تفسير قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) }
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (ومنها هَلْ وهي للاستفهام؛ نحو قولك: هل جاء زيد؟ وتكون بمنزلة قد في قوله عز وجل: {هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر}؛ لأنها تخرج عن حد الاستفهام، تدخل عليها حروف الاستفهام؛ نحو قولك: أم هل فعلت؟ وإن احتاج الشاعر إلى أن يلزمها الألف فعَلَ كما قال:
سائل فوارس يربوعٍ بشـدتـنـا = أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم).
[المقتضب: 1/181-182]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وهل تخرج من حد المسألة فتصير بمنزلة قد نحو: قوله عز وجل: {هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} ). [المقتضب: 3/289]
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): ( {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} بموضع ما، وتكون استفهامًا وتكون خبرًا وتكون جزاء. وقد قال الفراء: تكون أمرًا. قال: وسمعت أعرابيًا يقول هل أنت ساكت، أي اسكت. مثله: {هل أنتم منتهون} ). [مجالس ثعلب: 588]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (وهل حرف من الأضداد؛ تكون استفهاما عما يجهله الإنسان ولا يعلمه؛ فتقول: هل قام عبد الله؟ ملتمسا للعلم وزوال الشك، وتكون (هل) بمعنى (قد) في حال
العلم واليقين وذهاب الشك؛ فأما كونها على معنى الاستفهام فلا يحتاج فيه إلى شاهد، وأما كونها على معنى (قد)، فشاهده قول الله عز وجل: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر}، قال جماعة من أهل العلم: معناه قد أتى على الإنسان؛ والإنسان في هذا الموضع آدم صلى الله عليه. والحين أربعون سنة، كان جل وعز خلق صورة آدم ولم ينفخ فيه الروح أربعين سنة، فذلك قوله: {لم يكن شيئا مذكورا}. وقال النبي عليه السلام في بعض غزواته: ((اللهم هل بلغت))!، هل بلغت، فمعناه: قد بلغت.
وقال بعض أهل اللغة: إذا دخلت (هل) للشيء المعلوم فمعناها الإيجاب، والتأويل: ألم يكن كذا وكذا! على جهة التقرير والتوبيخ، من ذلك قوله جل وعز: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا}، ومنه أيضا: {فأين تذهبون}، لم يرد بهذين الاستفهامين حدوث هلم لم يكن؛ وإنما أريد بهما التقرير والتوبيخ، ومن ذلك قول العجاج:
أطربا وأنت قنسري = والدهر بالإنسان دواري
أراد بالتقرير. وأنشدنا ثعلب أبو العباس:
أحافرة على صلع وشيب = معاذ الله ذلك أن يكونا
وقول الله عز وجل: {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد}، معنى (هل) (قد) عند بعض الناس، والتأويل: قد امتلأت، فقالت جهنم مؤكدة، لقول الله عز وجل: {هل من مزيد}، أي ما من مزيد يا رب، فـ (هل) الثانية معناها الجحد، وهو معنى لها معروف يخالف المعنيين الأولين، قال الله عز وجل: {هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم}ـ معناه ما ينظرون؛ وقال الشاعر:
فهل أنتم إلا أخونا فتحدبوا = علينا إذا نابت علينا النوائب
وقال الآخر:
فهل أنا إلا من غزية إن غوت = غويت وإن ترشد غزية أرشد
وقال الآخر:
هل ابنك إلا ابن من الناس فاصبري = فلن يرجع الموتى حنين النوائح
معناه: ما ابنك إلا ابن من الناس. وأنشد الفراء:
فقلت لا بل ذاكما يا بيبا = أجدر إلا تفضحا وتحربا
هل أنت إلا ذاهب لتلعبا
معناه: ما أنت. وأنشد الفراء أيضا:
تقول إذا اقلولى وأقردت = ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم
وقال أبو الزوائد الأعرابي وتزوج امرأة فوجدها عجوزا:
عجوز ترجي أن تكون فتية = وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر
تدس إلى العطار ميرة أهلها = وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
وما راعني إلا خضاب بكفها = وكحل بعينيها وأثوابها الصفر
وزوجتها قبل المحاق بليلة = فكان محاقا كله ذلك الشهر
فأجابته:
عدمت الشيوخ وأبغضهم = وذلك من بعض أفعاليه
ترى زوجة الشيخ مغبرة = وتضحي لصحبته قاليه
فلا بارك الله في له = ولا في غضون استه الباليه
وقال بعض الناس: معنى الآية: {يوم نقول لخزنة جهنم هل امتلأت، وتقول الخزنة هل من مزيد؟}، فحذف (الخزنة) وأقيمت (جهنم) مقامهم؛ كما تقول العرب: استتب المجلس، وهم يريدون أهل المجلس، وكما يقولون: يا خيل الله اركبي، وهم يريدون أهل المجلس، وكما يقولون: يا خيل الله اركبي، وهم يريدون يا فرسان خيل الله اركبوا
وقال بعض أهل العلم: لا يجوز هذا من (جهنم)، إلا بعقل يركبه الله عز وجل فيها، فتعرف به معنى الخطاب والرد، كما جعل للبعير عقلا، حتى سجد صلى الله عليه وسلم، وكما جعل للشجرة عقلا حتى أجابته عليه السلام حين دعاها.
وقال ثعلب: ظاهر الخطاب لجهنم؛ ومعنى التوبيخ لمن حضر ممن يستحق دخولها، كما قال جل اسمه: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}، لعيسى عليه السلام، وقد علم أنه ما قال هذا قط إلا ليوبخ الكفار بإكذاب من ادعوا عليه هذه الدعوى الباطلة إياهم). [كتاب الأضداد: 191-195]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) }
قالَ أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ الحُسَينِ السُّكَّريُّ (ت: 275هـ) : (
كأن الريش والفوقين منه = خلاف النصل سيط به مشيج
...
(مشيج) دم مختلط بماء وفرث من بطن الرمية.
...
وهو من قول الله عز وجل: {أمشاج} (مشج مشجا) خلط خلطا). [شرح أشعار الهذليين: 2/619]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (ومن التشبيه الحسن قول الشاعر:
كأن المتن والشرخين منه = خلاف النصل سيط به مشيج
يريد سهمًا رمي به فأنفذ الرمية وقد اتصل به دمها، والمتن: متن السهم، وشرخ كل شيء: حده، فأراد شرخي الفوق، وهما حرفاه. والمشيج: اختلاط الدم بالنطفة، وهذا أصله، قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت = على مشج سلالته مهين
وقال الله جل وعز: {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ}. وفي الحديث: "اقتلوا مسان المشركين واستبقوا شرخهم"، أي الشباب، لأن الشرخ الحد، قال حسان بن ثابت:
إن شرخ الشباب والشعر الأس = ود ما لم يعاص كان جنونا
قال أبو العباس: وأنشدنا عمرو بن مرزوق. قال أنشدنا شعبة. قال: أنشدنا سماك بن حرب في هذا الحديث:
إن شرخ الشباب تألفه البيض = وشيب القذال شيء زهيد).
[الكامل: 2/1016-1017]
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: العنقر: ضرب من النبت. وفي قوله عز وجل: {أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} قال: أخلاط). [مجالس ثعلب: 6]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) }
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وإِمّا بالخبر بمنزلة أَو، وبينهما فصل.
وذلك أنك إذا قلت: جاءني زيد، أو عمرو، وقع الخبر في زيد يقينا حتّى ذكرت أَوْ فصار فيه وفي عمرو شكّ؛ وإِمّا تبتدئ بها شاكّاً. وذلك قولك: جاءني إمّا زيدٌ، وإمّا عمرو: أي: أحدهما. وكذلك وقوعها للتخيير؛ تقول: اضرب إمّا عبد الله، وإمّا خالدا. فالآمر لم يشكّ ولكنّه خيّر المأمور؛ كما كان ذلك في أَوْ. ونظيره قول الله عزّ وجلّ: {إنّا هديناه السّبيل إمّا شاكراً وإمّا كفورا} وكقوله: {فإمّا منّا بعد وإمّا فداء} ). [المقتضب: 1/149]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (هذا باب أمّا وإمّا
أما المفتوحة فإن فيها معنى المجازاة. وذلك قولك: أما زيدٌ فله درهم، وأما زيد فأعطه درهماً. فالتقدير: مهما يكن من شيءٍ فأعط زيدا درهماً، فلزمت الفاء الجواب؛ لما فيه من معنى الجزاء. وهو كلام معناه التقديم والتأخير. ألا ترى أنك تقول: أما زيدا فاضرب؛ فإن قدمت الفعل لم يجز؛ لأن أما في معنى: مهما يكن من شيء؛ فهذا لا يتصل به فعلٌ، وإنما حد الفعل أن يكون بعد الفاء. ولكنك تقدم الاسم؛ ليسد مسد المحذوف الذي هذا معناه، ويعمل فيه ما بعده. وجملة هذا الباب: أن الكلام بعد أما على حالته قبل أن تدخل إلا أنه لا بد من الفاء؛ لأنها جواب الجزاء؛ ألا تراه قال - عز وجل - {وأما ثمود فهديناهم} كقولك: ثمود هديناهم. ومن رأى أن يقول: زيدا ضربته نصب بهذا فقال: أما زيدا فاضربه. وقال: {فأما اليتيم فلا تقهر} فعلى هذا فقس هذا الباب. وأما إما المكسورة فإنها تكون في موضع أو، وذلك قولك: ضربت إما زيدا، وإما عمرا؛ لأن المعنى: ضربت زيدا أو عمرا، وقال الله عز وجل: {إما العذاب وإما الساعة} وقال: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً}. فإذا ذكرت إما فلا بد من تكريرها، وإذا ذكرت المفتوحة فأنت مخير: إن شئت وقفت عليها إذا تم خبرها. تقول: أما زيد فقائم، وأما قوله: {أما من استغنى. فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى. وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى} فإن الكلام مستغنٍ من قبل التكرير، ولو قلت: ضربت إما زيداً، وسكت، لم يجز؛ لأن المعنى: هذا أو هذا؛ ألا ترى أن ما بعد إما لا يكون كلاماً مستغنياً). [المقتضب: 3/27-28] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقال أعرابي أنشدنيه أبو العالية:
ألا تسأل ذا العلم ما الذي = يحل من التقبيل في رمضان؟
فقال لي المكي: أما لزوجةٍ = فسبع، وأما خلةٍ فثماني
.....
"وقوله: "أما لزوجة" فهذه مفتوحة، وهي التي تحتاج إلى خبر، ومعناها: إذا قلت: أما زيدٌ فمنطلقٌ مهما يكن من شيء فزيدٌ منطلقٌ. وكذلك: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} إنما هي: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم، وتكسر إذا كانت في معنى "أو" ويلزمها التكرير، تقول: ضربت إما زيدًا وإما عمرًا، فمعناه ضربت زيدًا أو عمرًا، وكذلك: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}، وكذلك: {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ}، و{إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا}، وإنما كررتها لأنك إذا قلت: ضربت زيدًا أو عمرًا، أو قلت: اضرب زيدًا أو عمرًا فقد ابتدأت بذكر الأول، وليس عند السامع أنك تريد غير الأول، ثم جئت بالشك، أو التخيير، وإذا قلت: ضربت إما زيدًا وإما عمرًا، فقد وضعت كلامك بالابتداء على التخيير أو على الشك، وإذا قلت: ضربت إما زيدًا وإما عمرًا، فالأولى وقعت لبنية الكلام عليها، والثانية للعطف، لأنك تعدل بين الثاني والأول، فإنما تكسر في هذا الموضع.
وزعم سيبويه أنها إن ضمت إليها "ما" فإن اضطر شاعر فحذف "ما" جاز له ذلك لأنه الأصل، وأنشد في مصداق ذلك:
لقد كذبتك نفسك فاكذبنها = فإن جزعًا وإن إجمال صبر
ويجوز في غير هذا الموضع أن تقع "إما" مكسورة، ولكن "ما" لا تكون لازمة، ولكن تكون زائدة في "إن" التي هي للجزاء. كما تزداد في سائر الكلام نحو: أين تكن أكن، وأينما تكن أكن، وكذلك متى تأتني آتك، ومتى ما تأتني آتك، فتقول: إن تأتني آتك، وإما تأتني آتك، تدغم النون في الميم لاجتماعهما في الغنة، وسنذكر الإدغام في موضع نفرده به إن شاء الله، كما قال امرؤ القيس:
فإما تريني لا أغمض ساعةٌ = من الليل إلا أن أكب فأنعسا
فيا رب مكروب كررت وراءه = وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا
وفي القرآن: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} وقال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} فأنت في زيادة "ما" بالخيار في جميع حروف الجزاء، إلا في حرفين، فإن "ما" لابد منها لعلة نذكرها إذا أفردنا باباٌ للجزاء إن شاء الله، والحرفان: حيثما تكن أكن، كما قال الشاعر:
حيثما تستقم يقدر لك الله = نجاحاٌ في غابر الأزمان).
[الكامل: 1/377-379] (م)
تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) }