{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}
تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله تعالى: {الحمد للّه...}
اجتمع القرّاء على رفع الحمد، وأمّا أهل البدو فمنهم من يقول: "الحمدَ لِلّه"، ومنهم من يقول: "الحمدِ لِلّه "، ومنهم من يقول: "الحمدُ للّه" فيرفع الدال واللام.
فأما من نصب فإنه يقول: "الحمد" ليس باسم إنما هو مصدر؛ يجوز لقائله أن يقول: أحمد اللّه، فإذا صلح مكان المصدر (فعل أو يفعل) جاز فيه النصب؛ من ذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {فإذا لقيتم الّذين كفروا فضرب الرّقاب} يصلح مكانها في مثله من الكلام أن يقول: فاضربوا الرقاب، ومن ذلك قوله: {معاذ اللّه أن نّأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده}؛ يصلح أن تقول في مثله من الكلام: نعوذ بالله، ومنه قول العرب: سقينًا لك، ورعيًا لك؛ يجوز مكانه: سقاك الله، ورعاك الله.
وأما من خفض الدال من "الحمد"؛ فإنه قال: هذه كلمة كثرت على ألسن العرب حتى صارت كالاسم الواحد؛ فثقل عليهم أن يجتمع في اسم واحد من كلامهم ضمّةٌ بعدها كسرة، أو كسرةٌ بعدها ضمّة، ووجدوا الكسرتين قد تجتمعان في الاسم الواحد مثل "إبل" فكسروا الدال؛ ليكون على المثال من أسمائهم.
وأمّا الذين رفعوا الّلام؛ فإنهم أرادوا المثال الأكثر من أسماء العرب الذي يجتمع فيه الضمتان؛ مثل: الحلم والعقب.
ولا تنكرنّ أن يجعل الكلمتان كالواحدة إذا كثر بهما الكلام. ومن ذلك قول العرب: "بأبا"، إنما هو "بأبي" الياء من المتكلم ليست من الأب؛ فلما كثر بهما الكلام توهّموا أنهما حرف واحد فصيّروها ألفاً، ليكون على مثال: حبلى وسكرى؛ وما أشبهه من كلام العرب، أنشدني أبو ثروان:
قال الجواري ما ذهبت مذهبا = وعبنني ولم أكن معيّبا
هل أنت إلا ذاهبٌ لتلعبا = أريت إن أعطيت نهداً كعثبا
أذاك أم نعطيك هيدًا هيدبا = أبرد في الظّلماء من مسّ الصّبا
فقلت: لا، بل ذا كما يا بيبا = أجدر ألاّ تفضحا وتحربا
"هل أنت إلاّ ذاهبٌ لتلعبا" ذهب بـ"هل" إلى معنى "ما"). [معاني القرآن: 1/3-4]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ربّ العالمين}: أي: المخلوقين، قال لبيد بن ربيعة:
ما إن رأيت ولا سمعـ = ـت بمثلهم في العالمينا
وواحدهم عالم، وقال العجّاج:
............ = فخندفٌ هامة هذا العالم).
[مجاز القرآن: 1/22]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): (وأما قوله: {الحمد للّه} فرفعه على الابتداء؛ وذلك أن كل اسم ابتدأته لم توقع عليه فعلاً من بعده فهو مرفوع، وخبره إن كان هو هو فهو أيضاً مرفوع، نحو قوله: {مّحمّدٌ رّسول اللّه} وما أشبه ذلك، وهذه الجملة تأتي على جميع ما في القرآن من المبتدأ فافهمها؛ فإنما رفع المبتدأ ابتداؤك إياه، والابتداء هو الذي رفع الخبر في قول بعضهم، وكما كانت "أن" تنصب الاسم وترفع الخبر، فكذلك رفع الابتداء الاسم والخبر، وقال بعضهم: رفع المبتدأ خبره، وكل حسن، والأول أقيس.
وبعض العرب يقول: {الحمد للّه} فينصب على المصدر، وذلك أن أصل الكلام عنده على قوله "حمداً لله" يجعله بدلًا من اللفظ بالفعل، كأنه جعله مكان "أحمد"، ونصبه على "أحمد" حتى كأنه قال: "أحمد حمداً"، ثم أدخل الألف واللام على هذه.
وقد قال بعض العرب: {الحمد للّه} فكسره، وذلك أنه جعله بمنزلة الأسماء التي ليست بمتمكنة، وذلك أن الأسماء التي ليست بمتمكنة تحرّك أواخرها حركة واحدة لا تزول علتها نحو "حيث" جعلها بعض العرب مضمومة على كل حال، وبعضهم يقول: "حَوْثُ" و"حَيْثَ" ضم وفتح ونحو "قبل" و"بعد" جعلتا مضمومتين على كل حال، وقال الله تبارك وتعالى: {للّه الأمر من قبل ومن بعد}، فهما مضموتان إلا أن تضيفهما، فإذا أضفتهما صرفتهما، قال: {لا يستوي منكم مّن أنفق من قبل الفتح وقاتل} و{كالّذين من قبلكم} و{والّذين جاءوا من بعدهم} وقال: {مّن قبل أن نّبرأها}، وذلك أن قوله: {أن نّبرأها} اسم أضاف إليه {قبل}، وقال: {من بعد أن نّزغ الشّيطان}، وذلك أن قوله: {أن نّزغ} اسم هو بمنزلة "النزغ"، لأن "أن" الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة اسم، فأضاف إليها" بعد"، وهذا في القرآن كثير.
ومن الأسماء التي ليست بمتمكنة قال الله عز وجل: {إن هؤلاء ضيفي} و{ها أنتم أولاء تحبّونهم} مكسورة على كل حال، فشبهوا "الحمد"- وهو اسم متمكن- في هذه اللغة، بهذه الأسماء التي ليست بمتمكنة، كما قالوا "يا زيد"، وفي كتاب الله: {يا هامان ابن لي صرحاً} هو في موضع النصب، لأن الدعاء كلّه في موضع نصب، ولكن شبه بالأسماء التي ليست بمتمكنة، فترك على لفظ واحد، يقولون: "ذهب أمس بما فيه" و"لقيته أمس يا فتى"، فيكسرونه في كل موضع في بعض اللغات، وقد قال بعضهم: "لقيته الأمسّ الأحدث" فجرّ أيضاً، وفيه ألف ولام، وذلك لا يكاد يعرف.
وسمعنا من العرب من يقول: {أفرأيتم اللاّت والعزّى}، ويقول: "هي اللات قالت ذاك"، فجعلها تاء في السكوت، و"هي اللات فاعلم" جرّ في موضع الرفع والنصب، وقال بعضهم "من الآنَ إلى غد" فنصب لأنه اسم غير متمكن، وأما قوله: "اللات فاعلم" فهذه مثل "أمس"، وأجود، لأن الألف واللام التي في "اللات" لا تسقطان وإن كانتا زائدتين، وأما ما سمعنا في "اللات والعزى" في السكت عليها فـ"اللاه"؛ لأنها هاء فصارت تاءً في الوصل، هي في تلك اللغة مثل "كان من الأمر كيت وكيت"، وكذلك "ههيات" في لغة من كسر إلا أنه يجوز في "هيهات" أن تكون جماعة، فتكون التاء التي فيها تاء الجميع التي للتأنيث، ولا يجوز ذلك في "اللات"، لأن "اللات" و"كيت" لا يكون مثلهما جماعة، لأن التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الألف، فإن جعلت الألف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد، وزعموا أن من العرب من يقطع ألف الوصل، أخبرني من أثق به أنه سمع من يقول: "يا إبني" فقطع، وقال قيس بن الخطيم:
إذا جاوز الاثنين سرٌّ فإنه = بنشرٍ وتكثير الوشاة قمين
وقال جميل:
ألا لا أرى اثنين أكرم شيمةً = على حدثان الدهر مني ومن جمل
وقال الراجز:
يا نفس صبراً كلّ حي لاق = وكلّ اثنين إلى افتراق
وهذا لا يكاد يعرف.
وقوله: {للّه} جر باللام، كما انجر قوله:{ربّ العالمين * الرحمن الرّحيم}؛ لأنه من صفة قوله: {للّه}، فإن قيل: "وكيف يكون جرّا وقد قال: {إيّاك نعبد} ؟ "
[فلأنه إذا قال "الحمد لمالك يوم الدين" فإنه ينبغي أن يقول "إيّاه نعبد" فإنما هذا على الوحي. وذلك أن الله تبارك وتعالى خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قل يا محمد: "الحمد لله" وقل: "الحمد لمالك يوم الدين" وقل يا محمد: "إيّاك نعبد وإيّاك نستعين" ] (1).
وأما فتح نون {العالمين}؛ فإنها نون جماعة، وكذلك كل نون جماعة زائدة على حدّ التثنية فهي مفتوحة، وهي النون الزائدة التي لا تغيّر الاسم عما كان عليه: نحو نون "مسلمين" و"صالحين" و"مؤمنين"، فهذه النون زائدة؛ لأنك تقول: "مسلم" و"صالح" فتذهب النون، وكذلك "مؤمن" قد ذهبت النون الآخرة، وهي المفتوحة، وكذلك "بنون"؛ ألا ترى أنك إنما زدت على "مؤمن" واوًا ونونًا، وياء ونونًا، وهو على حاله لم يتغير لفظه، كما لم يتغير في التثنية حين قلت "مؤمنان" و"مؤمنَيْن"، إلا أنك زدت ألفاً ونوناً، أو ياء ونونًا للتثنية، وإنما صارت هذه مفتوحة ليفرق بينهما وبين نون الاثنين، وذلك أن نون الاثنين مكسورة أبداً، قال: {قال رجلان من الّذين يخافون أنعم اللّه}، وقال: {أرسلنا إليهم اثنين فكذّبوهما}، والنون مكسورة.
وجعلت الياء للنصب والجرّ نحو "العالمين" و"المتقين"، فنصبهما وجرهما سواء، كما جعلت نصب "الاثنين" وجرهما سواء، ولكن كسر ما قبل ياء الجميع، وفتح ما قبل ياء الاثنين؛ ليفرق ما بين الاثنين والجميع، وجعل الرفع بالواو ليكون علامة للرفع، وجعل رفع الاثنين بالألف. وهذه النون تسقط في الإضافة كما تسقط نون الاثنين، نحو قولك: "بنوك" و"رأيت مسلميك" فليست هذه النون كنون "الشياطين" و"الدهاقين" و"المساكين"؛ لأن "الشياطين" و"الدهاقين" و"المساكين" نونها من الأصل ألا ترى أنك تقول: "شيطان" و"شييطين"، و"دهقان" و"دهيقين"، و"مسكين" و"مسيكين" فلا تسقط النون.
فأما "الذين" : فنونها مفتوحة، لأنك تقول: "الذي" فتسقط النون لأنها زائدة، ولأنك تقول في رفعها: "اللذون" لأن هذا اسم ليس بمتمكن مثل "الذي"، ألا ترى أن "الذي" على حال واحدة.
إلا أن ناساً من العرب يقولون: "هم اللذون يقولون كذا وكذا"، جعلوا له في الجمع علامة للرفع، لأن الجمع لا بد له من علامة، واو في الرفع، وياء في النصب والجرّ وهي ساكنة، فأذهبت الياء الساكنة التي كانت في "الذي"؛ لأنه لا يجتمع ساكنان، كذهاب ياء "الذي" إذا أدخلت الياء التي للنصب، ولأنهما علامتان للإعراب، والياء في قول من قال : "هم الذين" مثل: حرف مفتوح، أو مكسور بني عليه الاسم، وليس فيه إعراب، ولكن يدلك على إنه المفتوح أو المكسور في الرفع، والنصب والجر الياء التي للنصب والجرّ؛ لأنها علامة للإعراب.
وقد قال ناس من العرب "الشياطون"؛ لأنهم شبّهوا هذه الياء التي كانت في "شياطين" إذا كانت بعدها نون، وكانت في "جميعٍ"، وقبلها كسرة، بياء الإعراب التي في الجمع، فلما صاروا إلى الرفع: أدخلوا الواو، وهذا يشبه "هذا جحر ضبٍّ خربٍ" فافهم). [معاني القرآن: 1/7-10]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({العالمين}: الخلق، واحدهم عالم). [غرائب القرآن وتفسيره: 61]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ( و(العالمون) : أصناف الخلق الرّوحانيّين، وهم الإنس والجن والملائكة، كلّ صنف منهم عالم). [تفسير غريب القرآن: 38]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {الحمد للّه ربّ العالمين (2)}: معنى الحمد : الشّكر والثناء على الله تعالى، الحمد رفع بالابتداء، وقوله: {للّه}: إخبار عن الحمد، والاختيار في الكلام: الرفع، فأمّا القرآن فلا يقرأ فيه :{الحمد} إلا بالرفع، لأن السّنة تتبع في القرآن، ولا يلتفت فيه إلى غير الرّواية الصحيحة التي قد قرأ بها القراء المشهورون بالضبط والثّقة، والرفع القراءة، ويجوز في الكلام أن تقول " الحمد " تريد: أحمد الله الحمد، فاستغنيت عن ذكر " أحمد "؛ لأن حال الحمد يجب أن يكون عليها الخلق، إلا أنّ الرفع أحسن وأبلغ في الثناء على الله عزّ وجلّ، وقد روي عن قوم من العرب: " الحمدَ للّه "و" الحمدِ للّه "، وهذه لغة من لا يلتفت إليه، ولا يتشاغل بالرواية عنه. وإنما تشاغلنا نحن برواية هذا الحرف لنحذّر الناس من أن يستعملوه، أو يظن جاهل أنه يجوز في كتاب الله عزّ وجلّ، أو في كلام، ولم يأت لهذا نظير في كلام العرب، ولا وجه له.
وقوله عزّ وجلّ: {ربّ العالمين}: قد فسرنا أنه لا يجوز في القرآن إلا {ربّ العالمين * الرحمن الرحيم} وإن كان الرفع والنصب جائزين في الكلام، ولا يتخير لكتاب الله عزّ وجلّ إلا اللفظ الأفضل الأجزل.
وقوله عزّ وجلّ: {العالمين}: معناه كل ما خلق اللّه، كما قال: {وهو ربّ كل شيء}، وهو جمع عالم، تقول: هؤلاء عالمون، ورأيت عالمين، ولا واحد لعالم من لفظه لأن عالماً جمع لأشياء مختلفة، وأن جعل " عالم "، لواحد منها صار جمعاً لأشياء متفقة.
والنون فتحت في العالمين؛ لأنّها نون الجماعة، وزعم سيبويه أنّها فتحت ليفرق بينها وبين نون الاثنين، تقول: "هذان عالمان يا هذا"، فتكسر نون الاثنين لالتقاء السّاكنين، وهذا يشرح في موضعه إن شاء اللّه، وكذلك نون الجماعة فتحت لالتقاء السّاكنين، ولم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو والياء؛ ألا ترى أنك تقول " سوف أفعل" فتفتح الفاء من " سوف " لالتقاء السّاكنين، ولم تكسر لثقل الكسرة بعد الواو، وكذلك تقول: "أين زيد ؟" فتفتح النون لالتقاء السّاكنين بعد الياء). [معاني القرآن: 1/45-46]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله تعالى: {الحمد لله} الفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد أعم؛ لأنه يقع على الثناء، وعلى التحميد، وعلى الشكر، والجزاء .
والشكر مخصوص بما يكون مكافأة لمن أولاك معروفاً، فصار الحمد أثبت في الآية؛ لأنه يزيد على الشكر.
ويقال: الحمد خبر، وسبيل الخبر أن يفيد، فما الفائدة في هذا ؟
والجواب عن هذا: أن سيبويه قال: إذا قال الرجل "الحمد لله" بالرفع؛ ففيه من المعنى مثل ما في قوله: "حمدت الله حمداً" إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله تعالى، والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله تعالى.
قال ابن كيسان: وهذا كلام حسن جدا ً، لأن قولك "الحمد لله" مخرجة في الإعراب مخرج قولك: "المال لزيد"، ومعناه أنك أخبرت به، وأنت تعتمد أن تكون حامدا ً، لا مخبرا ًبشيء، ففي إخبار المخبر بهذا: إقراراً منه بأن الله تعالى مستوجبه على خلقه، فهو أحمد من يحمده إذا أقر بأن الحمد له، فقد آل المعنى المرفوع إلى مثل المعنى المنصوب وزاد عليها بأن جعل الحمد الذي يكون عن فعله وفعل غيره لله تعالى .
وقال غير سيبويه: إنما يتكلم بهذا تعرضاً لعفو الله تعالى، ومغفرته، وتعظيماً له، وتمجيدا ً، فهو خلاف معنى الخبر، وفيه معنى السؤال.
وفي الحديث: ((من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)).
وقيل: إن مدحه نفسه جل وعز وثناءه عليه؛ ليعلم ذلك عباده، فالمعنى على هذا: "قولوا: الحمد لله".
وإنما عيب مدح الآدمي نفسه؛ لأنه ناقص، وإن قال: "أنا جواد" فثم بخل، وإن قال "أنا شجاع" فثم جبن، والله تعالى منزه من ذلك، فإن الآدمي إنما يمدح نفسه: ليجتلب منفعة ويدفع مضرة، والله تعالى غني عن هذا .
وقوله جل وعز: {رب العالمين}
قال أهل اللغة: الرب: المالك، وأنشدوا:
وهو الرب والشهيد على يو = م الحيارين والبلاء بلاء
وأصل هذا: أنه يقال: ربه يربه ربا، وهو راب ورب إذا قام بصلاحه، ويقال على التكثير: رباه ورببه وربته.
وروى عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {رب العالمين} قال: " الجن والإنس" .
وروى الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: الجن عالم، والإنسان عالم، وسوى ذلك للأرض أربع زوايا، في كل زاوية ألف وخمس مائة عالم، خلقهم الله لعبادته .
وقال أبو عبيدة :{رب العالمين}: أي: المخلوقين .
وأنشد العجاج:
........... = فخندف هامة هذا العالم
والقول الأول: أجل هذه الأقوال، وأعرفها في اللغة؛ لأن هذا الجمع إنما هو جمع ما يعقل خاصة، و(عالم) مشتق من العلامة .
وقال الخليل: العلم والعلامة والمعلم: ما دل على شيء، فالعالم دال على أن له خالقاً مدبراً). [معاني القرآن: 1/57-62]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْحَمْدُ}: الشكر. {الْعَالَمِينَ}: الخلق). [العمدة في غريب القرآن: 67]
تفسير قوله تعالى:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)}
تفسير قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({مالك يوم الدّين} نصب على النّداء، وقد تحذف ياء النداء، مجازه: يا مالك يوم الدين، لأنه يخاطب شاهداً، ألا تراه يقول:{إيّاك نعبد}، فهذه حجة لمن نصب، ومن جره قال: هما كلامان.
{الدّين}: الحساب والجزاء، يقال في المثل: (كما تدين تدان)، وقال ابن نفيل:
واعلم وأيقن أنّ ملكك زائل = واعلم بأنّ كما تدين تدان
ومجاز من جرّ {مالك يوم الدّين}؛ أنه حدّث عن مخاطبة غائب، ثم رجع فخاطب شاهداً فقال: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين * اهدنا}، قال عنترة بن شدّاد العبسيّ:
شطّت مزار العاشقين فأصبحت= عسراً علىّ طلابك ابنة مخرم
وقال أبو كبير الهذليّ:
يا لهف نفسي كان جدّة خالد= وبياض وجهك للتّراب الأعفر
). [مجاز القرآن: 1/22-24]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({مالك يوم الدّين}
وأما قوله: {مالك يوم الدّين}، فإنه يجرّ لأنه من صفة "اللّه" عز وجل.
وقد قرأها قوم: {مالك} نصب على الدعاء، وذلك جائز، يجوز فيه النصب والجرّ، وقرأها قوم: {ملك}، إلا أن "الملك" اسم ليس بمشتق من فعل نحو قولك: "ملك وملوك"، وأما "المالك" فهو الفاعل كما تقول: "ملك فهو مالكٌ" مثل "قهر فهو قاهر"). [معاني القرآن: 1/10]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({يوم الدين}: يوم الجزاء من ذلك قولهم: (كما تدين تدان) ).
[غريب القرآن وتفسيره: 61]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و{يوم الدّين}: يوم القيامة، سمّى بذلك؛ لأنه يوم الجزاء والحساب، ومنه يقال: "دنته بما صنع" أي : جازيته، ويقال في مثل: «كما تدين تدان» يراد : كما تصنع يصنع بك، وكما تجازي تجازى). [تفسير غريب القرآن: 38]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (الدّين
الدّين: الجزاء. ومنه قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4] أي يوم الجزاء والقصاص. ومنه يقال: "دنته بما صنع" أي جزيته بما صنع. و(كما تدين تدان).
والدّين: الملك والسّلطان. ومنه قول الشاعر:
لئن حللت بخوّفي بني أسد = في دين عمرو وحالت دوننا فدك
أي في سلطانه. ويقال من هذا: "دنت القوم أدينهم" أي قهرتهم وأذللتهم، "فدانوا" أي ذلّوا وخضعوا. و"الدّين لله" إنما هو من هذا. ومنه قول القطاميّ:
......... = كانت نوار تدينك الأديانا
أي تذلّك. ومنه قول الله تعالى: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29]، أي لا يطيعونه.
والدّين: الحساب، من قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36]. ومنه قوله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ}[النور: 25]، أي حسابهم). [تأويل مشكل القرآن: 453-454]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {مالك يوم الدّين (4)}
القراءة: الخفض على مجرى: الحمد للّه مالك يوم الدّين.
وإن نصب – في الكلام - على ما نصب عليه: رب العالمين والرحمن الرحيم، جاز في الكلام.
فأما في القراءة: فلا أستحسنه فيها، وقد يجوز أن تنصب {رب العالمين} و{مالك يوم الدّين} على النداء في الكلام كما تقول: الحمد للّه يا ربّ العالمين، ويا مالك يوم الدّين، كأنك بعد أن قلت: " الحمد لله "، قلت: لك الحمد يا ربّ العالمين، ويا مالك يوم الدين.
وقرئ: {ملك يوم الدّين}، {ومالك يوم الدّين}.
وإنما خصّ يوم الدّين، واللّه عزّ وجلّ يملك كل شيء؛ لأنه اليوم الذي يضطر فيه المخلوقون إلى أن يعرفوا أن الأمر كلّه للّه، ألا تراه يقول: {لمن الملك اليوم} وقوله: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً}، فهو اليوم الذي لا يملك فيه أحد لنفسه لا لغيره نفعاً ولا ضراً.
ومن قرأ: { مالك يوم الدّين}، فعلى قوله :{لمن الملك اليوم} وهو بمنزلة من المالك اليوم.
ومن قرأ: {ملك يوم الدّين}، فعلى معنى " ذو المملكة " في يوم الدين، وقيل : إنها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله عزّ وجلّ: {يوم الدّين}: الدين في اللغة: الجزاء، يقال: "كما تدين تدان"، المعنى : كما تعمل تعطى وتجازى، قال الشاعر:
واعلم وأيقن أن ملكك زائل= واعلم بأن كما تدين تدان
أي : تجازى بما تعمل، والدّين أيضاً في اللغة: العادة، تقول العرب: "ما زال ذلك ديني"، أي: عادتي.
قال الشاعر:
تقول إذا درأت لها وضيني= أهذا دينه أبدا وديني
). [معاني القرآن: 1/46-48]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله تعالى: {ملك يوم الدين}، ويقرأ: {مالك يوم الدين}.
واختار أبو حاتم: مالك، قال: وهو أجمع من ملك؛ لأنك تقول: أن الله مالك الناس، ومالك الطير، ومالك الريح، ومالك كل شيء من الأشياء، ونوع من الأنواع، ولا يقال: الله ملك الطير، ولا ملك الريح، ونحو ذلك، وإنما يحسن ملك الناس وحدهم.
وخالفه في ذلك جلة أهل اللغة، منهم: أبو عبيد، وأبو العباس محمد بن يزيد، واحتجوا بقوله تعالى: {لمن الملك اليوم}، والمُلْكُ: مصدر المَلِكِ، ومصدر المَالِكِ: مِلْكٌ بالكسر، وهذا احتجاج حسن.
وأيضاً، فإن حجة أبي حاتم لا تلزم؛ لأنه إنما لم يستعمل ملك الطير والرياح؛ لأنه ليس فيه معنى مدح .
وحدثنا محمد بن جعفر بن محمد، عن أبي داود بن الأنباري، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا عمرو بن أسباط عند السدي وهو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي مالك، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن أبي مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مالك يوم الدين}: "يوم الدين: هو يوم الحساب".
وقال مجاهد: "الدين: الجزاء" والمعنيان واحد؛ لأن يوم القيامة: يوم الحساب، ويوم الجزاء.
والدين في غير هذه: الطاعة، والدين أيضاً: العادة، كما قال:
.......... = أهذا دينه أبداً وديني
والمعاني متقاربة؛ لأنه إذا أطاع: فقد دان. والعادة تجري مجرى الدين، و"فلان في دين فلان" أي: في سلطانه وطاعته.
فإن قيل: لم خصت القيامة بهذا؟ فالجواب: أن يوم القيامة: يوم يضطر فيه الخلائق إلى أن يعرفوا أن الأمر كله لله تعالى،
قيل: خصه؛ لأن في الدنيا ملوكاً وجبارين، ويوم القيامة يرجع الأمر كله إلى الله تعالى). [معاني القرآن: 1/61-63]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يوم الدين}: يوم الجزاء). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 21]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مَلِك}: معناه : السلطان الباقي في ملكه، {مَالِكِ}: القادر الحاكم بما يرى، {يَوْمِ الدِّينِ}: يوم الجزاء). [العمدة في غريب القرآن: 67-68]
تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): (ومجاز {إيّاك نعبد}: إذا بدئ بكناية المفعول قبل الفعل جاز الكلام، فإن بدأت بالفعل: لم يجز، كقولك: نعبد إياك، قال العجّاج:
..... = إيّاك أدعو فتقّبل ملقى
ولو بدأت بالفعل: لم يجز، كقولك: أدعو إيّاك، محالٌ، فإن زدت الكناية في آخر الفعل جاز الكلام: أدعوك إياك). [مجاز القرآن: 1/24]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}
{إيّاك نعبد} فلأنه إذا قال "الحمد لمالك يوم الدين"، فإنه ينبغي أن يقول "إيّاه نعبد"، فإنما هذا على الوحي، وذلك أن الله تبارك وتعالى خاطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (قل يا محمد: الحمد لله، وقل: الحمد لمالك يوم الدين، وقل يا محمد: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}).
وأما قوله: {إيّاك نعبد} ولم يقل "أنت نعبد"، فلأن هذا موضع نصب، وإذا لم يقدر في موضع النصب على الكاف أو الهاء وما أشبه ذلك من الإضمار الذي يكون للنصب، جعل "إياك" أو "إيّاه" أو نحو ذلك مما يكون في موضع نصب، قال: {وإنا أو إيّاكم لعلى هدًى}؛ لأن هذا موضع نصب، تقول: "إني أو زيداً منطلق" و{ضلّ من تدعون إلاّ إيّاه} هذا في موضع نصب، كقولك: "ذهب القوم إلا زيدا"، وإنما صارت {إيّاك} في {إيّاك نعبد} في موضع نصب من أجل {نعبد}، وكذلك: {إيّاك نستعين} أيضاً، وإذا كان موضع رفع جعلت فيه "أنت" و"أنتما" و"أنتم"، و"هو" و"هي" وأشباه ذلك). [معاني القرآن: 1/11]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إيّاك نعبد وإيّاك نستعين (5)}
معنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، يقال : "هذا طريق معّبد" إذا كان مذللاً بكثرة الوطء، و"بعير معبّد" إذا كان مطليّاً بالقطران.
فمعنى {إياك نعبد}: إياك نطيع الطاعة التي نخضع معها، وموضع {إيّاك} نصب بوقوع الفعل عليه، وموضع الكاف في {إيّاك} خفض بإضافة " إيّا " إليها، و " إيّا " اسم للمضمر المنصوب إلا أنه يضاف إلى سائر المضمرات، نحو: إيّاك ضربت، وإياه ضربت، وإياي حدّثت، ولو قلت: "إيا زيد" كان قبيحاً، لأنه خص به المضمر.
وقد روي عن بعض العرب، رواه الخليل: (إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيّا الشوابّ).
ومن قال: إن (إياك) بكماله الاسم، قيل له: لم نر اسما ًللمضمر ولا للمظهر يضاف، وإنّما يتغير آخره، ويبقى ما قبل آخره على لفظ واحد.
والدّليل على إضافته قول العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب " يا هذا، وإجراؤهم الهاء في "إياه" : مجراها في "عصاه".
وقوله عزّ وجلّ: {وإيّاك نستعين}
الأصل في {نستعين}: نستعون؛ لأنه إنما معناه: من المعونة والعون.
ولكن الواو قلبت ياء لثقل الكسرة فيها، ونقلت كسرتها إلى العين، وبقيت الياء ساكنة، لأنّ هذا من الإعلال الذي يتبع بعضه بعضاً، نحو: أعان يعين، وأقام يقيم، وهذا يشرح في مكانه شرحاً مستقصى إن شاء اللّه). [معاني القرآن: 1/48-49]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله تعالى: {إياك نعبد} ولم يقل "نعبدك"؛ لأن هذا أوكد.
قال سيبويه: كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم إليهم، وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعاً يهمانهم، ويعنيانهم .
والعبادة في اللغة: الطاعة مع تذلل وخضوع، يقال: "طريق معبد" إذا كان قد ذلل بالوطء، و"بعير معبد" إذا طلي بالقطران، أي: امتهن كما يمتهن العبد، قال طرفة:
إلى أن تحامتني العشيرة كلها = أفردت إفراد البعير المعبد
أو يقال "عبد من كذا" أي: أنف منه، كما قال الشاعر:
..... = وأعبد أن تهجى تميم بدارم
ثم قال تعالى: {وإياك نستعين}
أعاد {إياك} توكيدا ً، ولم يقل: "ونستعين" كما يقال المال بين زيد وبين عمرو، فتعاد بين توكيدا ً، وقال: {إياك} ولم يقل إياه؛ لأن المعنى: قل يا محمد: {إياك نعبد} .
على أن العرب ترجع من الغيبة إلى الخطاب كما قال الأعشى:
عنده الحزم والتقى واسى الصر = ع وحمل لمضلع الأثقال
ثم قال -ورجع من الغيبة إلى الخطاب- :
ووفاء إذا أجرت فما غر = ت حبال وصلتها بحبال
وقال تعالى: {وسقاهم ربهم شرابا طهورا}، ثم قال: {إن هذا كان لكم جزاء}، وعكس هذا أن العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة كما قال تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة}.
وفي الكلام حذف، والمعنى: وإياك نستعين على ذلك). [معاني القرآن: 1/64-66]
تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({الصّراط}: الطريق، المنهاج الواضح، قال:
فصدّ عن نهج الصّراط القاصد
وقال جرير:
أمير المؤمنين على صراطٍ = إذا اعوجّ الموارد مستقيم
والموارد: الطرق، ما وردت عليه من ماء، وكذلك القرىّ وقال:
وطئنا أرضهم بالخيل حتى= تركناهم أذلّ من الصراط
). [مجاز القرآن: 1/24-25]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({اهدنا الصّراط المستقيم}
وأما قوله: {اهدنا الصّراط المستقيم}، فيقول: "عرّفنا"، وأهل الحجاز يقولون: "هديته الطريق" أي: عرّفته، وكذلك "هديته البيت" في لغتهم، وغيرهم يلّحق به "إلى"). [معاني القرآن: 1/11]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({الصراط}: الطريق. وقال بعض المفسرين هو كتاب الله عز وجل. وقال آخرون هو الإسلام). [غريب القرآن وتفسيره: 61]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( و{الصّراط}: الطريق، ومثله: {وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل}، ومثله: {وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ}). [تفسير غريب القرآن: 38]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (قوله عزّ وجلّ: {اهدنا الصّراط المستقيم (6)}: معناه : المنهاج الواضح، قال الشاعر:
أمير المؤمنين على صراط= إذا اعوج المناهج مستقيم
أي: على طريق واضح.
ومعنى {اهدنا} وهم مهتدون: ثبّتنا على الهدى، كما تقول للرجل القائم: قم لي حتى أعود إليك.
تعني: أثبت لي على ما أنت عليه). [معاني القرآن: 1/49]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} وهم على الهدى، أي: ثبتنا، كما تقول للقائم قم حتى أعود إليك، أي: إثبت قائماً.
ومعنى {اهدنا}: أرشدنا، وأصل هدى: أرشد، ومنه {واهدنا إلى سواء الصراط}، ويكون هدى بمعنى: بين، كما قال تعالى: {وأما ثمود فهديناهم}، ويكون هدى بمعنى: ألهم، كما قال تعالى: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}: أي: ألهمه مصلحته، وقيل: إتيان الأنثى.
ويكون هدى بمعنى: دعا، كما قال تعالى: {ولكل قوم هاد} أي: نبي يدعوهم.
وأصل هذا كله: أرشد، والمعنى: أرشدنا إلى الصراط المستقيم.
حدثنا محمد بن جعفر الأنباري، قال: حدثنا هاشم بن القاسم الحراني، قال: حدثنا أبو إسحاق النحوي، عن حمزة بن حبيب، عن حمران بن أعين، عن أبي منصور بن أخي الحارث، عن الحارث، عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الصراط المستقيم كتاب الله)).
وروى مسعر، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} قال : "كتاب الله" .
وروى عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال: "هو الإسلام" .
والصراط في اللغة: الطريق الواضح، وكتاب الله بمنزلة الطريق الواضح، وكذلك الإسلام، وقال جرير:
أمير المؤمنين على صراط = إذا اعوج الموارد مستقيم
أمير المؤمنين جمعت دينا = وحلما فاضلا لذوي الحلوم
). [معاني القرآن: 1/66-167-168]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (أنا ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: {الصراط}: الطريق). [ياقوتة الصراط: 167]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الصراط}: الطريق، وهو دين الإسلام). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 21]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الصِّرَاطَ}: الطريق، {المُستَقِيمَ}: المستوي، يعني : الإسلام).[العمدة في غريب القرآن: 68]
تفسير قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): ( (عليهُم) و(عليهِم) وهما لغتان؛ لكل لغة مذهبٌ في العربية.
فأما من رفع الهاء فإنه يقول: أصلها رفعٌ في نصبها وخفضها ورفعها؛ فأما الرفع فقولهم: "هم قالوا ذاك"، في الابتداء؛ ألا ترى أنها مرفوعة لا يجوز فتحها ولا كسرها، والنصب في قولك: "ضربهم" مرفوعة لا يجوز فتحها ولا كسرها؛ فتركت في "عليهم" على جهتها الأولى .
وأما من قال: "عليهم" ؛ فإنه استثقل الضمّة في الهاء وقبلها ياء ساكنة، فقال: "عليهم" لكثرة دور المكنيّ في الكلام، وكذلك يفعلون بها إذا اتصلت بحرف مكسور مثل"بهم" و"بهم"، يجوز فيه الوجهان مع الكسرة والياء الساكنة، ولا تبال أن تكون الياء مفتوحاً ما قبلها أو مكسوراً؛ فإذا انفتح ما قبل الياء، فصارت ألفاً في اللفظ لم يجز في "هم" إلا الرفع؛ مثل قوله تبارك وتعالى: {وردّوا إلى اللّه مولاهُم الحقّ} ولا يجوز: "مولاهِم الحقّ"، وقوله: {فبهداهُم اقتده} لا يجوز "فبهداهِم اقتده".
ومثله مما قالوا فيه بالوجهين إذا وليته ياء ساكنة أو كسرة، قوله: {وإنّه في أمّ الكتاب} و{حتّى يبعث في أمّها رسولاً} يجوز رفع الألف من "أمّ" و"أمها"، وكسرها في الحرفين جميعاً لمكان الياء والكسرة، مثل قوله تّبارك وتعالى: {فلأمّه السّدس}، وقول من روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((أوصى امرأً بأمّه)) فمن رفع قال: الرفع هو الأصل في الأمّ والأمّهات، ومن كسر قال: هي كثيرة المجرى في الكلام؛ فاستثقل ضمةً قبلها ياء ساكنة أو كسرة، وإنما يجوز كسر ألف "أمّ" إذا وليها كسرة أو ياء؛ فإذا انفتح ما قبلها فقلت: "فلان عندَ أمّه"، لم يجز أن تقول: عند إمّه، وكذلك إذا كان ما قبلها حرفا مضموما لم يجز كسرها؛ فتقول: "اتّبعتُ أمّه"، ولا يجوز الكسر.
وكذلك إذا كان ما قبلها حرفا مجزوما لم يكن في الأمّ إلا ضم الألف؛ كقولك: "منْ أمّه" و"عنْ أمّه". ألا ترى أنك تقول: عنْهُم ومنْهُم واضربْهُم، ولا تقول: عنْهِم ولا منْهِم ولا اضربْهِم، فكل موضع حسن فيه كسر الهاء مثل قولهم: فيهِم وأشباهها، جاز فيه كسر الألف من "أمّ" وهي قياسها، ولا يجوز أن تقول: كتب إلى إمّه ولا على إمّه؛ لأن الذي قبلها ألف في اللفظ وإنما هي ياء في الكتاب: "إلى" و"على"، وكذلك: قد طالت يدا أمه بالخير، ولا يجوز أن تقول: يدا إمّه، فإن قلت: جلس بين يدي أمّه، جاز كسرها وضمها؛ لأن الذي قبلها ياء، ومن ذلك أن تقول: هم ضاربو أمّهاتهم؛ برفع الألف لا يكون غيره، وتقول: ما هم بضاربي أمّهاتهم وإمّهاتهم؛ يجوز الوجهان جميعاً لمكان الياء، ولا تبال أن يكون ما قبل ألف "أمّ" موصولاً بها أو منقطعاً منها؛ والوجهان يجوزان فيه؛ تقول: هذه أمّ زيد وإمّ زيد، وإذا ابتدأتها لم تكن إلا مرفوعة، كما كانت "هم" لا تكون إلا مرفوعة في الابتداء، فأما "هم" فلا تكسر إلا مع حرف يتصل بها لا يفرق بينه وبينها مثل" بهم"). [معاني القرآن: 1/5-6]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله تعالى: {غير المغضوب عليهم...}: بخفض "غير" لأنها نعت للذين، لا للهاء والميم من "عليهم". وإنما جاز أن تكون {غير} نعتاً لمعرفة؛ لأنها قد أضيفت إلى اسم فيه ألف ولام، وليس بمصمودٍ له ولا الأوّل أيضا بمصمود له، وهي في الكلام بمنزلة قولك: لا أمرّ إلا بالصادق غير الكاذب؛ كأنك تريد بمن يصدق ولا يكذب. ولا يجوز أن تقول "مررت بعبد الله غير الظريف" إلا على التكرير؛ لأن عبد الله موقّت، و"غير" في مذهب نكرةٍ غير موقتة، ولا تكون نعتا إلا لمعرفة غير موقتة. والنصب جائز في "غير" تجعله قطعا من "عليهم". وقد يجوز أن تجعل "الذين" قبلها في موضع توقيت، وتخفض "غير" على التكرير: "صراط غير المغضوب عليهم".
وأما قوله تعالى: {ولا الضّالّين...}
فإن معنى "غير" معنى "لا"، فلذلك ردّت عليها {ولا}، هذا كما تقول: فلان غير محسن ولا مجمل؛ فإذا كانت "غير" بمعنى سوى لم يجز أن تكرّ عليها "لا"؛ ألا ترى أنه لا يجوز: عندي سوى عبد الله ولا زيد.
وقد قال بعض من لا يعرف العربية: إن معنى "غير" في "الحمد" معنى "سوى"، وإن "لا" صلة في الكلام، واحتجّ بقول الشاعر:
في بئر لاحورٍ سرى وما شعر
وهذا غير جائز؛ لأن المعنى وقع على ما لا يتبين فيه عمله، فهو جحد محض. وإنما يجوز أن تجعل "لا" صلة إذا اتصلت بجحد قبلها؛ مثل قوله:
ما كان يرضى رسول الله دينهم = والطيّبان أبو بكر ولا عمر
فجعل"لا" صلة لمكان الجحد الذي في أوّل الكلام؛ هذا التفسير أوضح؛ أراد في بئر لا حور، "لا" الصحيحة في الجحد؛ لأنه أراد في: بئر ماء لا يحير عليه شيئاً؛ كأنك قلت: إلى غير رشد توجه وما درى، والعرب تقول: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا؛ أي: لم يتبين لها أثر عمل).
[معاني القرآن: 1/7-8]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين}، مجازها: غير المغضوب عليهم والضالين، و(لا) من حروف الزوائد لتتميم الكلام، والمعنى إلقاؤها، وقال العجاج:
في بئر لا حورٍ سرى وما شعر
أي : في بئر حور، أي : هلكة، وقال أبو النجم:
فما ألوم البيض ألا تسخرا= لمّا رأين الشّمط القفندرا
القفندر: القبيح الفاحش، أي فما ألوم البيض أن يسخرن، وقال:
ويلحيننى في اللهو ألاّ أحبّه= وللّهو داعٍ دائبٌ غير غافل
والمعنى: ويلحيننى في اللهو أن أحبه، وفي القرآن آية أخرى: {ما منعك ألاّ تسجد}، مجازها: ما منعك أن تسجد.
{ولا الضّالّين}: (لا) تأكيدٌ لأنه نفيٌ، فأدخلت (لا) لتوكيد النفي، تقول: جئت بلا خير ولا بركة، وليس عندك نفع ولا دفع.
قال أبو خراش:
فإنك لو أبصرت مصرع خالدٍ = بجنب السّتار بين أظلم فالحزم
إذاً لرأيت النّاب غير رزيّةٍ = ولا البكر لأضطمّت يداك على غنم
). [مجاز القرآن: 1/26-27]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين}
{صراط الّذين أنعمت عليهم} نصب على البدل، و{أنعمت} مقطوع الألف، لأنك تقول " يُنعم"، فالياء مضمومة، فافهم.
وقوله: {غير المغضوب عليهم} هؤلاء صفة: {الّذين أنعمت عليهم}؛ لأن "الصراط" مضاف إليهم، فـ"هم" جرّ للإضافة، وأجريت عليهم "غير" صفة أو بدل، و"غيرٌ" و"مثلٌ" قد تكونان من صفة المعرفة التي بالألف واللام، نحو قولك: "إني لأمرّ بالرجل غيرك، وبالرجل مثلك فما يشتمني"، و"غيرٌ" و"مثلٌ" إنما تكونان صفة للنكرة، ولكنهما قد احتيج إليهما في هذا الموضع فأجريتا صفة لما فيه الألف واللام، والبدل في "غير" أجود من الصفة، لأن "الذي" و"الذين" لا تفارقهما الألف واللام، وهما أشبه بالاسم المخصوص من "الرجل" وما أشبهه.
و"الصراط" فيه لغتان، السين والصاد، إلا أنا نختار الصاد لأن كتابها على ذلك في جميع القرآن. وقد قال العرب "هم فيها الجمّاء الغفير" فنصبوا، كأنهم لم يدخلوا الألف واللام، وإن كانوا قد أظهروهما كما أجروا "مثلك" و"غيرك" كمجرى ما فيه الألف واللام وإن لم يكونا في اللفظ. وإنما يكون هذا وصفا للمعرفة التي تجيء في معنى النكرة. ألا ترى أنك إذا قلت: "إني لأمرّ بالرجل مثلك" إنما تريد "برجلٍ مثلك" لأنك لا تحدّ له رجلا بعينه، ولا يجوز إذا حددت له ذلك إلا أن تجعله بدلًا ولا يكون على الصفة، ألا ترى أنه لا يجوز "مررت بزيدٍ مثلك" إلا على البدل. ومثل ذلك: "إني لأمرّ بالرجل من أهل البصرة" ولو قلت: "إني لأمر بزيدٍ من أهل البصرة" لم يجز إلا أن تجعله في موضع حال، فكذلك {غير المغضوب عليهم}.
وقد قرأ قوم: {غير المغضوب عليهم} جعلوه على الاستثناء الخارج من أول الكلام، ولذلك تفسير سنذكره إن شاء الله، وذلك أنه إذا استثنى شيئا ليس من أول الكلام في لغة أهل الحجاز فإنه ينصب ويقول "ما فيها أحدٌ إلاّ حماراً"، وغيرهم يقول: "هذا بمنزلة ما هو من الأول" فيرفع، فذا يجرّ {غير المغضوب} في لغته، وإن شئت جعلت "غير" نصباً على الحال لأنها نكرة والأول معرفة، وإنما جرّ لتشبيه "الذي" بـ"الرجل". وليس هو على الصفة بحسن، ولكن على البدل نحو {بالنّاصية}، {ناصيةٍ كاذبةٍ}.
ومن العرب من يقول:"هيّاك" بالهاء ويجعل الألف من "إيّاك" هاء فيقول "هيّاك نعبد" كما تقول: "إيه" و"هيه" وكما تقول: "هرقت" و"أرقت".
وأهل الحجاز يؤنثون "الصراط" كما يؤنثون "الطريق" و"الزقاق" و"السبيل" و"السوق" و"الكلاّء"، وبنو تميم يذكّرون هذا كله، وبنو أسد يؤنثون "الهدى"). [معاني القرآن: 1/11-12]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({المغضوب عليهم ولا الضالين}: قالوا اليهود والنصارى). [غريب القرآن وتفسيره: 62]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({صراط الّذين أنعمت عليهم}: يعني: الأنبياء والمؤمنين، {والمغضوب عليهم}: اليهود، والضّالّون: النصارى). [تفسير غريب القرآن: 38]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجلّ: {صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين (7)}
صفة لقوله عزّ وجلّ: {الصراط المستقيم}، ولك في (عليهم) ضم الهاء وكسرها، تقول: الذين أنعمت عليهُم وعليهِم، وعلي هاتين اللغتين معظم القراء، ويجوز (عليهمو) بالواو، والأصل في هذه الهاء في قولك: "ضربتهو يا فتى" و "مررت بهو يا فتى" أن يتكلم بها في الوصل بواو، فإذا وقفت لخط: ضربته ومررت به.
وزعم سيبويه أن الواو زيدت على الهاء في المذكر كما زيدت الألف في المؤنث في قولك: ضربتها ومررت بها، ليستوي المذكر والمؤنث في باب الزيادة.
والقول في هذه الواو عند أصحاب سيبويه والخليل أنها إنما زيدت لخفاء الهاء؛ وذلك أنّ الهاء تخرج من أقصى الحلق، والواو بعد الهاء أخرجتها من الخفاء إلى الإبانة، فلهذا زيدت، وتسقط في الوقف، كما تسقط الصفة والكسرة في قولك: أتاني زيد، ومررت بزيد، أي أنّها واو وصل فلا تثبت لئلا يلتبس الوصل بالأصل.
فإذا قلت: "مررت بهو يا فتى" فإن شئت قلت: "مررت بهي" فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، أعني الياء المنكسرة فإن قال قائل: بين الكسرة والواو: الهاء، قيل الهاء ليست بحاجز حصين، فكأن الكسرة تلي الواو، ولو كانت الهاء حاجزا حصينا ما زيدت الواو عليها. وقد قرئ (فخسفنا بهي وبدارهي الأرض)، و(بهو وبدارهو الأرض)، من قراءة أهل الحجاز.
فإن قلت: "فلان عليه مال"، فلك فيه أربعة أوجه: إن شئت كسرت الهاء، وإن شئت أثبت الياء، وكذلك في الضم: إن شئت ضممت الهاء، وإن شئت أثبتّ الواو، فقلت "عليهِ" و"عليهي"، و"عليهُ" و"عليهو" مال.
وأما قوله عزّ وجلّ: {إن تحمل عليه يلهث} وقوله: {إلا ما دمت عليه قائماً} القراءة بالكسر بغير ياء في " عليه" وهي أجود هذه الأربعة، ولا ينبغي أن يقرأ بما يجوز إلا أن تثبت به رواية صحيحة، أو يقرأ به كثير من القراء، فمن قال: "عليهُ مال" (بالضم) فالأصل فيه: "عليهو مال"، ولكن حذف الواو لسكونها وسكون الياء واجتماع ثلاثة أحرف متجانسة، وترك الضمة لتدل على الواو، ومن قال "عليهو" فإنما أثبت الواو على الأصل، ويجعل الهاء حاجزا، وهذا أضعف الوجوه؛ لأن الهاء ليست بحاجز حصين، ومن قال: "عليهِ مالا" فإنما قدر "عليهي مال" فقلب الواو ياء للياء التي قبلها، ثم حذف الياء لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما قلبت الواو في قوله: "مررت به يا فتى". ومن قال: "عليهي مال"؛ فالحجة في إثبات الياء كالحجة في إثبات الواو ألا ترى أن "عليهي مال" أجود من "عليهو مال".
وأجود اللغات ما في القرآن وهو قول: {عليه قائماً} والذي يليه في الجودة "عليهُ مال" بالضم، ثم يلي هذا "عليهي مال" ثم "عليهو مال" بإثبات الواو، وهي أردأ الأربعة.
فأما قولهم {عليهم} فأصل الهاء فيما وصفنا أن تكون معها ضمة، إلا أن الواو قد سقطت، وإنما تكسر الهاء للياء التي قبلها، وإنّما يكون ما قبل ميم الإضمار مضموماً فإنما أتت هذه الضمة لميم الإضمار، وقلبت كسرة للياء.
وإنّما كثر "عَلَيْهِمْ" في القرآن و(عليهُم)، ولم يكثر (عليهمي) و(عليهمو)؛ لأنّ الضمة التي على الهاء من "عليهم" للميم، فهي أقوى في الثبوت، ألا ترى أن هذه الضمة تأتي على الميم في كل ما لحقته الميم نحو "عليكُم"، و"بكُم"، و"منكُم"، ولا يجوز في عليكم: "عليكِم" (بكسر الكاف) لأن الكاف حاجز حصين بين الياء والميم، فلا تقلب كسرة، وقد روي عن بعض العرب: "عليكِم" و "بكِم" (بكسر الكاف)، ولا يلتفت إلى هذه الرواية، وأنشدوا:
وإن قال مولاهم على جل حادث = إن الدهر ردوا بعض أحلامكم ردوا
(بكسر الكاف) وهذه لغة شاذة، والرواية الصحيحة: فضل أحلامكم، وعلى الشذوذ أنشد ذلك سيبويه.
فأما "عليهمو" فأصل الجمع أن يكون بواو، ولكن الميم استغنى بها عن الواو، والواو تثقل على ألسنتهم، حتى إنه ليس في أسمائهم اسم آخره واو قبلها حركة، فلذلك حذفت الواو، فأمّا من قرأ "عليهموا ولا الضالين" فقليل. ولا ينبغي أن يقرأ إلا بالكثير، وإن كان قد قرأ به قوم؛ فإنه أقل من الحذف بكثير في لغة العرب.
وقوله عزّ وجلّ: {غير المغضوب عليهم} فيخفض (غير) على وجهين، على البدل من {الذين} كأنّه قال: صراط غير المغضوب عليهم، ويستقيم أن يكون {غير المغضوب عليهم} من صفة {الذين}، وإن كان (غير) أصله أن يكون في الكلام صفة للنكرة، تقول: مررت برجل غيرك، فغيرك صفة لرجل، كأنك قلت: مررت برجل آخر.
ويصلح أن يكون معناه: مررت برجل ليس بك وإنما وقع ههنا صفة للذين لأن "الذين" ههنا ليس بمقصود قصدهم فهو بمنزلة قولك: "إني لأمرّ بالرجل مثلك فأكرمه".
ويجوز نصب (غير) على ضربين: على الحال وعلى الاستثناء، فكأنك قلت: إلا المغضوب عليهم، وحق غير من الإعراب في الاستثناء: النصب إذا كان ما بعد إلا منصوبا، فأما الحال فكأنك قلت فيها: صراط الذين أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا الضالّين} فإنما عطف بالضالين على المغضوب عليهم، وإنما جاز أن يقع (لا) في قوله تعالى: {ولا الضالين}؛ لأن
معنى (غير) متضمن معنى النفي، يجيز النحويون "أنت زيدا غير ضارب"، لأنه بمنزلة قولك "أنت زيدا لا تضرب"، ولا يجيزون أنت زيدا مثل ضارب، لأن زيدا من صلة ضارب فلا يتقدم عليه.
وقول القائلين بعد الفراغ من الحمد، ومن الدعاء " آمين " فيه لغتان، تقول العرب: أمين، وآمين، قال الشاعر:
تباعد عني فطحل إذ دعوته = أمين فزاد اللّه ما بيننا بعدا
وقال الشاعر أيضاً:
يا ربّ لا تسلبني حبّها أبدا = ويرحم اللّه عبدا قال آمينا
ومعناه: اللهم استجب، وهما موضوعان في موضع اسم الاستجابة، كما أن قولنا: (صه) موضوع موضع سكوتا.
وحقهما من الإعراب الوقف؛ لأنهما بمنزلة الأصوات إذ كانا غير مشتقين من فعل إلا أن النون فتحت فيهما لالتقاء السّاكنين، فإن قال قائل: إلا كسرت النون لالتقاء السّاكنين، قيل: الكسرة تثقل بعد الياء، ألا ترى أن "أين" و"كيف" فتحتا لالتقاء السّاكنين ولم تكسرا؛ لثقل الكسرة بعد الياء). [معاني القرآن: 1/51-54]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم}
روى أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: " الذين أنعم عليهم: النبيون"، وقال غيره: "يعني: الأنبياء والمؤمنين".وقيل: هم جميع الناس .
ثم قال تعالى: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
وروي عن عمر أنه قرأ: {صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين}
وحدثنا محمد بن جعفر بن محمد الأنباري، قال: حدثنا محمد بن إدريس المكي، قال: أخبرنا محمد بن سعيد، قال : أخبرنا عمرو، عن سماك، عن عباد عن عدي بن حاتم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون))، قال: "قلت: فإني حنيف مسلم"، قال: "فرأيت وجهه تبسم فرحاً".
وروى بديل العقيلي، عن عبد الله بن شقيق، وبعضهم يقول عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو بوادي القرى، وهو على فرسه- وسأله رجل من بني القين، فقال: يا رسول الله: من هؤلاء المغضوب عليهم ؟ فأشار إلى اليهود، قال فمن هم الضالون؟ قال : ((هؤلاء الضالون))، يعني : النصارى؛
فعلى هذا يكون عاماً، يراد به الخاص، وذلك كثير في كلام العرب مستغنٍ عن الشواهد لشهرته). [معاني القرآن: 1/69]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): (و{المغضوب عليهم}: اليهود. {الضالين}: النصارى). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 21]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({أَنعَمتَ عَلَيهِمْ}: يعني: النبيين ومن أسلم معهم، {المَغضُوبِ}: يعني: اليهود، {الضَّالِّينَ}: يعني: النصارى). [العمدة في غريب القرآن: 68]
(1) استدراك من نسخة أخرى.