قوله تعالى{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا(93)}
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (سورة النساء) قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه
جهنم خالدا فيها...} الآية [93 مدنية / النساء / 4] نسخت بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [48، 116 / النساء / 4] وبالآية التي في الفرقان {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} إلى قوله تعالى: {إلا من تاب} [68 مدنية / الفرقان / 25].[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 31-35]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (سورة النساء)قال جلّ وعزّ: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا} [النساء: 93]
فمن العلماء من قال: لا توبة لمن قتل مؤمنًا متعمّدًا وبعض من قال هذا قال الآية الّتي في الفرقان منسوخةٌ بالآية الّتي في النّساء فهذا قولٌ
ومن العلماء من قال: له توبةٌ لأنّ هذا ممّا لا يقع فيه ناسخٌ ولا منسوخٌ لأنّه خبرٌ ووعيدٌ
ومن العلماء من قال اللّه جلّ وعزّ متولٍّ عقابه تاب أو لم يتب إن شاء عذّبه وإن شاء عفا عنه وإن شاء أدخله النّار وأخرجه منها
ومن العلماء من قال المعنى فجزاؤه جهنّم إن جازاه
ومن العلماء من قال التّقدير ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا مستحلًّا لقتله فهذا جزاؤه لأنّه كافرٌ
قال أبو جعفرٍ: فهذه خمسة أقوالٍ
فالقول الأوّل أنّه لا توبة للقاتل مرويٌّ عن زيد بن ثابتٍ وابن عبّاسٍ
كما قرئ على أحمد بن محمّد بن الحجّاج، عن يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، قال: حدّثني اللّيث بن سعدٍ، قال أخبرني خالدٌ، وهو ابن يزيد، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن جهم بن أبي الجهم، أنّ أبا الزّناد، أخبره، أنّ، خارجة بن زيدٍ
أخبره، عن، أبيه، زيد بن ثابتٍ قال: " لمّا نزلت الآية الّتي في الفرقان {والّذين لا يدعون مع اللّه إلهًا آخر ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ ولا يزنون}[الفرقان: 68] عجبنا للينها فنزلت الّتي في النّساء {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا} [النساء: 93] حتّى فرغ
وقرئ على أبي عبد الرّحمن أحمد بن شعيبٍ، عن عمرو بن عليٍّ، قال: حدّثنا يحيى، قال حدّثنا ابن جريجٍ، قال أخبرني القاسم بن أبي بزّة، عن سعيد بن جبيرٍ، قال سألت ابن عبّاسٍ: " هل لمن قتل مؤمنًا متعمّدًا من توبةٍ؟ قال: لا وقرأت عليه الآية الّتي في الفرقان {والّذين لا يدعون مع اللّه إلهًا آخر} [الفرقان: 68] فقال هذه آيةٌ مكّيّةٌ نسختها آيةٌ مدنيّةٌ {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه جهنّم خالدًا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه} [النساء: 93]
قال أبو عبد الرّحمن، وأخبرنا قتيبة، قال: حدّثنا سفيان، عن عمّارٍ الدّهنيّ، عن سالم بن أبي الجعد، أنّ ابن عبّاسٍ، سئل عمّن قتل مؤمنًا متعمّدًا ثمّ تاب وآمن وعمل صالحًا ثمّ اهتدى فقال: " وأنّى له بالتّوبة وقد سمعت نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((يجيء متعلّقًا بالقاتل تشخب أوداجه دمًا يقول أي ربّ سل هذا فيم قتلني)) ثمّ قال ابن عبّاسٍ: واللّه لقد أنزلها اللّه تعالى ثمّ ما نسخها
قال أبو عبد الرّحمن، وأخبرنا يحيى بن حكيمٍ، قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، قال: حدّثنا شعبة، عن يعلى بن عطاءٍ، عن أبيه، عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال: ((لزوال الدّنيا أهون على اللّه تعالى من قتل رجلٍ مسلمٍ))
قال أبو عبد الرّحمن، وأخبرنا أحمد بن فضالة، قال حدّثنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن أيّوب، عن الحسن، عن الأحنف بن قيسٍ، عن أبي بكر، قال: سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يقول «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النّار» قيل: يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنّه أراد أن يقتل صاحبه»
قال أبو جعفرٍ: فهذه أحاديث صحاحٌ يحتجّ بها أصحاب هذا القول مع ما روى عبد اللّه بن مسعودٍ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((سباب المسلم فسوقٌ وقتاله كفرٌ))
وعنه عليه السّلام: ((لا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعضٍ))
ومن أعان على قتل مسلمٍ بشطر كلمةٍ جاء يوم القيامة مكتوبٌ بين عينيه يائسٌ من رحمة اللّه " جلّ وعزّ
قال أبو جعفرٍ: والقول الثّاني أنّ له توبةً قول جماعةٍ من العلماء منهم عبد اللّه بن عمر وهو أيضًا مرويٌّ عن زيد بن ثابتٍ، وابن عبّاسٍ
كما قرئ على بكر بن سهلٍ، عن عبد اللّه بن صالحٍ، قال حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عبد الوهّاب بن بختٍ، عن نافعٍ، أو سالمٍ، أنّ رجلًا سأل عبد اللّه بن عمر فقال: يا أبا عبد الرّحمن كيف ترى في رجلٍ قتل رجلًا عمدًا؟ قال: «أأنت قتلته؟» قال: نعم، قال: «تب إلى اللّه جلّ وعزّ يتب عليك»
وحدّثنا عليّ بن الحسين، قال: حدّثنا الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أنبأنا أبو مالكٍ الأشجعيّ، عن سعد بن عبيدة، قال: جاء رجلٌ إلى ابن عبّاسٍ فقال: «ألمن قتل مؤمنًا متعمّدًا توبةٌ؟» قال: «لا
إلّا النّار» قال: فلمّا ذهب قال له جلساؤه أهكذا كنت تفتينا كنت تفتينا أنّ لمن قتل توبةً مقبولةً قال: «إنّي لأحسبه رجلًا مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا قال فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك»
قال أبو جعفرٍ: وأصحاب هذا القول حججهم ظاهرةٌ منها قول اللّه جلّ وعزّ: {وإنّي لغفّارٌ لمن تاب وآمن} [طه: 82] {وهو الّذي يقبل التّوبة عن عباده} [الشورى: 25] وقد بيّنّا في أوّل هذا الكتاب أنّ الأخبار لا يقع فيها نسخٌ
وقد اختلف عن ابن عبّاسٍ، أيضًا فروي عنه، أنّه قال: نزلت في أهل الشّرك يعني الّتي في الفرقان
وعنه نسختها الّتي في النّساء
فقال بعض العلماء: معنى نسختها نزلت بنسختها
قال أبو جعفرٍ: وليس يخلو أن تكون الآية الّتي في النّساء نزلت بعد الّتي في الفرقان كما روي عن زيدٍ، وابن عبّاسٍ على أنّه قد روي عن زيدٍ أنّ الّتي في الفرقان نزلت بعدها أو يكون هذا وتكون الّتي في الفرقان نزلت بعدها أو تكونا نزلتا معًا وليس ثمّ قسمٌ رابعٌ
فإن كانت الّتي في النّساء نزلت بعد الّتي في الفرقان فهي مبيّنةٌ عليها كما أنّ قوله {إنّه من يشرك باللّه فقد حرّم اللّه عليه الجنّة} [المائدة: 72] مبنيٌّ على: {قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]
وإن كانت الّتي في الفرقان نزلت بعد الّتي في النّساء فهي مبيّنةٌ لها فإن كانتا نزلتا معًا فإحداهما محمولةٌ على الأخرى وهذا بابٌ من النّظر إذا تدبّرته علمت أنّه لا مدفع له مع ما يقوّي ذلك من المحكم الّذي لا ينازع فيه وهو قوله {وإنّي لغفار لمن تاب وآمن} [طه: 82]
وأمّا القول الثّالث أنّ أمره إلى اللّه جلّ وعزّ تاب أو لم يتب فعليه الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه والشّافعيّ أيضًا يقول في كثيرٍ من هذا إلّا أن يعفو اللّه عنه أو معنى هذا
وأمّا القول الرّابع وهو قول أبي مجلزٍ إنّ المعنى إن جازاه فالغلط فيه بيّنٌ وقد قال اللّه تعالى: {ذلك جزاؤهم جهنّم بما كفروا} [الكهف: 106] ولم يقل أحدٌ معناه إن جازاهم وهو خطأٌ في العربيّة لأنّ بعده {وغضب اللّه عليه} [النساء: 93] وهو محمولٌ على معنى جازاه
وأمّا القول الخامس إنّ المعنى {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا} [النساء: 93] مستحلًّا لقتله فغلطٌ لأنّ من عامٌّ لا يخصّ إلّا بتوقيفٍ أو دليلٍ قاطعٍ، وهذا القول يقال إنّه
قول عكرمة لأنّه ذكر أنّ الآية نزلت في رجلٍ قتل مؤمنًا متعمّدًا ثمّ ارتدّ
قال أبو جعفرٍ: فهذه عشر آياتٍ قد ذكرناها في سورة النّساء ورأيت بعض المتأخّرين قد ذكر آيةً سوى هذه العشر وهي قوله عزّ وجلّ {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا} [النساء: 101]
قال أبو جعفرٍ: وإنّما لم أفرد لها بابًا لأنّه لم يصحّ عندي أنّها ناسخةٌ ولا منسوخةٌ ولا ذكرها أحدٌ من المتقدّمين بشيءٍ من ذينك فنذكر قوله وليس يخلو أمرها من إحدى ثلاث جهاتٍ ليس في واحدةٍ منهنّ نسخٌ وذلك أنّ الّذي قال: هي منسوخةٌ يحتجّ بأنّ اللّه جلّ وعزّ قال: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا} [النساء: 101] قال فكان في هذا منعٌ من قصر الصّلاة إلّا في الخوف ثمّ صحّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قصر في غير الخوف آمنٌ ما كان النّاس في السّفر،
فجعل فعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ناسخًا للآية وهذا غلطٌ بيّنٌ لأنّه ليس في الآية منعٌ للقصر في الأمن وإنّما فيها إباحة القصر في الخوف فقط
والجهات الّتي فيها عن العلماء المتقدّمين منهنّ أن يكون معنى أن تقصروا من الصّلاة أن تقصروا من حدودها في حال الخوف وذلك ترك إقامة ركوعها وسجودها وأداؤها كيف أمكن، مستقبل القبلة ومستدبرها وماشيًا وراكبًا في حال الحرب وهي حال الخوف كما قال تعالى: {فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا} [البقرة: 239] وهكذا يروى عن ابن عبّاسٍ وهذا قولٌ وهو اختيار محمّد بن جريرٍ واستدلّ على صحّته بأنّ بعده {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصّلاة} [النساء: 103] فإقامتها إتمام ركوعها وسجودها وسائر فرائضها وترك إقامتها في غير الطّمأنينة هو ترك إقامة هذه الأشياء
ومن الجهات في تأويل الآية أنّ جماعةً من الصّحابة والتّابعين قالوا: قصر صلاة الخوف أن يصلّي ركعةً واحدةً لأنّ صلاة المسافر ركعتين ليس بقصرٍ لأنّ فرضها ركعتان وممّن صحّ عنه: فرضت الصّلاة ركعتيٍن ثمّ أتمّت
صلاة المقيم وأقرّت صلاة المسافر بحالها عائشة رضي اللّه عنها، وممّن قال صلاة الخوف ركعةٌ واحدةٌ حذيفة، وجابر بن عبد اللّه، وسعيد بن جبيرٍ وهو قول ابن عبّاسٍ
كما قرئ على محمّد بن جعفر بن حفصٍ، عن خلف بن هشامٍ المقرئ، قال: حدّثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «فرض اللّه جلّ وعزّ الصّلاة على لسان نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم للمقيم أربعًا وللمسافر ركعتين وفي الخوف ركعةً»
قال أبو جعفرٍ: وفي الآية قولٌ ثالثٌ عليه أكثر الفقهاء وذلك أن تكون صلاة الخوف ركعتين مقصورةً من أربعٍ في كتاب اللّه جلّ وعزّ وصلاة السّفر في الأمن ركعتان مقصورةً في سنّة رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم لا بالقرآن ولا بنسخٍ للقرآن
ويدلّك على صحّة هذا ما قرئ على يحيى بن أيّوب، عن ابن أبي مريم، قال: حدّثنا يحيى بن أيّوب قال: أخبرني ابن جريجٍ، أنّ عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن أبي عمّارٍ حدّثه، عن عبد اللّه بن بابيه عن يعلى بن أميّة أنّه قال: سألت عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه قلت: أرأيت قول اللّه عزّ وجلّ {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا} [النساء: 101] من الصّلاة إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا، فقد زال الخوف فما بال القصر؟ فقال: عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فقال: ((هي صدقةٌ تصدّق اللّه بها عليكم فاقبلوها))
قال أبو جعفرٍ: فلم يقل عليه السّلام قد نسخ ذلك وإنّما نسبه عليه
السّلام إلى الرّخصة فصحّ قول من قال قصر صلاة السّفر بالسّنّة وقصر صلاة الخوف بالقرآن، ولا يقال منسوخٌ لما ثبت في التّنزيل وصحّ فيه التّأويل إلّا بتوقيفٍ أو بدليلٍ قاطعٍ ). [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/138-231]
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ):(سورة النساء)قوله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنّم خالدا فيها} الآية وذلك أن مقيس ابن أبي صبابة التّيميّ قتل قاتل أخيه بعد أخذ الدّية ثمّ ارتدّ كافرًا فلحق بمكّة فانزل الله تعالى فيه هذه الآية وأجمع المفسّرون من الصّحابة والتّابعين على نسخ هذه الآية إلّا عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن عمر فإنّهما قالا إنّها محكمة قال الشّيخ هبة الله والدّليل على ذلك تكاثف الوعيد فيها وروي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه ناظر ابن عبّاس فقال من أين لك أنها محكمة قال ابن عبّاس لتكاثف الوعيد فيها فكان ابن عبّاس مقيما على إحكامها
وقال أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه نسخها الله تعالى بآيتين آية قبلها وآية بعدها في النّظم وهو قوله تعالى {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} إلى قوله {إثمًا عظيما} وبآية بعدها في النّظم وهو قوله تعالى {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} إلى قوله {ضلالاً بعيداً} وقال المفسّرون نسخها الله تعالى بقوله {والّذين لا يدعون مع الله إلها آخر} إلى قوله {ويخلد فيه مهاناً} ثمّ استثنى بقوله {إلّا من تاب}[الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 65-78]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (سورة النساء مدنية)قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا} الآية:
قال أبو محمد: هذه الآية تحتاج إلى بسط يطول، وقد كنت أردت أن أفرد لها كتابًا مفردًا لكن أذكر في هذا الكتاب ما يليق به ويكتفى به عن غيره فأقول: إن القتل متعمدًا من أعظم الذنوب وأجلّ الكبائر. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من لقي الله ولم يشرك به شيئًا ولم يقتل نفسًا مؤمنة لقي الله خفيف الظهر))، وروى أشهب أن مالكًا قال إنه كان يقال: من لقي الله ولم يشرك في دم مسلم لقي الله وهو خفيف الظهر. والقتل ذنب عظيم، ليس بعد الشرك ذنب أعظم منه، وقد اختلف في التوبة منه، وفي معنى الآية على ما نذكره ونبيّنه. وهذه الآية عند بعض العلماء ناسخةٌ للّتي في الفرقان قوله تعالى: {إلاّ من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا} [الفرقان: 70]، وهو مروي عن ابن عباس؛ لأن الفرقان مكية والنساء مدنية، وروي أن آية سورة الفرقان نزلت قبل آية النساء بستّة أشهر رواه زيد بن ثابت وغيره.
قال أبو محمد: والنسخ في آية الفرقان لا يحسن لأنه خبر، والأخبار لا تنسخ بإجماع؛ لأن الخبر لو نسخ لكان قد أتي به على غير ما هو به من الصدق، ويتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فالآيتان محكمتان، وآية النّساء في القتل محمولة على أحد ثلاثة معانٍ قد قالها العلماء:
قال إبراهيم التيمي وغيره: معناها: فجزاؤه ذلك إن جازاه، وكذلك روى عاصم بن أبي النجود عن ابن جبير عن ابن عباس أنه قال: هو جزاؤه إن جازاه.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: للقاتل توبة.
وقد روى ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام قال في الآية: ((هو جزاؤه إن جازاه)).
وقد قال من اعتقد هذا: إن الله إذا وعد الحسنى وفى ولم يخلف، وإذا وعد بالعذاب جاز أن يعفو.
ويشهد لهذا ما رواه ثابتٌ البنانيّ عن أنسٍ بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من وعده الله على عمله ثوابًا فهو منجزه له، ومن أوعده على عمله عقابًا فهو فيه بالخيار)) من رواية ابن عايد.
وهذا هو مذهب أهل السّنّة في الوعد والوعيد. فهي محكمة. وهذا تأويلها عند جماعة من أهل العلم. فالمشيئة في القاتل عمدًا إلى الله، إن شاء جازاه وإن شاء عفى عنه إذا تاب.
فأمّا من مات وهو مصرٌّ على استحلال القتل وفعله فهو بعيدٌ من المغفرة؛ لأن من رأى أن ما حرّم الله حلال فهو كافر. وفي القاتل المتأوّل اختلاف.
والمعنى الثاني: أن يكون معنى الآية: ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا مستحلاً لقتله، ولا يستحلّ ما حرّم الله إلا كافر، والكافر مخلّد في النار بإجماع إذا مات على كفره.
والمعنى الثالث: أنه قيل: إنها نزلت في رجل بعينه من الأنصار قتل له وليٌّ فقبل الدّية، ثم وثب فقتل القاتل بعد أخذه للدّية وارتدّ وهو قول مروي عن ابن جريج وغيره.
وقد قيل: إنها نزلت في رجل أسلم، ثم ارتدّ وقتل رجلاً مسلمًا
مستحلاً لقتله، وهو معنى القول الأول الذي قبله.)[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 207-253]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم} الآية.
اختلف العلماء هل هذه محكمةٌ أم منسوخةٌ على قولين:
أحدهما: (أنّها) منسوخةٌ وهو قول جماعةٍ من العلماء قالوا: بأنّها حكمت بخلود القاتل في النّار، وذلك منسوخٌ بقوله تعالى: {إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
وقال بعضهم: نسخها قوله تعالى: {والّذين لا يدعون مع اللّه إلهاً آخر} إلى قوله: {إلاّ من تاب}.
وحكى أبو جعفرٍ النّحّاس: أنّ بعض العلماء قال: معنى نسختها آية (الفرقان) أي: نزلت بنسختها.
والقول الثّاني: أنّها محكمةٌ. واختلف هؤلاء في طريق أحكامها على
قولين:
أحدهما: أنّ قاتل المؤمن مخلّدٌ في النّار، وأكدّوا هذا بأنّها خبرٌ، والأخبار لا تنسخ.
أخبرنا يحيى بن ثابت بن بندارٍ، قال: أبنا أبي، قال: أبنا أبو بكرٍ البرقانيّ قال: أبنا أحمد بن إبراهيم الإسماعيليّ، قال: أخبرني البغوي، قال: بنا عليّ بن الجعد، قال: أبنا شعبة، عن المغيرة بن النّعمان، قال: سمعت سعيد بن جبيرٍ، قال: اختلف أهل الكوفة في هذه الآية {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً} قال: (فرحلت فيها إلى ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: لقد
نزلت في آخر ما نزلت وما نسخها شيءٌ).
وعن شعبة عن منصورٍ قال: سمعت سعيد بن جبيرٍ قال: سألت ابن عباس عن قول الله عز وجل: {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً} قال: لا توبة له.
أخبرنا ابن الحصين، قال: أبنا غيلان، قال: أبنا أبو بكرٍ الشّافعيّ، قال: أبنا إسحاق بن الحسن، قال: أبنا ابن حذيفة النهدي، قال: بنا سفيان الثّوريّ، عن المغيرة بن النّعمان، عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً} قال: ليس لقاتل مؤمنٍ توبةٌ، ما نسختها آيةٌ منذ نزلت.
أخبرنا سعيد بن أحمد، قال: أبنا ابن اليسريّ، قال: أبنا المخلص، قال: بنا البغوي، قال: بنا عثمان بن أبي شيبة، قال: بنا أبو خالدٍ الأحمر، عن عمر بن قيس الملاي، عن يحيى الجابر، عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنّه تلا هذه الآية: {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم} حتّى فرغ منها، فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحًا ثمّ اهتدى.
قال ابن عبّاسٍ: وأنّى له التّوبة قد سمعت نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم
يقول: (ثكلته أمّه، قاتل المؤمن إذا جاء يوم القيامة واضعًا رأسه على إحدى يديه آخذًا بالأخرى القاتل (تشخب) أوداجه قبل عرش الرحمن عز وجل فيقول: ربّ سل هذا فيم قتلني؟ قال: وما نزلت في كتاب الله عز وجل آيةٌ نسختها.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد اللّه، قال: أبنا ابن بشران، قال: أبنا إسحاق ابن أحمد، قال: أبنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، قال: حدثني أبي، قال: بنا يحيى بن سعيدٍ، عن شعبة، قال بنا مغيرة بن النّعمان عن سعيد بن جبيرٍ، قال: اختلف أهل الكوفة في هذه الآية: {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً} فرحلت إلى ابن أبي عبّاسٍ رضي الله عنها فقال: إنّها من آخر ما نزل، وما نسخها شيءٌ.
قال أحمد: وبنا يحيى بن سعيدٍ، عن ابن جريج، قال: حدثني القاسم ابن أبي بزّة عن سعيد بن جبيرٍ، قال: قلت لابن عبّاسٍ: هل لمن قتل مؤمنًا متعمّدًا من توبةٍ؟ قال: لا. فتلوت هذه الآية الّتي في الفرقان {إلاّ من تاب وآمن} فقال: هذه الآية مكّيّةٌ نسختها آيةٌ مدنيّةٌ
{ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم}.
قال أحمد: وبنا حسين بن محمد قال بنا سفيان، عن أبي الزّياد، قال: سمعت شيخنا يحدّث خارجة بن زيد بن ثابتٍ، قال: سمعت أباك، (قال) : نزلت الشّديدة بعد الهيّنة بستّة أشهرٍ قوله: {ولا يقتلون النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ} وقوله: {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم}.
وقد روي عن ابن عبّاسٍ ما يدلّ على أنّه قصد التّشديد بهذا القول.
فأخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريشٍ قال: بنا إبراهيم بن عمر قال: أبنا محمّد بن إسماعيل قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمّد بن عبد الملك، قال: أبنا يزيد بن هرون، قال: أبنا أبو مالكٍ، قال: بنا سعد بن عبيدة، أنّ ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما كان يقول: لمن قتل المؤمن توبةٌ، فجاءه رجلٌ فسأله، ألمن قتل مؤمناً توبة؟ قال: لا إلا النّار. فلمّا قام قال له جلساؤه: ما هكذا؟ كنت تفتينا أنّه لمن قتل مؤمنًا متعمّدًا توبةٌ مقبولةٌ، فما شأن هذا اليوم؟ قال: إنّي أظنّه رجلا مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا، فبعثوا في أثره فوجدوه
كذلك.
قال أبو بكر بن أبي داود: وقد روي عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أن (للقاتل) توبة.
وقد روى سعيد بن (ميناء) عن عبد اللّه بن عمر، قال: (سأله) رجلٌ، قال: إنّي قتلت رجلا فهل لي من توبةٍ؟ قال: تزوّد من الماء البارد، فإنّك لا تدخلها أبدًا.
وقد روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما ضدّ هذا، فإنّه قال للقاتل: "تب إلى اللّه يتب عليك"
وروى سعيد بن مينا) عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: جاءه رجلٌ فقال: يا أبا هريرة، ما تقول في قاتل المؤمن، هل له من توبةٍ؟ قال: والّذي لا إله إلا هو لا يدخل الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط.
والقول الثّاني: أنّها عامّةٌ دخلها التّخصيص، بدليل أنّه لو قتله كافرٌ ثمّ أسلم الكافر سقطت عنه العقوبة في الدّنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العامّ المخصّص، فأيّ دليلٍ صلح للتّخصيص وجب العمل به. ومن أسباب التّخصيص أن يكون قد قتله مستحلًّا لأجل إيمانه فيستحق التخليد لاستحلاله.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريشٍ، قال: أبنا إبراهيم بن عمر البرمكيّ، قال: أبنا محمّد بن إسماعيل بن العبّاس، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا الحسن بن عطاءٍ، وأحمد بن محمد الحسين، قالا: بنا خلاد بن يحيى، قال بنا أنس بن مالكٍ الصّيرفيّ أبو رويّة عن أنس بن مالكٍ، قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سريّةً وعليها أميرٌ فلمّا انتهى إلى أهل ماءٍ خرج إليه رجلٌ من أهل الماء فخرج إليه رجلٌ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: إلى ما تدعو؟ فقال: إلى الإسلام، قال: وما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّدًا عبده ورسوله، وأن تقرّ بجميع الطّاعة، قال: هذا؟ قال: نعم. فحمل عليه فقتله لا يقتله إلا على الإسلام، فنزلت: {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً} لا يقتل إلا على إيمانه الآية كلّها.
قال سعيد بن جبيرٍ: نزلت في (مقيس بن ضبابة) قتل مسلمًا عمدًا وارتدّ كافرًا.
وقد ضعّف هذا الوجه أبو جعفرٍ النّحّاس فقال: ومن لفظٍ عامٍّ لا يخصّ إلا (بتوقيفٍ) أو دليلٍ قاطعٍ.
وقد ذهب قومٌ إلى أنّها مخصوصةٌ في حقّ من لم يتب، بدليل قوله تعالى: {إلاّ من تاب}.
والصّحيح أنّ الآيتين محكمتان، فإن كانت الّتي في النّساء أنزلت أوّلا فإنّها محكمةٌ نزلت على حكم الوعيد غير مستوفاةٍ الحكم، ثمّ بيّن حكمها
في الآية الّتي في الفرقان، وكثيرٌ من المفسرين منهم ابن عباس وأبوا مجلز وأبو صالحٍ. يقولون: فجزاؤه جهنّم إن جازاه. وقد روى لنا مرفوعًا إلا أنّه لا يثبت رفعه. والمعنى: يستحقّ الخلود غير أنّه لا يقطع له به.
وفي هذا الوجه بعدٌ لقوله: {وغضب اللّه عليه ولعنه}. فأخبر بوقوع عذابه كذلك، وقال أبو عبيدٍ: وإن كانت الّتي في الفرقان الأولى فقد استغنى بما فيها عن إعادته في سورة النّساء فلا وجه للنّسخ بحال.)[نواسخ القرآن: 247-296]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (سورة النساء){ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم} ذهب الأكثرون إلى أنها منسوخة بقوله {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقال قوم هي محكمة ولهم في طريق إحكامها قولان أحدهما أن قاتل المؤمن مخلد في النار وأكدها هنا بأنها خبر والثاني أنّها عامّةٌ دخلها التّخصيص بدليل أنّه لو قتله كافر ثم أسلم سقطت عنه العقوبة في الدّنيا والآخرة فإذا ثبت كونها من العامّ المخصّص فأيّ دليلٍ صلح للتّخصيص وجب العمل به ومن أسباب التخصيص أن يكون قتله مستحلا لأجل إيمانه فاستحق التخليد لاستحلاله وذهب قومٌ إلى أنّها مخصوصةٌ في حقّ من لم يتب وقيل فجزاؤه جهنم إن جازاه وفيه بعد لقوله {وغضب اللّه عليه ولعنه} )[المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 23-26]
روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين