قوله تعالى: { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِى ٱلْقَتْلَى ۖ ٱلْحُرُّ بِٱلْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلْأُنثَىٰ بِٱلْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِىَ لَهُۥ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌۭ فَٱتِّبَاعٌۢ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌۭ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌۭ ۗ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ(178)}
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (الآية السابعة: قوله تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [178 / البقرة] وها هنا موضع النسخ من الآية الأنثى وباقيها محكم وناسخها قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} الآية [45 / المائدة] وقيل ناسخها قوله في سورة بني إسرائيل {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل} [33 مدنية / الإسراء / 17] وقتل الحر بالعبد إسراف وكذلك قتل المسلم بالكافر.) .[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 19-30]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (باب ذكر الآية الرّابعة
{يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ} [البقرة: 178]
في هذه الآية موضعان أحدهما {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [البقرة: 178] فيه خمسة أقوالٍ منها:
ما حدّثناه عليل بن أحمد، قال: حدّثنا محمّد بن هشامٍ السّدوسيّ، قال: حدّثنا عاصم بن سليمان، قال: حدّثنا جويبرٌ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ،
{الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [البقرة: 178] قال: " نسختها {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} [المائدة: 45]
" وروى ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قال: " كان الرّجل لا يقتل بالمرأة ولكن يقتل الرّجل بالرّجل والمرأة بالمرأة فنزلت {أنّ النّفس بالنّفس} [المائدة: 45]
" قال أبو جعفرٍ: فهذا قولٌ
وقال الشّعبيّ: نزلت في قومٍ تقاتلوا فقتل بينهم خلقٌ فنزل هذا لأنّهم قالوا: لا نقتل بالعبد منّا إلّا الحرّ ولا بالأنثى إلّا الذّكر
وقال السّدّيّ: نزلت في فريقين وقعت بينهم قتلى فأمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقاصّ بينهم ديات النّساء بديات النّساء وديات الرّجال بديات الرّجال
والقول الرّابع قول الحسن البصريّ، رواه عنه قتادة، وعوفٌ، وزعم أنّه قول عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه قال:
هذا على التّراجع إذا قتل رجلٌ امرأةً كان أولياء المرأة بالخيار إن شاءوا قتلوا الرّجل وأدّوا نصف الدّية وإن شاءوا أخذوا نصف الدّية فإذا قتلت امرأةٌ رجلًا فإن شاء أولياء الرّجل قتلوا المرأة وأخذوا نصف الدّية وإن شاءوا أخذوا الدّية كاملةً، وإذا قتل رجلٌ عبدًا فإن شاء مولى العبد أن يقتل الرّجل ويؤدّي بقيّة الدّية بعد ثمن العبد، وإذا قتل عبدٌ رجلًا فإن شاء أولياء الرّجل أن يقتلوا العبد ويأخذوا بقيّة الدّية وإن شاءوا أخذوا الدّية
والقول الخامس: إنّ الآية معمولٌ بها يقتل الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى بهذه الآية ويقتل الرّجل بالمرأة، والمرأة بالرّجل، والحرّ بالعبد، والعبد بالحرّ لقوله جلّ وعزّ {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليّه سلطانًا} [الإسراء: 33] ولقول رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم الّذي نقله الجماعة: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» وهو صحيحٌ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
كما قرئ على أحمد بن شعيبٍ، عن محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عبّادٍ، قال: انطلقت أنا والأشتر إلى عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه فقلنا: هل عهد إليك نبيّ اللّه صلّى الله عليه وسلّم شيئًا لم يعهده إلى النّاس؟ قال: لا إلّا ما في كتابي هذا، فأخرج كتابًا من قراب سيفه فإذا فيه «المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يدٌ على من سواهم ويسعى بذمّتهم أدناهم، لا يقتل مؤمنٌ بكافرٍ ولا ذو عهدٍ في عهده، من أحدث حدثًا فعلى نفسه ومن آوى محدثًا فعليه لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين»
قال أبو جعفرٍ: فسوّى رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بين المؤمنين في الدّماء شريفهم ووضيعهم وحرّهم وعبدهم وهذا قول الكوفيّين في العبد خاصّةً فأمّا في الذّكر والأنثى فلا اختلاف بينهم إلّا ما ذكرناه من التّراجع
والموضع الآخر قوله تعالى {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف}[البقرة: 178] الآية قيل: هي ناسخةٌ لما كان عليه بنو إسرائيل من القصاص بغير ديةٍ
كما حدّثنا أحمد بن محمّد بن نافعٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا عبد الرّزّاق،
قال: أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، وابن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: " كان القصاص في بني إسرائيل ولم تكن الدّية فقال اللّه جلّ وعزّ لهذه الأمّة {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} [البقرة: 178] قال: والعفو أن تقبل الدّية في العمد، {فاتّباعٌ بالمعروف} [البقرة: 178] من الطّالب ويؤدّي إليه المطلوب بإحسانٍ {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} [البقرة: 178] عمّا كتب على من كان قبلكم "
قال أبو جعفرٍ: يكون التّقدير فمن صفح له عن الواجب عليه من الدّم فأخذت منه الدّية، وقيل: عفي بمعنى كثر من قوله جلّ وعزّ {حتّى عفوا} [الأعراف: 95]
وقيل: كتب بمعنى فرض على التّمثيل، وقيل: كتب عليكم في اللّوح المحفوظ وكذا كتب في آية الوصيّة وهي الآية الخامسة ). [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/454-630]
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية العاشرة قوله تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحرّ} الآية وذلك أن حيين اقتتلا قبل الإسلام بقليل وكان لأحدهما على الآخر طول فلم يقتصّ أحدهما من صاحبه حتّى جاء الإسلام فقال الأكثرون لا نرضى أن يقتل بالعبد منا إلّا الحر منهم وبالمرأة منا إلّا الرجل منهم فسوى الله تعالى بينهما في القصاص ونزل {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} إلى ههناموضع النّسخ وباقي الآية محكم وأجمع المفسّرون على نسخ ما فيها من المنسوخ واختلفوا في ناسخها قال العراقيّون وجماعة ناسخها الآية الّتي في المائدة وهي قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} الآية فإن قيل هذا كتب على بني إسرائيل كيف يلزمنا حكمه فالجواب على ذلك أن آخر الآية ألزمنا ذلك وهو قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظّالمون}وقال الحجازيون وجماعة إن ناسخها الآية الّتي في بني إسرائيل وهي قوله تعالى {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطانا فلا يسرف في القتل} وقتل المسلم بالكافر إسراف وكذلك قتل الحر بالعبد لا يجوز عند جماعة من النّاس ,,وقال العراقيّون يجوز واحتجّوا بحديث ابن البيلماني أن النّبي (صلى الله عليه وسلم) قتل مسلما بكافر معاهد وقال أنا أحق من وفي بعهده). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (
قوله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} الآية.
يجب من ظاهر لفظ الآية أن لا يقتل الرّجل بالمرأة، ولا المرأة بالرّجل، ولا العبد بالحرّ ولا الحرّ بالعبد.
وقال ابن عباس: هذا منسوخٌ بقوله في المائدة: {النّفس بالنّفس} [المائدة: 45].
فهذه الآية أوجبت قتل الرّجل بالمرأة، والمرأة بالرّجل، والعبد
بالحرّ، وهذا لا يجوز عند جماعةٍ من العلماء؛ لأنّ ما فرضه الله علينا لا ينسخه ما حكى الله لنا من شريعة غيرنا؛ إنّما أخبرنا الله -في المائدة- بما شرع لغيرنا، لم يفرضه علينا، فيكون ناسخًا لما تقدّم من سنّة الفرض علينا.
ولكن: الآيتان محكمتان لا نسخ في واحدةٍ منهما، على ما نبيّنه بعد -إن شاء الله تعالى-.
وفي هذه الآية أربعة أقوالٍ غير القول الأول الذي ذكرناه:
الأول: قاله الشعبي وغيره، قالوا: آية البقرة مخصوصةٌ نزلت في قوم تقاتلوا، فقتل منهم خلقٌ كثيرٌ وكانت إحدى الطّائفتين أعزّ من الأخرى، فقالت العزيزة: لا يقتل العبد منّا إلا بالحرّ منكم، ولا بالأنثى منّا إلا بالرّجل منكم، فنزلت الآية في ذلك، ثم هي في كلّ من أراد أن يفعل كفعلهم، فهي محكمة.
الثاني: قاله السّدّي، قال: هي مخصوصةٌ في فريقين تقاتلا
على عهد النبي عليه السلام ووقع بينهما قتلى، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفادى بينهم، ديّات النّساء بديّات النّساء، وديّات الرّجال بديّات الرّجال، فهي في شيءٍ بعينه، وهي تعبّدٌ لمن يأتي بعدهم، فهي محكمة.
الثالث: قاله الحسن البصريّ، قال: نزلت آية البقرة في نسخ التّراجع الذي كانوا يفعلونه، وذلك أنهم كانوا يحكمون فيما بينهم أنّ الرّجل إذا قتل امرأةً، كان أولياء المرأة بالخيار، إن شاؤوا قتلوا الرّجل، وأدّوا نصف ديته، وإن شاؤا أخذوا نصف دية رجل. وإذا قتلت المرأة رجلاً، كان أولياء الرجل مخيّرين إن شاءوا قتلوا المرأة وأخذوا نصف دية الرجل وإن شاءوا أخذوا الدّية كاملةً، ولم يقتلوا المرأة، فنسخ الله ذلك من فعلهم. وقد روي هذا القول عن عليٍّ -رضي الله عنه- فتكون هذه الآية -على هذا القول- محكمةً ناسخةً لما كانوا يفعلونه.
الرابع: قاله أبو عبيد، قال: آية المائدة مفسّرةٌ لآية البقرة؛ لأن أنفس الأحرار متساويةٌ فيما بينهم.
وعلى هذا أكثر الفقهاء.
يقتل الحرّ بالحرّ والأنثى بالأنثى بآية البقرة وآية المائدة.
ويقتل الرّجل بالمرأة، والمرأة بالرّجل بآية المائدة.
والآية -عند مالك- محكمةٌ، وروي عنه أنه قال: أحسن ما سمعت في هذه الآية، أنها يراد بها الجنس، الذّكر والأنثى فيه سواء. وأشار أبو عبيدٍ إلى أن قوله هو مذهب ابن عباس.
ومعنى قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف} [البقرة: 178] الآية:
قال مؤلفو النّاسخ والمنسوخ: هذا ناسخٌ لما كان عليه بنو إسرائيل من امتناع أخذ الدّية، فخفّف الله عن هذه الأمّة، وأباح لهم العفو عن القاتل عمدًا وأخذ الدّية.
قال أبو محمد: وقد كان يجب ألاّ يذكروا هذه الآية وشبهها في الناسخ والمنسوخ؛ لأنها كآي القرآن كلّها التي نسخت شرائع الكفار وأهل الكتاب، ولو نسخت آيةً أخرى لوجب ذكرها. وقد بيّنا هذا.
وفي هذه الآية إشكالٌ -على مذهب مالك- نبيّنه إن شاء الله تعالى: المعروف من مذهب مالكٍ وأصحابه: أن المعفوّ له بالديّة وليّ الدّم، عفي له بديّة أعطيها عوضًا من قتل القاتل فقبلها والعافي: القاتل عفا عن نفسه بأن بذل الديّة.
والتقدير: فمن أعطي ديّة فقبلها فعليه أن يتبع المعطي بالمعروف، وعلى المعطي أن يؤدّي ما بذل بإحسانٍ.
فـ "من". في قوله: {فمن عفي له}: اسم وليّ الدم.
فاتّباعٌ بالمعروف: أمرٌ للوليّ أن يتبع القاتل فيما بذل له من الدّية بمعروف.
وقوله: وأداءٌ إليه بإحسان: أمرٌ للقاتل أمر أن يؤدّي إلى الوليّ ما بذل له من الدّية بإحسان.
وفي رجوع الهاءات بيان هذا المعنى: فالهاء في "له" وفي "أخيه"، وفي "إليه" يعدن على الوليّ.
والأخ: هو القاتل.
وعفي له -على هذا القول- معناه: يسّر.
فهذا مذهب مالكٍ وأصحابه.
وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: معناها:
من أعطي له من أخيه شيءٌ من العقل فرضي به فليتبعه بالمعروف، وليؤدّه إليه القاتل بإحسان.
ومذهب غير مالكٍ:
أن المعفوّ له: هو القاتل.
والعافي: وليّ الدم.
وعفي: بمعنى: ترك -على هذا القول-.
فاتباع بالمعروف: أمر للوليّ - مثل القول الأول -.
وأداء إليه بإحسان: أمرٌ للقاتل - كالقول الأول -.
والأخ - في هذا القول -: وليّ الدم.
و "من" - في هذا القول -: اسم القاتل.
والهاء في "له" وفي "أخيه" - على هذا القول -: تعودان على القاتل.
والهاء في "إليه" تعود على الوليّ - كالقول الأول -.
فأما الترجيح بين المذهبين فليس هذا موضع ذكره.
وقد قال مالك في قوله تعالى: {أو يعفو الّذي بيده عقدة النكاح} [البقرة: 237]:
إن العافي: الوليّ بترك ما وجب لابنته البكر أو لأمته سمّي عافيًا، لأنه ترك ما وجب له، وهو ضدّ قوله في هذه الآية.
وقال غيره: العافي: هو الزوج.
قال أبو محمد: ولا عفو له إذا أدّى ما عليه.
وهو ضدّ قوله في آية القتل.
فكلّ واحدٍ على ضدّ قوله في الآية الأخرى.
وإنما شرحت معناها على المذهبين؛ لأني ما رأيت أحدًا بيّن ذلك ولا كشفه.).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية الثّانية عشرة: قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}.
ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ دليل خطاب هذه الآية منسوخٌ، لأنّه لمّا قال: {الحرّ بالحرّ} اقتضى أن لا يقتل العبد بالحرّ، وكذا لمّا قال: {والأنثى بالأنثى} اقتضى، أن لا يقتل الذّكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب، وذلك منسوخٌ بقوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} وإلى هذا أشار ابن عبّاسٍ فيما رواه عثمان بن عطاءٍ عن أبيه عن ابن عبّاسٍ قال: نسختها الآية الّتي في المائدة {أنّ النّفس بالنّفس} وإلى نحو هذا ذهب سعيد بن جبيرٍ ومقاتلٌ.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريشٍ، قال أبنا أبو إسحق البرمكيّ، قال: أبنا أبو بكرٍ محمد بن إسماعيل إذنا قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود، قال: أبنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا يحيى بن
عبد اللّه بن بكيرٍ، قال: حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، عن عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، أنّ حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهليّة قبل الإسلام بقليلٍ، فكان بينهم قتلٌ وجراحاتٌ، حتّى قتلوا (العبيد والنّساء) فلم يأخذ بعضهم من بعضٍ حتّى أسلموا وكان أحد الحيّين يتطاولون على الآخر في العدّة والأموال فحلفوا أن لا نرضى حتّى نقتل بالعبد منّا الحرّ منهم، وبالمرأة منّا الرّجل منهم فنزل فيهم {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} فرضوا بذلك فصارت آية {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} منسوخة نسخها {أنّ النّفس بالنّفس}.
قلت: وهذا (القول) ليس بشيءٍ لوجهين:
أحدهما: أنّه إنّما ذكر في آية المائدة ما كتبه على أهل التّوراة وذلك لا يلزمنا وإنّما نقول في إحدى الرّوايتين عن أحمد: إنّ شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يثبت نسخه، وبخطابنا بعد خطابهم قد ثبت النّسخ، فتلك الآية أولى أن تكون منسوخةً بهذه من هذه بتلك.
والثّاني: أنّ دليل الخطاب عند الفقهاء حجّةٌ ما لم يعارضه دليلٌ أقوى منه، وقد ثبت بلفظ الآية أنّ الحرّ يوازي الحر فلأن يوازي العبد أولى، ثمّ إنّ أوّل الآية يعمّ، وهو قوله: {كتب عليكم القصاص} وإنّما الآية نزلت فيمن كان يقتل حرًّا بعبدٍ وذكرًا بأنثى فأمروا بالنّظر في التّكافؤ.
أخبرنا أبو بكرٍ محمّد بن عبد اللّه بن حبيبٍ قال: أبنا عليّ بن الفضل، قال: أبنا محمّد بن عبد الصّمد، قال: أبنا عبد اللّه بن أحمد السّرخسيّ، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا يونس عن شيبان، عن قتادة {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}.
قال: كان أهل الجاهليّة فيهم بغيٌ وطاعةٌ (للشّيطان) فكان الحيّ منهم إذا كان فيهم عددٌ وعدّةٌ، فقتل لهم عبدٌ قتله عبد قومٍ آخرين. قالوا: لن نقتل به إلا حرًّا تعزّزًا وتفضّلا على غيرهم في أنفسهم. وإذا قتلت لهم أنثى قتلتها امرأةٌ. قالوا: (لن نقتل) بها إلا رجلا فأنزل اللّه هذه الآية يخبرهم أنّ الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وينهاهم عن البغي ثمّ أنزل في سورة المائدة {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} إلى قوله: {والجروح قصاصٌ}.). [نواسخ القرآن:125- 236]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (
التاسعة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ} . ذهب بعضهم إلى أن دليل الخطاب منسوخ لأنه لما قال {الحرّ بالحرّ} اقتضى أنه لا يقتل العبد بالحرّ وكذا لمّا قال {والأنثى بالأنثى} اقتضى أن لا يقتل الذّكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب فذلك منسوخ بقوله {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس} وهذا ليس بشيء يعول عليه لوجهين أحدهما أنه إنما ذكر في المائدة ما كتبه أهل التوراة وذلك لا يلزمنا فإن قيل شرع من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يثبت نسخه وخطابنا بعد خطابهم قد ثبت النّسخ فتلك الآية أولى أن تكون منسوخةً بهذه من هذه بتلك والثّاني أنّ دليل الخطاب إنما يكون حجة ما لم يعارضه دليل أقوى منه وقد ثبت بلفظ الآية أنّ الحرّ يوازي الحرة فلأن يوازي العبد أولى.). [المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 14-21]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (ومن هذا قول الحسن البصري في قوله عز وجل: {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} الآية [البقرة: 178] أنها نزلت في نسخ التراجع الذي كانوا يفعلونه إذا قتل الرجل امرأة كان أولياؤها بالخيار بين قتله مع تأدية نصف ديته، وبين أخذ نصف دية الرجل وتركه، وإن كان قاتل الرجل امرأة كان أولياء المقتول بالخيار بين قتل المرأة وأخذ نصف دية الرجل، وإن شاءوا أخذوا الدية كاملة ولم يقتلوها.
قال: فنسخت هذه الآية ما كانوا يفعلونه، فإن كانت هذه الآية نزلت في ذلك فهي محكمة، ولا يقال إنها ناسخة لفعلهم؛ لأن فعلهم ذلك لم يكن بقرآن ترك، ولا هو حكم من أحكام الله عز وجل، ولا يقال أيضا لذلك الفعل الذي كانوا يفعلونه منسوخ؛ لأنه لم يكن حكما ثابتا بخطاب سابق لهذا الخطاب.
وعن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بقوله عز وجل في "المائدة": {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} الآية [المائدة: 45] فهذه أوجبت قتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، والحر بالعبد والعبد بالحر، وليس هذا مما أصححه عن ابن عباس رحمه الله؛ لأن هذه الآية إنما هي إخبار من الله عز وجل بما أنزل في التوراة.
فإن قيل: فقد قال بعد ذلك: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} الآية [المائدة: 45].
قلت: أراد سبحانه أن اليهود إذا خالفوا التوراة ولم يحكموا بها، وقد قال بعد ذلك: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} الآية [المائدة: 48] فأعلمنا سبحانه أن لنا شرعة تخالف شرعتهم، ومنهاجا يخالف منهاجهم.
قال الشعبي وغيره: آية البقرة نزلت في قوم اقتتلوا، فقتل بينهم جماعة كثيرة، وكانت إحدى الطائفتين تعاظمت على الأخرى وأرادت أن تقتل بالعبد منها الحر من الأخرى، وبالأنثى الرجل، فنزلت.
ثم هي لمن أراد مثل ما طلبوا.
قال هؤلاء: فهي محكمة. وليس هذا بصحيح؛ فإن الرجل يقتل بالمرأة عند عامة الفقهاء إلا ما ذكر عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة، إلا أن يريدوا قتل الرجل الحر بالأمة فيكون قول الله عز وجل: {والأنثى بالأنثى} الآية [البقرة: 178] أي الأنثى من الإماء بالأنثى منهن.
أي: لا يقتل بالأمة الرجل الحر، إنما يقتل بها أنثى مثلها، أو عبد مثلها، وفيه بعد؛ لأن قوله عز وجل: {والأنثى بالأنثى} الآية [البقرة: 178] يقتضي ألا يقتل أنثى إلا بأنثى.
وقيل: إنهم أرادوا قتل امرأتين بامرأة، وقتل رجلين برجل فعلى هذا يصح معنى الآية.
وقال السدي وغيره: اقتتل فريقان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ديات قتلاهم: ديات النساء بديات النساء، وديات الرجال بديات الرجال.
قال هؤلاء: فهي في شيء بعينه، وهي على هذا الحكم باقية لمن أتى بعدهم، وهي محكمة، وعلى هذا الذي ذكره يصح تأويل الآية ومعناها أيضا.
وذهب سعيد بن المسيب، والثوري، والنخعي، والشعبي، وقتادة، وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن آية البقرة منسوخة بقوله عز وجل: {أن النفس بالنفس} الآية [المائدة: 45] فأجروا القصاص بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، وقد مر الكلام على أنها منسوخة، وأن آية المائدة لا تصلح أن تكون ناسخة.). [جمال القراء: 1/249-271]
روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين