سورة آل عمران
[من الآية (146) إلى الآية (148) ]
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وكأيّن من نبيٍّ قاتل معه... (146)
قرأ ابن كثير: (وكائن) الهمز بين الألف والنون، بوزن (كاعن)، وقرأ الباقون: (وكأيّن) الهمزة بين الكاف والياء.
وذكر عن يعقوب أنه كان يقف: (وكأي) قال: ومعناه: وكم من نبيٍّ
[معاني القراءات وعللها: 1/274]
قال أبو منصور: هما لغتان قرئ بهما (وكأيّن) بتشديد الياء بوزن (وكعيّن)، واللغة الثانية (وكائن) بوزن (كاعن)، والمعنى واحد.
وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه قال في تفسير (كأيّن): الكاف زائدة مدخلة على أي، قال: والكاف معناه: التشبيه، كما تقول: كعمرو.
قال: ومن قرأ (كأيّن) فهو من كيب عن الأمر، أي: حببت.
قال: ومعناها: كم. وكم بمعنى الكثرة). [معاني القراءات وعللها: 1/275]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (قتل... (146)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب على (فعل).
وقرأ الباقون (قاتل) على (فاعل).
قال أبو منصور: والقراءتان جيدتان، إلا أن (قتل) مفعول، و(قاتل) فاعل). [معاني القراءات وعللها: 1/275]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (52- وقوله تعالى: {وكأين من نبي قاتل معه} [146].
قرأ ابن كثير وحده (كائن) على وزن كاعن.
قرأ الباقون: (وكأي) على وزن كحي.
فمن قرأ كذلك وقف بالياء مشددًا، وهما لغتان بمعنى «كم»، تقول العرب: كم مالك؟ وكائن مالك؟ وكأين مالك؟). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/120]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (53- وقوله تعالى: {قاتل معه} [146].
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو {قتل معه}.
وقرأ الباقون {قاتل} بألف، فمن قرأ {قُتِلَ} وقف عليه وابتدأ بما بعده، وحجّته أن الله تعالى مدح أممًا قُتِلَ عنهم نبيهم فما ضَعُفُوا لما أصابهم من قتل نبيهم، وما استكانوا.
وحجة من قرأ {قاتل} قال: إذا مدح الله تعالى من لم يُقاتل مع نبيه، كان من قاتل مع نبيه أمدح وأمدح). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/120]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الهمز من قوله تعالى كأين [آل عمران/ 146].
[الحجة للقراء السبعة: 3/79]
فقرأ ابن كثير وحده: وكائن* الهمزة بين الألف والنون في وزن كاعن.
وقرأ الباقون: وكأي الهمزة بين الكاف والياء، والياء مشدّدة في وزن كعيّ.
قال أبو علي: كنّا رأينا قديما في قولهم: وكائن وأكثر ما يجيء في الشعر كقول الشاعر: [كما أنشده سيبويه]:
وكائن رددنا عنكم من مدجّج... يجيء أمام القوم يردي مقنّعا
وكقوله:
وكائن إليكم قاد من رأس فتنة... جنودا وأمثال الجبال كتائبه
وقول جرير:.
وكائن بالأباطح من صديق... يراني لو أصبت المصابا
[الحجة للقراء السبعة: 3/80]
وكائن على وزن كاعن، كان الأصل فيه كأيّ دخلت الكاف على أيّ كما دخلت على (ذا) من (كذا) و (أنّ) من (كأنّ)، وكثر استعمال الكلمة فصارت ككلمة واحدة، فقلب قلب الكلمة الواحدة، كما فعل ذلك في قولهم: لعمري ورعملي، حكي لنا عن أحمد بن يحيى، فصار كيّإن [مثل كيّع] فحذفت الياء الثانية كما حذفت في كينونة فصار كيء بعد الحذف، ثمّ أبدلت من الياء الألف كما أبدل من طائيّ، وكما أبدلت من «آية» عند سيبويه، وكانت «أيّة». وقد حذفت الياء من أيّ في قول الفرزدق:
تنظّرت نصرا والسّماكين أيهما... عليّ من الغيث استهلّت مواطره
ومن قول الآخر: «بيّض.. ».
فحذف الياء الثانية من أيّ أيضا. فأمّا النون في أيّ، فهي التنوين الداخل على الكلمة مع الجرّ، فإذا كان كذلك، فالقياس إذا وقفت عليه (كاء) فتسكن الهمزة المجرورة للوقف، وقياس من
[الحجة للقراء السبعة: 3/81]
قال: مررت بزيدي أن يقول: كائي، فيبدل منه الياء. ولو قال قائل: إنّه بالقلب الذي حدث في الكلمة، صارت بمنزلة النون التي من نفس الكلمة، فصار بمنزلة لام فاعل فأقرّه نونا في الوقف، وأجعله بمنزلة ما هو من نفس الكلمة، كما جعلت التي في «لدن» بمنزلة التنوين الزائد في قول من قال: لدن غدوة لكان قولا.
ويقوّي ذلك أنّهم لمّا حذفوا الكلام في قولهم: إما لا جعلوها بالحذف ككلمة واحدة حتى أجازوا الإمالة في ألف لا* كما أجازوها في التي تكون من نفس الكلمة في الأسماء والأفعال.
وسمعت أبا إسحاق يقول: إنّها تقال ممالة فجعل القلب في كائن بمنزلة الحذف في إما لاجتماعهما في التغيير، لكان قولا، فيقف على كائن بالنون، ولا يقف على النون إذا لم تقلب، كما لا تميل الألف في لا* إذا لم تحذف معها). [الحجة للقراء السبعة: 3/82]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضمّ القاف وفتحها وإدخال الألف وإسقاطها من قوله تعالى: قتل معه [آل عمران/ 146].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع قتل معه [آل عمران/ 146] بضم القاف بغير ألف.
وقرأ الباقون: قاتل بفتح القاف وبألف.
[الحجة للقراء السبعة: 3/82]
[قال أبو علي]: أمّا قتل فيجوز أن يكون مسندا إلى ضمير أحد اسمين إلى ضمير «نبي»، والدّليل على جواز إسناده إلى هذا الضمير أنّ هذه الآية في معنى قوله: أفإن مات أو قتل انقلبتم [آل عمران/ 144] وروي عن الحسن أنّه قال: «ما قتل نبي في حرب قطّ» وقال ابن عباس في قوله: وما كان لنبي أن يغل [آل عمران/ 161]: «قد كان النبيّ يقتل فكيف لا يخوّن» ! والذي في الآية من قوله: قتل لم يذكر أنّه في حرب.
فإذا أسند قتل إلى هذا الضمير احتمل قوله: معه ربيون أمرين:
أحدهما: أن يكون صفة لنبي، فإذا قدّرته هذا التقدير كان قوله: ربّيون: مرتفعا بالظرف بلا خلاف. والآخر: أن لا تجعله صفة ولكن حالا من الضمير الذي في قتل، فإن جعلته صفة كان الضمير الذي في معه* المجرور، لنبيّ، وإن جعلته حالا كان الضمير الذي في معه* يعود إلى الذكر المرفوع الذي في قتل، والاسم الآخر الذي يجوز أن يسند إليه قتل ربّيّون فيكون قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 3/83]
معه* على هذا التقدير معلّقا بقتل، وعلى القولين الآخرين اللذين هما: الصفة والحال متعلّقا في الأصل بمحذوف، وكذلك من قرأ:
قاتل فهو يجوز فيه ما جاز في قراءة من قرأ قتل*:
والرّبيون: الذين يعبدون الرّبّ، واحدهم ربّي. هكذا فسره أبو الحسن، وقيل فيه: إنه منسوب إلى علم الربّ وكذا الربّانيّون.
وحجّة من قرأ: قتل* أنّ هذا الكلام اقتصاص ما جرى عليه سير أمم الأنبياء قبلهم ليتأسوا بهم، وقد قال: أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم [آل عمران/ 144] وحجّة من قرأ: قاتل أن المقاتل قد مدح كما مدح المقتول فقال: وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم [آل عمران/ 195]. فمن أسند الضمير الذي في قتل إلى نبي كان قوله: فما وهنوا [آل عمران/ 146] أي: ما وهن الرّبيون، ومن أسند الفعل إلى الربّيين دون ضمير نبي كان معنى: فما وهنوا ما وهن باقيهم بعد من قتل منهم في سبيل الله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومن جعل قوله: معه ربيون صفة أضمر للمبتدإ الذي هو كأيّ خبرا، وموضع الكاف الجارّة في كأيّ مع المجرور: رفع، كما أنّ موضع الكاف في قوله: له كذا وكذا: رفع، ولا معنى للتشبيه فيها، كما أنّه لا معنى للتشبيه في كذا وكذا). [الحجة للقراء السبعة: 3/84]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن محيصن والأشهب والأعمش: [وكَأْيٍ] بهمزة بعد الكاف ساكنة، وياء بعدها مكسورة خفيفة، ونون بعدها، في وزن كَعْيٍ.
قال أبو الفتح: فيها أربع لغات: كأَيّ، وكاءٍ، وكأْي -وهي هذه القراءة- وَكَاءٍ في وزن كَعٍ.
ثم اعلم أن أصل ذلك كله {كأَيٍّ} في معنى كم كأكثر القراءة [وكأَيٍّ من قرية]، وهي أَيٌّ دخلت عليها كان الجر، فحدث لها من بعد معنى كم، ولهذه الكاف الجارة حديث طويل في دخولها وفيها معنى التشبيه، وفي دخولها عارية من التشبيه، نحو: كأن زيدًا عمرو، وله كذا وكذا درهمًا، وكأَيٍّ من رجل، ثم إنها لما كثر استعمالها لها تلعبت بها العرب كأشياء يكثر تصرفها فيها لكثرة نقطها بها، فقَدَّمت الياء المشددة على الهمزة فصارت كَيَّأٍ بوزن كَيَّع،
[المحتسب: 1/170]
ثم حذفت الياء المتحركة تشبيهًا لها بسيَّد وميت؛ فصارت [كَيْءٍ] بوزن كَيْعٍ، ثم قلبت الياء ألفًا وإن كانت ساكنة، كما قبلت في ييئس فقيل: ياءس؛ فصارت كاءٍ بوزن كَاعٍ.
وذهب يونس في "كاء" إلى أنه فاعل من الكون، وهذا يبعد؛ لأنه لو كان كذلك لوجب إعرابه؛ إذ لا مانع له من الإعراب.
وأما كأْي بوزن كَعْي، فهو مقلوب كَيْء الذي هو أصل كاء، وجاز قلبه لأمرين:
أحدهما: كثرة التلعب بهذه الكلمة.
والآخر: مراجعة أصل، ألا ترى أن أصل الكلمة كأي؟ فالهمزة إذن قيل الياء. وأما كَأٍ بوزن كَعٍ فمحذوفة من كَاءٍ، وجاز حذف الألف لكثرة الاستعمال، كما قال الراجز:
أصبح قلبي صَرِدا ... لا يشتهي أن يردا
إلا عرادا عردا ... وصلِّيانا بردا
وعَنْكَثًا ملتبِدا
يريد: عاردًا وباردًا. ألا ترى إلى قول أبي النجم:
كأن في الفُرْش العَرَادَ العاردا
وكما قالوا: أَمَ والله لقد كان كذا، يريد أَما، وحَذف الألف.
فإن قلت: فما مثال هذه الكلم من الفعل فإن كَأَيٍّ مثاله كفَعْل؛ وذلك أن الكاف زائدة، ومثال أَيٍّ فَعْل كطَيٍّ وزَيٍّ، مصدر طويت وزويت، وأصل أي أوى؛ لأنها فَعْلٌ من أويت، ووجه التقائها أن "أي" أين وقعت فهي بعض من كل، وهذا هو معنى أَوَيْتُ؛ وذلك أن معنى أويت إلى الشيء تساندت إليه، قال أبو النجم:
يأوي ألى مُلْط له وكَلْكَلِ
أي: يتساند هذا العير إلى ملاطيه وكلكله.
[المحتسب: 1/171]
ونحوه قول طفيل الغنوي:
وآلت إلى أجوازها وتَقَلْقَلت ... قلائد في أعناقها لم تُقَضَّب
فمعنى آلت: أي رجعت، والآوي إلى الشيء: معتصم به وراجع إليه، هذا طريق الاشتقاق.
وأما القياس فكذلك أيضًا؛ وذلك أن باب أويت وطويت وشويت مما عينه واو ولامه ياء أكثر من باب حيِيت وعَيِيت مما عينه ولامه ياءان، ولو نَسبتَ إلى "أَيّ" لقلت: أَوَويّ، كما أنك لو نسبت إلى طيّ ولَيّ لقلت: طَوَوِيّ ولَوَوِيّ، وكذلك لو أضفت إلى الري لكان قياسه رَوَويّ. وأما قولهم: رازِيّ، فشاذ بمنزلة كلابِزِي وإصطخْرِزي.
وأما "كَاءٍ" فوزنه كعف وأصله "كَيَّأٍ"، ومثاله كعلَف، فحذفت الياء الثانية وهي لام الفعل، كما حذفت الثانية من ميت، فبقي كَيْء، ووزنه كَعْف، وقَلْبُ الياء ألفًا لا يخرجها أن تكون كما كانت عينًا، ألا ترى أن وزن قام في الأصل فعل لأنه قوم، ومثال قام في اللفظ فَعْل؟ فالألف عين كما كانت الواو التي الألف بدل منها عينًا، وأيًّا كان مثال "كأي" فإنه كفع؛ لأن الهمزة التي هي فاء عادت إلى مكانها من التقدم.
وأما "كَأٍ" بوزن كَعٍ فإنه كف، والعين واللام محذوفتان.
فإن قيل: لَمَّا حذفت الياء الثانية من "كَيَّأٍ" هلا رددت الواو على مذهبك؛ لأنه قد زالت الياء التي قُلبت لها العين قبلها ياء فقدرته كَوْءٍ.
قيل: لما تُلُعِّب بالكلمة تُنوسى أصلها فصارت الياء كأنها أصل في الحرف، ودعانا إلى اعتماد هذا وإن لم تظهر الياء إلى اللفظ أن الألف أُبدلت منها وهي ساكنة، وقلب الألف من الياء الساكنة أضعاف قلبها من الواو الساكنة، ألا تراهم قالوا: حاحيت وعاعيت وهاهيت، وأصلها: حيحيت وعيعيت وهيهيت، فقلبت الياء ألفًا؟
نعم، وقلبوها مكسورًا ما قبلها ألفًا، فقالوا في الحِيرة: حَارِي، كما قالوا في المفتوح
[المحتسب: 1/172]
ما قبلها: طائي، وقالوا: ضرب عليه سَاية، وهي فَعْلَة من سوَّيت، يُعْنى به الطريق، وأصلها سَوْيَة، فقلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة قبل الياء فصارت سَيّة، ثم قلبت الياء ألفًا فقيل: "ساية"، وهو أولى من أن تكون قلبت الواو من سوية ألفًا قبل القلب والإدغام، وإن أعطيت القول ثني مِقوده طال وطغى وأَمَلَّ وتمادى). [المحتسب: 1/173]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة قتادة: [وكَأَي من نبي قُتِّل معه ربيون كثير] مشددة.
قال أبو الفتح: في هذه القراءة دلالة على أن مَن قرأ مِن السبعة [قُتل] أو {قاتل معه ربيون}، فإن {ربيون} مرفوع في قراءته بقُتِل أو قاتل، وليس مرفوعًا بالابتداء ولا بالظرف الذي هو معه، كقولك: مررت برجل يَقْرأُ عليه سلاح، ألا ترى أنه لا يجوز كم نبي قُتِّل بتشديد التاء على فُعِّل؟ فلا بد إذن أن يكون ربيون مرفوعًا بقتِّل، وهذا واضح.
فإن قلت: فهلا جاز فُعِّل حملًا على معنى كم؟
قيل: لو انصُرِف عن اللفظ إلى المعنى لم يحسن العود من بعد إلى اللفظ، وقد قال تعالى كما تراه: "معه"، ولم يقل: معهم، فافهم ذلك). [المحتسب: 1/173]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة علي وابن مسعود وابن عباس وعكرمة والحسن وأبي رجاء وعمرو بن عبيد وعطاء بن السائب: [رُبِّيون] بضم الراء، وقرأ بفتحها ابن عباس فيما رواه قتاده عنه.
قال أبو الفتح: الضم في [رُبِّيون] تميمية، والكسر ايضًا لغة. قال يونس: الرُّبَّة: الجماعة. وكان الحسن يقول: الرِّبِّيون: العلماء الصُّبُر. قال قطرب: والجماعة أيضًا مع يونس؛ أي: فرق وجماعات.
[المحتسب: 1/173]
وكان ابن عباس يقول: الواحدة رِبْوَة، وهي عنده عشرة آلاف، وأنكرها قطرب، قال: لدخول الواو في الكلمة، وهذا لا يلزم؛ لأنه يجوز أن يكون بنَى من الرِّبوة فعِّيلًا كبطيخ، فصار رِبِّيّ، ومثله من عزوت عِزِّي، ثم جمع فقيل: رِبِّيون، وأما رَبيون بفتح الراء، فيكون الواحد منها منسوبًا إلى الرَّب، ويشهد لهذا قول الحسن: إنهم العلماء الصُّبُر، وليس ننكر أيضًا أن يكون أراد رِبيون ورُبيون، ثم غيَّر الأول لياء الإضافة كقولهم في أمس: إمسي). [المحتسب: 1/174]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن: [فَمَا وَهِنُوا] بكسر الهاء.
قال أبو الفتح: فيه لغتان: وهَن يهِن، ووهِن يوهَن، وقولهم في المصدر: الوهَن بفتح الهاء يُؤنِّس بكسر الهاء من "وهِن"، فيكون كفرِق فرَقًا وحذر حذرًا. وحدثنا أبو علي أن أبا زيد حكى فيه كسر الهاء في الماضي، وقولهم فيه: الوَهْن، بسكون الهاء يؤنس بفتح عين الماضي كفَتَر فَتْرُا). [المحتسب: 1/174]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله} 146
قرأ ابن كثير (وكائن من نبي) على وزن كاعن وحجته قول الشّاعر
وكائن بالأباطح من صديق ... يراني لو أصبت هو المصابا
[حجة القراءات: 174]
وقرأ الباقون {وكأين} على وزن كعين وحجتهم قول الشّاعر
كاين في المعاشر من أناس ... أخوهم فوقهم وهم كرام
وهما لغتان جيدتان يقرأ بهما وكان أبو عمرو يقف على (وكأي) على الياء في قول عبيد الله بن محمّد عن أخيه وعمه عن اليزيدي عن أبي عمرو وقال بعض علمائنا كأنّهم ذهبوا إلى أنّها كانت في الأصل أي مشدّدة زيدت عليها كاف والباقون يقفون {وكأين} بالنّون وحجتهم أن النّون أثبتت في المصاحف للتنوين الّذي في أي ونون التّنوين لم يثبت في القرآن إلّا في هذا الحرف
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (وكأين من نبي قتل) بضم القاف وكسر التّاء أي وكم من نبي قتل قبل محمّد صلى الله عليه ومعه ربيون كثير وحجتهم أن ذلك أنزل معاتبة لمن أدبر عن القتال يوم أحد إذ صاح الصائح قتل محمّد صلى الله عليه فلمّا تراجعوا كان اعتذارهم أن قالوا سمعنا قتل محمّد فأنزل الله {وما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإن مات أو قتل انقلبتم} ثمّ قال بعد ذلك وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير أي جموع كثير فما تضعضع الجموع وما وهنوا لكن قاتلوا وصبروا فكذلك أنتم كان يجب عليكم ألا تهنوا لو قتل نبيكم فكيف ولم يقتل
وقرأ الباقون {قاتل معه} وحجتهم قوله {فما وهنوا} قالوا لأنهم لو قتلوا لم يكن لقوله {فما وهنوا} وجه معروف لأنّه يستحيل أن يوصفوا بأنّهم لم يهنوا بعدما قتلوا وكان ابن مسعود يقول {قاتل} ألا ترى
[حجة القراءات: 175]
أنه يقول {فما وهنوا لما أصابهم} وحجّة أخرى أنه قاتل أبلغ في مدح الجميع من معنى قتل لن الله إذا مدح من قتل خاصّة دون من قاتل لم يدخل في المديح غيرهم فمدح من قاتل أعم للجميع من مدح من قتل دون من قاتل لأن الجميع داخلون في الفضل وإن كانوا متفاضلين). [حجة القراءات: 176]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (75- قوله: {وكأين} قرأه ابن كثير بهمزة مكسورة، بين النون والألف، من غير ياء على وزن «وكاعن»، ولابد من المد، وقرأ الباقون بهمزة مفتوحة بعد الكاف، وبياء مشددة مكسورة على وزن «كعين».
76- ووجه قراءة ابن كثير فيه إشكال، وذلك أن الأصل فيه «كأي» بكاف دخلت على «أي»، لكن كثر استعمالها بمعنى «كم» التي للتكثير، فجعلت كلمة واحدة، فوقع فيها من القلب ما يقع في الكلمة الواحدة، فقلبت الياء المشددة المكسورة في موضع الهمزة، وردت الهمزة في موضع الياء، فصارت «كيئن» مثل «كيعِن» فحذفت الياء الثانية استخفافًا، كما حذفت في «كينونة» واصله «كينونة» فصارت بعد الحذف «كيين» على وزن «فيعل» فأبدلت من الياء الساكنة ألف، كما أبدلوا في «آية» وأصلها عند جماعة النحويين «آية» وهو مذهب سيبويه، وكما قالوا: طائي، والأصل «طيي» بياءين مشددتين؛ لأنه يُنسب إلى «طي»، لكن أبدلوا من الياء الأولى الساكنة ألفًا، فوقعت الياء الثانية بعد ألف زائدة، فأبدلوا منها همزة، كما فعلوا بـ «سقاء وكساء» بل الهمزة فيهما، وفي نحوهما، بدل من ياء، لوقوعها بعد ألف زائدة، فصار بعد القلب والبدل «كأين» كـ «فاعل» من الكون، وأصل النون تنوين، دخل على «أي» لكن لما دخله القلب والبدل، وجعل كلمة واحدة بمعنى «كم» صار التنوين كالنون الأصلية، كما قالوا: لدن غدوة، فنصبوا، جعلوا النون كالتنوين، الذي لا يكون مع إثباته الخفض، فالوجه أن يوقف عليه بالنون، لما ذكرنا، ولأنها نون في المصحف، وقد حكي عن الخليل أنه قال في قراءة ابن كثير: إن الأصل كأي، ثم قدّمت إحدى الياءين في موضع
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/357]
الهمزة، فتحركت بالفتح، كما كانت حركة الهمزة فقلبت ألفًا، وصارت الهمزة ساكنة كما كانت الياء ساكنة، فاجتمع ساكنان الألف والهمزة، فكسرت الهمزة لالتقاء الساكنين، وبقيت إحدى الياءين متطرفة، فزالت حركتها، كما تذهب من «قاض» في الرفع والخفض، فتبقى الياء ساكنة، والتنوين ساكن، فتحذف الياء لالتقاء الساكنين، فتصر كـ «فاعل» من: جاء وشاء تقول: جاءٍ وشاءٍ في الرفع والخفض كـ« قاض وعال»، ويجب على هذا القول أن يوقف عليه بغير نون، وقد روي ذلك عن أبي عمرو، والعمل على الوقف عليه بالنون، في جميع القراءات، اتباعًا لخط المصحف، وقد قيل: قراءة ابن كثير محمولة على أنه فاعل من «الكون»، وهو بعيد في المعنى؛ لأنه لا يدل على «كم» وأيضًا فإن بعده «من» لازمة له، و«من» لا تصحب «كأن» ولا تلزمها وأيضًا فإنه، لو كان فاعلًا من الكون، لأعرب، ولم يبين على السكون.
77- ووجه القراءة بتشديد الياء، وتقديم الهمزة، أنها «أي» دخلت عليها كاف التشبيه، وكثر استعمالها بمعنى «كم» فجعلت كلمة واحدة، وجعل التنوين نونًا أصلية، فوقف عليها بالنون، وقد كان قياسًا أن يوقف بغير نون، كما يوقف على «أي» حيث وقعت، و«كأين» في القراءتين في موضع رفع بالابتداء، و«قتل معه ربيون» الخبر إلا أن تجعل «قتل معه ربيون» صفة لـ «نبي»، فتضمر خبرًا لـ «كأين» وتقديره: وكأين من نبي هذه صفته في الدنيا أو مضى، ونحو ذلك من الإضمار، وليس للتشبيه في الآية لـ «كأين» معنى؛ لأن الكاف قد جعلت مع أي كلمة واحدة، ونقلت عن معنى التشبيه إلى معنى «كم» التي للتكثير ولزمتها «من»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/358]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (78- قوله: {قاتل معه} قرأه الكوفيون وابن عامر بألف، من القتال، وقرأه الباقون «قتل»، من القتل.
79- ووجه القراءة بالألف أنه يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون قد أسند الفعل الذي هو القتال إلى النبي عليه السلام، ويكون {معه ربيون} ابتداء وخبرا، وترفع {ربيون} بالظرف، والجملة صفة لـ {نبي} في الموضعين، ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من المضمر في {قاتل} والهاء في {معه} تعود على ذلك المضمر، وإذا جعلته صفة لـ {نبي} كانت تعود على {نبي}، ودل المعنى على أن «الربيين» قاتلوا أيضًا مع قتال النبي، وحسن ذلك لما روي عن الحسن وغيره أنه قاتل: ما قتل نبي قط في قتال، وكان إضافة القتال إليه أولى من إضافة القتل إليه.
80- والوجه الثاني أن يكون قد أسند الفعل إلى «الربيين» دون النبي، فأخبر عنهم بالقتال دون النبي، فيكون {قاتل معه ربيون} صفة لـ {نبي} و{ربيون} مرفوعون بفعلهم.
81- ووجه القراءة بغير ألف أنه يحتمل أيضًا وجهين: أحدهما أن يكون فعلا، وما بعده صفة للنبي، والفعل مسند إلى النبي بدلالة قوله: {أفإن مات أو قتل} «144» فأخبر أن النبي قد يقتل، وقد قال تعالى: {ويقتلون النبيين} «البقرة 61»، وقال: {فلم تقتلون أنبياء الله} «البقرة 91» وهذا من قتل النبي في غير قتال، فحمل ذلك على هذا المعنى، أنه قتل في غير قتال، وسياق الكلام في قوله: {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله}، وقوله: {وثبت أقدامنا} «147» يدل على أن القتل والقتال كان في الحرب في سبيل الله.
82- والوجه الثاني أن {قتل} وما بعده صفة أيضًا للنبي، والفعل مسند إلى «ربيين» فهم في هذا الوجه مرفوعون بـ {قتل}، على المفعول،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/359]
الذي لم يسم فاعله، وعلى الوجه الأول مرفوعون بالابتداء و{معه} الخبر، أو مرفوعون بالظرف، والجملة في الوجهين صفة لـ {نبي}، وهذا الوجه يقويه قول الحسن المذكور عنه، ويجوز على الوجه الأول، أن يكون {معه ربيون} في موضع الحال من المضمر في {قتل} فتكون الهاء في {معه} تعود على الضمير في {قتل}، ويعود إذا كان {معه ربيون} صفة لـ {نبي} على {نبي} ). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/360]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (35- {وَكَائِنْ} [آية/ 146]:-
بالمد وكسر الهمزة، قرأها ابن كثير وحده.
[الموضح: 384]
ووجهها أن أصل الكلمة أي دخلت الكاف عليها، فصارت بمعنى كم، والنون التي فيها هي التنوين التي كانت في أي، وصارت الكاف مع أيٍّ كالكلمة الواحدة لكثرة استعمالها عندهم، فقلبت قلب الكلمة الواحدة، كما قالوا: رعملي في لعمري، صارت بعد القلب كياءن، فحذفت الياء الثانية كما حذفت في كينونة والأصل: كينونة، فصارت كياءن، ثم أبدلت من الياء الألف، كما أبدلت من طيي، فصاءت كائن بوزن كاعن.
وقرأ الباقون {وَكَأَيِّنْ} مشددة الياء بوزن كعين، وهو الأصل.
واختلفوا في الوقف على هذه الكلمة:
فأبو عمرو ويعقوب يقفان على الياء من غير نون، في وزن كعي، وهذا هو الحكم في أي إذا وقفت عليها.
والباقون يقفون على النون؛ لأن التنوين صار في هذه الكلمة كالنون التي هي من أصل الكلمة، ولا سيما إذا قلبت فصارت: كائن على ما بيناه، إذ تصير النون فيه بمنزلة لام فاعل فيقر نونًا في الوقف بمنزلة ما هو من نفس الكلمة). [الموضح: 385]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (36- {قُتِلَ مَعَهُ} [آية/ 146]:-
بضم القاف من غير ألف، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب.
[الموضح: 385]
والمعنى إن أمم الأنبياء قبلهم قد أتى عليهم القتل، فما وهن باقيهم في سبيل الله بعد من قتلوا منهم. ويجوز أن يكون إسناد القتل إلى ضمير النبي، والتقدير: وكأين من نبي قتل هو ومعه ربيون فما وهنوا بعد قتل النبي، ويؤيد ذلك قوله {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ}.
وقرأ الباقون {قَاتَلَ} بالألف.
وذلك لأن المقاتلين قد مدحوا كما مدح المقتولون، نحو قوله تعالى {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ}). [الموضح: 386]
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)}
قوله تعالى: {فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين