نزول قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}
قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468هـ): (قوله تعالى: {قُل مَن كانَ عَدوَّا لِجِبريلَ} الآية.
أخبرنا سعيد بن محمد بن أحمد الزاهد قال: أخبرنا الحسن بن أحمد الشيباني قال: أخبرنا المؤمل بن الحسن ين عيسى قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا عبد الله بن الوليد عن بكير عن ابن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (أقبلت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم نسألك عن أشياء فإن أجبتنا فيها اتبعناك أخبرنا من الذي يأتيك من الملائكة فإنه ليس من نبي إلا يأتيه ملك من عند ربه عز وجل بالرسالة وبالوحي فمن صاحبك؟
قال: ((جبريل)). قالوا: ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتال ذاك عدونا، لو قلت: ميكائيل الذي ينزل بالمطر والرحمة اتبعناك فأنزل الله تعالى: {قُل مَن كانَ عَدُوَّا لِجِبريلَ فَإِنَّهُ نَزَلَهُ عَلى قَلبِكَ} إلِى قوله: {فَإِنَ الَلهَ عَدُوٌّ لِّلكافِرينَ}) ). [أسباب النزول: 26]
قالَ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الوَاحِدِيُّ (ت: 468هـ): (قوله تعالى: {مَن كانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ} الآية.
أخبرنا أبو بكر الأصفهاني قال: أخبرنا أبو الشيخ الحافظ قال: حدثنا أبو يحيى الرازي قال: حدثنا سهل بن عثمان قال: حدثنا علي بن مسهر عن داود عن الشعبي قال: (قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت آتي اليهود عند دراستهم التوراة فأعجب من موافقة القرآن التوراة وموافقة التوراة القرآن فقالوا: يا عمر ما أحد أحب إلينا منك. قلت: ولم؟ قالوا: لأنك تأتينا وتغشانا. قلت: إنما أجيء لأعجب من تصديق كتاب الله بعضه بعضًا وموافقة التوراة القرآن وموافقة القرآن التوراة، فبينا أنا عندهم ذات يوم إذ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف ظهري فقالوا: هذا صاحبك فقم إليه، فالتفت إليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل خوخة من المدينة، فأقبلت عليهم فقلت: أنشدكم الله وما أنزل عليكم من كتاب أتعلمون أنه رسول الله؟ فقال سيدهم: قد نشدكم بالله فأخبروه. فقالوا: أنت سيدنا فأخبره، فقال سيدهم: إنا نعلم أنه رسول الله.
قال: فقلت: فأنت أهلكهم إن كنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لم تتبعوه. قالوا: إن لنا عدوًا من الملائكة وسلمًا من الملائكة. فقلت: من عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل؛ وهو ملك الفظاظة والغلظة والإصار والتشديد. قلتُ: ومن سلمكم؟ قالوا: ميكائيل؛ وهو ملك الرأفة واللين والتيسير. قلت: فإني أشهد ما يحل لجبريل أنه يعادي سلم ميكائيل وما يحل لميكائيل أن يسالم عدو جبريل فإنهما جميعًا ومن معهما أعداء لمن عادوا وسلم لمن سالموا، ثم قمت فدخلت الخوخة التي دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلني فقال: ((يا ابن الخطاب ألا أقرؤك آيات أنزلت علي قبل؟))قلت: بلى فقرأ{قًل مَن كانَ عَدُوًّا لِجِبريلَ فَإِنَّهُ..} الآية، حتى بلغ: {وَما يَكفُرُ بِها إِلا الفاسِقونَ} قلت: والذي بعثك بالحق نبيا ما جئت إلا أخبرك بقول اليهود فإذا اللطيف الخبير قد سبقني بالخبر. قال عمر: فقد رأيتني أشد في دين الله من حجر).
وقال ابن عباس: (إن حبرًا من أحبار اليهود من فدك يقال له عبد الله بن صوريا حاج رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أشياء فلما اتجهت الحجة عليه قال: أي ملك يأتيك من السماء؟ قال: ((جبريل ولم يبعث الله نبيًا إلا وهو وليه)) قال: ذاك عدونا من الملائكة، ولو كان ميكائيل مكانه لآمنا بك إن جبريل ينزل بالعذاب والقتال والشدة، وإنه عادانا مرارًا كثيرة، وكان أشد ذلك علينا أن الله أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب على يدي رجل يقال له بختنصر، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه فلما كان وقته بعثنا رجلاً من أقوياء بني إسرائيل في طلب بختنصر ليقتله فانطلق يطلبه حتى لقيه ببابل غلامًا مسكينًا ليست له قوة فأخذه صاحبنا ليقتله فدفع عنه جبريل وقال لصاحبنا: إن كان ربكم الذي أذن في هلاككم فلن تسلط عليه وإن لم يكن هذا فعلى أي حق تقتله؟، فصدقه صاحبنا ورجع إلينا، وكبر بختنصر وقوي وغزانا وخرب بيت المقدس؛ فلهذا نتخذه عدوًا، فأنزل الله هذه الآية).
وقال مقاتل: (قالت اليهود: إن جبريل عدونا؛ أمر أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا، فأنزل الله هذه الآية)). [أسباب النزول: 27-28]
قال أحمدُ بنُ عَلِيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله تعالى {قل من كان عدوا لجبريل إلى قوله للكافرين}
أسند الواحدي من طريق بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (أقبلت يهود إلى النبي فقالوا: يا أبا القاسم نسألك عن أشياء؛ فإن أجبتنا فيها اتبعناك: أخبرنا من الذي يأتيك من الملائكة، فإنه ليس نبي إلا يأتيه ملك من عند ربه بالرسالة أو بالوحي فمن صاحبك؟، قال: ((جبريل عليه السلام)). قالوا: ذاك الذي نزل بالحرب وبالقتال ذاك عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالقطر والرحمة تابعناك؛ فأنزل الله عز وجل {قل من كان عدوا لجبريل..} الآية إلى قوله {.. للكافرين}).
قلت: أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من هذا الوجه، وفي أول الحديث: (إنا نسألك عن خمسة أشياء..) وذكرها في سياقه وهي: علامة النبي، وكيف تؤنث المرأة وتذكر، وعما حرم إسرائيل على نفسه، وعن الرعد، وآخرها من صاحبك من الملائكة.. الحديث.
وعند أحمد أيضا وعبد بن حميد والطبري من طريق شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: (حضرت عصابة من اليهود رسول الله فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي. فقال: ((سلوا عم شئتم)) ..) فذكر الحديث، وفيه: (قالوا: فأخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه؟ قال: ((أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديداً وطال سقمه؛ فنذر لله نذرا أن شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها؟)). قالوا: اللهم نعم. قال: ((اللهم اشهد عليهم))،قالوا: فأخبرنا بهذا النبي الأمي من وليه من الملائكة؟ قال: ((فإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه))، قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. قال: ((فما يمنعكم؟))، قالوا: إنه عدونا؛ فأنزل الله عز وجل الآية).
وأخرجه ابن إسحاق عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب بنحوه ولم يذكر ابن عباس وزاد فيه: (قالوا: فأخبرنا عن الروح. قال: ((أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبريل وهو الذي يأتيني؟)) قالوا: نعم، ولكنه لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء ولولا ذاك اتبعناك؛ فأنزل الله الآية إلى قوله: {..كأنهم لا يعلمون}).
وقال عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة: (قالت اليهود: إن جبريل يأتي محمدا وهو عدونا لأنه ينزل بالشدة والحرب والسنة، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب؛ فقال الله تعالى {من كان عدوا لجبريل..} الآية).
وأخرج الطبري من طريق القاسم بن أبي بزة: (يهودا سألوا النبي من صاحبك الذي ينزل عليك بالوحي؟ قال: ((جبريل)). قالوا: فإنه عدونا لا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال فنزلت).
وفي صحيح البخاري عن أنس قال: (سمع عبد الله بن سلام بمقدم النبي...) فذكر الحديث، وفيه: (أنه سأله عن أشياء فقال: ((أخبرني بهن جبريل آنفا))، قال: جبريل؟ قال: ((نعم)). قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة). هكذا في هذه الطريق من قول عبد الله بن سلام، وهي قصة غير التي في حديث ابن عباس.
وأسند الواحدي من طريق علي بن مسهر والطبري من طريق ربعي بن علية -وهو أخو إسماعيل- عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزل عمر الروحاء فذكر قصة فيها: "فقال عمر: (كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان ومن الفرقان كيف يصدق التوراة، فبينما أنا عندهم ذات يوم فقالوا: يا ابن الخطاب ما أحد أحب إلينا منك؛ إنك تأتينا وتغشانا.
قال: ومر رسول الله فقالوا: يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به. فقلت لهم: عند ذلك: نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه أتعلمون أنه رسول الله؟ فسكتوا، فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم عليكم فأجيبوه. قالوا: أنت عالمنا وسيدنا فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا بما نشدتنا به فإنا نعلم أنه رسول الله. قال: قلت: ويحكم فأنى هلكتم!. قالوا: إنا لم نهلك.
قال: كيف ذاك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟. قالوا: لأن لنا عدوا من الملائكة وسلما وأنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة.
قال: قلت: ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟. قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل.
قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟. قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا. قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينهوالآخر عنيساره.
قال: قلت: فوالله الذي لا إله إلا هو إن الذي بينهما لعدو لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو جبريل. قال: ثم قمت فاتبعت النبي فلحقته وهو خارج من خوخه لبني فلان فقال لي: ((يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن قبل؟)) فقرأ {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه..} حتى قرأ الآيات.
قال: قلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر)".
لفظ الطبري وأخرجه أيضا من طريق إسماعيل بن علية عن داود نحوه.
ومن طريق مجالد عن الشعبي نحوه.
وأخرج أيضا من طريق قتادة قال: ذكر لنا أن عمر انطلق ذات يوم إلى اليهود فلما أبصروه رحبوا به فقال لهم عمر: "أما والله ما جئت لحبكم ولا لرغبة فيكم ولكن جئت لأسمع منكم"، فسألهم وسألوه، فقالوا من صاحب صاحبكم ؟ فقال لهم: ((جبريل))، فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمدا على سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم.
فقال لهم عمر: "أتعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟!" ففارقهم وتوجه نحو النبي ليحدثه حديثهم فوجده قد أنزلت عليه {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله..} الآية.
ومن طريق السدي قال: (كانت لعمر أرض بأعلى المدينة فكان ممره على طريق مدارس اليهود فدخل فسمع منهم فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك فإنك تمر بنا فلا تؤذينا. فقال عمر: أي يمين أعظم فيكم؟. قالوا: الرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أتجدون محمدا عندكم؟...) فذكر نحو حديث الشعبي بطوله.
ومن طريق هشيم عن حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل الذي ينزل عليكم اتبعناكم؛ فإنه ينزل بالرحمة والغيث وإن جبريل ينزل بالنقمة والعذاب وهو لنا عدو فنزلت هذه الآية {من كان عدوا لجبريل...}).
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عبد الرحمن الدشتكي عن حصين عن ابن أبي ليلى مختصرا ولفظه: (إن يهوديا لقي عمر فقال: إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا. فقال عمر: {من كان عدوا لله وملائكته ورسله..} إلى {..للكافرين}، قال: فنزلت على لسان عمر).
قلت: وهذا غريب إن ثبت فليضف إلى موافقات عمر، وقد جزم ابن عطية بأنه ضعيف ولم يبين جهة ضعفه وليس فيه إلا الإرسال.
ثم قال الواحدي: قال ابن عباس: أن (حبرا من أحبار اليهود من فدك يقال له عبد الله بن صوريا حاج النبي، فسأله عن أشياء فلما اتجهت عليه الحجة قال: أي ملك يأتيك من السماء؟. قال: ((جبريل، ولم يبعث الله نبيا إلا وهو وليه)). قال: ذاك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل مكانه لآمنا بك؛ إن جبريل ينزل بالعذاب والقتال والشدة على يدي رجل يقال له بخت نصر، وأخبرنا بالحين الذي يخرب فيه فلما كان وقته بعثنا رجلا من أقوياء بني إسرائيل في طلب بخت نصر ليقتله، فانطلق يطلبه حتى لقيه ببابل غلاما مسكينا ليست له قوة، فأخذه صاحبنا ليقتله، فدفع عنه جبريل وقال لصاحبنا: إن كان ربكم هو الذي أذن في هلاككم فلن تسلط عليه، وإن لم يكن هذا فعلى أي حق تقتله؟ فصدقه صاحبنا ورجع إلينا، وكبر بخت نصر وقوي وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدوا فأنزل الله عز وجل هذه الآية).
قلت: يتعجب من جزمه بهذا عن ابن عباس مع ضعف طريقه فإنه من تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفي، وقد قدمت أنه هالك.
وقد أخرج الطبري من طريق أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس: (أن اليهود سألت محمدا عن أشياء كثيرة؛ فأخبرهم بها على ما هي عندهم إلا جبريل فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة، ولم يكن عندهم صاحب وحي ينزل من الله على رسله ولا صاحب رحمة فأخبرهم رسول الله فيما سألوه عنه أن جبريل صاحب وحي وصاحب نقمة وصاحب رحمة فأنكروا ذلك، وقالوا: هو عدو لنا؛ فأنزل الله عز وجل تكذيبا لهم {قل من كان عدوا لجبريل..} الآية).
ثم قال الواحدي: قال مقاتل: (قالت اليهود: إن جبريل أمره الله أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا فأنزل الله هذه الآية).
قلت: جعل الواحدي هذا السبب ترجمتين من أجل الاختلاف في سبب عداوتهم لجبريل، وإن كان سبب النزول واحدا، وحاصل ما ذكر فيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: قول الجمهور إن عداوتهم لكونه ينزل بالعذاب.
ثانيها: كونه حال دون قتل بخت نصر الذي خرب مسجدهم وسفك دماءهم وسبى ذراريهم.
ثالثها: كونه عدل بالنبوة عن بني إسرائيل إلى بني إسماعيل.
وهذا الثالث قواه الفخر الرازي من جهة المعنى؛ لأن معاداة جبريل وهو رسول الله بامتثاله أمر الله فيما ينزل به من الشدة والعذاب لا يصدر من عاقل بخلاف تجويز النسيان عليه مع من أمر بالإنزال عليه.. هذا حاصل ما رجحه به، وفاته ترجيح أن يرجح الثاني لأنه ليست مخالفة لما أمر به لا عمدا ولا سهوا بل هو راجع إلى اجتهاده ومن عادى من اجتهد فأداه اجتهاده إلى ضرر من عاداه لا يلام في المعاداة.
وقد وجدت ما يصلح معه إفراد الترجمة الثانية وهو سبب معاداتهم لرسول الله؛ لأن الأولى من جميع طرقها خاصة بجبريل عليه السلام وذلك فيما أخرجه الطبري من طريق عبيد الله العتكي -وهو أبو المنيب المروزي صدوق- عن رجل من قريش قال: (سأل النبي اليهود فقال: ((أسألكم بكتابكم الذي تقرؤون هل تجدونني قد بشر بي عيسى أن يأتيكم رسول من بعدي اسمه أحمد؟)). قالوا: اللهم وجدناك في كتبنا ولكنا كرهناك لأنك تستحل الأموال -يعني الغنائم- وتهريق الدماء. فأنزل الله عز وجل {من كان عدوا لله وملائكته ورسله..} الآية) ). [العجاب في بيان الأسباب: 1/289-300]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911هـ): (قوله تعالى:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}
روى البخاري عن أنس قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلى نبي: فما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: ((أخبرني بهن جبريل آنفا)). قال: جبريل؟ قال: ((نعم)) قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك}.
قال شيخ الإسلام ابن حجر في فتح الباري: ظاهر السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية ردا لقول اليهود، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ.
قال: وهذا هو المعتمد.
فقد صح في سبب نزول الآية قصة غير قصة عبد الله بن سلام؛ فأخرج أحمد والترمذي والنسائي من طريق بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (أقبلت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي، فذكر الحديث، وفيه أنهم سألوه عما حرم إسرائيل على نفسه، وعن علامة النبي، وعن الرعد وصوته، وكيف تذكر المرأة وتؤنث، وعمن يأتيه بخير السماء، إلى أن قالوا: فأخبرنا من صاحبك؟ قال: ((جبريل)). قالوا: جبريل، ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان خيرا؛ فنزلت).
وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وابن جرير من طريق شعبي: أن عمر كان يأتي اليهود فيسمع من التوراة، فيتعجب كيف تصدق ما في القرآن، قال: فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: نشدتكم بالله أتعلمون أنه رسول الله؟، فقال عالمهم: نعم، نعلم أنه رسول الله. قلت: فلما لا تتبعونه؟، قالوا: سألناه من يأتيه بنبوته، فقال: عدونا جبريل، لأنه ينزل بالغلطة والشدة والحرب والهلاك، قلت: فمن رسلكم من الملائكة؟ قالوا: ميكائيل، ينزل بالقطر والرحمة، قلت: وكيف منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه، والآخر من الجانب الآخر. قلت: فإنه لا يحل لجبريل أن يعادي ميكائيل، ولا يحل لميكائيل أن يسالم عدو جبريل، وإنني أشهد أنهما وربهما سلم لمن سالموا، وحرب لمن حاربوا، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن أخبره، فلما لقيته قال: ((ألا أخبرك بآيات أنزلت علي؟)) فقلت: بلى يا رسول الله، فقرأ {من كان عدوا لجبريل}حتى بلغ {للكافرين} قلت: يا رسول الله، والله ما قمت من عند اليهود إلا إليك لأخبرك بما قالوا لي وقلت لهم، فوجدت الله قد سبقني. وإسناده صحيح إلى الشعبي لكنه لم يدرك عمر.
وقد أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن طريق آخر عن الشعبي.
وأخرجه ابن جرير من طريق السدي عن عمر، ومن طريق قتادة عن عمر. وهما أيضا منقطعان.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر بن الخطاب فقال: إن جبريل الذي يذكر صاحبكم عدو لنا، فقال عمر: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}، فنزلت على لسان عمر.
فهذه طرق يقوي بعضها بعضا.
وقد نقل ابن جرير الإجماع على أن سبب نزول الآية ذلك). [لباب النقول: 17-19]
قَالَ مُقْبِلُ بنِ هَادِي الوَادِعِيُّ (ت: 1423هـ): (قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}.
قال الإمام أحمد [ج1 ص274]: حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي -وكانت له هيئة رأيناه عند حسن- عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك؛ فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قالوا الله على ما نقول وكيل، قال: ((هاتوا)).
قالوا: أخبرنا عن علامة النبي، قال: ((تنام عيناه ولا ينام قلبه))، قالوا: أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر قال: ((يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت))، قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه قال: ((كان يشتكي عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا وكذا))، -قال عبد الله قال أبي، قال بعضهم: يعني الإبل فحرم لحومها- قالوا: صدقت؛ قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ((ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيده -أو في يده- مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمر الله))، قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع. قال: ((صوته))، قالوا: صدقت، إنما بقيت واحدة وهي التي نبايعك إن أخبرتنا بها فإنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك. قال: ((جبريل عليه السلام)). قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان؛ فأنزل الله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ..} إلى آخر الآية.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد [ج8 ص242]: رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات وأخرجه أبو نعيم في الحلية [ج4 ص305] والحديث في سنده بكير بن شهاب قال الحافظ في التقريب مقبول يعني إذا توبع وإلا فلين كما نبه عليه في المقدمة. لكن الحديث له طرق إلى ابن عباس كما في تفسير ابن جرير؛ منها ما أخرجه الإمام أحمد.. قال الإمام أحمد [ج1 ص278]: ثنا هاشم بن القاسم ثنا عبد الحميد ثنا شهر: قال ابن عباس: (حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمنهن إلا نبي. قال: ((سلوني عما شئتم لكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب عليه السلام على بنيه لئن حدثتكم شيئا فعرفتموه لَتُتابِعُنِّي على الإسلام)) قالوا: فذلك لك. قال: ((فسلوني عما شئتم)). قالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن؛ أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ كيف يكون الذكر منه؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ قال: ((فعليكم عهد الله وميثاقه فإن أنا أخبرتكم لتتابعني؟))، فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. قال: ((فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى صلى الله عليه وسلم هل تعلمون إن إسرائيل يعقوب عليه السلام مرض مرضا شديدا وطال سقمه فنذر الله نذرا لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمن من أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها)) قالوا: اللهم نعم. قال: ((اللهم اشهد عليهم فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى, هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وأن ماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله , إن علا ماء الرجل على ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله وإن علا ماء المرأة على ماء الرجل كان أنثى بإذن الله)), قالوا: اللهم نعم, قال : ((اللهم اشهد عليهم فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى, هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولاينام قلبه))؟ قالوا: اللهم نعم, قال : ((اللهم أشهد)). قالوا: وأنت الآن فحدثنا من وليك من الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك قال: ((فإن وليي جبريا عليه السلام ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه)). قالوا فعندها نفارقك لو كان وليك سواه من الملائكة لتابعناك وصدقناك, قال: ((فما يمنعكم من أن تصدقوه)), قالوا: إنه عدونا, قال: فعند ذلك قال الله عز وجل: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله} إلى قوله عز وجل: {كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} فعند ذلك باؤوا بغضب على غضب. الآية). الحديث في سنده شهر بن حوشب مختلف فيه والراجح ضعفه من أجل سوء حفظه لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات.
والحديث أخرجه الطيالسي [ج2 ص11] وابن جرير [ج1 ص431] وابن سعد [ج1 ق1 ص116] من طريق شهر بن حوشب عن ابن عباس نحوه. وقد حكى ابن جرير الإجماع أنها نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل؛ إذ زعموا أن جبريل عدو لهم وأن ميكائيل ولي لهم ا.هـ. فيكون الإجماع مؤيدا لهاتين الطريقتين على ما بهما من الضعف، أما الأولى فلأن بكير بن شهاب قد خولف كما في التاريخ الكبير للبخاري [ج2 ص114 و115] فرواه سفيان الثوري عن حبيب عن سعيد –عن ابن عباس قوله. وأما الثانية فلما في شهر من الكلام). [الصحيح المسند في أسباب النزول: 20-22]
روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين