فصل في النون الساكنة والتنوين والغنة
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (فصل في النون الساكنة والتنوين والغنة
النون الساكنة والتنوين يجريان في الكلام والقرآن على ستة أقسام:
1- الأول: أنهما يظهران إذا لقيهما حرف من حروف الحلق في كلمتين، وكذلك النون تظهر مع حروف الحلق في كلمة، وذلك نحو: {من هاد} «الرعد 33»، و{من علق} «العلق 2» و{من غفور} «فصلت 32» و{عفو غفور} «الحج 60» و«أنعمت» «الفاتحة 7» و{المنخنقة} «المائدة 3» وشبهه، وذلك إجماع من القراء. وعلة ذلك أن النون الساكنة والتنوين بعد مخرجهما من الحلق، فلم يحسن الإدغام؛ لأن الإدغام إنما يحسن مع تقارب المخارج، فلما تباعدت مخارجهما لم يكن بد من الإظهار، الذي هو الأصل، وإنما يخرج عن الأصل لعلة تقارب المخارج، فإذا عدم ذلك رجع إلى الأصل، وهو الإظهار، والإدغام في هذا يعده القراء لحنًا لبعد جوازه.
2- الثاني: أن النون الساكنة والتنوين يدغمان بذهاب الغنة في الإدغام إذا لقيتها راء أو لام مشددان، وذلك من كلمتين، وعلة الإدغام هو قرب مخرج اللام والراء من مخرج النون، لأنهن من حروف طرف اللسان، فحسن الإدغام في ذلك لتقارب المخارج، وزاده قوة أن النون والتنوين إذا أدغما
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/161]
في الراء نقلا إلى لفظ الراء، وهي أقوى منهما فكان في الإدغام قوة للحرف الأول، وأيضًا فإن لام التعريف تدغم فيهن، ولما كان حق الإدغام دخول الحرف الأول في لفظ الثاني يكليته أدغمت الغنة، التي في النون والتنوين معهما، في الراء واللام، ولم يبق للغنة لفظ، وكمل بذلك التشديد، وأجاز النحويون إظهار الغنة مع اللام خاصة، والذي أجمع عليه القراء إدغام الغنة مع الراء واللام، وذلك نحو قوله: «من لدنه، ومن ربهم»، وذلك إجماع من القراء، والإظهار في مثل هذا يعده القراء لحنًا لبعده من الجواز، وقد أتت به روايات شاذة غير معمول بها، ولو وقعت النون الساكنة قبل الراء واللام في كلمة لكانت مظهرة، بخلاف وقوعها قبلهما في كلمتين، وعلة ذلك أنك لو أدغمت لالتبس بالمضاعف، ألا ترى أنك لو بنيت مثال «فنعل» من «علم» لقلت: «عنلم» بنون ظاهرة ولو أدغمت لقلت: «علم» فيلتبس بـ «فعل»، فلا يدري هل هو «فنعل» أو «فعل»، وكذلك لو بنيت مثال «فنعل» من شرك، لقلت: شنرك بنون ظاهرة، ولو أدغمت لقلت «شرك» فيلتبس بـ «فعل»، فلا يدري هل هو «فعل» أو «فنعل»، وهذا المثال لم يقرأ في القرآن.
3- الثالث: أن النون الساكنة والتنوين يدغمان في الميم وتبقى الغنى غير مدغمة، خارجة من الخياشيم، فينقص حينئذٍ التشديد، نحو قوله تعالى: {من نور}، {ومن ماء}، الغنة التي كانت في النون باقية مع لفظ الحرف الأول،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/162]
لأنك إذا أدغمت في حرفين فيهما غنة، وذلك الميم والنون، فبالإدغام تلزم الغنة، لأنها باقية غير مدغمة، وبالإظهار أيضًا تلزم الغنة، لأن الأول حرف تلزمه الغنة ومثله الثاني، فالغنة لابد منها ظاهرة، أدغمت أو لم تدغم، وعلة إدغامها في النون هو اجتماع مثلين الأول ساكن، ولا يجوز الإظهار ألبتة، كما لا يجوز في قوله: {فلا يسرف في القتل} «الإسراء 23» و{اجعل لنا} «النساء 75» وشبهه إلا الإدغام. فأما علة إدغامها في الميم فلمشاركتهن في الغنة، ولتقاربهن في المخرج، للغنة التي فيهن، لأن مخرج النون الساكنة والتنوين والميم الساكنة من الخياشيم، فقد تشاركن في مخرج الغنة، فحسن الإدغام، مع أن النون مجهورة شديدة والميم مثلها، فقد تشاركن في الجهر والشدة، فهما في القوة سواء، في كل واحد جهر وشدة وغنة، فحسن الإدغام وقوي، وبقيت الغنة ظاهرة، لئلا يذهب الحرف بكليته، ولأنك لو أذهبت الغنة لأذهبت غنتين، غنة كانت في الأول، وغنة في الثاني إذا سكن، وأيضًا فإنه لا يمكن ألبتة زوال الغنة؛ لأنك لابد لك في الإدغام من أن تبدل من الأول مثل الثاني، وذلك لابد فيه من الغنة، لأن الأول فيه غنة، والثاني إذا سكن فيه غنة، فحيثما حاولت مذهبا لزمتك الغنة ظاهرة، فلم يكن بد من إظهار الغنة في هذا، وهذا كله إجماع من القراء والعرب، ولا يتمكن أبدًا في إدغام النون والتنوين في الميم والنون إدغام الغنة إلا بذهاب لفظ الحرفين جميعًا إلى غيرهما من الحروف، مما لا غنة فيه إذا سكن، وذلك تغيير لم يقع في كلام العرب.
4- الرابع: أن النون الساكنة والتنوين يدغمان في الياء والواو من كلمتين، مع إظهار الغنة التي كانت في النون، في حال اللفظ بالشدة والمدغم، لا في نفس الحرف الأول، بخلاف ما ذكرنا قبل هذا، الذي تبقى الغنة ظاهرة مع لفظ الحرف الأول، والفرق بينهما أنك إذا أدغمت النون في الميم أبدلت من النون،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/163]
وقد كانت فيه غنة، حرفا فيه غنة أيضًا، وهو الميم، فصارت الغنة لازمة للفظ الحرف الأول، وإذا أدغمت النون في الياء والواو أبدلت من النون حرفا لا غنة فيه، فلم تكن الغنة لازمة للحرف الأول؛ لأنه لا تلزمه الغنة، سكن أو تحرك، فتصير الغنة ظاهرة في حال اللفظ بالمدغم، خارجة من الخياشيم، وهذا إجماع من القراء غير خلف عن حمزة، فإنه أدغم في الياء والواو بغير غنة على أصل الإدغام، وعلة إدغام النون الساكنة والتنوين في الياء والواو وإظهار الغنة، هي ما بينهن من التشابه، وذلك أن الغنة التي في النون تشبه المد واللين، اللذين في الياء والواو، فحسن الإدغام لذلك، وأيضًا فإن الواو من مخرج الميم فأدغمت النون فيها، كما تدغم في الميم لمؤاخاة الميم الواو في المخرج، ولذلك بقيت الغنة ظاهرة، كما تبقى في الميم والياء والواو، ولأنه لما كانت الواو تدغم في الياء نحو: طيا وليا، جاز إدغام النون الساكنة في الياء، كما جاز في الواو، وعلى هذا جماعة القراء، لكن الغنة ظاهرة مع اللفظ بالمشدد، لا في نفس الحرف الأول، كأنها بين الحرفين المدغمين، فهو إدغام ناقص التشديد لبقاء الغنة ظاهرة فيه، والغنة في جميع هذا كله صوت يخرج من الخياشيم، والحرف الذي فيه الغنة، إن كان ميما، فمن بين الشفتين يخرج، وإن كان نونًا، فمن طرف اللسان وأطراف الثنايا يخرج، فحرف الغنة له مخرجان، فإذا أدغمته أدغمت ما يخرج من الفم منه، وأبقيت ما يخرج من الخياشيم ظاهرًا، فلا يتمكن التشديد مع بقاء الغنة ظاهرة، فإن أدغمت حرف الغنة في الراء واللام أدغمت ما يخرج من المخرجين جميعًا، ولم تبق شيئًا فيتمكن التشديد، إذ لم تبق من الحرف شيئًا، ولو وقعت النون قبل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/164]
الواو والياء في كلمة، لم يكونا إلا مظهرين، لأنك لو أدغمت لالتبس بالمضاعف، فتقول: الدنيا وبنيان وقنوان وصنوان، بالإظهار، وهذا كله إجماع من القراء على ما بينا وعللنا.
5- الخامس: أن النون الساكنة والتنوين ينقلبان ميمًا إذا لقيتهما باء، نحو قوله: {أن بورك} «النمل 8» و«هنيئًا بما كنتم» «الطور 19»، وكذلك النون تأتي بعدها الباء في كلمة نحو: {أنبئهم} «البقرة 33» و«عنبر» ولا تشديد في هذا، إنما هو بدل لا إدغام فيه، لكن الغنة التي كانت في النون باقية؛ لأن الحرف الذي أبدلت من النون حرف فيه غنة أيضًا، وهو الميم الساكنة، فلابد من إظهار الغنة في البدل، كما كانت في المبدل منه، وهذا البدل إجماع من القراء، وعلة بدل النون الساكنة ميمًا إذا لقيتهما باء أن الميم مؤاخية للباء؛ لأنها من مخرجها ومشاركة لها في الجهر، والميم أيضًا مؤاخية للنون في الغنة وفي الجهر، فلما وقعت النون قبل الباء، ولم يمكن إدغامها في الباء، لبعد ما بين مخرجيها، وبعد إظهارها لما بينهما من الشبه، ولما بين النون وأخت الباء من الشبه وهي الميم، أبدلت منها حرفًا مؤاخيًا لها في الغنة، ومؤاخيًا للياء في المخرج، وهو الميم، ألا ترى أنهم لم يدغموا الميم في الباء، مع قرب المخرجين، والمشاركة في الجهر، نحو قوله: {وهم بربهم} «الأنعام 150»، وقال سيبويه في تعليل امتناع إدغام الميم في الباء قال: لأنهم يقلبون النون ميمًا في قولهم: «العنبر، ومن بدا لك» فلما وقع قبل الباء الحرف الذي يفرون إليه من النون لم يغيروه، وجعلوه بمنزلة النون، إذا كانا حرفي غ نة، قال: ولم يجعلوا النون باء لبعدها من مخرج الباء، ولأنها ليست فيها غنة، قال: ولكنهم أبدلوا مكانها أشبه الحروف بالنون وهي الميم.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/165]
السادس: أن النون الساكنة والتنوين يخفيان عند باقي الحروف التي لم يتقدم لها ذكر، نحو: «من شاء، ومن كان، ومن جاء، ومن قبل» وشبهه، ولا تشديد في الإخفاء لأن الحرف أيضًا يخفى بنفسه، لا في غيره، والإدغام إنما هو أن تدغم الحرف في غيره، فلذلك يقع فيه التشديد، والغنة ظاهرة مع الإخفاء، كما كانت مع الإظهار، لأنه كالإظهار، فالغنة التي في الحرف الخفي هي النون الخفية، وذلك أن النون الساكنة مخرجها من طرف اللسان وأطراف الثنايا، ومعها غنة تخرج من الخياشيم، فإذا خفيت لأجل ما بعدها زال، مع الخفاء، ما كان يخرج من طرف اللسان منها، وبقي ما كان يخرج من الخياشيم ظاهرًا، وعلة إخفاء النون والتنوين عند هذه الحروف، أن النون الساكنة قد صار لها مخرجان: مخرج لها، وهو المخرج التاسع، ومخرج لغنتها، وهو المخرج السادس عشر على مذهب سيبويه، فاتسعت بذلك في المخرج، بخلاف سائر الحروف، فأحاطت باتساعهم بذلك في المخرج، بحروف الفم، فشاركتها بالإحاطة بها، فخفيت عندها، وكان ذلك أخف، لأنهم لو استعملوها مظهرة لعمل اللسان فيها من مخرجها، ومن مخرج غنتها، فكان خفاؤها أيسر لعمل اللسان مرة واحدة، ولذلك قال سيبويه في تعليل خفائها قال: وذلك لأنها من حروف الفم، وأصل الإدغام لحروف الفم لأنها أكثر الحروف، فلما وصلوا إلى أن يكون لها مخرج من غير الفم، يعني من الخياشيم، كان أخف عليهم ألا
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/166]
يستعملوا ألسنتهم إلا مرة واحدة، يريد: أنهم لو أتوا بالنون مظهرة للزمهم استعمال ألسنتهم بالنون من مخرج الساكنة، ومن مخرج غنتها، فكان استعمالهم لها من مخرج غنتها أسهل، مع كثرتها في الكلام، فاستعملوها خفية بنفسها، ظاهرة بغنتها، وكان ذلك أخف، إذ لا لبس فيه، فإذا قلت: عنك، ومنك، فمخرج هذه الغنة من الخياشيم، والنون التي تخرج من طرف اللسان، هي التي خفيت، فإذا قلت: منه: وعنه، فمخرج هذه النون من طرف اللسان، ومعها غنة تخرج من الخياشيم؛ لأنها غير مخفاة، إنما هي ظاهرة مع حروف الحلق، وإذا قلت: «من ربهم»، فأدغمت، صار مخرج النون من مخرج الراء، لأنك أبدلت منها راء بدلًا محضًا عند الإدغام، وإذا قلت: من «يؤمن» فأدغمت، فتخرج النون من مخرج الياء؛ لأنك أبدلت منها في حال الإدغام ياء، غير أنك تُبقي الغنة خارجة من الخياشيم، على ما كانت قبل الإدغام، وكذلك التنوين، يجري مجرى النون في كل هذه الوجوه، فتقول: أخفيت النون عند السين، ولا تقل في السين، وخفيت النون عند السين، ولا تقل في السين، وتقول: أدغمت النون في اللام، ولا تقل عند اللام، فاعلم ذلك وافهمه تعلم به معنى الإدغام ومعنى الإخفاء، فالحروف التي تدغم فيها النون الساكنة والتنوين ستة يجمعها هجاء قولك «يرملون» والحروف التي تظهر معها الغنة يجمعها هجاء قولك «يومن» على الاختلاف المذكور في الياء والواو). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/167]