دراسة القلب المكاني في القرآن الكريم
يرى أحمد بن فارس أن القلب المكاني لم يقع في القرآن الكريم. قال في [كتابه الصحابي:ص172]: «ومن سنن العرب القلب، وذلك يكون في الكلمة، ويكون في القصة. فأما الكلمة فقولهم: جذب وجبذ، وبكل ولبك، وهو كثير، وقد صنفه علماء اللغة. وليس من هذا فيما أظن من كتاب الله – جل ثناؤه - شيء».
أحمد بن فارس نحوي على طريقة الكوفيين، والكوفيون قد توسعوا في القلب المكاني، حتى جعلوا منه نحو سيد وميت مما يراه البصريون على وزن (فيعل). انظر [الإنصاف/469]، و[شرح الرضى للشافية:3/152].
فأحمد بن فارس في رأيه هذا لم يوافق الكوفيين ولا البصريين. ابن فارس لم يتكلم عن كلمة (طاغوت) في كتابه (معجم مقاييس اللغة) ولا في كتابه (المجمل في اللغة) والحكم بأن القرآن خلا من القلب المكاني إنما يكون بعد النظر في كل قراءاته المتواترة. وقد نظرت في هذه القراءات فوجدت قراءات سبعية يتعين فيها القلب المكاني، وأخرى تحتمل القلب وغيره، وثالثة يكون فيها قلب عند بعض الصرفيين، ولا يكون عند الآخرين.
من أمثلة النوع الأول كلمة (الطاغوت) جاءت في قوله تعالى:
1- {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى} [2: 256].
2- {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} [2: 257].
3- {يؤمنون بالجبت والطاغوت} [4: 51].
4- {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} [4: 60].
5- {والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} [4: 76].
6- {وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت} [5: 60].
7- {أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [16: 36].
8- {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها} [39: 17].
وقد شرح هذه الكلمة شرحًا وافيًا أبو الفتح. قال في [المحتسب:1/131-132]: «وذلك أن (الطاغوت) وزنها في الأصل فعلوت.
وهي مصدر بمنزلة الرغبوت والرهبوت، والرحموت، وقد يقال فيها: الرغبوتي، والرهبوتي، والرحموتي. ويدل على أنها في الأصل مصدر وقوع الطاغوت على الواحد والجماعة بلفظ واحد، فجرى لذلك مجرى: قوم عدل ورضا، ورجل عدل ورضا، ورجلان عدل ورضا.
فأما أصلها فهو طغيوت: لأنها من الياء، يدل على ذلك قوله عز وجل: {في طغيانهم يعمهون}. هذا أقوى اللغة فيها؛ لأن التنزيل ورد به.
وروينا عن قطرب وغيره فيها الواو. وقد يجوز على ذلك أن يكون أصله: طغووت كفعوت من غزوت: غزووت. وأنا آنس بالواو في هذه اللفظة، لما أذكره لك بعد.
ثم إن اللام قدمت إلى موضع العين، فصارت بعد القلب طغيوت أو طوغوت فلما تحركت الياء أو الواو وانفتح ما قبلها قلبت في اللفظ ألفًا، فصارت طاغوت كما ترى. ووزنها الآن بعد القلب فلعوت...».
وانظر [المخصص:11/25]، و[لسان العرب]. و[البيان في غريب إعراب القرآن:1/169] وقد نقل أبو حيان رأيًا آخر ضعيفًا عبر عنه بقوله: «وزعم بعضهم أن التاء في طاغوت بدل من لام الكلمة، ووزنه فاعول».
وقال عنه قبل ذلك: «ومذهب أبي على أنه مصدر كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع. ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع الكثير والقليل، وزعم أبو العباس أنه جمع». انظر كتاب [سيبويه:2/22] والمذكر والمؤنث [للمبرد:ص98-99].
2- (أ) {ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [12: 87].
ب- {حتى إذا استيأس الرسل} [12: 110].
ج- {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا} [12: 80].
د- {أفلم ييأس الذين آمنوا} [13: 31].
قرأ ابن كثير (تايسوا. يايس. استايس. استايسوا. يايس).
وتوجيه هذه القراءات إنما يكون على طريق القلب المكاني: قدمت العين على الفاء ثم خففت الهمزة بقلبها ألفًا لسكونها بعد فتحة.
في [إتحاف فضلاء البشر/266]: «وقرأ (استايسوا) و(تايسوا) و(لا يايس) و(إذا استايس) وفي الرعد (أفلم يايس) البزي من عامة طرق ابن ربيعة بتقديم الهمزة إلى موضع الياء، وتأخير الياء إلى موضع الهمزة، ثم يبدل الهمزة ألفًا».
وانظر [النشر:1/405]، [غيث النفع/138]، [شرح الشطابية/228]، [البحر:5/335].
3- (أ) {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا} [10: 5].
ب- {ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء} [21: 48].
ج- {من إله غير الله يأتيكم بضياء} [28: 71].
قرأ ابن كثير (ضئاء) بهمزتين بينهما ألف، وخرجت على القلب المكاني: قدمت اللام على العين (ضئاى) ثم قلبت الياء همزة؛ لتطرفها بعد ألف زائدة.
في [الإتحاف/247]: «قرأ قنبل بقلب الياء همزة، وأولت على أنه مقلوب، قدمت لامه التي هي همزة إلى موضع عينه، وأخرت عينه التي هي واو إلى موضع اللام، فوقعت الواو طرفًا بعد ألف زائدة، فقلبت همزة، على حد رداء. الباقون بالياء قبل الألف، وبعد الضاد». انظر [غيث النفع/118]، [شرح الشاطبية/218] و[النشر:1/406]، [القرطبي:8/309]، و[المخصص:9/50]، [17: 29]، [الكشاف:2/309]، و[العكبري:2/13].
وضعف أبو حيان طريق القلب، ولكنه لم يأت بتوجيه آخر. قال في [البحر:5/125]: «ووجهت على أنه من المقلوب... وضعف ذلك بأن القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما، ولم يكونا في الأصل».
2- النوع الثاني: ما يحتمل القلب وغيره في القراءات السبعية.
1- {أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار} [9: 109].
في [العكبري:2/12]: «في (هار) وجهان: أحدهما: أصله هور أو هير على (فعل) فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا... الثاني: أن يكون أصله (هاورا) أو (هايرا) ثم أخرت عين الكلمة فصارت بعد الراء، وقلبت الواو ياء، لانكسار ما قبلها، ثم حذفت لسكونها وسكون التنوين، فوزنه بعد القلب (فالع) وبعد الحذف (فال) وعين الكلمة واو أو ياء. يقال: تهور البناء وتهير معاني القرآن [للزجاج:2/521]، وفي [البحر:5/88] فعين (هار) تحتمل أن تكون واوًا أو ياء، فأصله هاير أو هاور؛ فقلبت؛ وصنع به ما صنع بقاض وغاز؛ وصار منقوصًا؛ مثل شاكي السلاح... وقيل: (هار) محذوف العين».
2- أ- {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه} [17: 83].
ب- {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه} [41: 51].
في [النشر:2/308]: «واختلفوا في (ونأى بجانبه) هنا وفي فصلت: فقرأ أبو جعفر وابن ذكوان بألف قبل الهمزة مثل (وناع) في الموضعين».
انظر [الإتحاف/286، 382]، [غيث النفع/153، 227]، [شرح الشاطبية/238]، و[النشر:2/367]، وفي [البحر:6/75]: «وقرأ ابن عامر (وناء) قيل: هو مقلوب نأى، فمعناه: بعد. وقيل: معناه: نهض بجانبه». [الكشاف:2/690]، [العكبري:2/50].
3- النوع الثالث: ما وقع فيه اختلاف بين النحويين، بعضهم يرى فيه القلب، والآخر لا يراه:
1- {وأنكحوا الأيامى منكم} [24: 32].
في [الكشاف:3/233]: «الأيامى واليتامى أصلهما أيايم ويتايم، فقلبا». وقال بالقلب أيضًا ابن السكيت في [إصلاح المنطق/341].
وفي [البحر:3/362]: «أيامى: جمع أيم، على وزن (فيعل) وهو مما اختص به المعتل، وأصله: أيايم كسيايد، قلبت اللام موضع العين، فجاء أيامى فأبدل من الكسرة فتحة، فانقلبت الياء ألفًا، لتحركها وفتح ما قبلها قال ابن جني: ولو قال قائل: كسر أيم على أيمى كسكري، ثم كسر أيمى على أيامي لكان وجها حسنًا».
وفي [البحر:6/451]: «قال أبو عمرو: أيامي مقلوب أيايم. وغيره من النحويين ذكر أن أيما ويتيما جمعا على أيامي ويتامى شذوذًا يحفظ ووزنه (فعالى) وهو ظاهر كلام سيبويه».
في [سيبويه:2/214]: «وقد جاء شيء كثير منه على (فعالى) قالوا: يتامى وأيامى، شبهوه بوجاعى» وقال: كما قالوا: يتيم ويتامى، أيم وأيامى، أجروه مجرى وجاعى.
2- مما وقع فيه اختلاف النحويين ملك، وملائكة وقد جاءا في مواضع كثيرة من القرآن الكريم.
1- ملك: إن أخذ من (لأك) كان غير مقلوب وفيه تخفيف الهمزة لا غير. وإن أخذ من (ألك) كان مقلوبًا ومخفف الهمزة.
انظر [الخصائص:2/78-79، 3/274]، [المنصف:2/102-104]، [أمالي الشجري:2/20]، [إصلاح المنطق/70-71، 159]، [الروض الأنف:2/122]، [شرح الرضى للشافعية:2/346]، [البحر:1/137]، [رسالة الملائكة لأبي العلاء في رسالة الغفران والأشباه:4/146].
3- {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [5: 101].
مما وقع فيه اختلاف النحويين كلمة (أشياء) يرى جمهور البصريين أن فيها قلبا مكانيا، أصلها (شيئاء) كصحراء، قدمت اللام على الفاء فصارت أشياء، على وزن لفعاء، وفيها آراء أخرى.
انظر كتاب [سيبويه 2: 379]، [المنصف:2/94، 101]،[ شرح الرضى للشافية:1/29]، [ابن يعيش:9/117]، [المخصص:61/63، 92، 17/116]، و[معاني القرآن للفراء:1/324]، [الإنصاف المسألة/118].
4- أ- {وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} [2: 58].
ب- {ولنحمل خطاياكم} [29: 12].
ج- {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا} [20: 73].
د- {إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا} [26: 51].
هـ- {وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء} [29: 12].
يرى الخليل بن أحمد أن القلب المكاني مقيس مطرد في كل ما يؤدي تركه إلى اجتماع همزتين، وذلك في اسم الفاعل من الأجوف المهموز اللام الثلاثي نحو: جاء وساء، وفي جمعه على (فواعل)، نحو: جواء وسواء، جمعى جائية وسائية. وفي الجمع الأقصى لمفرد لامه همزة قبلها حرف مد، نحو: خطايا في جمع خطيئة.
خطايا: الأصل خطاييء. قدمت اللام على الياء الزائدة عند الخليل، خوفًا من اجتماع همزتين، فصار خطائي، قلبت الكسرة فتحة والياء ألفًا، فصارا خطاءا، ثم قلبت الهمزة ياء، فصارا خطايا، على وزن فعالي.
5- أ- {فإن أصابه خير اطمأن به} [22: 11].
ب- {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} [4: 103].
ج- {ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} [10: 7].
د- {ولتطمئن قلوبكم به} [3: 126].
المضارع في ستة مواضع:
هـ- {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [16: 106].
و- {كانت آمنة مطمئنة} [16: 112].
ح- {يمشون مطمئنين} [17: 95].
يرى سيبويه أن (طمأن) مقلوب عن (طأمن).
قال في كتابه [2/130]: «وكذلك مطمئن، إنما هي من طأمنت. فقلبوا الهمزة». وقال في [2/380]: «ومثل هذا القلب طأمن واطمأن، فإنما حمل هذه الأشياء على القلب، حيث كان معناها معنى ما لا يطرد ذلك فيه، وكان اللفظ فيه إذا أنت قلبته ذلك اللفظ، فصار هذا بمنزلة ما يكون فيه الحرف من حروف الزوائد، ثم يشتق من لفظه في معناه ما يذهب فيه الحرف الزائد». وقد شرح كلام سيبويه وانتصر له أبو الفتح فقال في [المنصف:2/104]: «اعلم أن أبا عمر الجرمي خالف سيبويه في هذه اللفظة، فذهب إلى أن (اطمأن) غير مقلوب، وأن (طأمن) هو المقلوب، كأن أصل هذا الفعل عنده أن تكون الميم قبل الهمزة، وهو بخلاف مذهب سيبويه، لأنه عند سيبويه أن (طأمن) هو الأصل، و(اطمأن) مقلوب منه.
والصحيح ما ذهب إله سيبويه، لأن الفعل إذا لم تكن فيه زوائد فهو أجدر أن يكون على أصله. وإذا دخلته الزوائد تغير للتغيير، لأن دخول الزوائد فيه ضرب من التغيير لحقه، والتغيير إلى التغيير أسبق. ألا ترى أن أحدًا لا يقول في (طأمن) الذي هو الأصل: (طمأن)، فهذا هو الصحيح، وينبغي أن يحتج به لسيبويه، وعن أبي على أخذته».
ورجح ابن عصفور رأي الجرمي فقال في [الممتع/618] وهو الصحيح عندي لأن أكثر تصريف الكلمة أني عليه، فقالوا اطمأن ويطمئن ومطمئن كما قالوا. طأمن يطأمن فهو مطأمن، وقالوا: طمأنينة، ولم يقولوا طأمنينة.