وإن ذكر نزله لفى كتب الأولين يعنى الأنبياء . وقيل أى إن ذكر محمد عليه السلام فى كتب الأوليين , كما قال تعالى : {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} , والزبر : الكتب الواحد , وزبور كرسول , ورسل , وقد تقدم)
وقال القرطبى فى موضع ثالث من تفسيره عند كلامه على قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} قال :( فيها ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} أى بلغة غير العرب {لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أى بينت بلغتنا فإننا عرب لانفهم الأعجمية . فبين أنه أنزله بلسانهم ليتقرر به معنى الإعجاز , إذ هم أعلم الناس بأنواع الكلام نظما ونثرا , وإذا عجزوا عن معارضته كان من أدل الدليل على أنه من عند الله , ولو كان بلسان العجم لقالوا لا علم لنا بهذا اللسان .
الثانية : وإذا ثبت هذا ففيه دليل على أن القرآن عربى , وأنه نزل بلغة العرب , وأنه ليس أعجميا , وأنه إذا نقل عنها إلى غيرها لم يكن قرآنا ).
9/ قال القرافى فى الذخيرة : ( فلو كان لا يقدر على القراءة إلا بالعجمية لم يجز له , خلافا ل"ح " محتجا بقوله تعالى : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} , {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , ولم تكن فيها عربية , ولأن الإعجاز يراد لإقامة الحجة وليس ذلك مقصودا فى الصلاة , بل الثناء على الله تعالى والاتعاظ وهما حاصلان .
وجوابه : أن الأول معارض بقوله تعالى : {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} والقرآن فى عرف الشرع :" العربى "
وعن الثانى : أن الإعجاز مراد فى حق المصلى لا ستصحاب الإيمان الذى هو شرط فى الصلاة , وهو منقوض بما لو نظم للثناء على الله تعالى شعرا , بالثناء على الله تعالى بغير القرآن ).
10/ وقال النووى فى التبيان : ( ولا تجوز قراءة القرآن بالعجمية سواء أحسن العربية أم لم يحسنها , سواء كان فى الصلاة أم فى غيرها , فإن قرأ بها فى الصلاة لم تصح , هذا مذهبنا مالك وأحمد وداود وأبى بكر بن المنذر {350}
وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك وتصح به الصلاة . وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز ذلك لمن لم يحسن العربية , ولا يجوز لمن يحسنها ).
وقال فى موضع من التبيان أيضا : ( ولو قرأ آية السجدة بالفارسية لا يسجد عندنا , كما لو فسر آية سجدة. وقال أبو حنيفة : يسجد )
وذكر فى المجموع نحوا مما مر , وقال : ( وأما ما نقل عن سلمان رضى الله عنه " أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن , فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية " فأجاب عنه أصحابنا بأنه كتب تفسير الفاتحة لا حقيقتها ) .
وجزم فى الروضة بعدم جواز الترجمة .
11/ وقال أبو العباس بن تيمية فى اقتضاء الصراط :( وقد اختلف الفقهاء فى أذكار الصلاة هل تقال بغير العربية ؟ وهى ثلاث درجات , أعلاها القرآن , ثم الذكر الواجب غير القرآن , كالتحريمة بالإجماع , وكالتحليل والتشهد عند من أوجبه , ثم الذكر غير الواجب من دعاء أو تسبيح أو تكبير وغير ذلك .
فأما القرآن : فلا يقرؤه بغير العربية , سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور , وهو الصواب الذى لا ريب فيه , بل قال غير واحد أنه يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز .
واختلف أبو حنيفة وأصحابه فى القادر على العربية , ثم تكلم عن ترجمة الأذكار والعقود بما يطول شرحه ).
لكن ابن تيمية قد مال فى غير موضع من كتبه إلى القول بجواز ترجمة معانى القرآن لضرورة التبليغ على أن تقدر تلك الضرورة بقدرها , وأن يكون المترجم مستوفيا لشروط المفسر والمترجم معا . قال وهو بصدد الكلام عن الانتفاع بكتب الكفار والأمم السابقة وترجمتها : ( ... والترجمة والتفسير ثلاث طبقات : {351}
أحدها : ترجمة مجرد اللفظ , مثل نقل اللفظ بلفظ مرادف , ففى هذه الترجمة تريد أن تعرف أن الذى يعنى بهذا اللفظ عند هؤلاء هو بعينه الذى يعنى باللفظ عند هؤلاء , فهذا علم نافع , إذ كثير من الناس يقيد المعنى باللفظ فلا يجرده عن اللفظين جميعا .
والثانى : ترجمة المعنى وبيانه , بأن يصور المعنى للمخاطب , فتصوير المعنى له وتفهيمه إياه قدر زائد على ترجمة اللفظ , كما يشرح للعربى كتابا عربيا قد سمع ألفاظه العربية , لكنه لم يتصور معانيه ولا فهمها , وتصوير المعنى يكون بذكر عينه أو نظيره , إذ هو تركيب صفات من مفردات يفهمها المخاطب , يكون ذلك المركب صور ذلك المعنى , إما تحديدا وإما تقريبا .
والدرجة الثالثة : بيان صحة ذلك وتحقيقه بذكر الدليل والقياس الذى يحقق ذلك المعنى , إما بدليل يبين علة وجوده , وهنا قد يحتاج إلى ضرب أمثلة ومقاييس تفيده التصديق بذلك المعنى , كما يحتاج فى الدرجة الثانية إلى أمثلة تصور له ذلك المعنى وقد يكون نفس تصوره مفيدا للعلم بصدقه . وإذا كفى تصور معناه فى التصديق به لم يحتج إلى مقياس ومثل ودليل آخر ). إلى أن قال: ( ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبيلغ القرآن لفظه ومعناه , كما أمر بذلك الرسول , ولا يكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك , وأن تبليغه إلى العجم قد يحتاج إلى ترجمة لهم , فيترجم لهم بحسب الإمكان , والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعانى , فيكون ذلك من تمام الترجمة ).
12/ وقال شمس الدين بن مفلح فى فروعه فيمن لم يحسن شيئا من القرآن قال : ( ومن جهله حرم ترجمته عنه بغير العربية فى المنصوص " و م ش " كعالم {352}
"5" وخالفه صاحباه , مع أن عندهم يمنع من اعتياد القراءة وكتابة المصحف بغيرها , لا من فعله فى آيتين . قال أصحابنا : ترجمته بالفارسية لا تسمى قرآنا , فلا تحرم على الجنب , ولا يحنث بها من حلف لا يقرأ . قال أحمد : القرآن معجز بنفسه , فدل على أن الإعجاز فى اللفظ والمعنى , وفى بعض آيه , ذكره القاضى وغيره , وفى كلامه فى التمهيد فى النسخ وكلام أبى المعالى لا . وهو فى كلام الحنفية , وزاد بعضهم والآية . قال ابن حامد فى أصوله : الأظهر فى جواب أحمد بقاء الإعجاز فى الحروف المقطعة , وقيل للقاضى : لا نسلم أن الأعجاز فى اللفظ بل فى المعنى فقال : الدلالة على أن الإعجاز فى اللفظ والنظم دون المعنى أشياء منها أن المعنى يقدر على مثله كل أحد , يبين صحة هذا قوله : { قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} , وهذا يقتضى أن التحدى بألفاظها , ولأنه قال مثله مفتريات , والكذب لا يكون مثل الصدق , فدل على أن المراد به مثله فى اللفظ والنظم . قال شيخنا : يحسن للحاجة ترجمته لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة , وذكر غيره هذا المعنى . وحصل الإنذار بالقرآن دون تلك اللغة كترجمة الشهادة ).
13/ وقال ابن الحاج فى المدخل وهو بصدد الكلام على ما يتعن على الناسخ مراعاته , قال : ( وينبغى له , بل يتعين عليه أن لا ينسخ الختمة بلسان العجم لأن الله عزوجل أنزله بلسان عربى مبين ولم ينزله بلسان العجم .
وقد كره مالك رحمه الله نسخ المصحف فى أجزاء متفرقة , وقال إن الله عز وجل قال : {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } وهؤلاء يفرقونه , فإذا كره هذا فى الأجزاء فما بالك بتغييره عن اللسان العربى المبين , ولقد سرى هذا لبعض الناس فى هذا الزمان حتى أنهم ليعدون قراءة القرآن بالعجمية ونسخ الختمة بها من الفضيلة , وبعضهم يجمع فى {353}
الختمة الواحدة بين كتبها باللسان العربى واللسان العجمى , فيكتب الآيتين والثلاث باللسان العربى ثم يكتبها بعدها باللسان العجمى , وهذا مخالف لما أجمع عليه الصدر الأول والسلف الصالح , والعلماء رضى الله عنهم , وإذا كان ذلك كذلك فيتعين عليه أن لا يعرج على قول من أجاز ذلك فليحذر من ذلك والله الموفق ).
14/ وقال الزركشى فى البرهان : ( هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربى ؟ هذا مما لم أر للعلماء فيه كلاما , ويحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية , والأقرب المنع , كما تحرم قراءته بغير لسان العرب ولقولهم : القلم أحد اللسانين , والعرب لا تعرف قلما غير العربى {وقد} قال تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ونقل السيوطى فى الإتقان قول الزركشى هذا ولم يعقب عليه بشئ . وقد مضى فى مسألة مدى إمكان ترجمة القرآن كلام للزركشى فى البحر المحيط , ونقله عنه الزرقانى فى المناهل , فليراجعه فى موضعه من رامه .
15/ وقال ابن حجر الهيتمى فى الفتاوى الكبرى , وقد سئل رحمه الله هل تحرم كتابة القرآن الكريم بالعجمية كقراءته ؟ فأجاب :( بقوله قضية ما فى المجموع عن الأصحاب التحريم , وذلك لأنه قال وأما ما نقل عن سلمان رضى الله عنه أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن , فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية . فأجاب كتابتها بالعجمية , فإن قلت كلام الأصحاب إنما هو جواب عن حرمة قراءتها {354}
بالعجمية المترتبة على الكتابة بها فلا دليل لكم فيه , قلت بل هو جواب عن الأمرين , وزعم أن القراءة بالعجمية مترتبة على الكتابة بها ممنوع بإطلاقه , فقد يكتب بالعجمية ويقرأ بالعربية وعكسه , فلا تلازم بينهما كما هو واضح , وإذا لم يكن بينهما تلازم كان الجواب عما فعله سلمان رضى الله عنه سئل هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء ؟ فقال :" لا .. إلا على الكتبة الأولى " أى كتبة الإمام وهو المصحف العثمانى . قال بعض أئمة القراء : ونسبته إلى مالك لأنه المسؤل عن المسألة , وإلا فهو مذهب الأئمة الأربعة . قال أبو عمرو: " ولا مخالف له فى ذلك من علماء الأمة ". وقال بعضهم : والذى ذهب إليه مالك هو الحق , إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن يتعلمها الآخرون , وفى خلافها تجهيل آخر الأمة أولهم , وإذا وقع الإجماع كما ترى على منع ما أحدث الناس اليوم من مثل كتابة الربو بالألف مع أنه موافق للفظ الهجاء , فمنع ما ليس من جنس الهجاء أولى , وأيضا ففى كتابته بالعجمية تصرف فى اللفظ المعجز الذى حصل التحدى به بما لم يرد , بل بما يوهم عدم الإعجاز , بل الركاكة لأن الألفاظ العجمية فيها تقديم المضاف إليه على المضاف ونحو ذلك مما يخل بالنظم ويشوش الفهم . وقد صرحوا بأن الترتيب من مناط الإعجاز وهو ظاهر فى حرمة تقديم آية على آية كما يحرم ذلك قراءة , فقد صرحوا بأن القراءة بعكس السور مكروهة , وبعكس الآيات محرمة , وفرقوا بأن ترتيب السور على النظم المصحفى مظنون , وترتيب الآيات قطعى , وزعم أن كتابته بالعجمية فيها سهولة للتعليم كذب مخالف للواقع والمشاهدة فلا يلتفت لذلك على أنه لو سلم صدقة لم يكن مبيحا لإخراج ألفاظ القرآن كما كتبت عليه , وأجمع السلف والخلف ).
16/ وقد جزم جمع من أئمة الفقهاء بعدم جواز قراءته بغير العربية . قال ابن قدامة فى المغنى : (" فصل " ولا تجزئه القراءة بغير العربية , ولا إبدال لفظها بلفظ {355} عربى , سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن , وبه قال الشافعى وأبو يوسف ومحمد . وقال أبو حنيفة :" يجوز ذلك " وقال بعض أصحابه إنما يجوز لمن لم يحسن العربية , واحتج بقوله تعالى :{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}, ولا ينذر كل قوم إلا بلسانهم .
ولنا : قول الله تعالى : {قُرْآناً عَرَبِيّاً} , وقوله تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} , ولأن القرآن معجزة لفظه ومعناه , فإذ غير خرج عن نظمه فلم يكن قرآنا ولا مثله , وإنما يكون تفسيرا له , ولو كان تفسيره مثله لما عجزوا عنه لما تحداهم بالإتيان بسورة مثله .
أما الأنذار فإنه إذا فسره لهم كان الإنذار بالمفسر دون التفسير .."فصل " فإن لم يحسن القراءة بالعربية لزمه التعلم , فإن لم يفعل مع القدرة عليه لم تصح صلاته ......)
والقول بعدم جواز قراءة القرآن بغير العربية هو الذى جزم به الأنصارى الشافعى فى شرح الروض , والتاج المحلى فى منهاج الطالبين , والشمس الرملى فى النهاية , وهو الذى رجحه العلاء المرداوى فى الإنصاف , وجزم به فى الإقناع وشرحه , وعبارة ابن جزى المالكى {356}
فى كتابة القوانين الفقهية تدل على أن القول بمنع الترجمة محل وفاق عندهم . قال : ( لا يجوز ترجمتها خلاف لأبى حنيفة ) أى الفاتحة ..
17/ بحوث معاصرة فى ترجمة القرآن الكريم :
وقد أثيرت قضية ترجمة القرآن على نطاق واسع فى منتصف القرن الماضى , وظهرت فى تلك الآونة دراسات تحرم ترجمة القرآن الكريم , ومن هذه الدراسات :
أ – واحدة للشيخ محمد رشيد رضا بعنوان " ترجمة القرآن وما فيها من المفاسد ومنافاة الإسلام " أقام فيها البراهين على حرمة ترجمة القرآن فى الإسلام , وعلى عدم إمكانها وعلى سوء أغراض بعض الجانحين إلى هذا العمل من الترك وغيرهم , ورد جميع الشبه التى قد تخطر على البال فى هذا الباب .
ب – وكذلك فقد نشر محمد سعيد البانى دراسة بهذا المعنى بعنوان " الفراقدان النيران فى بعض المباحث المتعلقة بالقرآن " حيث ضمنها البراهين على حظر ترجمة القرآن .
ج – وأصدر الشيخ محمد سليمان القاضى بالمحكمة الشرعية العليا بمصر كتابا فى هذا الموضوع بعنوان " حادث الأحداث فى الإقدام على ترجمة القرآن " سنة 1355 هـ طبعة جريدة مصر الحرة .
د – وأصدر الشيخ محمد مصطفى الشاطر القاضى للمحكمة الشرعية لشبين الكوم كتابا حول قضية ترجمة القرآن الكريم بعنوان " القول السديد فى حكم ترجمة القرآن المجيد " بمصر سنة 1355 هـ ـ 1936 م {357}
هـ - وأصدر الشيخ محمد مصطفى المراغى بحثا فى ترجمة القرآن الكريم وأحكامها نشرت سنة 1934 م طبعة الرغائب , ثم نشرته مجلة الأزهر فى السنة السابعة عام 1355 هـ.
و- ونشر الشيخ محمود شلتوت دراسة بعنوان " ترجمة القرآن ونصوص العلماء فيها " نشرتها أيضا مجلة الأزهر فى السنة السابعة عام 1355 هـ , وهذا بالإضافة إلى مجموعة من المقالات التى نشرت فى الصحف اليومية والمجلات العربية والإسلامية من قبل عدد من المفكرين حول هذا الموضوع الذى انقسموا فيه إلى فئتين , فئة تدافع عن وجهة نظرها القاضية بإمكانية ترجمة القرآن الكريم , وفئة تدافع عن وجهة نظرها القاضية بترجمة معانى القرآن الكريم , ذكر ذلك بنداق فى كتابة " المستشرقون وترجمة القرآن الكريم " .
وقارن أيضا بمقالة الدكتور عبد العزيز محمد عثمان فى مجلة القرآن بالجامعة الإسلامية العدد الأول ص 163 وما بعدها بعنوان " ترجمة القرآن الكريم بين واقعنا المعاش ومستقبلنا المنشود " وتعقيب هيئة التحرير على المقالة المذكورة ص 200 وما بعدها .
ومن الكتب التى عنيت بدراسة الجدل الدائر حول ترجمة القرآن , أو ترجمة معانية , أو كتابته بالأعجمية كتاب " دراسات حول ترجمة القرآن الكريم " للدكتور أحمد إبراهيم مهنا .
ثانيا / النقول عن مجوزى ترجمة القرآن :
والقول بجواز ترجمة القرآن فى الجملة محكى عن أبى حنيفة وأصحابه على اختلاف بينهم فى كون الترجمة مرهونه بالعجز عن القراءة بالعربية , كما هو رأى الصاحبين , أم أن الجواز على إطلاقه وهو القديم من قولى أبى حنيفة , على أن المحققين من فقهاء الحنفية قد حكوا رجوع أبى حنيفة عن قوله هذا وموافقته لصاحبيه فى قصر الجواز فى حق من لا يحسن القراءة بالعربية .
1/ قال السرخسى فى المبسوط : ( إذا قرأ فى صلاته بالفارسية جاز عند أبى حنيفة رحمه الله ويكره , وعندهما لا يجوز إذا كان يحسن العربية , وإذا كان لا يحسنها يجوز , وعند الشافعى رضى الله عنه لا تجوز القراءة بالفارسية بحال , ولكنه إن كان لا يحسن العربية وهو أمى يصلى بغير قراءة , وكذلك الخلاف فيما إذا تشهد بالفارسية أو {358} خطب الإمام يوم الجمعة بالفارسية , فالشافعى رحمه الله يقول إن الفارسية غير القرآن , قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} , وقال تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً } الآية , فالواجب قراءة القرآن فلا يتأدى بغيره بالفارسية , والفارسية من كلام الناس فتفسد الصلاة , وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا : القرآن معجز والإعجاز فى النظم والمعنى , فإذا قدر عليهما فلا يتأدى الواجب إلا بهما , وإذا عجز عن النظم أتى بما قدر عليه , كمن عجز عن الركوع والسجود يصلى بالإيماء , وأبو حنيفة رحمه الله استدل بما روى :" أن الفرس كتبوا إلى سلمان رضى الله عنه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية , فكانوا يقرؤون ذلك فى الصلاة حتى لانت ألسنتهم للعربية "
ثم الواجب عليه قراءة المعجز , والإعجاز فى المعنى . فإن القرآن حجة على الناس كافة , وعجز الفرس عن الإتيان بمثله إنما يظهر بلسانهم , والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ولا محدث , واللغات كلها محدثة , فعرفنا أنه لا يجوز أن يقال أنه قرآن بلسان مخصوص , كيف وقد قال الله تعالى :{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} وقد كان بلسانهم . ولو آمن بالفارسية كان مؤمنا , وكذلك لو سمى عند الذبح بالفارسية أو لبى بالفارسية , فكذلك إذا كبر وقرأ بالفارسية , " وروى الحسن " عن أبى حنيفة رحمهما الله أنه أذن بالفارسية والناس يعلمون أنه أذان جاز , وإن كانوا لا يعلمون ذلك لم يجز , لأن المقصود الإعلام ولم يحصل به . ثم عند أبى حنيفة رحمه الله إنما يجوز إذا قرأ بالفارسية إذا كان يتيقن بأنه معنى العربية , فأما إذا صلى بتفسير القرآن لا يجوز , لأنه غير مقطوع به ).
2/ قال الزمخشرى فى رؤوس المسائل : ( إذا عبر فاتحة الكتاب أو القرآن بالفارسية أو بالعجمية فقرأها فى الصلاة , فإنه تصح صلاته عندنا , وعند الشافعى لا تصح . دليلنا فى ذلك قوله تعالى : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} . {359}
وصحف إبراهيم موسى ليست على لسان العرب .
وروى عن عبد الله بن مسعود أنه كان يلقن الرجل هذه الآية قوله تعالى : {شَجَرَةَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الْأَثِيمِ} وكان لسان الرجل لا يقدر أن يقول هذه الكلمة , فعجز عن الإتيان فى لفظه , فقال له :" قل طعام الفاجر " , فدل على أنه يجوز بلغة أخرى . والدليل عليه وهو أن النبى صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب والعجم , وأمره بالإنذار فكان ينذر العرب بلغته وبلسانه , وينذر العجم بلسانه دل على أنه يجوز .
احتج الشافعى وقال : لأن الله تعالى قال فى كتابه : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} فدل أن القرآن عربى , فإذا عبر بعبارة أخرى لم تجز صلاته , لأنه لم يقرأ القرآن , وقراءة القرآن شرط لجواز الصلاة )
3/ قال الكاسانى فى البدائع عند كلامه عن القدر المجزئ فى الصلاة قال : ( ثم الجواز كما يثبت بالقراءة بالعربية يثبت بالقراءة بالفارسية عند أبى حنيفة سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن يجوز . وقال الشافعى : لا يجوز أحسن أو لم يحسن . وإذا لم يحسن العربية يسبح ويهلل عنده , ولا يقرأ بالفارسية وأصله قوله تعالى : {َاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أمر بقراءة القرآن فى الصلاة , فهم قالوا ان القرآن هو المنزل بلغة العرب , قال تعالى :{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} فلا يكون الفارسى قرآنا , فلا يخرج به عن عهدة الأمر , ولأن القرآن معجز والإعجاز من حيث اللفظ يزول بزوال النظم العربى فلا يكون الفارسى قرآنا لانعدام الإعجاز , ولهذا لم تحرم قراءته على الجنب {360}
والحائض , إلا أنه إذا لم يحسن العربية فقد عجز عن مراعاة لفظه فيجب عليه مراعة معناه ليكون التكليف بحسب الإمكان , وعند الشافعى هذا ليس بقرآن فلا يؤمر بقراءته , وأبو حنيفة يقول ان الواجب فى الصلاة قراءة القرآن من حيث هو لفظ دال على كلام الله تعالى الذى هو صفة قائمة به لما يتضمن من العبر والمواعظ والترغيب والترهيب والثناء والتعظيم , لا من حيث هو لفظ عربى , ومعنى الدلالة عليه لا يختلف بين لفظ ولفظ , قال الله :{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , وقال : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} ومعلوم أنه ماكان فى كتبهم بهذا اللفظ بل بهذا المعنى " وأما " قولهم إن القرآن هو المنزل بلغة العرب " فالجواب " عنه من وجهين :
أحدهما : أن كون العربية قرآنا لا ينفى أن يكون غيرها قرآنا , وليس فى الآية نفيه , وهذا لأن العربية سميت قرآنا لكونها دليلا على ما هو القرآن , وهى الصفة التى هى حقيقة الكلام , ولهذا قلنا إن القرآن غير مخلوق على إرداة تلك الصفة دون العبارات العربية , ومعنى الدلالة يوجد فى الفارسية , فجاز تسميتها قرآنا دل عليه قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} أخبر أنه لو عبر عنه بلسان العجم كان قرآنا .
والثانى : إن كان لا يسمى غير العربية قرآنا , لكن قراءة العربية ما وجبت لأنها تسمى قرآنا , بل لكونها دليلا على ما هو القرآن الذى هو صفة قائمة بالله , بدليل أنه لو قرأ عربية لا يتادى بها كلام الله تفسد صلاته فضلا من أن تكون قرآنا واجبا , ومعنى الدلالة لا يختلف فلا يختلف الحكم المتعلق به , والدليل على أن عندهما تفترض القراءة بالفارسية على غير القادر على العربية وعذرهما غير مستقيم , لأن الوجوب متعلق بالقرآن , وأنه قرآن عندهما باعتبار اللفظ دون المعنى , فإذا زال اللفظ لم يكن المعنى قرآنا فلا معنى للإيجاب , ومع ذلك وجب فدل أن الصحيح ما ذهب إليه أبو حنيفة , ولأن غير العربية إذا لم يكن قرآنا لم يكن من كلام الله تعالى , فصار من كلام الناس وهو يفسد الصلاة .
والقول بتعلق الوجوب بما هو مفسد غير سديد " وأما " قولهم أن الإعجاز من حيث اللفظ لا يحصل بالفارسية فنعم ,لكن قراءة ما هو معجز النظم عنده ليس بشرط لأن التكليف ورد بمطلق القراءة لا بقراءة ما هو معجز , ولهذا جوز قراءة آية قصيرة وإن لم تكن هى معجزة ما لم تبلغ ثلاث آيات , وفصل الجنب والحائض ممنوع , ولو قرأ شيئا من التوراة أو الأنجيل أو الزبور فى الصلاة إن تيقن أنه غير محرف يجوز عند أبى حنيفة لما قلت , وإن لم يتقن لا يجوز , لأن الله تعالى أخبر عن تحريفهم {361}
بقوله : {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } فيحتمل أن المقروء محرف فيكون من كلام الناس فلا يحكم بالجواز بالشك والاحتمال , وعلى هذا الخلاف إذا تشهد , أو خطب يوم الجمعة بالفارسية , ولو أم بالفارسية , أو سمى عند الذبح بالفارسية , أو لبى عند الإحرام بالفارسية , أو بأى لسان كان يجوز بالأجماع , ولو أذن بالفارسية قيل إنه على هذا الخلاف , وقيل لا يجوز بالاتفاق , لأنه لا يقع به الإعلام حتى لو وقع به الإعلام يجوز والله أعلم ). أ هـ كلام الكاسانى .
4/ وقال صاحب الفتاوى التاتارخانية : ( وإذا قرأ فى الصلاة بالفارسية جازت قراءته سواء كان يحسن العربية أو لا , وأما إذا كان يحسن " يجوز ويكره عند أبى حنيفة , وعندهما لا يجوز إن كان يحسن " ويجوز إن كان لا يحسن , وذكر شيخ الإسلام فى شرح كتاب الصلاة وشمس الأئمة السرخسى فى شرح الجامع الصغير رجوع أبى حنيفة رحمه الله إلى قولهما , وفى النصاب والخلاصة : هو الصحيح , وعليه الاعتماد . وفى الخلاصة الخانية : وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل يقول : الخلاف فيما إذا جرى على لسانه من غير قصده , وأما من تعمد ذلك يكون زنديقا أو مجنونا , فالمجنون يداوى , والزنديق يقتل .م.
وقال الشافعى رحمه الله : " لايجوز قراءته على كل حال , وأجمعوا على أنه لا يفسد صلاته بالقراءة بالفارسية , وإنما الخلاف فى الجواز " . قال الشيخ الإمام شمس {362} الأئمة الحلوانى رحمه الله : إن أبا حنيفة إنما جوز قراءة القرآن بالفارسية إذا قرأ آية قصيرة , يعنى قرأ ترجمة آية قصيرة , ثم ذكر الشيخ الفقيه أبو سعيد البردعى أن أبا حنيفة إنما جوز القراءة بالفارسية خاصة دون غيرها من الألسن لقربها من العربية على ما جاء فى الحديث :" لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية " . والأصح أن الاختلاف فى جميع الألسنة واللغات نحو التركية والرومية والهندية .
ثم إنما يجوز عند أبى حنيفة رحمه الله إذا كان مقطوع القول بأن ما اتى به هو المعنى , ويكون على نظم القرآن نحو قوله تعالى : {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} "سزائ وث دوزخ " , وقوله :{فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} " فجمعناهم عندا " كذا . وقوله تعالى : {مَعِيشَةً ضَنكاً} فقال : " معيشت تنكا " , فأما إذا لم يكن على نظم القرآن فلا يجوز . قال الشيخ الإمام الصفار :" يجوز كيف ما كان " وقال بعضهم : " إنما يجوز إذا كان ثناء كسورة الإخلاص , فأما إذا كان من القصص فإنه لا يجوز , كقوله تعالى : {اقْتُلُواْ يُوسُفَ} فقال :" بكشيد يوسف را " , تفسد صلاته . والصحيح أنه يجوز فى الكل , وإن اعتاد القراءة بالفارسية , أو أراد {363}
أن يكتب المصحف بالفارسية منع من ذلك على أشد المنع , وإن فعل ذلك فى آيه أو آيتين لا يمنع من ذلك .
ذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسى فى شرح الجامع الصغير :( وإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته تحته , روى عن الشيخ الفقيه أبى جعفر أنه لا بأس به فى ديارنا , وإنما يكره فى ديارهم لأن القرآن نزل بلغتهم ).
5/ وجاء فى مناهل العرفان مانصه : ( اختلفت نقول الحنفية فى هذا المقام , واضطرب النقل بنوع خاص عن الإمام , ونحن نختصر لك الطريق بإيراد كلمة فيها تلخيص للموضوع , وتوفيق بين النقول اقتطفناها من مجلة الأزهر " ص 32 و 33 {364}
و66 و67 من المجلد الثالث " بقلم عالم كبير من علماء الأحناف إذ جاء فيها باختصار وتصرف ما يلى :
أجمع الأئمة على أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية خارج الصلاة , ويمنع فاعل ذلك أشد المنع , لأن قراءته بغيرها من قبيل التصرف فى قراءة القرآن بما يخرجه عن إعجازه , بل يوجب الركاكة .
وأما القراءة فى الصلاة بغير العربية فتحرم إجماعا للمعنى المتقد , لكن لو فرض وقرأ المصلى بغير العربية أتصح صلاته أم تفسد ؟ ذكر الحنفية فى كتبهم أن الإمام أبا حنيفة كان يقول أولا : إذا قرأ المصلى بغير العربية مع قدرته عليها اكتفى بتلك القراءة . ثم رجع عن ذلك , وقال متى كان قادرا على العربية ففرضه قراءة النظم العربى , ولو قرأ بغيرها فسدت صلاته لخلوها من القراءة مع قدرته عليها , والإتيان بما هو من جنس كلام الناس حيث لم يكن المقروء قرآنا . ورواية رجوع الإمام هذه تعزى إلى الأقطاب فى المذهب , ومنهم نوح بن مريم وهو من أصحاب أبى حنيفة , ومنهم على بن الجعد وهو من أصحاب أبى يوسف , ومنهم أبو بكر الرازى هو شيخ علماء الحنفية فى عصره بالقرن الرابع , ولا يخفى أن المجتهد إذا رجع عن قوله لا يعد ذلك المرجوع عنه قولا له , لأنه لم يرجع عنه إلا بعد أن ظهر له أنه ليس بصواب , وحينئذ لا يكون فى مذهب الحنفية قول بكفاية القراءة بغير العربية فى الصلاة للقادر عليها , فلا يصح التمسك به , ولا النظر إليه لا سيما أن إجماع الأئمة ومنهم أبو حنيفة صريح فى أن القرآن اسم للفظ المخصوص الدال على المعنى , لا للمعنى وحده , أما العاجز عن قراءة القرآن بالعربية فهو كالأمى فى أنه لا قراءة عليه , ولكن إذا فرض أنه خالف وأدى القرآن بلغة أخرى فإن كان ما يؤديه قصة أو أمرا أونهيا فسدت صلاته , لأنه متكلم بكلام وليس {365}
ذكرا , وإن كان ما يؤديه ذكرا أو تنزيها لا تفسد صلاته , لأن الذكر بأى لسان لا يفسد الصلاة , لا لأن القراءة بترجمة القرآن جائزة , فقد مضى القول بأن القراءة بالترجمة محظورة شرعا على كل حال .
6/ وقد عقد الإمام البخارى فى صحيحه بابا فى ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها ذكر فيه ثلاثة أحاديث , أحدها حديث ابن عباس وقصته مع أبى سفيان , والثانى حديث أيى هريرة فى قراءة أهل الكتاب التوراة بالعبرانية وتفسيرها بالعربية , والثالث حديث ابن عمر فى رجم اليهوديين اللذين زنيا , وأن حكم الرجم ثابت فى التوراة . وقد فهم بعض الناس من ذلك ميل البخارى إلى القول بجواز ترجمة القرآن , وأن وجه الدلالة من حديث ابن عباس أن فيه : أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربى , ولسان هرقل رومى , ففيه إشعار بأنه اعتمد فى إبلاغه ما فى الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه , والمترجم المذكور هو الترجمان , وكذا وقع . ووجه الدلالة من حديث أبى هريرة أنه إذا جاز تفسير التوراة التى هى بالعبرانية إلى العربية وهى كتاب من كتب الله فالذى بالعربية من كتب الله مثلا يجوز التعبير عنه بالعبرانية وبالعكس , لكن الأكثر من أهل العلم قيد الجواز بمن لا يفقه ذلك اللسان . ووجه الدلالة من حديث ابن عمر أن فيه قوله تعالى : {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} , فالتوراة بالعبرانية , وقد أمر الله تعالى أن تتلى على العرب وهم لا يعرفون العبرانية فقضية ذلك الإذن فى التعبير عنها باللغة العربية قال الحافظ فى الفتح : فى كلامه على حديث أبى هريرة هذا (قال ابن بطال : فى هذا الحديث أى حديث أبى هريرة استدل بهذا الحديث من قال تجوز قراءة القرآن بالفارسية , وأيد ذلك بأن الله تعالى حكى قول الأنبياء {366}
عليهم السلام كنوح عليه السلام وغيره ممن ليس عربيا بلسان القرآن وهو عربى مبين , وبقوله تعالى :{ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } , والإنذار إنما يكون بما يفهمونه من لسانهم , فقراءة أهل كل لغة بلسانهم حتى يقع لهم الإنذار به . قال : وأجاب من منع بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما نطقوا إلا بما حكى الله عنهم فى القرآن سلمنا , ولكن يجوز أن يحكى الله قولهم بلسان العرب , ثم يتعبدنا بتلاوته على ما أنزله , ثم نقل الاختلاف فى إجزاء صلاة من قرأ فيها بالفارسى , ومن أجاز ذلك عند العجز دون الإمكان , وعمم وأطال فى ذلك .
والذى يظهر التفصيل , فإن كان القارئ قادرا على التلاوة باللسان العربى فلا يجوز له العدول عنه , ولا تجزئ صلاته , وإن كان عاجزا , وإن كان خارج الصلاة فلا يمتنع عليه القراءة بلسانه لأنه معذور , وبه حاجة إلى حفظ ما يجب عليه فعلا وتركا , وإن كان داخل الصلاة , فقد جعل الشارع له بدلا وهو الذكر وكل كلمة من الذكر لا يعجز عن النطق بها من ليس بعربى فيقولها ويكررها فتجزئ عن الذى يجب عليه قراءته فى الصلاة حتى يتعلم , وعلى هذا فمن دخل فى الإسلام أو أراد الدخول فيه فقرئ عليه القرآن فلم يفهمه فلا بأس أن يعرب له لتعريف أحكامه , أو لتقوم عليه الحجة فيدخل فيه , وأما الآستدلال لهذه المسئلة بهذا الحديث وهو قوله " إذا حدثكم أهل الكتاب " فهو وإن كان ظاهره أن ذلك لسانهم فيحتمل أن يكون بلسان العرب فلا يكون نصا فى الدلالة , ثم المراد بإيراد هذا الحديث فى هذا الباب ليس ما تشاغل به ابن بطال , وإنما المرادمنه كما قال البيهقى فيه دليل على أن أهل الكتاب إن صدقوا فيما فسروا من كتابهم بالعربية كان ذلك مما أنزل إليهم على طريق التعبير عما أنزل , وكلام الله واحد لا يختلف باختلاف اللغات , فبأى لسان قرئ فهو كلام الله ثم أسند عن مجاهد فى قوله تعالى : { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } يعنى ومن أسلم من العجم وغيرهم . {367}
قال البيهقى: ( وقد يكون لا يعرف العربية فإذا بلغه معناه بلسانه فهو له نذير )
ثالثا : كتابة القرآن بالأعجمية , وكونها ضربا من ترجمته :
فجمهور أهل العلم على المنع من ذلك مطلقا , بل صرحوا بالمنع من مخالفة رسم المصحف الإمام وقالوا بوجوب التزام ذلك الرسم على ما سيأتى بيانه فى مسألة رسم المصحف فى موضعها من هذا البحث إن شاء الله تعالى. بيد أن طائفة من أهل العلم قد رخصت فى مخالفة رسم المصحف الإمام , واعتبرت الرسم مجرد نقوش والاصطلاحات نقوش واصطلاحات أخرى يتأدى بها الغرض المطلوب لم يكن فى الشرع ما يمنع من اعتبارها والاعتداد بها والاعتماد عليها لا فرق فى ذلك فى أن تكون تلك النقوش والاصطلاحات موضوعة من قبل عرب أو عجم يستوى فى ذلك كون اللغة فارسية أو تركية أو عربية أو هندية , وهكذا لا ضير عندهم فى اختلاف الأقلام والرسوم والاصطلاحات مادام أنها تدل فى آخر المطاف على مراد الشرع , ويتحقق بها نقل القرآن , ويمكن بواستطها تلاوته تلاوة صحيحة . وقد فرقت طائفة من أهل العلم بين الألسن , فجوزت القراءة بالفارسية الدرية خاصة لقربها من العربية , وقصرت طائفة من متأخرى أهل العلم جواز كتابة القرآن على ما كان بالقلم العربى والهندى خاصة , وألحقت طائفة أخرى القلم التركى بالهندى , ولا يخفى ما فى مخالفة الجمهور فى مسألة الرسم من المجازفات والتغرير بالدين , والفتح لباب الدس والتحريف على أوسع مراعيه , ناهيك عما يترتب على الأخذ بمثل هذه الأقوال من التفريق بين المؤمنين والتمزيق لوحدة المسلمين والتى يعتبر فيها رسم المصحف الإمام والتزام الأمة به أعظم الدعائم لتلك لوحدة المسلمين والتى يعتبر فيها رسم المصحف الإمام والتزام الأمة به أعظم الدعائم لتلك الوحدة , وأقوى الأواصر الجامعة لشمل الأمة .
ثم إن المستقرئ لتاريخ التوجه إلى ترجمة القرآن يخرج بنتيجة محصلها أن فكرة الترجمة فى أصلها ومبتدأ نشأتها كانت مكيدة كادها الكفار , وبخاصة الرهبان والأحبار من أهل الكتاب , فقد كانت البيع والكنائس منبتا لفكرة الترجمة , ومنشأ لذلك التوجه حتى يكون ذلك ثغرة ينفذ منها الرهبان والأحبار إلى أغراضهم من الطعن فى الدين {368}
الإسلامى والتحريف فى القرآن إن استطاعوا , فإن لم يكن هذا ولا ذاك قنعوا بما يترتب على الترجمة من التفريق بين المسلمين والحيلولة دون اجتماعهم على قرآن برسم موحد ولغة واحدة , ولما أدرك أولئك الكفار أن مكيدتهم المذكورة لن تلقى رواجا بين المسلمين إن الكفرة هم حملة لوائها بادروا إلى اصطناع فئات من المحسوبين على الإسلام , ليقوموا بالترويج للترجمة فى أوساط المسلمين غير عابئين بأخطارها , ولا مكترثين لأضرارها , قد أعماهم حب الشهرة عن ذلك كله , أو أغراهم الطمع والحرص على الدنيا فى المضى فى سبيل الشيطان , وخدمة أعداء الدين . أضف إلى ذلك وجود فئات من الزنادقة والملحدين وزمر من الباطنية والمنافقين الذين يتربصون بأهل الإيمان الدوائر , عليهم دائرة السوء , وغضب الله عليهم ولعنهم , وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا .
الخلاف فى كتابة المصحف بالأعجمية :
إن أقدم نص وقفت عليه يتطرق لحكم كتابة المصحف بغير العربية هو كلام الحاكم الشهيد الحنفى ( ت 334هـ) فى كتابه الكافى على مانقله عنه ابن الهمام فى الفتح , حيث قال وهو بصدد النقل من الكتاب المذكور , وفيه: إن اعتاد القراءة بالفارسية , أو أراد أن يكتب مصحفا بها يمنع , وإن فعل فى آية أو آيتين لا , فإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته جاز ). ولم يتعقب ابن الهمام كلام صاحب الكافى بشئ مما يدل على موافقته إياه .
وقد جزم صاحب الفتاوى التتارخانية (ت 786 هـ) بمثل كلام الحاكم المتقدم معزوا لشمس الأئمة السرخسى فى شرحه على الجامع الصغير , وهاك نص الفتاوى التتارخانية : ( وإن اعتاد القراءة بالفارسية , أو أراد أن يكتب المصحف بالفارسية منع من ذلك على أشد المنع , وإن فعل ذلك فى آية أو آيتين لا يمنع من ذلك .
ذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسى فى شرح الجامع الصغير : ( وإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته تحته , روى عن الشيخ الفقيه أبى جعفر أنه لا {369}
بأس به فى ديارنا , وإنما يكره فى ديارهم , لأن القرآن نزل بلغتهم وعبارة العينى (ت 855 هـ ) فى كتابه البناية: ( ويجوز كتابة الآية والآيتين بالفارسية , والأكثر منها لا يجوز . وقال الرازى "ره" أخاف أن يكون زنديقا أو مجنونا , فالجنون يشد والزنديق يقتل , ويكره كتابة التعشير بالفارسية فى المصحف كما يعتاده البعض ورخص فيه الهندوانى "ره" وما كتب سلمان رضى الله تعالى عنه الفاتحة بالفارسية كان للضرورة لأهل فارس ).{370}
قال الحصكفى فى الدر عن تجويز كتابة القرآن بغير العربية : ( وخصه البردعى بالفارسية لمزيتها بحديث لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية بتشديدالراء , يعنى الفصيحة, وهى إحدى اللغات الخمس للفرس ).
قال ابن عابدين :( " قوله وخصه البردعى ... إلخ " ضعيف , والظاهر أن كلام البردعى لا يتناول الكتابة , فقد جاء فى نقل الفتاوى التاتاريخنة ما نصه :
" ذكر الشيخ الفقيه أبو سعيد البردعى أن أبا حنيفة إنما جوز القراءة بالفارسية خاصة دون غيرها من الألسنة لقربها من العربية على ما جاء فى الحديث :" لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية ")
وقال ابن الحاج (ت 737هـ) فى كتابه المدخل وهو بصدد الكلام عما يلزم الناسخ : ( وينغبى له : بل يتعين عليه أن لا ينسخ الختمة بلسان العجم , لأن الله عزوجل أنزله بلسان عربى مبين , ولم ينزله بلسان العجم . وقد كره مالك رحمه الله نسخ المصحف فى أجزاء متفرقة , وقال :" إن الله عزوجل قال : {ِإنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}ِوهؤلاء يفرقونه " , فإذا كره هذا فى الأجزاء فما بالك بتغييره عن اللسان العربى المبين , ولقد سرى هذا لبعض الناس فى هذا الزمان حتى أنهم ليعدون قراءة القرآن بالعجمية ونسخ الختمة بها من الفضيلة , وبعضهم يجمع فى الختمة الواحدة بين كتبها باللسان العربى واللسان العجمى , فيكتب الآيتين والثلاث باللسان العربى , ثم {372}
يكتبها بعدها باللسان العجمى , وهذا مخالف لما أجمع عليه الصدر الأول والسلف الصالح والعلماء رضى الله عنهم .
وإذا كان كذلك فيتعين عليه أن لا يعرج على قول من أجاز ذلك , فليحذر من ذلك والله والموفق )
وقال الزركشى (ت 794هـ) فى كتابة البرهان :( هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربى ؟ هذامما لم أر للعلماء فيه كلاما , ويحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية , والأقرب المنع . كما تحرم قراءته بغير لسان العرب , ولقولهم : القلم أحد اللسانين , والعرب لا تعرف قلما غير العربى [وقد] قال تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ) .
ونقل السيوطى فى الإتقان قول الزركشى هذا , ولم يعقب عليه بشئ . وقد مضى فى مسألة مدى إمكان ترجمة القرآن كلام للزركشى فى البحر المحيط ونقله عنه الزرقانى فى المناهل فليراجعه فى موضعه من رامه .
وقال ابن حجر الهيتمى (973) فى الفتاوى الكبرى وقد سئل رحمه الله هل تحرم كتابة القرآن الكريم بالعجمية كقراءته ؟" فأجاب " قوله :( قضية ما فى المجموع عن الأصحاب التحريم , وذلك لأنه قال وأما ما نقل عن سلمان رضى الله عنه : " أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن , فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية " فأجاب عنه أصحابنا بأنه كتب تفسير الفاتحة لا حقيقتها . أ. هـ فهو ظاهر أو صريح فى تحريم كتابتها بالعجمية , فإن قلت كلام الأصحاب إنما هو جواب عن حرمة قراءتها بالعجمية المترتبة على الكتابة بها فلا دليل لكم فيه . قلت : بل هو جواب عن الأمرين , وزعم أن القراءة بالعجمية مترتبة على الكتابة بها ممنوع بإطلاقه , {373}
فقد يكتب بالعجمية ويقرأ بالعربية وعكسه , فلا تلازم بينهما كما واضح , وإذا لم يكن بينهما تلازم كان الجواب عما فعله سلمان رضى الله عنه فى ذلك ظاهرا فيما قلناه , على أن مما يصرح به أيضا أن مالكا رضى الله عنه سئل هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء ؟ فقال : " لا إلا على الكتبة الأولى " أى كتبة الإمام وهو المصحف العثمانى . قال بعض أئمة القراء : ونسبته إلى مالك لأنه المسؤل عن المسئلة وإلا فهو مذهب الأئمة الأربعة . قال أبو عمرو : ولا مخالف له فى ذلك من علماء الأمة . قال بعضهم : والذى ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحالة الأولى على أن يتعلمها الآخرون , وفى خلافها تجهيل آخر الأمة أولهم , وإذ وقع الإجماع كما ترى على منع ما أحدثه الناس اليوم من مثل كتابة الربو بالألف مع أنه موافق للفظ الهجاء فمنع ما ليس من جنس الهجاء أولى , وأيضا ففى كتابته بالعجمية تصرف فى اللفظ المعجز الذى حصل التحدى به بما لم يرد بل بما يوهم عدم الإعجاز , بل الركاكة لأن الألفاظ العجمية فيها تقديم المضاف إليه على المضاف إليه على المضاف ونحو ذلك مما يخل بالنظم ويشوش الفهم , وقد صرحوا بأن الترتيب من مناط الإعجاز وهو ظاهر فى حرمة تقديم آية على آية , كما يحرم ذلك قراءة , فقد صرحوا بأن القراءة بعكس السور مكروهة , وبعكس الآيات محرمة , وفرقوا بأن ترتيب السور على النظم المصحفى مظنون , وترتيب الآيات قطعى , وزعم أن كتابته بالعجمية فيها سهولة للتعليم كذب مخالف للواقع والمشاهدة , فلا يلتفت لذلك على أنه لو سلم صدقه لم يكن مبيحا لإخراخ ألفاظ القرآن عما كتبت عليه , وأجمع عليها السلف والخلف ).
وسئل الهيتمى أيضا هل يحرم كتابة القرآن بغير العربية ؟ " فأجاب " بقوله : أفتى بعضهم بحرمة ذلك , وأطال فى الاستدلال له , لكن بما فى دلالته لما أفتى به نظر ظاهر .
وسئل الشمس الرملى الشافعى: ( هل تحرم كتابة القرآن العزيز بالقلم الهندى أو نحو ه ؟ " فأجاب " بأنه لا يحرم , لأنها دالة على لفظه العربى وليس فيها تغيير {374}
له , بخلاف ترجمته بغير العربية لأن فيها تغييرا له ).
وقال ابن قاسم العبادى الشافعى فى حواشيه على تحفه المحتاج للهيتمى : ( أفتى شيخنا المذكور – يعنى الشهاب الرملى – بجواز كتابة القرآن بالقلم الهندى , وقياسه جوازه بنحو التركى أيضا ) . وتعقبه الشروانى فقال : ( " قوله بالقلم الهندى .. إلخ " فيه تأمل فإن المكتوب بالقلم الهندى ونحوه إنما هو ترجمة القرآن لا نفسه ).
وكان الشروانى فى حاشيته على التحفة قد حكى قول العبادى السالف الذكر , ونقله عن حاشية الشبراملسى على نهاية المحتاج . فتوى الشيخ بكرى الصدفى ... سئل الشيخ الصدفى فى ذى الحجة 1325 هـ هل يجوز ترجمة القرآن الكريم باللغات المتداولة بين المسلمين ؟ فأجاب بما نصه : ( فى الدر المختار ما نصه : ويجوز كتابة آية أو آيتين بالفارسية لا أكثر ويكره كتب تفسيره تحته بها . انتهى . وفى رد المحتار ما نصه : فى الفتح عن الكافى إن اعتاد القراءة بالفارسية أو أراد أن يكتب مصحف بها يمنع , وإن فعل فى آية أو آيتين لا , فإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته جاز . انتهى . ومنه يعلم الجواب عن المسألة الأولى فى السؤال , وأن كتابة القرآن جميعه بغير العربية ممنوعة إذ الفارسية غير قيد كما صرحوا به ) .
فتوى الشيخ محمد بخيت المطيعى مفتى الديار المصرية (ت 1354هـ), {375}
وقد سئل الشيخ بخيت : ( ما قولكم علماء الإسلام ومصابيح الظلام – أدام الله وجودكم – هل يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الأنكليزية والفرنسية مع أن الحروف الإنكليزية ناقصة عن الحروف العربية , ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان قريش , فلإنكليزى مثلا إذا أراد أن يكتب " مصر " بالإنكليزية تقرأ " مسر " أو " أحمد " تكتب " أهمد " ويكتب " شيك " يعنى " شيخ " لا سيما وإخواننا المسلمون فى مصر يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها , وبعض المسلمين فى جنوبى أفريقية فى جدال عنيف منهم من يجوز ومنهم من يقول غير جائز , أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى ؟
" فأجاب " : اعلم أن القرآن هو النظم أى اللفظ الدال , لأنه الموصوف بالأنزال والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التى لا تكون إلا للفظ , وأما المعنى وحده فليس بقرآن حقيقة , وقيل إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازا والحق هو الأول , وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها , وتجوز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى . فقد كان تاج المحدثين الحسن البصرى يقرأ القرآن فى الصلاة بالفارسية, لعدم انطلاق لسانه باللغة العربية , وفى النهاية والدراية أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسى بأن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية , فكتب فكانوا يقرأون ما كتب فى الصلاة حتى لانت ألسنتهم , وقد عرض ذلك على النبى صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه . وفى النفحة القدسية فى " أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية " ما يؤخذ منه حرمة كتابة {376}
القرآن بالفارسية إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته , ويحرم مسه لغير الطاهر اتفاقا .
وفى كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن , بل يعتبر تفسيرا له . وفى الإتقان للسيوطى عن الزركشى أنه لم ير كلام لعلماء مذهبه فى كتابة القرآن بالقلم الأعجمى , وأنه يحتمل الجواز , لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية , والأقرب المنع , كما تحرم قراءته بغير العربية , ولقولهم القلم أحد اللسانين , والعرب لا تعرف قلما غير العربى , وقد قال تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
فتلخص من ذلك أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها , وإن الأحوط أن يكتبه بالعربية , ثم يكتب تفسير كل حرف وترجمته بغيرها كالإنكليزية ) . انتهى كلام الشيخ المطيعى .
وقد نقل الشيخ محمد رشيد رضا فى مجلة المنار فتوى الشيخ بخيت فى معرض جواب له على أسئلة وردت إلى المجلة , ثم تعقب جواب الشيخ بخيت هذا وناقشه من وجوه عدة , وتأتى قريبا عن إيراد رأى الشيخ محمد رشيد رضا فى ترجمة القرآن وكتابته بالأعجمية
رأى الشيخ محمد رشيد رضا : ذكر الشيخ محمد رشيد رضا فى مجلة المنار أن بعض المسلمين فى الترنسفال كتب إلى جريدة فى مصر ثلاثة أسئلة لعرضها على بعض علماء الأزهر , فعرضتها على الشيخ محمد بخيت فأجاب عنها ونشرت الجريدة أجوبته . {377}
وذكر الشيخ رضا أن السؤال المهم هو ما جعلناه عنوانا لهذه النبذة – أى كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية – ثم ذكر جواب الشيخ بخيت عن هذا السؤال , ثم بين الشيخ رضا رأية فى السؤال , وجواب الشيخ بخيت عليه , ثم قال تعقيبا على جواب الشيخ بخيت ما نصه : ( عندنا مسألتان , أحداهما ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية , أى التعبير عن معانيه بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمى دون العربى , وهذه هى التى سألنا عنها الفاضل الروسى , ونشرنا السؤال والجواب فى هذا الجزء . والثانية كتابة القرآن العربى بحروف غير عربية , وهذه هى التى يسأل عنها السائل الترنسفالى . وقد رأى القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب , والنقول التى نقلها مضطربة , لذلك رأينا أن ننقله ونحرر القول فى المسألة تحريرا .
المقصود من الكتابة أداء الكلام بالقراءة , فإذا كانت الحروف الأعجمية التى يراد كتابة القرآن بها لا تغنى غناء الحروف العربية لنقصها , كحروف اللغة الإنكليزية فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها , لما تحريف كلمه , ومن رضى بتغيير كلام القرآن اختيارا فهو كافر . وإذا كان الأعجمى الداخل فى الإسلام لا يستقيم لسانه بلفظ محمد فينطق بها " مهمد " , وبلفظ خاتم النبيين فيقول " كاتم النبيين " فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم , وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه أبد الدهر , ولو أجاز المسلمون هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التى دخلت فى الإسلام لعلة العجز لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة , ولكان كل شعب من المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر .
وإذا كانت الحروف الأعجمية التى يراد كتابة القرآن بها مما تأدى بها القراءة على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلا , ففى المسألة تفصيل , والذى نقطع به بأن الكتابة بخطها لا تكون إخلالا بأصل الدين , ولا تلاعبا به, وإن هو خالف الخط العربى فالفرق بين الخط العربى والخط الكوفى أبعد من الفرق بين الخطين العربى والفارسى , ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها , ولكنهم يعتقدونها عربية , وإذا قيل إنها مختلفة اختلاف لا يكفى لمتعلم أحدها أن يقرأ الآخر كالكوفى والفارسى , نقول قصارى ما يدل عليه ذلك أن كل خط جائز بشرطه , ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغى الاتفاق على خط واحد , فهم المسلمون {378}
هذا من روح الإسلام , فكانوا متحدين فى كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة فى التحسين والإتقان . ذلك من آيات حفظ الله له , وهو عندى واجب , فإن القرآن هو الصلة العامة بين المسلمين , والعروة الوثقى التى يستمسك بها جميع المؤمنين , ومن التفريط فيه أن يفد المسلم القارئ على مصر قادما من الصين فلا يستطيع قراءة مصاحفها , وكذا يقال فى سائر الشعوب , وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفى , وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه . ولقائل أن يقول : إن فى هذا الرأى تضييقا على نشر القرآن وتوسيع دائرة الدعوة إلى الإسلام , وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة , وكتبوها بكل قلم , حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة , فما بال المسلمين يضيقون , وغيرهم يتوسعون , ولنا أن نقول فى الجواب إننا جوزنا ترجمة القرآن لأجل الدعوة عند الحاجة إلى ذلك , ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التى هى بها , ولكن المسلم الذى يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية , إلا فى حالة واحدة وهى تسهيل تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمى الذين يدخلون فى الإسلام , وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية . وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعلموا بقواعد الضرورات ككونها تبيح المحظورات , وكونها تقدر بقدرها , فإذا رأوا أنه لا ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا كتابة الكلام العربى بحروف لغة القوم الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه فليكتبوه ما داموا فى حاجة إليه , ثم ليجتهدوا فى تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربى بعد ذلك ليقووا رابطتهم بسائر المسلمين .
وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم على لغاتهم وخطوطهم , فاللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذا فى كلمها وخطها , ونرى أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون فى ذلك العناية العظيمة والأموال الكثيرة , فما لنا لا نعتبر بهذا ) أ . هـ كلام صحاب المنار .
بحث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية :
وقد أعدت اللجنة المذكوره بحثا فى حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينية {379}
نشرته فى مجلة البحوث الإسلامية , وقد تضمن هذا البحث :
أ – مقدمة فى تكييف الموضوع وتصويره .
ب – مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية فى نظر من فعل ذلك ومناقشاتها .
ج – بيان الموانع التى تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لا تينية ونحوها , وبيان ما فيها من الخطر .
د – خلاصة البحث , وتتضمن سردا لمبررات كتابة القرآن باللغة الاتينية ونحوها فى نظر القائلين بذلك , ومناقشة تلك المبررات , وذكر الموانع الشرعية المقتضية لعدم الترخيص فى كتابة القرآن بالأعجمية , وبيان جانب من المخاطر والمحاذير التى يوقع فيها القول بالترخيص فى كتابة القرآن بالأعجمية . وقد أوصت اللجنة حكام المسلمين باتخاذ كافة الأسباب المؤدية إلى حفظ كتاب الله من كل تحريف أوعبث أو تلاعب والتصدى لكافة المحاولات الرامية إلى الإساءة إليه تحت أى دعوى أو تبرير .
مبررات كتابة المصاحف باللاتينية ونحوها عند المنادين بها , ومناقشاتها :
احتج المنادون بتجويز كتابة القرآن باللاتينية ونحوها بجملة من الحجج العقلية وطائفة من المبررات النظرية , فمن ذلك قولهم : بأن القرآن هو الأصل الذى يرجع المسلمون إليه فى عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم , وقد حث الله تعالى على تلاوته وتدبر آياته واستنباط الأحكام منه , وأمر بتحكيمه فى جميع الشؤون والأحوال , وبينت السنة النبوية فضائله , وحثت على تعلمه وتعليمه والتعبد بتلاوته والعمل بما فيه من أحكام , وقد عرف العرب ومن خالطهم وعاش بين أظهرهم الحروف العربية وما يتألف منها من كلمات , ومرنوا على قراءتها فسهل عليهم أن يقرءوا بها القرآن ويتعبدوا بتلاوته ويتدبروا آياته ويتعرفوا أحكامه ليعملوا بها . أما من لغتهم غير عربية وكتابتهم وقراءتهم وتعلمهم بغير الحروف العربية وما يتألف منها من الكلام فيشق عليهم قراءة القرآن بالحروف العربية , فلكى تسهل عليهم {380}
قراءة القرآن , وتتضح أمامهم أبواب فهمه وتدبر آياته ومعرفة أحكامه يرخص لهم فى كتابة القرآن بالحروف التى عهدوا الكتابة بها فى بلادهم كاللاتينية إن لم يكن ذلك واجبا لكونه وسيلة إلى واجب , فإن التيسير من مقاصد الشريعة , وقد جاءت به نصوص الكتاب والسنة , قال تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال : {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} , وقال {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} . وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يسروا ولا تعسروا , وبشروا ولا تنفروا " رواه أحمد والبخارى ومسلم والنسائى , وثبت عنه أنه قال : " إن الدين يسر , ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه , فسددوا وقاربوا .."
رواه البخارى والنسائى . ولا شك أن كتابة القرآن بحروف اللغة التى يتكلم بها الأعاجم فيه تيسير لتلاوة القرآن عليهم , ورفع للحرج عنهم , وتعميم للبلاغ , وإقامة الحجة عليهم .
وليس ذلك بدعا , بل هو المناسب لمقاصد الشريعة وله نظائر , فقد جمع أبو بكر الصديق رضى الله عنه القرآن خشية ضياعه بموت القراء , وجمع عثمان رضى الله عنه الناس على حرف واحد من الحروف السبعة التى بها نزل القرآن منعا للاختلاف , ونقط المصحف وشكل فى عهد بنى أمية حينما أسلم كثير من ألسنة أبناء العرب وخيف عليهم اللحن فى التلاوة , فمحاظة على القرآن وعليهم من اللحن نقط القرآن وشكل , ولم يكن ذلك منكرا بل انتهى الأمر فيه إلى الإجماع , لما فيه من تحقيق مقاصد الشريعة والعمل بمقتضاها , فليس ببعيد فى حكمة المشرع أن يرخص لغير العرب فى كتابة القرآن بحروف لغتهم وكلماتها رحمة بهم أن القرآن لم ينزل مكتوبا بالعربية أو بغيرها حتى نلتزم الحروف التى نزل مكتوبا بها , وإنما نزل وحيا متلوا , فأملاه النبى صلى الله عليه وسلم على كتبته وكان أميا فكتبوه بما كان معهودا لديهم من الحروف , ولم يكن هناك نص من الكتاب أو السنة يلزمهم بذلك , إنما هو واقع لغتهم الذى التزموا من أجله كتابة القرآن بحروف لسانهم مع اختلاف منهم فى رسم بعض الحروف , وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز أن يكتب المصحف .{381}
بحروف غير عربية كاللاتينية , لوجود الداعى إلى ذلك مع عدم الضرر .
مناقشة مبررات كتابة القرآن باللاتينية:
وقد ناقشت اللجنة الدائمة فى بحثها المذكور تلك المبررات بالمناقشات التالية :
الأول : أن تعلم الإنسان للغة غير لغته نطقا وقراءة وكتابة أمر عادى معهود عند الناس قد درجوا عليه قديما وحديثا , وإشباعا لغريزة حب الاستطلاع ونهمة العلم , ورغبة فى نيل الشهادات , وحرص على تبادل المنافع وتعرف الصناعات إلى غير هذا من الداوعى التى تحفز الناس إلى تعلم غير لغتهم فلا حرج على الأعاجم فى أن يتعلموا اللغة العربية كتابة وقراءة , فإن ذلك متناول الأيدى ومستوى الطاقة البشرية , بل يجب على المسلمين أن يتعلموها ليقرءوا بها القرآن , ويطلعوا على السنة النبوية , ويأخذوا منها أحكام الإسلام , بل هذا أحق من تعلم الإنسان غير لغته لنيل شهادة أو تعلم طب أو صناعة أو ما شابه ذلك من الأغراض الدنيوية , ومن رجع إلى ماضى المسلمين وجد من صناعة أو ما شابه ذلك من الأغراض الدنيوية , ومن رجع إلى ماضى المسلمين وجد من أسلم من الأعاجم قد تعلموا اللغة العربية , وأسهموا كثيرا فى خدمة العلوم الدينية والعربية , وألفوا فيها كثيرا باللغة العربية , فألفوا فى تفسير القرآن وتدوين الحديث وشرحه , بل فى علم البلاغة والنحو والصرف ومعاجم اللغة وفقهها .
الثانى : أن الحاجة إلى كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ونحوها إذا ارتفعت , أمكن الأعاجم تعلم اللغة العربية وانتفى الحرج عنهم والمشقة بذلك , فلا تكون كتابة القرآن , ولا جمع عثمان رضى الله عنه المسلمين على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة التى بها نزل القرآن , فإن الحاجة إلى كتابته بغير اللغة العربية وذلك فى متناول البشر , بخلاف ما قام به أبو بكر وعثمان رضى الله عنهما فإن الضرورة التى ألجأت كلا منهما إلى ما قام به لحفظ القرآن , ومنع الاختلاف فيه لا تذهب إلا بما فعلاه , وكذا القول فى نقط القرآن وشكله , فلم يكن هناك ماص من الجمع والنقط والشكل لعدم وجود الدليل عن ذلك . {382}
الثالث : أنه كان من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من يعرف غير اللسان العربى , ويعرف الكتابة بغير اللغة العربية , والرسالة عامة للبشر عربهم وعجمهم, ولم يأمر النبى صلى الله عليه وسلم منهم أن يكتب الوحى حين ينزل بلغة غير العربية ليسهل على من أسلم ومن سيسلم من الأعاجم قراءته , ولا اتخذ كاتبا للوحى منهم , بل اتخذ من الكتاب من يكتبه باللغة العربية التى بها نزل , وسار الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه على هذا المنهج القويم فاختار من يكتبه باللغة العربية , بل بلغة قريش , ووافقه على ذلك الصحابة رضى الله عنهم , فكانت كتابته باللغة العربية سنة متبعة , وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشددين من بعدى ....."
الرابع : أن الذين كتبوا القرآن بالحروف اللاتينية أحسوا بأن الذين يعرفون الحروف اللاتينية واعتادوا القراءة بها يشق عليهم أن يقرءوا القرآن بها لوجود حروف فى اللغة العربية ليس لها نظير فى اللاتينية , فاضطروا أن يضعوا لها مقابلا , واضطروا لذلك أن يضعوا تعليمات تتكون من عشر صفحات جعلوها مقدمة لما كتبوه من القرآن بالحروف اللاتينية لتسهل قراءته بها على من يعرف تلك الحروف وتعود القراءة بها , وهذه التعليمات يحتاج تعلمها والمران عليها إلى مدة وجهد إن لم يزد ذلك على تعلم الحروف العربية والقراءة بها فهو لا ينقص عنه , وعلى ذلك تكون كتابة القرآن باللغة العربية أرجح وأسلم , ولكونها اللغة التى بها نزل , ولبعدها عن مظان التحريف والتبديل .
الخامس : أن التجزئة فى كتابة كلمات الآية , وضم جزء من حروفها إلى ما سبق , وآخر إلى ما لحق تشبه تقطيع كلمات البيت من الشعر حسب الأوزان المعروفة عند علماء العروض ليعرف البحر الذى منه , ويتبع ذلك صفة نطق للقارئ . وتشبه أيضا النوته الموسيقية التى يراعى فيها مطابقة الصوت للمقطع والسلم الموسيقى , وهذه من البدع التى تسئ إلى القرآن الكريم .
السادس : أن كاتب القرآن بالحروف اللاتينية لم يلتزم ما تعهد به فى تعليماته فى كيفية الرسم الكتابى . فمثلا نجده أحيانا يثبت الحرف اللاتينى الذى جعله عوضا عن الحركة فى الكتابة العربية , وأحيانا يتركه ,من ذلك ما وقع منه فى كتابة سورة الناس بالحروف اللاتينية فى النسخة الهندية والنسخة الأندونيسية الثانية , إلى غير ذلك مما ينذر بالخطر , ويفضى إلى التلاعب بالقرآن الكريم وتحريفه والإلحاد فيه , ويفتح بابا لأهل الزيغ والزندقة والكفر يدخلون منه للطعن فى كتاب الله , ويشبهون على المسلمين , ويصيب القرآن بما أصيبت به التوراة والإنجيل من قبل من التغير والتبديل , وتحريف الكلم عن مواضعه .
اختيار اللجنة الدائمة :
وقد اختارت اللجنة الدائمة القول بامتناع مشروعية كتابة القرآن بالأعجمية , مستندة إلى الموانع التى تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لاتينية ونحوها , لما فيها من الخطر .. بيان ذلك :
أ_ ثبت أن كتابة المصحف فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم , وفى جمعه فى عهد أبى بكر , وجمعه فى عهد عثمان رضى الله عنهما كانت بالحروف العربية , بل قصد عثمان رضى الله عنه رسما معينا أمر كتابته عند اختلاف كتبة المصحف من الأنصار والقرشين فى رسم الحروف , ووافقه على ذلك الصحابة رضى الله عنهم , وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا رغم وجود لغات وحروف غير عربية , ووجود كتبة مسلمين من غير العرب , ووجود من يحتاج إلى تسهيل القراءة فى المصحف بحروف غير عربية . وثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :" عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى " , فكانت المحافظة على كتابة المصحف بالحروف العربية واجبة عملا بما كان فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين , وسائر الصحابة رضى الله عنهم والقرون المشهود لها بالخير , وعملا بإجماع الأمة . {384}
ب – أن الحروف اللاتينية نوع من الحروف المصطلح على الكتابة بها عند أهلها , فهى قابلة للتغير والتبديل بحروف لغة أخرى , بل حروف لغات أخرى مرة بعد مرة , فإذا فتح هذا الباب تسهيلا للقراءة فقد يفضى ذلك إلى التغيير كلما تغيرت اللغة , واختلف الاصطلاح فى الكتابة لنفس العلة , وقد يؤدى ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف من بعض والزيادة عليها والنقص منها , ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك , ويقع فيها الخلط على مر الأيام والسنين , ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن فى القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه , وهذا من جنس البلاء الذى أصيبت به الكتب الإلهية الأولى حينما عبثت بها الأيدى والأفكار , وقد جاءت شريعة الإسلام بسد ذرائع الشر والقضاء عليها محافظة على الدين ومنعا للشر والفساد .
ج – يخشى إذا رخص فى ذلك أو أقر أن يصير كتاب الله – القرآن – ألعوبة بأيدى الناس , كلما عن لإنسان فكرة فى كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه , فيقترح , بعضهم كتابته بالعبرية , وآخرون كتابته بالسريانية وهكذا مستندين فى ذلك إلى ما استند إليه من كتبه بالحروف اللاتينية من التيسير ورفع الحرج والتوسع فى الاطلاع والبلاغ , وإقامة الحجة , وفى هذا ما فيه من الخطر العظيم , وقد نصح مالك بن انس الرشيد أو جده المنصور ألا يهدم بناء الكعبة الذى أقامة عبد الملك بن مروان ليعيدها إلى بنائها الذى بناه عبد الله بن الزبير رضى الله عنه على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بأيدى الولاة .
قال تقى الدين الفاسى فى كتابه شفاء الغرام :( ويروى أن الخليفة الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة , وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير , فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله , وقال له :" نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك , لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره , فتذهب هيبته من قلوب الناس " انتهى بالمعنى . ثم قال : وكأنه فى ذلك لحظ أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح , وهى قاعدة مشهورة معتمدة ).أ.هـ.
ثم أورد بحث اللجنة الدائمة جملة من أقوال العلماء المعاصرين فى حكم كتابة القرآن بالأعجمية , كالشيخ محمد بخيت , والشيخ محمد رشيد رضا على ما مضى إيضاحه فى غير موضع من هذا البحث . {385}
وقد حكى الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقا فى كتابه " القول الفصل فى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأعجمية " إجماع علماء المسلمين على تحريم كتابة المصحف بالأعجمية , كما أجمعوا على تحريم ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنية , وعليه يكون القول بتجويز كتابة القرآن بالأعجمية قولا محدثا خارق للإجماع , فالقول به متابعة للمستشرقين والزنادقة , ومن اغتر بأقوالهم من المسلمين .
رابعا : ترجمة معانى القرآن :
وإذا تقرر أن ترجمة القرآن ترجمة حرفية على تقدير إمكانها – حرام بإجماع علماء المسلمين وأن الدعوة إلى الترجمة المذكورة مكيدة كفرية بيقين لهثت فى الترويج لها طغمة من زنادقة المنافين ولفيف ممن كانوا صدى لصيحات المسترقين المتأسين بإبليس اللعين يوم وسوس بالمعصية لأبوينا وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين فالمستشرقون طامعون فى التفريق بين المؤمنين وجاهدون فى تمزيق وحدة المسلمين وذلك بإيهامهم أن ترجمة القرآن بلسان كل قوم أيسر لفهمهم وأمكن لهم وأمكن لهم من اكتشاف كنوزه - بزعمهم – وكأنهم لا يعلمون أن أئمة المعارف العربية وأساطين العلوم الشرعية ما كانوا فى الغالب الأعم من أصول عربية ومع ذلك فقد فاقوا فيه أقرانهم ممن نزل القرآن بلسانهم , فقد كان حبهم لدينهم أعظم حافز على إتقان لغته لديهم فما راموا للقرآن ترجمة ولابدا منهم فى هذا الشأن أية رغبة أو توجه غير مشروع من أصله فقد اعتيض عنه بتوجه نحو ترجمة معانى القرآن وتفسيره , وهذا التوجه الأخير على ما فيه من محاذير يبدو من حيث الحكم أقل وأخف خطرا , وحظه من المشروعية أقرب وأحرى وقد طرح هذا التوجه للنقاش العلمى فى أوائل النصف الثانى من القرن الرابع عشر الهجرى فاحتدم الجدل إذ ذاك فى شأنه واختلفت الآراء وتباينت الفتاوى بخصوصه إلى أن تصدت للبت فيه لجنة علمية ذات صفة رسمية على ما هو مبين فى الفقرة التالية ولواحقها من هذا البحث .
الذى استقرت عليه الفتوى فى أصل المسألة :
أعنى الترجمة ومصادر ذلك :
وقد أثير مسألة ترجمة معانى القرآن بشكل واسع فى أواخر النصف الأول من {386}
القرن الرابع عشر الهجرى , وكثر حولها الجدل , وألفت فيها الرسائل , وكتب {387}
فى شأنها العديد من المقالات على صفحات الجرائد والمجلات بين مؤيد ومعارض ومنكر لذلك الاتجاه أو منتصر , حتى إذا طال النقاش تصدت لحسمه أكثر من جهة {388}
شرعية فأصدرت فى شأن ذلك البيانات والقرارات , ووضعت لتلك المسألة جملة من القواعد والضوابط التى متى ما روعيت عند ترجمة معانى القرآن أمكن معها أن توصف تلك الترجمة بالصفة الشرعية .
فتوى جماعة كبار العلماء بمصر :
فمن ذلك تلك الفتوى الصادرة فى شأن ترجمة معانى القرآن , والمبنية على سؤال وجهه إلى جماعه كبار العلماء بمصر شيخ الجامع الأزهر ورئيس جماعة كبار العلماء بمصر الشيخ محمد مصطفى
المراغى " محرم سنة 1355 هـ" , وفيما يلى نص ذلك :
( بسم الله الرحمن الرحيم .. ما قول السادة حضرات أصحاب الفضيلة العلماء فى السؤال الآتى بعد ملاحظة المقدمات الآتية :
1: لا شبهة فى أن القرآن الكريم اسم للنظم العربى الذى أنزل على سيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله , ولا شبهة أيضا فى أنه إذا عبر عن معانى القرآن الكريم بعد فهمها من النص العربى بأية لغة من اللغات لا تسمى هذه المعانى ولا العبارات التى تؤدى هذه المعانى قرآنا .
2 – ومما لا محل للخلاف فيه أيضا أن الترجمة اللفظية بمعنى نقل المعانى مع خصائص النظم العربى المعجز مستحيلة .
3- وضع الناس تراجم للقرآن الكريم بلغات مختلفة اشتملت على أخطاء كثيرة , واعتمد على هذه التراجم بعض المسلمين ممن يريد الوقوف على معانى القرآن الكريم .
4- وقد دعا هذا التفكير فى نقل معانى القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى على الوجه التالى : يراد أولا فهم معانى القرآن الكريم بواسطة رجال من خيرة العلماء الأزهر الشريف بعد الرجوع لآراء أئمة المفسرين , وصوغ هذه المعانى بعبارات دقيقة محدودة , ثم نقل هذه المعانى التى فهمها العلماء إلى اللغات الأخرى بواسطة رجال موثوق بأمانتهم واقتدارهم فى تلك اللغات بحيث يكون ما يفهم من تلك اللغات من المعانى هو ما تؤديه العبارات العربية التى يضعها العلماء .
فهل الإقدام على هذا العلمل جائز شرعا أو غير جائز ؟ هذا مع العلم بأنه سيوضع تعريف شامل يتضمن أن الترجمة ليست قرآنا , وليس لها خصائص القرآن وليست هى ترجمة كل المعانى التى فهمها العلماء , وأنه ستوضع ترجمة وحدها بجوار النص العربى للقرآن الكريم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ..
فقد اطلعنا على جميع ما ذكر بالاستفتاء المدون بباطن هذا , ونفيد بأن الإقدام على الترجمة على الوجه المذكور تفصيلا فى السؤال جائز شرعا , والله سبحانه وتعالى أعم .
محمود الدينارى – عضو جماعة كبار العلماء وشيخ معهد طنطا .
عبد المجيد اللبان – شيخ كلية أصول الدين وعضو جماعة كبار العلماء
إبراهيم حمروش – شيخ كلية اللغة العربية وعضو جماعة كبار العلماء
محمد مأمون الشناوى – شيخ كلية الشريعة وعضو جماعة كبار العلماء
عبد المجيد سليم – مفتى الديار المصرية وعضو جماعة كبار العلماء
محمد عبد اللطيف اللحام – وكيل الجامع الأزهر وعضو جماعة كبار العلماء
دسوقى عبد الله البدوى – " ختم " عضو جماعة كبار العلماء
أحمد الدبلشانى – " ختم " عضو جماعة كبار العلماء
يوسف الرجوى - " ختم " عضو كبار العلماء
محمد سبع الذهبى شيخ الحنابلة – عضو جماعة كبار العلماء
عبد المعطى الشرشيمى – عضو جماعة كبار العلماء {390}
عبد الرحمن قراعة - " ختم " عضو هيئة كبار العلماء
أحمد نصر – عضو هيئة كبار العلماء
محمد الشافعى الطواهرى – عضو هئية كبار العلماء .
· حيث أن الترجمة المرادة هى ترجمة لمعانى التفسير الذى يضعه العلماء , فهى جائزة شرعا بشرط طبع التفسير المذكور بجوار الترجمة المذكورة والله أعلم
كتبه بيده الفانية
عبد الرحمن عليش الحنفى
من جماعة كبار العلماء
رأى فضيلة الأستاذ الأكبر :
وجهت هذا السؤال إلى حضرات أصحاب الفضيلة جماعة كبار العلماء , وإنى أوافقهم على ما رأوه , ولا أرى داعيا للتحفظ الذى أبداه فضيلة الشيخ عبد الرحمن عليش وهو طبع التفسير مع الترجمة لعدم الحاجة إلى ذلك مع مراعاة الشروط المدونة فى السؤال
محمد مصطفى المراغى
{391}
القواعد التى تجب مراعاتها عند ترجمة معانى القرآن :
قررت مشيخة الأزهر الجليلة ترجمة تفسير القرآن , وتألفت بالفعل لجنة من خيرة علمائه ورجالات وزارة المعارف لوضع تفسير عربى دقيق للقرآن تمهيدا لترجمته ترجمة دقيقة بواسطة لجنة فنية مختارة . وقد اجتمعت لجنة التفسير بضع مرات برئاسة العلامة الباحث مفتى مصر الأكبر , وكان من أثر هذه الاجتماعات أن وضعت دستورا تلتزمه فى عملها العظيم , ثم بعثت بهذا الدستور العظيم إلى كبار العلماء والجماعات الإسلامية فى الأقطار الأخرى لتستطلعهم آراءهم فى هذا الدستور , رغبة منها فى أن يخرج هذا التفسير العربى فى صورة ما أجمع عليه .
ذكر ذلك الشيخ الزرقانى فى المناهل , ثم قال: ( وبما أن هذا الدستور قد حوى من ألوان الحيطة والحذر ما يتفق وجلال الغاية , فإنا نعرض عليك هنا مواده وقواعده لتضفيها أنت إلى ما أبديناه من التحفظات السابقة , وهاهى تلك القواعد كما جاءت فى مجلة الأزهر .
1- أن يكون التفسير خاليا ما أمكن من المصطلحات والمباحث العلمية إلا ما استدعاه فهم الآية .
2- ألا يتعرض فيه للنظريات العلمية , فلا يذكر مثلا التفسير العلمى للرعد والبرق عن آية فيها رعد وبرق , ولا رأى الفلكيين فى السماء والنجوم عند آية فيها سماء ونجوم , إنما تفسر الآية بما يدل عليه اللفظ العربى , ويوضح موضع العبرة والهداية فيها .
3- إذا مست الحاجة إلى التوسع فى تحقيق بعض المسائل وضعته اللجنة فى حاشية التفسير .
4- ألا تخضع اللجنة إلا لما تدل عليه الآية الكريمة , فلا تتقيد بمذهب معين من المذاهب الفقهية , ولا مذهب معين من المذاهب الكلامية وغيرها , ولا تتعسف فى تأويل آيات المعجزات وأمور الآخرة ونحو ذلك . {392}
5- أن يفسر القرآن بقراءة حفص , ولا يتعرض لتفسير قراءات أخرى إلا عند الحاجة إليها .
6- أن يجتنب التكلف فى ربط الآيات والسور بعضها ببعض .
7- أن يذكر من أسباب النزول ما صح بعد البحث وأعان على فهم الآية .
8- عند التفسير تذكر الآية كاملة أو الآيات إذا كانت مرتبطة بموضوع واحد, ثم تحرر معانى الكلمات فى دقة , ثم تفسر معانى الآية أو الآيات فى الوضع المناسب .
9- ألا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الآيات .
10- يوضع فى أوائل كل سورة ما تصل إليه اللجنة من بحثها فى السورة أمكية هى أم مدنية ؟ وماذا فى السورة المكية من آيات مدنية , والعكس .
11- توضع للتفسير مقدمة فى التعريف بالقرآن , وبيان مسلكه فى كل ما يحتويه من فنونه , كالدعوة إلى الله , وكالتشريع , والقصص , والجدل ونحو ذلك , كا يذكر فيها منهج اللجنة فى تفسيرها ).
طريقة التفسير والقواعد المتبعة فى ذلك .
ومضى الزرقانى فى نص مجلة الأزهر قائلا : ورأت اللجنة بعد ذلك أن تضع قواعد خاصة بالطريقة التى تتبعها فى تفسير معانى القرآن الكريم , وننشرها فيما يلى :
1: تبحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور , فتفحص مروياتها وتنقد , ويدون الصحيح منها
بالتفسير , مع بيان وجه قوة القوى وضعف الضعيف من ذلك .
2: تبحث مفردات القرآن الكريم بحثا لغويا , وخصائص التراكيب القرآنية بحثا بلاغيا وتدون . {393}
3: تبحث آراء المفسرين بالرأى والتفسير بالمأثور , ويختار ما تفسر الآية به مع بيان وجه رد المردود وقبول المقبول .
4: وبعد ذلك كله يصاغ التفسير مستوفيا ما نص على استيفائه فى الفقرة الثانية من القواعد السابقة , وتكون هذه الصياغة بأسلوب مناسب لأفهام جمهرة المتعلمين , خال من الأغراب والصنعة .
فتوى اللجنة الدائمة للأفتاء – فى الرياض - :
ورد إلى رئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالى :
" قرأت فى مجلة العربى العدد 237 شهر شعبان لعام 1398 هـ مقالا حول موضوع دراسات قرآنية طرح جديد لموقف المعارضة للدكتور محمد أحمد خلف الله , الرجاء الاطلاع على المقال المذكور , وخاصة ترجمة القرآن والتى يريد منها حسب ظاهر كلامه الترجمة الحرفية , وما رأيكم فى الأسباب التى أوردها ضمن مقاله فى تبريره لترجمة القرآن ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا , وجعلكم من الذائدين عن شرعه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم "
وأجابت بما يلى :( يتضح من مقال الدكتور المذكور أنه يريد ترجمة معانى القرآن والتعبير عنها باللغات الأخرى غير العربية , وترجمة معانى القرآن جائزة إذا فهم المعنى فهما صحيحا , وعبر عنه من عالم بما يحيل المعانى باللغات الأخرى تعبيرا دقيقا يفيد المعنى المقصود من نصوص القرآن , وذلك أداء لواجب البلاغ لمن لا يعرف اللغة العربية . قال شيخ الأسلام أحمد بن تيمية رحمه الله :" وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك , وكانت المعانى صحيحة كماخطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم , فإن هذا جائز حسن للحاجة , وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه , ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد سعيد بن العاص , وكانت صغيرة فولدت بأرض الحبشة , لأن أباها كان {394}
من المهاجرين إليها , قال لها:( يا أم خالد ) هذا سنا . والسنا بلسان الحبشة الحسن , لأنها كانت من أهل هذه اللغة , ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة , وكذلك يقرأ المعلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم , ويترجم بالعربية كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت : " أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له ذلك " حيث لم يأتمن اليهود عليه ".
أما الترجمة الصوتية فهى غير جائزة , وسبق أن أصدر مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية قرارا فى ذلك نرفق لك صورته لمزيد من الفائدة .. وبالله التوفيق وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ).
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة
عبدالله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرازق عفيفى رئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
ما يتشرط فى المترجم لمعانى القرآن :
قال البيهقى فى شعب الإيمان : ( سمعت أبا القاسم حيث يقول : سمعت أبا {395}
عبد الله الميدانى الخطيبى يقول : سمعت أبا القريش الحافظ يقول : سمعت يحى بن سليمان بن نضلة يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : " لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر ذلك إلا جعلته نكالا ") . {396}
المتمعن فى النقول عن أهل العلم فى مسـألة الترجمة فى المصاحف يلحظ أن الإجماع منعقد على تحريم الترجمة الحرفية للمصاحف وللقرآن مطلقا , لكون الإعجاز متحققا فى لفظه ومعناه , وبهما يكون التحدى للعرب والعجم معا , وأن ما يبدو من خلاف بين العلماء فى هذا الشأن لا يعدو من أن يكون خلافا لفظيا , وأن من جوز الترجمة إنما أراد ترجمة المعانى فحسب , ثم هل تجوز الصلاة بهذه المعانى المترجمة أم لا ؟ كا وقد انعقد الإجماع على تحريم كتابة القرآن بالأعجمية , فلا عبرة بمن خرق هذا الأجماع , ولا اعتداد بصنيعه , لأن من أقدم على هذا الصنيع لا يخرج عن كونه متبعا فى دينه لمن لا يجوز اتباعه من كافر رام من ترجمته للقرآن التحريف والدس والطعن أو كان زنديقا ملحدا مبطنا للكفر وإن أظهر الإسلام ينادى بجواز الترجمة للقرآن , ويناصر التوجه إليها مجاملة لأحبار اليهود ورهبان النصارى , غير مكترث بما تجره هذه المجاملة وتفضى إليه تلك المناصرة من تفريق بين المؤمنين وتمزيق لأقوى رابطة بين المسلمين . وثمة طائفة ثالثة ناصرت التوجه المذكور عن جهل بالحكم لقلة بضاعتها فى ميادين الشرع وشدة اغترارها ببهرج الدعايات المشبوهة , وبريق الشعارات المرفوعة , ولكون ديدنها اللهث وراء كل ما هو استشراقى متلفقة له دون وعى لما يترتب عليه من وخيم العواقب , وأليم المصائب , بيد أن الله عزوجل قد تعهد بحفظ كتابه وهو بالمرصاد لكل مريد لإطفاء نوره , وهو حسبنا ونعم الوكيل ...) {397}