سورة الأنعام
[ من الآية (151) إلى الآية (153) ]
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}
قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}
قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (لعلّكم تذكّرون (152) ونظائره.
قرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (تذّكّرون)
[معاني القراءات وعللها: 1/393]
(أفلا تذّكّرون)، و(ليذّكّروا)، مشددات حيث كن.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في مريم (أولا يذكر الإنسان) خفيفا، وشدد سائرهن، إلا أن حفصا خالف أبا بكر في التاء فقرأ ما كان بالتاء مخففا في كل القرآن، وشدد أبو بكر.
وقرأ حمزة والكسائي (تذكرون) ما كان بالتاء مخففا، مثل حفص في كل القرآن، وخففا (ليذكروا) في السورتين، وشددا سائر ما في القرآن، وانفرد حمزة وحده بتخفيف (لمن أراد أن يذكر) ما تابعه أحد على التخفيف، وروى أبان عن عاصم (يذكرون) تخفيفا مثل رواية حفص.
واتفقوا على تخفيف قوله (وما يذكرون إلّا أن يشاء اللّه) وافترقوا في التاء والياء، فقرأ نافع وحده (وما تذكرون) بالتاء، وقرأ الباقون بالياء.
قال أبو منصور: من شدّد الذال والكاف في (تذّكّرون) أو (يذّكّرون) فالأصل تتذكرون، ويتذكرون، فأدغمت التاء في الذال، وشددت.
ومن قرأ (تذكّرون) بتخفيف الذال وتشديد الكاف فالأصل أيضًا تتذكرون، فحذفت إحدى التاءين استخفافا.
ومن قرأ (يذكر) فهو من ذكر يذكر). [معاني القراءات وعللها: 1/394]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (56- وقوله تعالى: {تذكرون} [152].
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {تذكرون} بالتشديد وكذلك {يذكرون} و{يذكر} بتشديد الذال والكاف على معنى يتذكرون فأدغم التاء في الذال.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر كذلك إلا قوله في (مريم): {أولا يذكر الإنسان} فإنهم خففوه جعلوه من ذكر يذكر لا من تذكر يتذكر، وذكرت وتذكرت بمعنى واحد.
وقرأ حمزة والكسائي {يذكرون} مشددًا و{تذكرون} مخففًا في كل القرآن، أراد: تتذكرون فحذف إحدى التاءين). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/173]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في تشديد الذّال وتخفيفها من قوله تعالى: يذكرون* [الأنعام/ 152].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: يذكرون*، وتذكرون*، ويذكر الإنسان [مريم/ 67]، وأن يذكر [الفرقان/ 62]، وليذكروا [الإسراء/ 41 - الفرقان/ 50]، مشددا ذلك كله.
وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: كلّ ذلك بالتشديد إلّا قوله: أولا يذكر الإنسان [مريم/ 67]، فإنهم خفّفوها.
وروى عليّ بن نصر بن علي عن أبيه عن أبان عن عاصم: تذكرون خفيفة الذال في كل القرآن، وكذلك روى حفص عن عاصم.
وقرأ حمزة والكسائيّ: يذكرون* مشدّدا إذا كان بالياء، وتذكرون مخففا إذا كان بالتاء.
واختلفوا في سورة الفرقان في قوله: لمن أراد أن يذكر [الآية/ 62]، فقرأ حمزة وحده: أن يذكر* مخفّفة، وقرأ الكسائي: أن يذكر مشدّدة، واتفقا على تخفيف الذّال في
[الحجة للقراء السبعة: 3/424]
بني إسرائيل [41] والفرقان [50] في قوله: ليذكروا خفيفة، وشدّدها الباقون.
واتّفقوا على تخفيف ذال قوله: وما يذكرون ورفع الكاف في المدثر [56].
فقرأ نافع: وما تذكرون بالتاء ورفع الكاف. وقرأ الباقون بالياء.
قال سيبويه قالوا: ذكرته ذكرا، كحفظته حفظا، وقالوا:
ذكرا مثل: شربا، وذكر: فعل متعد إلى مفعول واحد، قال:
فاذكروني أذكركم [البقرة/ 152]، واذكروا نعمة الله عليكم [الأحزاب/ 9]، فإذا ضاعفت العين تعدى إلى مفعولين نحو: ذكّرت زيدا أمره، قال:
يذكّرنيك حنين العجول... ونوح الحمامة تدعو هديلا
ونقله بالهمزة في القياس كتضعيف العين، وتقول: ذكّرته
[الحجة للقراء السبعة: 3/425]
فتذكّر تفعّل، لأن تذكّر مطاوع فعّل، كما أن تفاعل مطاوع فاعل، قال: إذا مسهم طيف من الشيطان تذكروا [الأعراف/ 201]، وقد تعدّى تفعّلت، قال:
تذكّرت أرضا بها أهلها... أخوالها فيها وأعمامها
وأنشد أبو زيد:
تذكّرت ليلى لات حين ادّكارها... وقد حني الأصلاب ضلّا بتضلال
فقال: ادّكارها، كما قال: وتبتل إليه تبتيلا [المزمل/ 8]، ونحو ذلك مما لا يجيء المصدر فيه على فعله، وجاء المصدر على ذكرى بألف التأنيث، كما جاء على فعلى، نحو: الدعوى والعدوى، وتترى فيمن لم يصرف، وعلى فعلى نحو: شورى، وقالوا في الجمع: الذّكر فجعلوه بمنزلة سدرة وسدر، كما جعلوا العلى مثل الظلم، وقالوا: الدكر، بالدال، حكاه سيبويه، والقياس: الذّكر بالذال المعجمة،
[الحجة للقراء السبعة: 3/426]
وكذلك روي بيت ابن مقبل:
من بعض ما يعتري قلبي من الدّكر لما كثر تصرف الكلمة بالدّال، نحو ادكر [يوسف/ 45]، وهل من مدكر [القمر/ 15]، وقال:
وبدّلت شوقا بها وادّكارا أشبهت تقوى، وتقيّة، وتقاة، وهذا أتقى من هذا، وفي التنزيل: وادكر بعد أمة [يوسف/ 45]، وفيه: فهل من مدكر، ويجوز في القياس أن يكون ادّكرت متعديا مثل: شويته، واشتويته، وحفرته واحتفرته، وعرّوته، واعتريته، وفي التنزيل: إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا [هود/ 54]، وكذلك: عرّه، واعترّه، ويقوي ذلك قول الشاعر:
تذكرت ليلى لات حين ادّكارها فأضاف المصدر إلى المفعول به.
فأما قوله: واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض
[الحجة للقراء السبعة: 3/427]
[الأنفال/ 26]، فمن الذكر الذي يكون عن النسيان، والمعنى: قابلوا أحوالكم التي أنتم عليها الآن، بتلك الحال المتقدمة ليتبيّن لكم موضع النعمة فتشكروا عليه، وهذا قريب من قوله: واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم [الأعراف/ 86]، فقوله: ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون [الأنعام/ 152].
أي: ذلك الذي تقدم ذكره في ذكر مال اليتيم، وأن لا يقرب إلّا بالتي هي أحسن، وإيفاء الكيل، واجتناب البخس، والتطفيف فيهما، وتحرّي الحقّ على مقدار الطاقة والاجتهاد، ولذلك أتبع بقوله: لا نكلف نفسا إلا وسعها [الأنعام/ 152]، والقول بالقسط والحقّ، ولو كان المقول فيه، والمشهود له، والمحكوم له، ذا قربى، والوفاء بالعهد، لينجز ما وعد عليه من قوله: ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما [الفتح/ 10].
هذا كلّه مما وصّى به، ليتذكروه، ويأخذوا به، ولا يطرحوه، فيتذكرون، هو الوجه والمعنى عليه، لأنه أمر نافذ بأخذ بعد أخذ، ووقت بعد وقت، فهو من باب التفوّق والتجرّع، وكذلك التذكّر من قوله: أولا يذكر الإنسان أنا
[الحجة للقراء السبعة: 3/428]
خلقناه من قبل [مريم/ 67]، إنما هو حضّ على الشكر على خلقه وإحيائه وتعريضه للنعيم الدائم والخلود فيه.
فأما قوله: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر [الفرقان/ 62] أي أن يتفكّر، فيتبيّن شكر الله، وموضع النعمة، وإتقان الصنعة، فيستدلّ منه على التوحيد، فيستوجب بذلك المنزلة الرفيعة، وقوله تعالى: ولقد صرفناه بينهم ليذكروا [الفرقان/ 50]، أي: صرفنا هذا الماء المنزل بينهم في مراعيهم ومزارعهم وشربهم، ليتفكروا في ذلك في مكان النعمة به.
قال أحمد: وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع وابن عامر كلّ ذلك بالتشديد إلّا قوله: أو لا يذكر الإنسان [مريم/ 67]، فإنّهم خفّفوها، كأنهم ذهبوا في تخفيف ذلك، إلى أنّ إيجاده وإنشاءه هو دفعة واحدة، فحضّ على ذكر تلك النعمة، فلم يلزم عندهم أن يكون على لفظ التكثير، وما يحدث مرّة بعد مرّة، والباقون كأنهم ذهبوا إلى أنّه ينبغي أن يتذكّر ذلك مرّة بعد مرّة، وإن كان دفعة كما يتذكر الأشياء الأخر
[الحجة للقراء السبعة: 3/429]
المتكرّرة، ليكون شكره للنعمة بمكان ذلك متتابعا. كما يكون ذلك في الحال المتكررة.
قال: أحمد وروى نصر بن علي عن أبيه عن أبان عن عاصم تذكرون خفيفة الذّال في كلّ القرآن، وكذلك روى حفص عن عاصم.
والقول في ذلك أن التخفيف مثل التشديد في المعنى، إنما هو تتذكرون فحذف لاجتماع المتقاربة بالحذف كما خفّفه غيره بالإدغام، ويمكن أن يقال: إنّ الحذف أولى لأنه أخفّ في اللفظ، والدلالة على المعنى قائمة.
قال أحمد: وقرأ حمزة والكسائيّ يذكرون* مشدّدا إذا كان بالياء، يتذكّرون، مخففا إذا كان بالتاء، هذا مثل رواية أبان وحفص عن عاصم.
فأما تشديد حمزة والكسائي يذكرون*، إذا كان بالياء، وتخفيفها إذا كان بالتاء، فإنهما ثقّلا يذكرون* بالياء، لأنه لم تجتمع المتقاربة مع الياء، كما اجتمعت مع التاء، ألا ترى أن الياء ليست بمقاربة للتاء، كما أن التاء مثل له في
[الحجة للقراء السبعة: 3/430]
يتذكّرون، فلما لم تجتمع المقاربة ولا الأمثال مع الياء، إنّما ولم يحذفا، وحذفا في: يتذكرون* لاجتماع التاءين، وكون الدال معهما مقاربة لهما. وهذا اعتبار حسن، وهو كاعتبار عاصم في رواية أبان وحفص عنه.
فأمّا اختلافهم في سورة الفرقان في قوله: لمن أراد أن يذكر [الفرقان/ 62]، وقرأ حمزة وحده أن يذكر* مخفّفة، وقرأ الكسائي: أن يذكر مشدّدة، والتشديد على أن يتذكر نعم الله تعالى ويذكّر ليدرك العلم بقدرته، ويستدل على توحيده كما قال: أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [الروم/ 8]، أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء [الأعراف/ 185] وتخفيف حمزة على أنّه يذكر ما نسيه في أحد هذين الوقتين في الوقت الآخر، وهو فيما زعموا قراءة الأعمش، ويجوز أن يكون على: يذكر تنزيه الله وتسبيحه، أي: يذكر ما ندب إليه من قوله عزّ من قائل: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا [الأحزاب/ 41]، ويجوز أن يكون على: أراد أن يذكر نعم الله
[الحجة للقراء السبعة: 3/431]
عليه، فيشكر لها، كما قال: اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم [المائدة/ 11]، واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه [المائدة/ 7]، أي: تلقّوها بالشكر.
قال أحمد: واتفقا على تخفيف الدال في بني إسرائيل وفي الفرقان في قوله: ليذكروا* خفيفة، وشدّدها الباقون.
أما في بني إسرائيل فقوله: ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا، وما يزيدهم إلا نفورا [الإسراء/ 41]، فمعنى صرفنا في هذا القرآن: صرّفنا ضروب القول فيه من الأمثال وغيرها مما يوجب الاعتبار به والتفكّر فيه، كما قال: ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون [القصص/ 51]، وقال:
وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون [طه/ 113]. وقال:
وما يزيدهم إلا نفورا أي وما يزيدهم تصريف القول إلّا نفورا، أضمر الفاعل لدلالة ما تقدّم عليه، كما قال: فلما جاءهم نذير ما زادهم [فاطر/ 42]، أي: ما زادهم مجيئه إلّا نفورا، ومعنى: ما زادهم إلا نفورا أراد: زادهم نفورا عند مجيئه، فنسب ذلك إلى السورة، والنذير. أو الآية على الاتساع لمّا ازدادوا هم عند ذلك نفورا وعنادا، كما قال: رب إنهن أضللن كثيرا من الناس [إبراهيم/ 36]، وإنما ضلّ الناس، ولم تضلّهم الأصنام، وكذلك: فزادتهم رجسا إلى رجسهم
[الحجة للقراء السبعة: 3/432]
[التوبة/ 125]. وأما ما في الفرقان مما اتّفق حمزة والكسائيّ على تخفيفه، وشدّدهما غيرهما فقوله: ولقد صرفناه بينهم [الفرقان/ 50]، أي: الماء المنزل من السماء سقيا لهم وغيثا، ليذكروا موضع النعمة فيشكروه، ويتقبّلوه بالشكر، فأبى أكثر الناس الشكر لمكانه، وكفروا بالنعمة به، وقد يقال: إن كفر النعمة به قولهم: مطرنا بنوء كذا، وكذلك قوله: وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [الواقعة/ 82] فكأنّه على هذا تجعلون شكر رزقكم التكذيب، ومثل ذلك ما أنشده أبو زيد:
فكان ما ربحت تحت الغيثرة... وفي الزّحام أن وضعت عشره
قال [أحمد] واتفقوا على تخفيف ذال قوله: وما يذكرون ورفع الكاف في المدّثر [56]. فقرأ نافع: وما تذكرون بالتاء ورفع الكاف. وقرأ الباقون بالياء.
[الحجة للقراء السبعة: 3/433]
وروي عن الحسن في قوله: كلا إنها تذكرة [المدثر/ 54]، قال: القرآن، فأما قوله: فمن شاء ذكره [المدثر/ 55]، فتقديره أن ذلك ميسّر له كما قال: ولقد يسرنا القرآن للذكر [القمر/ 17]، أي: لأن يحفظ ويدرس، فيؤمن عليه التحريف والتبديل الذي جاز على غيره من الكتب لتيسيره للحفظ، ودرس الكثرة له وخروجه بذلك عن الحدّ الذي يجوز معه التبديل له، والتغيير، وقال: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [الحجر/ 9]، فأما قوله: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [المزمل/ 5]، فليس على ثقل الحفظ له، واعتياصه،
ولكن كما قال الحسن: إنّهم ليهذّونه هذّا، ولكن العمل به ثقيل.
ويجوز أن يكون المراد به ثقيل على من عانده، فردّه ولم ينقد له، كما قال: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون [القلم/ 51]، وقوله:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر [الحج/ 72]، وكقوله: ثم عبس وبسر. ثم أدبر واستكبر. فقال إن هذا إلا سحر يؤثر. إن هذا إلا قول البشر [المدثر/ 22 - 25].
فأما وجه الياء فلأن قبله ما يدل عليه الياء، وهو قوله:
كلا بل لا يخافون الآخرة [المدثر/ 53]، وما يذكرون
[الحجة للقراء السبعة: 3/434]
[المدثر/ 56] ووجه آخر، وهو: أنه يجوز أن يكون فاعل يذكرون قوله: فمن شاء ذكره [المدثر/ 55]، وقوله: فمن شاء ذكره، لا يخلو من أن يكون صلة أو جزاء، وكيف كان لم يمتنع أن يكون فاعل هذا الفعل.
ووجه التاء أنه يجوز أن يعنى به الغيب، والمخاطبون، فغلّب الخطاب ويجوز أن يكون على: قل لهم: وما تذكرون مثل: وما تشاءون). [الحجة للقراء السبعة: 3/435]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ذلكم وصّاكم به لعلّكم تذكرون} {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه} 152 و153
[حجة القراءات: 276]
قرأ حمزة والكسائيّ {وأن هذا صراطي} بالكسر على الاستئناف وذلك أن الكلام متناه عند انقضاء الآية نكسر {إن} للابتداء بها وحجتهما في أن المراد من الكلام هو الاستئناف قوله في هذه السّورة {وهذا صراط ربك مستقيمًا} 126 على الابتداء بالخبر عن صفة الصّراط
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم {وأن هذا} بفتح الألف وتشديد النّون وحجتهم ذكرها اليزيدي فقال على معنى وصّاكم به وبأن هذا صراطي مستقيمًا وقال آخرون بل نسق على قوله {أتل ما حرم ربكم} أي أتل ما حرم ربكم وأتل أن هذا صراطي مستقيمًا
وقرأ ابن عامر {وأن هذا} بفتح الألف وتخفيف النّون عطف على قوله {ألا تشركوا به شيئا} و{إن هذا} عطف {إن} على {إن} ). [حجة القراءات: 277] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (86- قوله: {تذكرون} قرأه حفص وحمزة والكسائي بالتخفيف في «الذال»، على حذف إحدى التاءين استخفافًا، وذلك إذا كان أصله «تتذكرون» وذلك حيث وقع، وقرأ الباقون بالتشديد في «الذال» على إدغام التاء الثانية من «تتذكرون» في الذال، وفي التشديد معنى تكرير التذكر، كأنه تذكر بعد تذكر، ليتفهم من خوطب بذلك، وعلته كالعلة في «تظاهرون» وقد مضى ذكرها). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/457]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (65- {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [آية/ 152] بتحفيف الذال:-
قرأها حمزة والكسائي و-ص- عن عاصم في كل القرآن إذا كان بالتاء، وإذا كان بالياء شددوها، كقوله {لِقَوْمٍ تَذَّكَّرُونَ}.
والوجه أن المعنى في التخفيف والتشديد واحد، إلا أن الصنعة فيهما تختلف، وكلاهما تخفيف من حيث الصناعة، فبعضهم يخفف بالإدغام لاجتماع المتقاربة، فشدد وقال {تَذَّكَّرُونَ}، ومنهم من خفف بالحذف فقال {تَذَكَّرُونَ} بلا تشديد.
والأصل فيهما جميعًا: تتذكرون، والحذف أولى؛ لأنه أخف في اللفظ، وهو أن الأصل تتذكرون على ما سبق، فحذفت التاء الثانية لاجتماع المتقاربة، والثانية أولى بالحذف؛ لأنها المتكررة، وأنها هي التي تدغم، والأولى إنما جاءت للمضارعة فهي بالتبقية أولى.
وقرأ الباقون {تَذَّكَّرُونَ} بتشديد الذال في كل القرآن، إلا أن يكون فعلاً ماضيًا كقوله {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} فإنها مخففة لا غيره.
[الموضح: 512]
والوجه ما تقدم، وهو اجتماع الحروف المتقاربة، فأرادوا التخفيف بالإدغام، وهو أن ادعموا التاء الثانية في الدال، لئلا يجتمع في اللفظ حروف متقاربة، وهي تاءان وذال، والذال مقاربة التاء، فخفف بالإدغام.
وأما تخفيف من خفف إذا كان {تَذَكَّرُونَ} بالتاء، وتشديده إذا كان بالياء؛ فلأنه لم تجتمع المتقاربة مع الياء، كما اجتمعت مع التاء؛ لأن الياء ليست بمقاربة التاء، فلما لم تجتمع التاءان لم يخفف بحذف أحدهما، وأدغم التاء في الذال لتقاربهما.
وأما تخفيفهم للكلمة إذا كانت فعلاً ماضيًا، فلأن الماضي لا يجتمع فيه تاءان، ولا يجوز تسكين التاء؛ لأنه أول، فلا يحصل الإدغام، فلهذا لا سبيل إلى التشديد). [الموضح: 513]
قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه... (153).
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم (وأنّ هذا) بتشديد النون وفتح الألف، وقرأ ابن عامر ويعقوب (وأن هذا) بفتح الألف وسكون النون، وقرأ حمزة والكسائي (وإنّ) بكسر الألف وتشديد النون.
وقرأ ابن عامر والأعشى عن أبي بكر عن عاصم (صراطي) بفتح الياء، وأرسلها الباقون.
قال أبو منصور: من قرأ (وأنّ هذا) بفتح الألف فلأنه عطف على قوله (أن لا تشركوا به شيئا.. وأنّ هذا) وهذا في موضع النصب؛ لأنه اسم (أنّ)، و(صراطي) خبره، ونصب (مستقيما) على الحال.
ومن قرأ (وأن هذا) بفتح الألف والتخفيف فهذا في موضع الرفع لأن (أن) إذا خففت منعت عملها، و(أن) رفع (هذا) بالابتداء، ومرافعه (صراطي).
ومن قرأ (وإنّ هذا) فكسر الألف وشدد فعلى الاستئناف). [معاني القراءات وعللها: 1/395]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (57- وقوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما} [153].
قرأ حمزة والكسائي {وإن هذا} بالكسر على الاستئناف.
وقرأ الباقون {وأن هذا} بالفتح على معنى ذلكم وصاكم به وبـــ «أن»، فيكون على هذا التأويل نصبًا وخفضًا.
وقرأ ابن عامر {وأن هذا} بفتح الألف وسكون النون {صراطي} بفتح الياء.
والباقون يسكنون الياء، وهو الاختيار؛ لأنها لم يستقبلها همزة، ولأن الكلمة قد طالت). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/173]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح الألف وكسرها وتخفيف النون وتشديدها [وتحريك الياء وإسكانها] من قوله تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما [الأنعام/ 153].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وأن هذا صراطي مستقيما، مفتوحة الألف مشدّدة النون، صراطي ساكنة الياء.
وقرأ ابن عامر: وأن هذا مفتوحة الألف ساكنة النون، صراطي مفتوحة الياء.
وقرأ حمزة والكسائي وإن* مكسورة الألف مشددة النون، صراطي ساكنة الياء.
وقرأ ابن كثير وابن عامر: سراطي بالسين.
[الحجة للقراء السبعة: 3/435]
وقرأ حمزة بين الصاد والزاي، واختلف عنه وقد ذكر.
وقرأ الباقون بالصّاد.
من فتح أن* فقياسه قول سيبويه: أنه حمله على فاتبعوه لأنّه قال في قوله: لإيلاف قريش [قريش/ 1]، وقوله: وأن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون [المؤمنون/ 52]، وقوله: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا [الجن/ 18]، أن المعنى: لهذا فليعبدوا، ولأن هذه أمّتكم، ولأن المساجد لله فلا تدعوا، فكذلك لأن هذا صراطي مستقيما فاتّبعوه.
ومن خفّف فقال: وأن هذا صراطي فإنّ المخففة في قوله يتعلّق بما يتعلّق به المشدد، وموضع هذا* رفع بالابتداء، وخبره: صراطي وفي أن* ضمير القصة، والحديث، وعلى هذه الشريطة يخفّف، وليست المفتوحة كالمكسورة إذا خففت، وعلى هذا قول الأعشى:
[الحجة للقراء السبعة: 3/436]
في فتية كسيوف الهند قد علموا... أن هالك كلّ من يحفى وينتعل
والفاء التي في قوله: فاتبعوه، مثل الفاء التي في قوله: بزيد فامرر.
ومن كسر إن* استأنف بها، والفاء في قوله فاتبعوه على قوله عاطفة جملة على جملة، وعلى القول الأول زيادة). [الحجة للقراء السبعة: 3/437]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ذلكم وصّاكم به لعلّكم تذكرون} {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه} 152 و153
[حجة القراءات: 276]
قرأ حمزة والكسائيّ {وأن هذا صراطي} بالكسر على الاستئناف وذلك أن الكلام متناه عند انقضاء الآية نكسر {إن} للابتداء بها وحجتهما في أن المراد من الكلام هو الاستئناف قوله في هذه السّورة {وهذا صراط ربك مستقيمًا} 126 على الابتداء بالخبر عن صفة الصّراط
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم {وأن هذا} بفتح الألف وتشديد النّون وحجتهم ذكرها اليزيدي فقال على معنى وصّاكم به وبأن هذا صراطي مستقيمًا وقال آخرون بل نسق على قوله {أتل ما حرم ربكم} أي أتل ما حرم ربكم وأتل أن هذا صراطي مستقيمًا
وقرأ ابن عامر {وأن هذا} بفتح الألف وتخفيف النّون عطف على قوله {ألا تشركوا به شيئا} و{إن هذا} عطف {إن} على {إن} ). [حجة القراءات: 277] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (87- قوله: {وأن هذا صراطي} قرأه حمزة والكسائي بكسر الهمزة، وفتحها الباقون، وكلهم شدد إلا ابن عامر، فإنه خففها مع فتح الهمزة.
وحجة من فتح أنه حمله على إضمار اللام، فـ «أن» في موضع نصب لحذف الخافض، والتقدير: ولأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه، أي: اتبعوه لأنه مستقيم، والفاء في «اتبعوه» بمنزلتها في قولك: يزيد فامرر.
88- وحجة من كسر «أن» أنه جعلها مبتدأة مستأنفة، فكسرها لذلك، فالفاء في هذه القراءة عاطفة جملة على جملة، بخلافها في القراءة الأخرى.
89- وحجة من خفف «أن» أنه جعلها «أن» المخففة من الثقيلة، وفتحها على إضمار اللام كما تقدم، ويكون هذا، في قراءة من خفف «أن»، في موضع رفع بالابتداء، ومع «أن» ضمير القصة، وعلى هذه الشريطة
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/457]
تخفيف المفتوحة بخلاف تخفيف المكسورة التي تضمر معها الهاء، وهي اسمها). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/458]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (66- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي} [آية/ 153] بتشديد النون من {أَنَّ} وفتح الألف:-
قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم.
والوجه أنه محمول على قوله {فَاتَّبِعُوهُ} ومتصل به، والتقدير: فاتبعوه لكونه صراطًا مستقيمًا، واللام الجارة مقدرة، والمعنى: ولأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه، فموضع أن نصب بأن مفعول له، وقيل: بل هو معطوف على قوله {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}، فقوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} متلو أيضأ، كأنه قال: واتل أن هذا صراطي.
[الموضح: 513]
وقرأ ابن عامر ويعقوب {وَأَنَّ هَذَا} بسكون النون وفتح الألف.
والوجه أن {أَنَّ} ههنا مخففة من الثقيلة، وهي في حكم المشددة، وما ذكرناه في المشددة من الأحكام فإنه لازم له، إلا أن ههنا شيئا آخر، وهو ضمير القصة والحديث، والتقدير: وأنه أو وأنها على معنى وأن الأمر أو الحديث أو القصة هذا صراطي مستقيمًا، فموض {هَذَا} رفع بالابتداء، وخبره صراطي، والمبتدأ والخبر في موضع رفع بأنهما خبر أن والأمر المضمر الذي هو الحديث أو القصة، وإنما يخفف أن على هذا الشرط، وهو أن يضمر الشأن أو القصة بعده، قال الأعشى:
34- في فتية كسيوف الهند قد علموا = أن هالك كل من يحفى وينتعل
أي أن الأمر أو الشان هالك كل من يحفى وينتعل وقرأ حمزة والكسائي {أَنَّ} بكسر الألف وتشديد النون.
والوجه أنه على الاستئناف؛ لأن إن يقطع ما قبله مما بعده، فالكلام من قوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} مستأنف، والفاء في قوله {فَاتَّبِعُوهُ} على هذا لعطف جملة على جملة، وفي الوجه الأول زائد مثل قولك: بزيد فامرر). [الموضح: 514]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (67- {صِراطِيَ} [آية/ 153] بفتح الياء:-
قرأها ابن عامر وحده، والباقون {صِرَاطِي} بسكون الياء.
وقد مضى في مثل هذه الياء ما فيه كفاية فيما سبق من هذا الكتاب). [الموضح: 515]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين