الاستثناء المتعقب جملا متعاطفة
الاستثناء المتعقب جملا يصلح أن يتخصص كل منها بهذا الاستنثاء قال عنه أبو حيان: «هذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه، وفيها خلاف وتفصيل ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك» وكذلك نقل السيوطي في الهمع عن أبي حيان.
وقد عرض لهذا الرضي في [شرح الكافية:1/224] واختار أن يرجع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة قياسا على باب التنازع، وكذلك اختار أبو حيان والمهاباذي، واختار ابن مالك أن يرجع إلى الجمل كلها، واتفقوا على أنه إذا وجدت قرينة معينة عمل بمقتضاها.
وقال الغزالي في [المستصفى:2/174]: «الفصل الثالث في تعقب الجمل بالاستثناء» قال في [ص178]: «الذي يدل على أن التوقف أولى أنه ورد في القرآن الأقسام كلها من الشمول، والاقتصار على الأخير، والرجوع إلى بعض الجمل السابقة،...». وإليك طرفا من نصوص العلماء في هذه المسألة.
في [«الإحكام» للآمدي:2/438]: «الجمل المتعاقبة بالواو إذا تعقبها الاستثناء رجع إلى جميعها عند أصحاب الشافعي رضي الله عنه، وإلى الجملة الأخيرة عند أصحاب أبي حنيفة».
وفي [شرح الإيضاح:2/30]: «إذا تعقب الاستثناء الجمل المعطوفة كآية القذف ينصرف إلى الكل عند الشافعي رحمه الله، وعندنا إلا الأقرب، لقربه واتصاله به، وانقطاعه عما سواه».
وفي [التلويح للتفتازاني:2/30]: «إذا ورد الاستثناء عقيب جمل معطوفة بعضها على بعض بالواو فلا خلاف في جواز رده إلى الجميع وإلى الأخيرة خاصة، وإنما الخلاف في الظهور عند الإطلاق، فمذهب الشافعي رحمه الله أنه ظاهر في العود إلى الجميع، ومذهب أبي حنيفة أنه ظاهر في العود إلى الأخيرة خاصة». وانظر [شرح الجلال المحلى لمتن جمع الجوامع:2/18-20]، [شرح الكافية للرضي:1/224]، [الهمع:1/227].
[دراسات عضيمة: ق1، ج1،ص313]
الآيات
1- {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [2: 249].
في [الكشاف:1/150]: «الاستثناء من الجملة الأولى {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ}».
وفي [البحر:2/265]: «هذا استثناء من الجملة الأولى، وهي قوله تعالى: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي}، والمعنى: أن من اغترف غرفة بيده دون الكروع فهو مني.
والاستثناء إذا اعتقب جملتين أو جملا يمكن عوده إلى كل واحدة منها فإنه يتعلق بالأخيرة، وهذا على خلاف في هذه المسألة مذكور في علم أصول الفقه، فإن دل دليل على تعلقها ببعض الجمل كان الاستثناء منه، وهنا دل دليل على تعلقها بالجملة الأولى».
وفي [العكبري:1/59]: «أنت بالخيار: إن شئت جعلته استثناء من الأولى وإن شئت جعلته من الثانية».
ورد عليه أبو حيان بقوله: «ولا يظهر كونه استثناء من الجملة الثانية؛ لأنه حكم على أن لم يطعمه فإنه منه، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه، والأمر ليس كذلك، لأنه مسموح لهم بالاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه، وهو ظاهر في الاستثناء من الأولى». وانظر [المغني:2/121]، و[تفسير أبي السعود:1/184].
2- {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [4: 92].
في [شرح الجلال المحلى:2/20] «قوله {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} عائد إلى الأخيرة، أي الدية، دون الكفارة قطعا».
يمتنع عوده إلى الإعتاق لأنه حق الله تعالى، وتصدق الولي لا يكون مسقطا لحق الله، انظر [المستصفى:2/179]، [الإحكام:2/444]، [الكشاف:1/290].
3- {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [6: 151].
في [البحر:4/252] «لا يتأتى الاستثناء إلا من القتل، لا من عموم الفواحش» انظر [العكبري:1/148]، [الجمل:2/107].
4- {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا} [24: 4-5].
في [البحر:6/432-433]: «هذا الاستثناء تعقب جملا ثلاثة: جملة الأمر بالجلد، وهو لو تاب وأكذب نفسه لم يسقط عنه حد القذف.
وجملة النهي عن قبول شهادتهم أبدا وقد وقع الخلاف في قبول شهادتهم إذا تابوا، بناء على أن هذا الاستثناء راجع إلى جملة النهي، وجملة الحكم بالفسق، أو هو راجع إلى الجملة الأخيرة وهي الثالثة، وهي الحكم بفسقهم.
والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملا يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء أن يجعل تخصيصا في الجملة الأخيرة، وهذه المسألة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها خلاف وتفصيل، ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهاباذي وابن مالك، فاختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط، واختار المهاباذي أن يعود إلى الجملة الأخيرة، وهو الذي نختاره.....».
وقال الزمخشري: «وجعل يعنى الشافعي الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية، وحق المستثنى عند أن يكون مجرورا بدلا من (هم) في (لهم) وحقه عند أبي حنيفة النصب، لأنه عن موجب.
والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث مجموعهن جزاء الشرط، يعنى الموصول المضمن معنى الشرط، كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته، وفسقوه، أي أجمعوا له الحد والرد والفسق إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فينقلبون غير محدودين، ولا مردودين، ولا مفسقين».
وليس يقتضي ظاهر الآية عود الاستثناء إلى الجمل الثلاث، بل الظاهر هو ما يعضده كلام العرب، وهو الرجوع إلى الجملة التي تليها.
والقول بأنه استثناء منقطع مع ظهور اتصاله ضعيف لا يصار إليه إلا عند الحاجة. [الكشاف:3/62]، وفي [شرح متن جمع الجوامع للجلال المحلى:2/20] «وأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية فإنه عائد إلى الأخيرة، غير عائد إلى الأولى، أي الجلد قطعا، لأنه حق الآدمي فلا يسقط بالتوبة، وفي عوده إلى الثانية، أي عدم قبول الشهادة الخلاف: فعندنا نعم، وعند أبي حنيفة لا».
وفي [«الإحكام» للآمدي:2/444]: «وأما النص فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ...} فإنه راجع إلى قوله تعالى: {وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ولم يرجع إلى الجلد بالاتفاق... قلنا: أما الآية الأولى فلا نسلم اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة منها، بل هو عائد إلى جميع الجمل عدا الجلد، لدليل دل عليه: وهو المحافظة على حق الآدمي وانظر [شرح التوضيح على التنقيح لصدر الشريعة:2/28]، [التلويح لسعد الدين التفتازاني:2/29] «[شرح الإيضاح:2/30-31]، [المستصفى للغزالي:2/178]، [الكشاف:3/62]، الرضي على [شرح الكافية:1/224]، [العكبري:2/80]، عند غير الله لوجدوا فيه التناقض إلا القليل منهم، وهو من لا يمعن النظر».
وفي [القرطبي:3/1862]: «في هذه الآية ثلاثة أقوال: قال ابن عباس وغيره:
المعنى: إذاعوا به إلا قليلا منهم لم يذع ولم يفش وقاله جماعة من النحويين: الكسائي والأخفش وأبو عبيد وأبو حاتم والطبري.
وقيل: المعنى: لعلمه الذي يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم، عن الحسن وغيره.
واختاره الزجاج قال: لأن هذا الاستنباط الأكثر يعرفه؛ لأنه استعلام خبر، واختار الأول الفراء... قال النحاس: فهذان قولان على المجاز، يريد أن في الكلام تقديما تأخيرا.
وقول ثالث بغير مجاز: يكون المعنى: ولولا فضل الله ورحمته بأن بعث فيكم رسولا أقام فيكم الحجة لكفرتم وأشركتم إلا قليلا منكم فإنه كان يوحد.
وفيه قول رابع: قال الضحاك: المعنى لا تبعتم الشيطان إلا قليلا، أي إن أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم حدثوا أنفسهم بأمر من الشيطان إلا قليلا، يعني الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، وعلى هذا القول يكون قوله {إِلَّا قَلِيلًا} مستثنى من قوله: {لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} قال المهدوي: وأنكر هذا القول أكثر العلماء؛ إذ لولا فضل الله ورحمته لاتبع الناس كلهم الشيطان».
وانظر [الكشاف:1/286]، [البحر:3/307-308]، و[أبو السعود:1/365]، و[الجمل:1/405]، و[المستصفى:2/179].
7- {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [65: 1].
وفي [تفسير أبي السعود:5/170]: «استثناء من الأول، قيل: هي الزنا، فيخرجن لإقامة الحد عليهن، وقيل: إلا أن يبذون على الأزواج، فيحل حينئذ إخراجهن ويؤيده قراءة {إِلَّا أَنْ يفحشن عليكم}.
أو من الثاني للمبالغة في النهي عن الخروج ببيان أن خروجهن فاحشة».
انظر [القرطبي:8/6635]، [البحر:8/282]، [الجمل:4/349]. [القرطبي:5/4571].
5- {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [26: 75-77].
في [البحر:7/24]: «الظاهر إقرار الاستثناء في موضعه من غير تقديم ولا تأخير وقال الجرجاني: تقديره: ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي ) ، و (إلا) بمعنى دون سوى، فجعله مستثنى مما بعد {كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} ولا حاجة إلى هذا التقدير؛ لصحة أن يكون مستثنى من قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} وجعله جماعة منهم الفراء وتبعه الزمخشري استثناء منقطعا، أي لكن رب العالمين؛ لأنهم فهموا من قوله: {مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} أنها الأصنام.
وأجاز الزجاج أن يكون استثناء متصلا على أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأصنام». انظر [معاني القرآن:2/281]، [الكشاف:3/117]، [القرطبي:6/4826].
6- {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [4: 83].
في [معاني القرآن:1/279-280]: «قال المفسرون: معناه: لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلا، ويقال: أذاعوا به إلا قليلا، وهو أجود الوجهين؛ لأن علم السرايا إذا ظهر علمه المستنبط وغيره، والإذاعة قد تكون في بعضهم دون بعض؛ فلذلك استحسنت الاستثناء من الإذاعة».
في [العكبري:1/106]: «{إِلَّا قَلِيلًا} مستثنى من فاعل {لَاتَّبَعْتُمُ} والمعنى: لولا أن من الله عليكم لضللتم بإتباع الشيطان إلا قليلا منكم، وهو من مات في الفترة، أو من كان غير مكلف».
وقيل هو مستثنى من قوله تعالى: {أَذَاعُوا بِهِ} أي أظهروا ذلك الأمر والخوف إلا القليل منهم.
وقيل: هو مستثنى من قوله: {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}، أي لو كان من
8- {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} [11: 81].
{إِلَّا امْرَأَتَكَ} مستثنى من أحد أو من {أَهْلِكَ} وتقدم الحديث عن هذه الآية [ص160].
9- {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [5: 33-34].
في [شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع:2/19]: «عائد إلى الجميع، قال ابن السمعاني: إجماعا.
وفي حاشية البنان: أي جميع قوله {أَنْ يُقَتَّلُوا} وما بعده، وأنت خبير بأن هذه مفردات، لا جمل، وجوابه: أنهم تسمحوا في عد مثل هذه جملا نظرا إلى أصلها قبل دخول (أن) والتسمح بمثل ذلك جائز سائغ لا ينكر».
10- {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [25: 68-70].
في [شرح الجلال المحلى:2/19]: «الاستثناء عائد على جميع ما تقدمه.
قال السهيلي: بلا خلاف». وانظر [كلام البنان في الحاشية].
[دراسات عضيمة: ق1، ج1،ص314]