أنواع بركة القرآن في الدنيا
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع بركة القرآن في الدنيا
وأنواع بركة القرآن كثيرة يتعذّر حصرها واستقصاؤها.
· وأصل بركاته وأعظمها: ما تضمّنه من بيان الهدى والتبصير بالحقائق في كل ما يُحتاج إليه؛ كما قال الله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}.
وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}.
وقال تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل}.
وقال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}
والبصيرة هي أصل الهداية ؛ فإنّ من تبصّر عرف فاعتبر وادّكر، وحاجة العبد إلى التبصّر دائمة متعددة، ولذلك يزداد العبد بصيرة كلما أحسن تدبر القرآن كما قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} ، والتذكّر ثمرة التبصّر.
وبركة بصائر القرآن لها أصل وأنواع؛ فأصلها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
وأما أنواعها وتفصيلاتها فكثيرة متجددة، وكم من حَدَثٍ عارضٍ يحارُ فيه المؤمن ثمّ يجد البصيرة فيه في كتاب الله تعالى.
وكل بصيرة يتبصّر بها العبد بالقرآن فهي من آثار بركة القرآن؛ لأنها تعرّفه بحقيقة الأمر، وتدلّه على الهدى، وتحذّر من مخالفته، وتبيّن له زيف ما تُزيّن به الضلالة من زخرف القول وأباطيل الشُّبه؛ فللبصيرة الواحدة بركات متعددة، وهكذا في كلّ بصيرة يتبصّر بها العبد من القرآن؛ فكم من إنسان سعد بآية قرأها فاعتبر بها؛ أو سمعها فاهتدى بها.
· ومن بركات القرآن: أنّه حياة للمؤمن ورفعة له؛ وقد وصفه الله بأنّه روح لما يحصل به من الحياة الحقيقية، التي هي حياة القلب.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..}
وكلما ازداد نصيب العبد من الإيمان بالقرآن وتلاوته واتّباع هداه ازداد نصيبه من بركته والحياة به حتى يكون القرآنُ ربيعَ قلبه؛ لما يرى من حسنه وبركاته، وكثرة ما ينتفع به من ثمراته؛ فهو كالمقيم في الربيع يعجبه حسنه ويجد من رَوحه وطيبه، وينتفع بأنواع الثمرات التي يجتنيها منه، وكذلك حال صاحب القرآن، جنّته في صدره؛ يأنس به، ويتبصّر به، ويحيا به، ويجد من أنواع بركاته ما تقرّ به عينه، وتطيب به حياته.
· ومن بركته على النفس المؤمنة به: أنه يجلو الحزن، ويذهب الهمّ، وينير البصيرة، ويُصلح السريرة، ويشفي ما في الصدر، فيطمئنّ به القلب، وتزكو به النفس، ويحصل به اليقين، ويزداد به الإيمان، ويندفع به كيد الشيطان.
· ومن بركاته ما جعل الله فيه من الشفاء الحسي والمعنوي؛ فكم تعافت به النفس من علل مُضرّة، وأهواء مردية، وكم شُفي به من سقيم، وكم أُبطِلَ به من سحر وعين، وكم زال به من وسواس، وكم رفع به من بلاء؛ فآياته رقية ناجعة يُرقى بها، وشفاء للمؤمنين، وكلّ ذلك من بركات هذا القرآن العظيم.
· ومن بركاته: أن قارئه يُثاب عليه أنواعاً من الثواب: فيثاب على الإيمان به، ويثاب على تلاوته، ويثاب على الاستماع إليه، ويثاب على تدبّره، ويثاب على تعظيمه، ويثاب على حفظه، ويثاب على التفقّه فيه وطلب تفسيره، ويثاب على اتّباع هداه، حتى إنه ليثاب على النظر في المصحف.
· ومن بركاته أيضاً: كثرة وجوه الخير فيه؛ فهو علم لطالب العلم، وحكمة لطالب الحكمة، وهداية للحيران، وتثبيت للمبتلى، ورحمة للمؤمن، وشفاء للمريض، وبيان لمن يريد كشف الشبهات، ودليل لمن يدعو إلى الله، وحجّة لمن ينتصر لدين الله؛ وهو لكل صاحب حاجة مشروعة غنية وكفاية {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون}.
· ومن بركاته: بركة ألفاظه وأساليبه؛ فألفاظه ميسرة للذكر، معجزة في النظم، حسنة بديعة، لها حلاوة في السمع، وبهجة في النفس، وتأثير في القلب، يدلّ اللفظ الوجيز منه على معانٍ كثيرة مباركة.
· ومن بركاته: بركة معانيه وكثرتها واتّساعها وعظيم دلالتها حتى أدهش البلغاء وأبهرهم؛ وصنف العلماء الكبار في بيان معاني بعض آياته رسائل كثيرة مفردة؛ فصنف الحافظ ابن رجب رسالة طويلة في تفسير قول الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} بيّن فيها من بديع المعاني ما يتعجب منه القارئ، وصنّف الحافظ ابن الجزري رسالة طويلة سماها "كفاية الألمعي في معنى قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي}، وصنف الحافظ السيوطي رسالة في تفسير قول الله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور...} الآية، واستخرج منها نحو مائة وعشرين وجها بلاغياً، وسمى رسالته "فتح الرب الجليل للعبد الذليل"، ومصنفات العلماء المفردة في تفسير بعض الآيات كثيرة، وهي من دلائل كثرة معاني القرآن العظيم وبركتها واتّساعها.
· ومن بركاته: أنه لا تنقضي عجائبه ولا يحاط بمعرفته فلو درس المرء تفسيره من فاتحته إلى خاتمته لم يحط بمعانيه، فإذا درسه مرة أخرى ظهرت له معان لم تكن قد ظهرت له من قبل.
· ومن بركاته على صاحبه الذي يقرأه وهو مؤمن به: أنه يرفع شأنه، ويعلي ذكره، ويوجب له حقاً لم يكن ليناله بغير هذا القرآن من الإجلال والتقديم، والرعاية والتكريم، وأجلّ ذلك أن يكون صاحب القرآن من أهل الله وخاصّته، وذلك أشرف ما لأهل القرآن، وهم في هذه الدنيا خير الأمة وأفضلها.
- روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين».
- وروى الإمام أحمد والنسائي في السنن الكبرى من حديث عبد الرحمن بن بديل بن ميسرة، عن أبيه، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله أهلين من خلقه» قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «أهل القرآن هم أهل الله وخاصته»
· ومن بركاته: عموم فضله على الأمة وعلى الفرد؛ فإذا اتّبعت الأمّة هداه أعزّها الله ونصرها، ورفع عنها الذلة، والطائفة التي تقيم ما أمر الله به فيه لا يضرها من خذلها ولا من خالفها.
· ومن بركاته العظيمة أنه حيثما كان فهو مبارك:
- فهو مبارك في قلب المؤمن ونفسه وحواسّه وجوارحه، يهديه ويثبّته، ويرشده ويبصّره، ويزداد بتلاوته إيمانا ويقينا، وطمأنينة وسكينة.
- وهو مبارك في المجلس الذي يُقرأ فيه؛ وتُتَدارس فيه آياته؛ فتنزل على أهله السكينة، وتحفّهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده، كما في سنن أبي داوود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم: إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
- وهو مبارك في البيت الذي يتلى فيه، يكثر خيره، ويتّسع بأهله، ويطرد الشياطين ، كما روى ثابت البناني عن أبي هريرة أنه كان يقول في البيت إذا تلي فيه كتاب الله اتّسع بأهله وكثر خيره وحضرته الملائكة، وخرجت منه الشّياطين، والبيت إذا لم يُتْلَ فيه كتاب الله ضاق بأهله، وقلّ خيره , وحضرته الشّياطين. رواه ابن أبي شيبة.
وقال ابن سيرين: (البيت الّذي يقرأ فيه القرآن تحضره الملائكة، وتخرج منه الشّياطين، ويتّسع بأهله ويكثر خيره، والبيت الّذي لا يقرأ فيه القرآن تحضره الشّياطين، وتخرج منه الملائكة، ويضيق بأهله ويقلّ خيره). رواه ابن أبي شيبة.
ولذلك عدّ بعض السلف البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن صِفْراً من الخير، كما قال عبد الله بن مسعودٍ: (إنّ أصفر البيوت البيت الّذي صَفِرَ من كتاب الله). رواه ابن أبي شيبة.
ورواه عبد الرزاق بلفظ: (إن أصفر البيوت من الخير البيت الذي ليس فيه من كتاب الله تعالى شيء، وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء خَرِبٌ كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن الشيطان يخرج من البيت يسمع سورة البقرة تقرأ فيه).
- وهو مبارك على الورق الذي يُكتب فيه؛ فالورق الذي يكتب فيه القرآن تكون له حرمة عظيمة، وأحكام كثيرة في الشريعة بسبب تضمّنه لهذا القرآن العظيم المبارك؛ فتشرع الطهارة لمسّه، ويجب تعظيمه، ويحرم الاستخفاف به بل يكفر من يدنّسه أو يطأ عليه امتهاناً له، وما كان ذلك الورق لينال تلك المكانة والحرمة في الشريعة إلا لتضمّنه كتاب الله تعالى؛ فما الظنّ بقلب حفظه ووعاه واتّبع هداه). [بيان فضل القرآن:76 - 82]