تفسير قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) }
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): ( والناس حرف من الأضداد؛ يقال: ناس للناس، وناس من الجن.
قال الله عز وجل: {الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس}، أي الذي يوسوس في صدور الناس، جنتهم وناسهم. قال الفراء: حدث بعض العرب قوما، فقال: جاء قوم من الجن، فوقفوا، فقيل لهم: من أنتم؟ فقالوا: نحن ناس من الجن. وقال الله عز وجل: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن}، فأوقع النفر على الجن. وقال أيضا: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن}، فجعل من الجن رجالا يستحقون التسمية برجال، كما يستحق الناس). [كتاب الأضداد: 328] (م)
تفسير قوله تعالى: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) }
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) }
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينفع ذا الجد منك الجد.
قال: حدثنيه هشيم، قال: أخبرناه مغيرة، ومجالد، عن الشعبي، عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال:
كتب معاوية إلى المغيرة أن اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه المغيرة أني سمعته يقول إذا انصرف من الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
قال هشيم: وأخبرنا عبد الملك بن عمير، قال: سمعت ورادا كاتب المغيرة بن شعبة يحدث بهذا الحديث عن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: الجد بفتح الجيم لا غير، وهو الغنى والحظ في الرزق.
ومنه قيل: لفلان في هذا الأمر جد إذا كان مرزوقا منه.
فتأويل قوله: لا ينفع ذا الجد منك الجد أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، إنما ينفعه العمل بطاعتك.
وهذا كقوله تبارك وتعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}
وكقوله: {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا}.
ومثله كثير.
وكذلك حديثه الآخر:
قال: قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء، وإذا أصحاب الجد محبوسون يعني ذوي الحظ في الدنيا والغنى.
وقد روي عن الحسن وعكرمة في قوله تبارك وتعالى: {وأنه تعالى جد ربنا}
قال أحدهما: غناه، وقال الآخر: عظمته.
قال: وحدثني محمد بن عمر الواقدي، عن ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس قال:
لو علمت الجن أن في الإنس جدا ما قالت: {تعالى جد ربنا}
يذهب ابن عباس إلى أن الجد إنما هو الغنى ولم يكن يرى أن أبا الأب جد إنما هو عنده أب.
ويقال منه للرجل إذا كان له جد في الشيء: رجل مجدود، ورجل محظوظ من الحظ قالهما أبو عمرو.
وقد زعم بعض الناس أنه إنما هو: «ولا ينفع ذا الجِد منك الجِد» بكسر الجيم.
والجد إنما هو الاجتهاد بالعمل.
وهذا التأويل خلاف ما دعا الله عز وجل إليه المؤمنين ووصفهم به لأنه قال في كتابه: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا} فقد أمرهم بالجد والعمل الصالح.
وقال: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا}
وقال: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلواتهم خاشعون} إلى آخر الآيات.
وقال: {جزاء بما كانوا يعملون} في آيات كثيرة.
فكيف يحثهم على العمل وينعتهم به ويحمدهم عليه، ثم يقول: إنه لا ينفعهم). [غريب الحديث: 1/323-326]
قالَ يعقوبُ بنُ إسحاقَ ابنِ السِّكِّيتِ البَغْدَادِيُّ (ت: 244هـ) : (والجد القطع والجد أبو الأب وأبو الأم والجد العظمة من قوله تعالى: {جد ربنا} أي عظمة ربنا والجد الحظ والبخت ومنه قوله: لا ينفع ذا الجد منك الجد أي من كان له حظ في الدنيا لم ينفعه ذلك عندك في الآخرة والجد بكسر الجيم
الانكماش في الأمر يقال جددت في الأمر فأنا أجد فيه جدا وأجد جدا أيضا). [إصلاح المنطق: 22-23]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (والجد: الحظ، والجد والجدة، مفتوحان، فإذا أردت المصدر من جددت في الأمر، قلت: أجد جدًا مكسور الجيم، ويقال: جددت النخل أجده جدًا وجدادًا إذا صرمته. ويقال: جذذته جذًا. وتركت الشيء جذاذًا، إذا قطعته قعًا. ويروى هذا البيت لجرير على وجهين:
آل المهلب جذ الله دابرهم = أضحوا رمادًا فلا أصل ولا طرف
ويروى جد، وقرأ بعض القراء: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْدُودٍ) فأما قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} فلم يقرأ بغيره. ويقال: كم جذاذ نخلك. أي كم تصرم منها. ويروى من قول الله جل وعز: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} عن أنس بن مالك: "غنى ربنا". وقرأ سعيد بن جبير: (جدًّا رَبُّنا). وهذا الشعر ينشد بالكسر:
أجدك لم تغتمض ليلة = فترقدها مع رقادها
ومثله:
أجدك لم تسمع وصاة محمد = رسول الإله حين أوصى وأشهدا
لأن معناه أجدًا منك، على التوقيف، وتقديره في النصب: أتجد جدًا، ويقال: امرأة جداء، إذا كانت لا ثدي لها، فكأنه قطع منها، لأن أصل الجد القطع، ويقال: بلدة جداء، إذا لم تكن بها مياه. قال الشاعر:
وجداء ما يرجى بها ذو هوادة = لعرف ولا يخشى السماة ربيبها
قال أبو الحسن: السماة هم الصادة نصف النهار، وروي عن بعض أصحابنا، عن المازني قال: إنما سمي ساميًا بالمسماة، وهو خف يلبسه لئلا يسمع الوحض وطأه، وهو عندي من سما للصيد.
ينشد هذا البيت:
أبى حبي سليمى أن يبيدا = وأصبح حبلها خلقًا جديد
يقول: أصبح خلقًا مقطوعًا، لأن جديدًا في معنى مجدود أي مقطوع، كما تقول: قتيل ومقتول وجريح ومجروح.
ويقال في غير هذا المعنى: رجل مجدود، إذا كان ذا خطر وحظ، وفي الدعاء "ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، أي من كان له حظ في دنياه لم يدفع ذلك عنه ما يريد الله به. ولو قال قائل: ولا ينفع ذا الجد منك الجد - يريد الاجتهاد - لكان وجهًا). [الكامل: 2/1040-1042] (م)
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): ( إربعي إنما يريبك مني = إرث مجدٍ وجد لبٍ أصيل
كذا أنشدنا أبو عكرمة وجد بفتح الجيم وأنشدينه أبو جعفر وجد لب بكسر الجيم إرث أصل الجد بالفتح أبو الأب وأبو الأم والحظ، و{تعالى جد ربنا} أي: عظمته والجد بالكسر الانكماش، قد جد الرجل في الأمر وأجد فهو جاد ومجد أي: انكمش، ولقد جددت يا رجل فأنت تجد أي: صرت ذا حظ). [شرح المفضليات: 508]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): ( جددت بحبها وهزلت حتى = كبرت وقيل إنك مستهام
قال الطوسي: يقال جد الرجل في الأمر يجد وأجد يجد فهو جاد ومجد والرجلان مختلفان جدًا هذه مكسورة لا غير، وجد النخل يجده جدًا إذا صرمه والجد في الانكماش مكسور والجد: الحظ والبخت والجدان أبو الأب وأبو الأم، والجد عظمة الله تعالى وقد جددت يا رجل تجد إذا صرت ذا جدٍ، قال: ولقد يجد المرء وهو مقصر، وهزلت أي لعبت والهزل ضد الجد، قال الكميت:
أرانا على حب الحياة وطولها = يجد بنا في كل يومٍ ونهزل
وقد هزل الرجل في بدنه هزلاً وهزالاً، وأهزل الرجل إذا هزل ماله وعياله وقد هزل ماله وعياله). [شرح المفضليات: 648-649]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (وقد جد الرجل في الأمر إذا انمكش فيه يجد وأجد يجد فهو جاد ومجد وجد يجد في الأمر إذا كان فيه ذا حظٍ. وتقول منه للرجل: لقد جددت يا رجل تجد، وجد النخلة يجدها إذا صرمها. والجد: العظمة {تعالى جد ربنا} أي: عظمته، والجد أبو الأب وأبو الأم. وقولهم في الدعاء: ولا ينفع ذا الجد منك الجد). [شرح المفضليات: 721]
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) }
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (والشطاط البعد). [الغريب المصنف: 3/815] (م)
قالَ أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ الحُسَينِ السُّكَّريُّ (ت: 275هـ) : (
ولا تخنوا علي ولا تشطوا = بقول الفخر إن الفخر حوب
....
و(الشطط) الجور). [شرح أشعار الهذليين: 1/111]
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) }
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) }
قال أبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني (ت: 213هـ): (وقال: رهق فلان: خاف. والرَّهَق: الخوف والفزع؛ قد أرهقه، قد أخافه). [كتاب الجيم: 1/294] (م)
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (والناس حرف من الأضداد؛ يقال: ناس للناس، وناس من الجن.
قال الله عز وجل: {الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس}، أي الذي يوسوس في صدور الناس، جنتهم وناسهم. قال الفراء: حدث بعض العرب قوما، فقال: جاء قوم من الجن، فوقفوا، فقيل لهم: من أنتم؟ فقالوا: نحن ناس من الجن. وقال الله عز وجل: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن}، فأوقع النفر على الجن. وقال أيضا: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن}، فجعل من الجن رجالا يستحقون التسمية برجال، كما يستحق الناس). [كتاب الأضداد: 328] (م)
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) }
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) }
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) }
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) }
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) }
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) }
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (والظن يكون بمعنى الشك والعلم، لأن المشكوك فيه قد يُعْلَم.
كما قيل راج للطمع في الشيء، وراج للخائف، لأن الرجاء يقتضي الخوف إذ لم يكن صاحبه منه على يقين.
...
فأول ذلك الظن. يقع على معان أربعة: معنيان متضادات: أحدهما الشك، والآخر اليقين الذي لا شك فيه.
فأما معنى الشك فأكثر من أن تحصى شواهده. وأما معنى اليقين فمنه قول الله عز وجل: {وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا}، معناه علمنا. وقال جل اسمه: {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها}، معناه فعلموا بغير شك، قال دريد، وأنشدناه أبو العباس:
فقلت لهم ظنوا بألفى مقاتل = سراتهم في الفارسي المسرد
معناه تيقنوا ذلك، وقال الآخر:
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم = وأجعل مني الظن غيبا مرجما
معناه: وأجعل مني اليقين غيبا. وقال عدي بن زيد:
أسمد ظني إلى المليك ومن = يلجأ إليه فلم ينله الضر
معناه أسند علمي ويقيني. وقال الآخر:
رب هم فرجته بعزيم = وغيوب كشفتها بظنون
معناه كشفتها بيقين وعلم ومعرفة؛ والبيت لأبي داود.
وقال أوس بن حجر:
فأرسلته مستيقن الظن أنه = مخالط ما بين الشراسيف جائف
معناه: مستيقن العلم.
والمعنيان اللذان ليسا متضادين: أحدهما الكذب، والآخر التهمة، فإذا كان الظن بمعنى الكذب قلت: ظن فلان، أي كذب، قال الله عز وجل: {إن هم إلا يظنون}، فمعناه: إن هم إلا يكذبون؛ ولو كان على معنى الشك لاستوفى منصوبيه، أو ما يقوم مقامهما.
وأما معنى التهمة فهو أن تقول: ظننت فلانا، فتستغني عن الخبر، لأنك اتهمته، ولو كان بمعنى الشك المحض لم يقتصر به على منصوب واحد.
ويقال: فلان عندي ظنين، أي متهم، وأصله «مظنون»، فصرف عن «مفعول» إلى «فعيل»، كما قالوا: مطبوخ وطبيخ، قال الشاعر:
وأعصي كل ذي قربى لحاني = بجنبك فهو عندي كالظنين
وقال الله عز وجل: (وما هو على الغيب بظنين)، فيجوز أن يكون معناه «بمتهم». ويجوز أن يكون معناه «بضعيف»، من قول العرب: وصل فلان ظنون، أي ضعيف، فيكون الأصل فيه: وما هو على الغيب بظنون، فقلبوا الواو ياء، كما قالوا: ناقة طعوم وطعيم، للتي بين الغثة والسمينة؛ في حروف كثيرة يطول تعديدها وإحصاؤها.
وقال أبو العباس: إنما جاز أن يقع الظن على الشك واليقين؛ لأنه قول بالقلب؛ فإذا صحت دلائل الحق، وقامت أماراته كان يقينا، وإذا قامت دلائل الشك وبطلت دلائل اليقين كان كذبا، وإذا اعتدلت دلائل اليقين والشك كان على بابه شكا لا يقينا ولا كذبا). [كتاب الأضداد: 14-16]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (فإن قال قائل: إن معنى قول الله عز وجل: {قال
الذين يظنون أنهم ملاقو الله}، يظنون أنهم ملاقو ثواب الله، كان ذلك جائزا. والظن بمعنى الشك.
ولا يبطل بهذا التأويل قول من جعل الظن يقينا، لأن قوله: {أنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض}، لا يحتمل معنى الشك، والظنة عند العرب الشك، ولا تجعل في الموضع الذي يراد به اليقين، قال الشاعر:
إن الحماة أولعت بالكنه = وأبت الكنة إلا ظنه
والظنون أيضا لا يستعمل إلا في معنى التهمة والضعف، قال الشاعر:
ألا أبلغ لديك بني تميم = وقد يأتيك بالرأي الظنون
أي المتهم أو الضعيف. ويقال في جمع الظنة الظنائن، قال الشاعر:
تفرق منا من نحب اجتماعه = وتجمع منا بين أهل الظنائن
ويروى:
تباعد منا من نحب اجتماعه = وتجمع منا ... ... ...
ولا يجمع من هذا الباب على «فعائل» إلا ما كان فيه إدغام أو اعتلال؛ كقولهم: حاجة وحوائج؛ قال الشاعر، أنشده الفراء:
بدأن بنا لا راجيات لرجعة = ولا يائسات من قضاء الحوائج
وأنشد أبو العباس:
إن الحوائج ربما أزرى بها = عند الذي تقضي به تطويلها
وأكثر ما تقول العرب في جمع الحاجة: حاجات وحاج وحوج، أنشد الفراء:
إلا ليت سوقا بالكناسة لم يكن = إليها لحاج المسلمين طريق
أراد لحوائج المسلمين. وأنشد أبو عبيدة:
ومرسل ورسول غير متهم = وحاجة غير مزجاة من الحاج
أراد غير ناقصة من الحوائج، والمزجاة المسوقة، تقول: أزجيت مطيتي أي سقتها، قال الله عز وجل: {ببضاعة مزجاة}. وقال الآخر: يهجو عبد الله بن الزبير:
أرى الحاجات عند أبي خبيب = نكدن ولا أمية بالبلاد
وقال الآخر:
تموت مع المرء حاجاته = وتبقى له حاجة ما بقي
وأنشد الفراء:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي = وعن حوج قضاؤها من شفائيا
قضاؤها مصدر، من القضاء، بمنزلة الكذاب من الكذب). [كتاب الأضداد: 18-21] (م)
تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) }
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (وقال ذو الرمة:
وأنّي متى أشرف على الجانب الذي = به أنت من بين الجوانب ناظر
أي ناظرٌ متى أشرف فجاز هذا في الشعر وشبهوه بالجزاء إذا كان جوابه منجزماً لأن المعنى واحد كما شبه الله يشكرها وظالم فإذا هم يقنطون جعله بمنزلة يظلم ويشكرها الله كما كان هذا بمنزلة قنطوا وكما قالوا في اضطرارٍ إن تأتني أنا صاحبك يريد معنى الفاء فشبهه ببعض ما يجوز في الكلام حذفه وأنت تعنيه.
وقد يقال إن أتيتني آتك وإن لم تأتني أجزك لأن هذا في موضع الفعل المجزوم وكأنه قال إن تفعل أفعل.
ومثل ذلك قوله عز وجل: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها} فكان فعل وقال الفرزدق
دسّت رسولاً بأنًّ القوم إن قدروا = عليك يشفوا صدوراً ذات توغير
وقال الأسود بن يعفر:
ألا هل لهذا الدّهر من متعلّل = عن النّاس مهما شاء بالناس يفعل
وقال إن تأتني فأكرمك أي فأنا أكرمك فلا بد من رفع فأكرمك إذا سكت عليه لأنه جواب وإنما ارتفع لأنه مبني على مبتدأ.
ومثل ذلك قوله عز وجل: {ومن عاد فينتقم الله منه} ومثله: {ومن كفر فأمتعه قليلا} ومثله: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا}). [الكتاب: 3/68-69] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وكل بابٍ فأصله شيءٌ واحدٌ، ثم تدخل عليه دواخل؛ لاجتماعها في المعنى. وسنذكر إن كيف صارت أحق بالجزاء? كما أن الألف أحق بالاستفهام، وإلا أحق بالاستثناء، والواو أحق بالعطف مفسراً إن شاء الله في هذا الباب الذي نحن فيه.
فأما إن فقولك: إن تأتني آتك، وجب الإتيان الثاني بالأول، وإن تكرمني أكرمك، وإن تطع الله يغفر لك، كقوله عز وجل: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم} {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم}.
والمجازاة ب إذما قولك: إذما تأتني آتك؛ كما قال الشاعر:
إذ ما أنيت على الرسول فقل له = حقاً عليك إذا اطمأن المجلـس
ولا يكون الجزاء في إذ ولا في حيث بغير ما؛ لأنهما ظرفان يضافان إلى الأفعال. وإذا زدت على كل واحد منهما ما منعتا الإضافة فعملتا. وهذا في آخر الباب يشرح بأكثر من هذا الشرح إن شاء الله.
وأما المجازاة بـ (من) فقوله عز وجل: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} وقوله: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً}.
وبـ (ما) قوله: {ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلا ممسك لها}.
وبـ أين قوله عز وجل: {أينما تكونوا يدرككم الموت}. وقال الشاعر:
أين تضرب بنا العداة تجـدنـا = نصرف العيس نحوها للتلاقي
وبـ أنى قوله:
فأصبحت أنى تأتها تلتبس بـهـا = كلا مركبيها تحت رجليك شاجر
ومن حروف المجازاة مهما. وإنما أخرنا ذكرها؛ لأن الخليل زعم أنها ما مكررة، وأبدلت من الألف الهاء. وما الثانية زائدة على ما الأولى؛ كما تقول: أين وأينما، ومتى ومتى ما، وإن وإما، وكذلك حروف المجازاة إلا ما كان من حيثما وإذما. فإن ما فيهما لازمة. لا يكونان للمجازاة إلا بها، كما تقع رب على الأفعال إلا بـ ما في قوله: {ربما يود الذين كفروا}، ولو حذفت منها ما لم تقع إلا على الأسماء النكرات، نحو: رب رجل يا فتى.
والمجازاة بـ(أي) قوله: {أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} ). [المقتضب: 2/45-48] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وما تكون لغير الآدميين؛ نحو ما تركب أركب، وما تصنع أصنع. فإن قلت: ما يأتني آته تريد: الناس لم يصلح.
فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {والسماء وما بناها}. ومعناه: ومن بناها، وكذلك {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم}.
قيل: قد قيل ذلك. والوجه الذي عليه النحويون غيره، إنما هو والسماء وبنائها، وإلا على أزواجهم أو ملك أيمانهم. فهي مصادر وإن دلت على غيرها ممن يملك. كقولك: هذا ملك يمينك، وهذا الثوب نسج اليمن وهذا الدرهم ضرب الأمير. ولو كان على ما قالوا لكان على وضع النعت في موضع المنعوت لأن ما إنما تكون لذوات غير الآدميين. ولصفات الآدميين. تقول: من عندك? فيقول: زيدٌ. فتقول: ما زيدٌ? فيقول: جوادٌ أو بخيلٌ أو نحو ذلك، فإنما هو لسؤال عن نعت الآدميين. والسؤال عن كل ما يعقل ب من كما قال عز وجل: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض}. فـ من لله عز وجل؛ كما قال: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه} وهذا في القرآن أكثر. وقال تبارك اسمه: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته}. يعني الملائكة. وكذلك في الجن في قوله: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً} فهذا قولي لك: إنها لما يخاطب ويعقل). [المقتضب: 2/51-52] (م)