تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) }
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (هذا باب ما يكون مضمرا فيه الاسم
متحولا عن حاله إذا أظهر بعده الاسم
وذلك لولاك ولولاي إذا أضمرت الاسم فيه جر وإذا أظهرت رفع ولو جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت لولا أنت كما قال سبحانه: {لولا أنتم لكنا مؤمنين} ولكنهم جعلوه مضمرا مجرورا). [الكتاب: 2/373]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (أما قوله: لولاك فإن سيبويه يزعم أن لولا تخفض المضمر ويرتفع بعدها الظاهر بالابتداء. فيقال: إذا قلت لولاك، فما الدليل على أن الكاف مخفوضة دون أن تكون منصوبة، وضمير النصب كضمير الخفض? فتقول: إنك تقول لنفسك: لولاي، ولو كانت منصوبة لكانت النون قبل الياء، كقولك: رماني وأعطاني، قال يزيد بن الحكم الثقفي:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى = بأجرامه من قلة النيق منهوي
النيق: أعلى الجبل، وجزم الإنسان خلقه.
فيقال له: الضمير في موضع ظاهره، فكيف يكون مختلفًا? وإن كان هذا جائزًا فلم لا يكون في الفعل وما أشبهه، نحو إن وما كان معها في الباب? وزعم الأخفش سعيد أن ضمير مرفوع، ولكن وافق ضمير الخفض، كما يستوي الخفض والنصب، فيقال: فهل هذا في غير هذا الموضع? قال أبو العباس: والذي أقوله أن هذا خطأ لا يصلح، إلا أن تقول: لولا أنت، كما قال عز وجل: {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}. ومن خالفنا "فهو لا بد" يزعم أن الذي قلناه أجود، ويدعي الوجه الآخر فيجيزه على بعده). [الكامل: 3/1277-1278]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): ( وإذ وإذا حرفان؛ تكون (إذ) للماضي و(إذا) للمستقبل، وهذا هو المشهور فيهما، وتكون إذ للمستقبل، وإذا للماضي إذا شهر المعنى ولم يقع فيه لبس. فأما كون إذ للماضي وإذا للمستقبل فشهرته تغني عن إقامة الشواهد عليه، وأما كون إذ للمستقبل فقول الله عز وجل: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم}، أراد المستقبل، وكذلك قوله: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت}، معناه إذا يفزعون. وقال جل جلاله: {إذ قال الله يا عيسى بن مريم}، معناه: (وإذا يقول الله)؛ وأما كون إذا للماضي فقول الشاعر، وهو أوس بن حجر:
والحافظ الناس في الزمان إذا = لم يتركوا تحت عائذ ربعا
وهبت الشمال البليل وإذ = بات كميع الفتاة ملتفعا
أراد: إذ لم يتركوا تحت عائذ، والعائذ: الناقة الحديثة النتاج، وجمعها عوذ
وقال بعض أهل اللغة: إذا لم تقع في هذا البيت إلا للمستقبل؛ لأن المعنى: والذي يحفظ الناس إذا كان كذا وكذا، والأول قول قطرب.
وقال الآخر:
فالآن إذ هازلتهن فإنما = يقلن ألا لم يذهب المرء مذهبا
معناه إذا هازلتهن، وقال أبو النجم:
ثم جزاه الله عنا إذ جزى = جنات عدن في العالي العلا
أراد إذا جزى.
وقال بعض أهل العلم: إنما جاز أن تكون إذ بمعنى إذا في قوله: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم}، لأنه لما وقع في علم الله عز وجل أن هذا كائن لا محالة كان بمنزلة المشاهد الموجود، فخبر عنه بالمضي، كما قال: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار}، وهو يريد: (وينادي) وروى قطرب هذا البيت:
وندمان يزيد الكأس طيبا = سقيت إذا تغورت النجوم
أراد (إذا تغورت). ورواه غير قطرب: (سقيت وقد تغورت) ). [كتاب الأضداد: 118-119]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) }
تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) }
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (ومثل ما أجرى مجرى هذا في سعة الكلام والاستخفاف قوله عزّ وجلّ: {بل مكر الليل والنهار}. فالليل والنهار لا يمكران ولكنّ المكر فيهما). [الكتاب: 1/176]
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (ومما جاء على اتّساع الكلام والاختصار قوله تعالى جدّه: {واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها} إنّما يريد أهل القرية فاختصر وعمل الفعل في القرية كما كان عاملاً في الأهل لو كان ها هنا.
ومثله: {بل مكر الليل والنهار} وإنّما المعنى بل مكركم في الليل والنهار. وقال عزّ وجلّ: {ولكن البر من آمن بالله} وإنّما هو ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله واليوم الآخر.
ومثله في الاتّساع قوله عزّ وجلّ: {ومثل الّذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً} فلم يشبّهوا بما ينعق وإنّما شبّهوا بالمنعوق به. وإنّما المعنى مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع. ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى). [الكتاب: 1/212] (م)
قال محمد بن المستنير البصري (قطرب) (ت:206هـ): (ويقال أيضا: أسررت الشيء، كتمته، وأسررته: أظهرته. وقد سر زيد ذلك، أي: أظهره. وقال الله عز وجل: {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} يجوز أن يكون المعنى: أظهروا لقولهم: {يا ليتنا نرد} وقولهم: {لو أن لنا كرة}. فقد أظهروا الندامة، إلا أن ابن عباس كان يقول: أخفوها في أنفسهم. وقال الفرزدق
فلما رأى الحجاج جرد سيفه = أسر الحروري الذي كان أضمرا
قالوا: يريد أظهر الذي كان أضمر وما كان في نفسه فيكون المعنى على أسررت الشيء أظهرته). [الأضداد: 89-90]
قال عبدُ الملكِ بنُ قُرَيبٍ الأصمعيُّ (ت: 216هـ) : (*سر* ويقال أسررت الحديث كتمته وأسررته: أظهرته، قال الشاعر وهو الفرزدق (الطويل):
فلما رأي الحجاج جرد سيفه = أسر الحروري الذي كان أضمرا
وقال الله جل ثناؤه: {وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} أي: أظهروها). [كتاب الأضداد: 21]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وتقول: سير بزيد سيرٌ شديد، وسير بزيد سيرتان. فإن قلت: سير بزيد سيراً فالنصب الوجه، والرفع بعيد؛ لأنه توكيد، وقد خرج من معاني الأسماء. قال الله - عز وجل -: {فإذا نفخ في الصور نفخةٌ واحدةٌ} فرفع لما نعت. فإذا أخبرت عن الصور قلت: المنفوخ فيه نفخةٌ واحدة الصور. وإن أخبرت عن النفخة قلت: المنفوخة في الصور نفخةٌ واحدةٌ. وتقول: سير بزيد فرسخٌ إذا أقمته مقام الفاعل. فإن قيل: أخبر عنه، قلت: المسير بزيد فرسخٌ. فإن قيل: أخبر عن زيد قلت: المسير به فرسخٌ زيدٌ. وإن قلت: سير بزيد فرسخا، فنصبته نصب الظروف، ولم تقمه مقام الفاعل لم يجز الإخبار عنه. وكذلك سير بزيد يوماً، وسير بزيد سيرا. وكل ما لم تجعله من مصدر، أو ظرف اسماً فاعلاً أو مفعولاً على السعة لم يجز الإخبار عنه؛ لأن ناصبه معه؛ ألا ترى أنك إذا قلت: سير بزيد سيرا، فجعلت قولك بزيد تماماً فإنما هو على قولك: يسيرون سيراً. وإنما يكون الرفع على مثل قولك: سير بزيد يومان، وولد له ستون عاماً. فالمعنى: ولد لزيد الولد ستين عاماً، وسير به في يومين، وهذا الرفع الذي ذكرناه اتساعٌ. وحقيقة اللغة غير ذلك. قال الله عز وجل: {بل مكر الليل والنهار} ). [المقتضب: 3/104-105] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (واعلم أن هذه الظروف المتمكنة يجوز أن تجعلها أسماء فتقول: يوم الجمعة قمته، في موضع قمت به، والفرسخ سرته، ومكانكم جلسته، وإنما هذا اتساع، والأصل ما بدأنا به لأنها مفعول فيها، وليست مفعولاً بها. وإنما هذا على حذف حرف الإضافة.
ألا ترى أن قولك: مررت بزيد لو حذفت الباء قلت: مررت زيداً، إلا أنه فعل لا يصل إلا بحرف إضافة. وعلى هذا قول الله عز وجل: {واختار موسى قومه سبعين رجلاً} إنما هو والله أعلم من قومه. فلما حذف حرف الإضافة، وصل الفعل فعمل. وقال الشاعر:
منا الذي اختير الرجال سمـاحةً = وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
يريد: من الرجال، وقال الآخر:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به = فقد تركتك ذا مال وذا نـشـب
يريد: بالخير. وقال:
أستغفر الله ذنباً لست محصيه = رب العباد إليه الوجه والعمل
يريد من ذنب. فهذا على هذا. فمما جاء مثل ما وصفت لك في الظروف قوله:
ويوم شهدناه سليمـاً وعـامـراً = قليلاً سوى الطعن النهال نوافله
يريد: شهدنا فيه.
فأما قول الله عز وجل: {بل مكر الليل والنهار} فإن تأويله والله أعلم بل مكركم في الليل والنهار، فأضيف المصدر إلى المفعول؛ كما تقول: رأيت بناء دارك جيداً، فأضفت البناء إلى الدار، وإنما البناء فعل الباني). [المقتضب: 4/330-331] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (مزؤودة: ذات زؤدٍ، وهو الفزع، فمن نصب "مزؤودة "أراد المرأة. ومن خفض فإنه أراد الليلة، وجعل الليلة ذات فزع، لأنه يفزع فيها، قال الله عز وجل: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} والمعنى: بل مكركم في الليل والنهار). [الكامل: 1/175]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (ومن أمثال العرب إذا طال عمر الرجل أن يقولوا: "لقد أكل الدهر عليه وشرب"، إنما يريدون أنه أكل هو وشرب دهرًا طويلاً، قال الجعدي:
أكل الدهر عليهم وشرب
والعرب تقول: نهارك صائم، وليلك قائم، أي أنت قائم في هذا وصائم في ذاك، كما قال الله عز وجل: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} والمعنى والله أعلم، بل مكركم في الليل والنهار، وقال جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى = ونمت وما ليل المطي بنائم).
[الكامل: 1/285]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (قوله: من يكون نهاره جلادًا ويمسي ليله غير نائم يريد يمسي هو في ليله ويكون ه في نهاره، ولكنه جعل الفعل لليل والنهار على السعة، وفي القرآن: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}. والمعنى بل مكركم في الليل والنهار، وقال من أهل البحرين من اللصوص:
أما النهار ففي قيد وسلسلة = والليل في جوف منحوت من الساج
وقال آخر:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى = ونمت وما ليل المطي بنائم
ولو قال: من يكون نهاره جلادًا ويمسي ليله غير نائم.
فكان جيدًا، وذاك أنه أراد من يكون نهاره يجالد جلادًا، كما تقول: إنما أنت سيرًا، وإنما أنت ضربًا تريد تسير سيرًا، وتضرب ضربًا، فأضمر لعلم المخاطب أنه لا يكون هو سيرًا، ولو رفعه على أن يجعل الجلاد في موضع المجالد، على قوله: أنت سير أي أنت جائز كما قالت الخنساء:
............ = فإنما هي إقبال وإدبار
وفي القرآن: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} أي غائرًا، وقد مضى تفسير هذا بأكثر من هذا الشرح، ولو قال: ويسمي ليله غير نائم لجاز: يصير اسمه في يمسي، ويجعل ليله ابتداء، وغير نائم خبره على السعة التي ذكرت لك). [الكامل: 3/1356-1357]
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): ( {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ} قال: من رؤسائهم). [مجالس ثعلب: 231]