هل رَقَى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمعوِّذتين من السحر؟
قالَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعْلَبِيُّ (ت: 427هـ): (ذِكْرُ القِصَّةِ: قالَ ابنُ عَبَّاسٍ وعائشةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، دَخَلَ حديثُ بعضِهِما في بعضٍ: كانَ غلامٌ مِن اليهودِ يَخْدُمُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدَبَّتْ إليه اليهودُ، فلم يَزَالُوا به حتى أَخَذَ مُشَاطَةَ رأسِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعِدَّةَ أسنانٍ مِن مُشْطِهِ، فأَعْطَاهَا اليهودَ، فسَحَرُوه فيها، وكانَ الذي تَوَلَّى ذلك رجلٌ مِنهم يقالُ له: لَبِيدُ بنُ أَعْصَمَ، ثمَّ دَسَّهَا في بِئْرٍ لبني زُرَيْقٍ يقالُ له: ذَرْوَانُ، فمَرِضَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانْتَثَرَ شعَرُ رأسِه، ولَبِثَ ستَّةَ أشهرٍ يَرَى أنه يأتي النساءَ ولا يَأْتِيهِنَّ، وجَعَلَ يَذُوبُ ولا يَدْرِي ما عَرَاه، فَبَيْنَا هو نائمٌ إذ أتاه مَلَكَانِ، فقَعَدَ أحدُهما عندَ رأسِه والآخَرُ عندَ رِجْلَيْهِ، فقالَ الذي عندَ رِجْلَيْهِ للذي عندَ رأسِه: ما بالُ الرجلِ؟ قالَ: طُبَّ. قالَ: وما طُبَّ؟ قالَ: سُحِرَ. قالَ: ومَن سَحَرَه؟ قالَ: لَبِيدُ بنُ أَعْصَمَ اليَهُودِيُّ. قالَ: وبِمَ طَبَّه؟ قالَ: بمُشْطٍ ومُشاطَةٍ. قالَ: وأينَ هو؟ قالَ: في جُفِّ طَلْعَةٍ، تَحْتَ رَاعُوثَةٍ في بِئْرِ ذَرْوَانَ - والجُفُّ: قِشْرُ الطَّلْعِ، والرَّاعُوثَةُ حَجَرٌ في أسفلِ البئرِ ناتِئٌ يقومُ عليه الماتِحُ - فانْتَبَه رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مذعوراً وقالَ: ((يَا عَائِشَةُ، أَمَا شَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنِي بِدَائِي؟)).
ثُمَّ بعَثَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليًّا والزُّبَيْرَ وعمَّارَ بنَ ياسرٍ، فنَزَحُوا ماءَ تِلكَ البِئْرِ كأنه نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، ثمَّ رَفَعُوا الصخرةَ وأَخْرَجُوا الجُفَّ، فإذا فيه مُشاطةُ رأسِه وأسنانٌ مِن مُشْطِه، وإذا فيه وَتَرٌ معقودٌ فيه اثْنَتَا عَشْرَةَ عُقْدَةً مَغْرُوزَةً بالإِبَرِ، فأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هاتيْن السورتيْن، فجَعَلَ كُلَّمَا يَقْرَأُ آيةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، ووَجَدَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِفَّةً حينَ انْحَلَّتِ العقدةُ الأخيرةُ، فقامَ كأنما أُنْشِطَ مِن عِقالٍ، وجَعَلَ جِبْرِيلُ عليه السلامُ يقولُ: ((بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ؛ مِنْ حَاسِدٍ وَعَيْنٍ، وَاللَّهُ يَشْفِيكَ)).
قالَ: فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، أفلا نَأْخُذُ الخَبِيثَ فنَقْتُلُه؟ فقالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا)).
قالَتْ عائشةُ: ما غَضِبَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضباً يَنْتَقِمُ مِن أحدٍ لنفسِه قَطُّ، إلاَّ أنْ يكونَ شيئاً هو للهِ سُبْحَانَهُ، فيَغْضَبُ للهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى ويَنْتَقِمُ). [الكشف والبيان: 10/338-339]
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أدخلَ الثعلبيُّ عدةَ أحاديثَ بعضَها في بعضٍ وتبِعه على ذلك عددٌ من المفسرين، وسبق إيرادُ أقوالِهم بما يُغني عن إعادتِه، قال ابنُ كثيرٍ متعقباً الثعلبيَّ: (هكذا أَوْرَدَهُ بِلا إِسْنَادٍ, وفيهِ غَرَابَةٌ وفي بَعْضِه نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ, ولبَعْضِه شَوَاهِدُ مِمَّا تَقَدَّمَ, واللَّهُ سبحانَه وتعالى أَعْلَمُ).
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ومن ذلك جعلُه رقيةَ جبريلِ للنبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم في سياقِ هذه القصةِ، وقد سبق الكلامُ على ضعفِ هذه الزيادةِ).
قالَ مَحْمُودُ بنُ حَمْزَةَ بنِ نَصْرٍ الكِرْمَانِيُّ (ت: 525هـ): (سببُ نُزولِ السُّورَتَيْنِ: أنَّ غُلامًا كانَ يَخْدُمُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، فدَسَّتْ إليه اليَهُودُ، ولم يَزالُوا به حتى أخَذَ مُشَاطَةَ رَأْسِه عليه السلامُ وعِدَّةَ أسنانٍ مِن مُشْطٍ، فأعطاها اليهودَ، فسَحَرُوهُ فيها... فأَنزَلَ اللهُ هاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ إحدى عَشْرَةَ آيةً على عَدِّ العُقَدِ، فجَعَلُوا كُلَّمَا حَلُّوا عُقدَةً وجَدَ عليه السلامُ خِفَّةً حتى حَلُّوا العُقَدَ، فقامَ كأنما نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، وجَعَلَ جِبريلُ عليه السلامُ يقولُ: باسمِ اللهِ أَرْقِيكَ مِن كُلِّ شيءٍ يُؤْذِيكَ، ومِن حاسِدٍ وعينٍ، واللهُ يَشْفِيكَ). [غرائب التفسير: 2/1411-1412]
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ابْنُ العَرَبِيِّ (ت: 543هـ): (سُورَةُ الفَلَقِ وَالنَّاسِ فِيهِمَا ثَلاثُ مَسَائِلَ:
المَسْأَلَةُ الأولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهِمَا:
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى كَانَ يُخَيَّلَ إلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَلا يَفْعَلُهُ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ أَتَانِي مَلَكَانِ، فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، قَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلَّذِي عِنْدَ رِجْلَيَّ: مَا شَأْنُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ. فَقَالَ: فِي مَاذَا؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، تَحْتَ رَاعُوفَةٍ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ)). فَجَاءَ البِئْرَ وَاسْتَخْرَجَهُ. انْتَهَى الصَّحِيحُ.
زَادَ غَيْرُهُ: ((فَوَجَدَ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَيْهِ بِالمُعَوِّذَتَيْنِ إحْدَى عَشرَةَ آيَةً، فَجَعَلَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، حَتَّى انْحَلَّتِالعُقَدُ، وَقَامَ كَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ)). أَفَادَنِيهَا شَيْخُنَا الزَّاهِدُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَدْرَانَ الصُّوفِيُّ). [أحكام القرآن: 4/1996] (م)
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ مَحْمُودٍ النَّسَفِيُّ (ت: 710هـ):(رُوِيَ أنه عَلَيهِ السلامُ سُحِرَ فمَرِضَ... فنَزَلَتْ هاتانِ السُّورتَانِ، فكُلَّمَا قرَأ جِبريلُ آيةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، حتَّى قام صلَّى اللَّهُ عَلَيْه وسلَّمَ عندَ انْحلالِ العُقْدَةِ الأخيرةِ كأنَّمَا نُشِطَ من عِقالٍ، وجعَلَ جِبريلُ يَقولُ: باسمِ اللهِ أرْقِيكَ، واللهُ يَشْفِيكَ، من كلِّ داءٍ يُؤْذِيكَ). [مدارك التنزيل:3/2016] (م)
قالَ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ الخَازِنُ (ت: 725هـ): (فأَنْزَلَ اللَّهُ هاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، وهما إحدى عَشْرةَ آيَةً؛ سورةُ الفَلَقِ خمسُ آياتٍ، وسورةُ الناسِ ستُّ آياتٍ، فكانَ كُلَّمَا قَرَأَ آيَةً انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، حتَّى انحلَّتِ العُقَدُ كلُّها، فقامَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كأَنَّما نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ). [لباب التأويل: 4/500]