{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)}
تفسير قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {لا أقسم...} كان كثير من النحويين يقولون: (لا) صلة... ولا يبتدأ بجحد، ثم يجعل صلة يراد به الطرح؛ لأن هذا الوجاز لم يعرف خبر فيه جحد من خبر لا جحد فيه. ولكن القرآن جاء بالرد على الذين أنكروا: البعث، والجنة، والنار، فجاء الإقسام بالرد عليهم في كثير من الكلام المبتدأ منه، وغير المبتدأ: كقولك في الكلام: لا والله لا أفعل ذاك؛ جعلوا (لا) وإن رأيتها مبتدأة ردًّا لكلامٍ قد كان مضى، فلو ألقيت (لا) مما ينوى به الجواب لم يكن بين اليمين التي تكون جوابا، واليمين التي تستأنف فرق. ألا ترى أنك تقول مبتدئا: والله إن الرسول لحق، فإذا قلت: لا والله إن الرسول لحق، فكأنك أكذبت قوما أنكروه، فهذه جهة (لا) مع الإقسام، وجميع الأيمان في كل موضع ترى فيه (لا) مبتدأ بها، وهو كثير في الكلام.
وكان بعض من لم يعرف هذا الجهة فيما ترى يقرأ "لأقسم بيوم القيامة" ذكر عن الحسن يجعلها (لاما) دخلت على أقسم، وهو صواب؛ لأن العرب تقول: لأحلف بالله ليكونن كذا وكذا، يجعلونه (لاما) بغير معنى (لا)). [معاني القرآن: 3/207]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت: 210هـ): ({لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} مجازها أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللوامة). [مجاز القرآن: 2/277]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (قوله عز وجل: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، «لا» صلة، أريد بها تكذيب الكفار، لأنهم قالوا: لا قيامة). [تفسير غريب القرآن: 499]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وأما زيادة (لا) في قوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}. وقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}، و: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}: فإنها زيدت في الكلام على نية الرّد على المكذبين، كما تقول في الكلام: لا والله ما ذاك كما تقول. لو قلت: والله ما ذاك كما تقول، لكان جائزا، غير أن إدخالك (لا) في الكلام أوّلا، أبلغ في الرّدّ.
وكان بعض النحويين يجعلها صلة. ولو جاز هذا لم يكن بين خبر فيه الجحد، وخبر فيه الإقرار فرق). [تأويل مشكل القرآن: 246-247]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله عزّ وجلّ: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} لا اختلاف بين الناس أن معناه أقسم بيوم القيامة.
واختلفوا في تفسير "لا"، فقال بعضهم "لا" لغو وإن كانت في أول السورة، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، لأنه متصل بعضه ببعض فجعلت "لا" ههنا بمنزلتها في قوله: {لئلّا يعلم أهل الكتاب}.
وقال بعض النحويين: "لا" رد لكلامهم. كأنهم أنكروا البعث فقيل لا ليس الأمر كما ذكرتم أقسم بيوم القيامة، وقوله: (إنكم مبعوثون) دلّ على الجواب). [معاني القرآن: 5/251]
تفسير قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله عز وجل: {ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة...}
ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلاّ وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت: هلا ازددت، وإن كانت عملت سوءًا قالت: ليتني قصرت! ليتني لم أفعل! ). [معاني القرآن: 3/207-208]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت: 210هـ): ({لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} مجازها أقسم بيوم القيامة وأقسم بالنفس اللوامة). [مجاز القرآن: 2/277] (م)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (و{النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} أي تلوم نفسها يوم القيامة). [تفسير غريب القرآن: 499]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وأما زيادة (لا) في قوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}. وقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}، و: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}: فإنها زيدت في الكلام على نية الرّد على المكذبين، كما تقول في الكلام:لا والله ما ذاك كما تقول. لو قلت: والله ما ذاك كما تقول، لكان جائزا، غير أن إدخالك (لا) في الكلام أوّلا، أبلغ في الرّدّ.
وكان بعض النحويين يجعلها صلة. ولو جاز هذا لم يكن بين خبر فيه الجحد، وخبر فيه الإقرار فرق). [تأويل مشكل القرآن: 246-247](م)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (و{النفس اللوامة} تفسيرها أن كل نفس تلوم صاحبها في الآخرة إن كان عمل شرّا لامته نفسه، وأن كان عمل خيرا لامته على ترك الاستكثار منه). [معاني القرآن: 5/251]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({النَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} التي تلوم نفسها يوم القيامة، إمّا على الازدياد من الخير، وإمّا على ترك فعل الشرّ). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 286]
تفسير قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} هذا مفسر في كتاب «تأويل المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 499]
تفسير قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله عز وجل: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ...} جاء في التفسير: بلى نقدر على أن نسوى بنانه، أي: أن نجعل أصابعه مصمّتة غير مفصلة كخف البعير، فقال: بلى قادرين على أن نعيد أصغر العظام كما كانت، وقوله: {قادرين} نصبت على الخروج من {نجمَعَ}، كأنك قلت في الكلام: أتحسب أن لن نقوى عليك، بلى قادرين على أقوى منك. يريد: بلى نقوى قادرين، بلى نقوى مقتدرين على أكثر من ذا.
ولو كانت رفعا على الاستئناف، كأنه قال: بلى نحن قادرون على أكثر من ذا ـ كان صوابا.
وقول الناس: بلى نقدر، فلما صرفت إلى قادرين نصبت- خطأٌ؛ لأن الفعل لا ينصب بتحويله من يفعل إلى فاعل. ألا ترى أنك تقول: أتقوم إلينا؛ فإن حولتها إلى فاعل قلت: أقائم، وكان خطأ أن تقول: أقائماً أنت إلينا؟ وقد كانوا يحتجون بقول الفرزدق:
على قسمٍ لا أشتم الدهر مسلما = ولا خارجا من في زور كلام
فقالوا: إنما أراد: لا أشتم، ولا يخرج، فلما صرفها إلى خارج نصبها، وإنما نصب لأنه أراد: عاهدت ربي لا شاتما أحدا، ولا خارجاً من في زور كلام. وقوله: لا أشتم في موضع نصب). [معاني القرآن: 3/208]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}
قال: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي: على أن نجمع. أي: بلى نجمعها قادرين. وواحد "البنان": بنانةٌ). [معاني القرآن: 4/39]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}: أطرافه حتى يكون كحافر حمار أو كخف بعير مصمته). [غريب القرآن وتفسيره: 401]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} هذا مفسر في كتاب «تأويل المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 499](م)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (قوله: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} المعنى: بلى لنجمعنكم قادرين، المعنى أقسم بيوم القيامة والنّفس اللّوّامة لنجمعنّها قادرين على أن نسوّي بنانه.
وجاء في التفسير: بلى نقدر على أن نجعله كخفّ البعير. والذي هو أشكل بجمع العظام بلى نجمعها قادرين، على تسوية بنانه على ما كانت، وإن قلّ عظامها وصغرت وبلغ منها البلى). [معاني القرآن: 5/251]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي نجعل أصابعه ملتصقة لا فتح بينهنّ). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 286]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({بَنَانَهُ}: أطرافه). [العمدة في غريب القرآن: 325]
تفسير قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله عز وجل: {ليفجر أمامه...}...
- وحدثني قيس عن أبي حصين عن سعيد بن جبير في قوله: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه} قال: يقول: سوف أتوب سوف أتوب.
وقال الكلبي: يكثر الذنوب، ويؤخر التوبة). [معاني القرآن: 3/208]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} هذا مفسر في كتاب «تأويل المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 499](م)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}.
هذا ردّ من الله عليهم، وذلك أنهم ظنوا أن الله لا ينشر الموتى، ولا يقدر على جمع العظام البالية، فقال: بلى، فاعلموا أنّا نقدر على رد السّلاميات على صغرها، ونؤلّف بينها حتى يستوي البنان. ومن قدر على هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر. ومثل هذا رجل قلت له: أتراك تقدر على أن تؤلّف هذا الحنظل في خيط؟ فيقول لك: نعم وبين الخردل.
وأما قوله سبحانه: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} فقد كثرت فيه التفاسير:
- فقال سعيد بن جبير: يقول: سوف أتوب، سوف أتوب.
- وقال الكلبي: يكثر الذنوب، ويؤخّر التوبة.
- وقال آخرون: يتمنّى الخطيئة.
- وفيه قول آخر: على طريق الإمكان- إن كان الله تعالى أراده- وهو: أن يكون الفجور بمعنى: التكذيب بيوم القيامة، ومن كذّب بحق فقد فجر. وأصل الفجور: الميل، فقيل للكاذب والمكذّب والفاسق: فاجر؛ لأنه مال عن الحق.
وقال بعض الأعراب لعمر بن الخطاب رحمه الله- وكان أتاه فشكى إليه نقب إبله ودبرها واستحمله فلم يحمله-:
أقسم بالله أبو حفص عمر = ما مسّها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهمّ إن كان فجر
أي: كذب. وهذا وجه حسن لأن الفجور اعتراض بين كلامين من أسباب يوم القيامة:
أولهما: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}؟
والآخر: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}؟ فكأنه قال: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه في الآخرة؟ بلى نقدر على أن نجمع ما صغر منها ونؤلف بينه.
{بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} أي: ليكذّب بيوم القيامة وهو أمامه، فهو يسأل {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} أي متى يكون؟). [تأويل مشكل القرآن: 346-347]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {بل يريد الإنسان ليفجر أمامه (5)} معناه أنه يسوّف بالتوبة، ويقدّم الأعمال السيئة.
ويجوز -واللّه أعلم- أن يكون معناه ليكفر بما قدّامه. ودليل ذلك قوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}. فيفجر أمامه على هذا -واللّه أعلم- يكذّب بما قدّامه من البعث). [معاني القرآن: 5/252]
تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)}
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}؟ أي متى يوم القيامة؟). [تفسير غريب القرآن: 499]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)}.
هذا ردّ من الله عليهم، وذلك أنهم ظنوا أن الله لا ينشر الموتى، ولا يقدر على جمع العظام البالية، فقال: بلى، فاعلموا أنّا نقدر على رد السّلاميات على صغرها، ونؤلّف بينها حتى يستوي البنان. ومن قدر على هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر. ومثل هذا رجل قلت له: أتراك تقدر على أن تؤلّف هذا الحنظل في خيط؟ فيقول لك: نعم وبين الخردل.
وأما قوله سبحانه: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} فقد كثرت فيه التفاسير:
- فقال سعيد بن جبير: يقول: سوف أتوب، سوف أتوب.
- وقال الكلبي: يكثر الذنوب، ويؤخّر التوبة.
- وقال آخرون: يتمنّى الخطيئة.
- وفيه قول آخر: على طريق الإمكان- إن كان الله تعالى أراده- وهو: أن يكون الفجور بمعنى: التكذيب بيوم القيامة، ومن كذّب بحق فقد فجر. وأصل الفجور: الميل، فقيل للكاذب والمكذّب والفاسق: فاجر؛ لأنه مال عن الحق.
وقال بعض الأعراب لعمر بن الخطاب رحمه الله- وكان أتاه فشكى إليه نقب إبله ودبرها واستحمله فلم يحمله-:
أقسم بالله أبو حفص عمر = ما مسّها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهمّ إن كان فجر
أي: كذب. وهذا وجه حسن لأن الفجور اعتراض بين كلامين من أسباب يوم القيامة:
أولهما: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}؟
والآخر: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}؟ فكأنه قال: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه في الآخرة؟ بلى نقدر على أن نجمع ما صغر منها ونؤلف بينه.
{بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} أي: ليكذّب بيوم القيامة وهو أمامه، فهو يسأل {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} أي متى يكون؟). [تأويل مشكل القرآن: 346-347](م)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (أيان أيّان: بمعنى متى، ومتى بمعنى: أيّ حين. ونرى أصلها: أيّ أوان، فحذفت الهمزة والواو، وجعل الحرفان واحدا، قال الله تعالى: {أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}؟، أي متى يبعثون؟ و{أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}). [تأويل مشكل القرآن: 522](م)
تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله عز وجل: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ...} قرأها الأعمش وعاصم والحسن وبعض أهل المدينة (برق) بكسر الراء، وقرأها نافع المدني (فإذ برق البصر) بفتح الراء من البريق: شخص، لمن فتح، وقوله "برق": فزع، أنشدني بعض العرب:
نعاني حنانة طوبالةً = تسفّ يبيسًا من العشرق
فنفسك فانع ولا تنعني = وداو الكلوم ولا تبرق
فتح الراء أي: لا تفزع من هول الجراح التي بك، كذلك يبرق البصر يوم القيامة.
ومن قرأ "برق" يقول: فتح عينيه، ويرق بصره أيضا لذلك). [معاني القرآن: 3/209]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت: 210هـ): ({فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} إذا شق البصر وقال الكلابي:
لمّا أتاني ابن صبيحٍ راغباً = أعطيته عيساً صهاباً فبرق).[مجاز القرآن: 2/277]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({بَرِقَ الْبَصَرُ}: شق البصر). [غريب القرآن وتفسيره: 401]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ}: إذا حار عند الموت. وأصل «البرق»: الدهش. يقال: برق الرجل يبرق برقا. ومن قرأ: (برق)، أراد: بريقه إذا شخص). [تفسير غريب القرآن: 499]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)} ويقرأ (بَرَقَ البَصَر).
فمن قرأ (بَرِق) فمعناه فزع وتحيّر.
ومن قرأ (بَرَقَ) فهو من بَرَقَ يبرق. من بريق العينين). [معاني القرآن: 5/252]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت: 345هـ): ({بَرِقَ الْبَصَرُ} أي: تحير). [ياقوتة الصراط: 543]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({بَرِقَ الْبَصَرُ} معناه حارَ بعد الموت. وأصله الدهَش، ومن قرأ (بَرَقَ) بالفتح: أراد بريقه إذا شخص). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 286]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({بَرِقَ}: دهش). [العمدة في غريب القرآن: 325]
تفسير قوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله عز وجل: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ...} ذهب ضوءه). [معاني القرآن: 3/209]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت: 210هـ): ({وَخَسَفَ الْقَمَرُ} وكسف القمر واحد، ذهب ضوءه). [مجاز القرآن: 2/277]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({وَخَسَفَ الْقَمَرُ}: وكسفت الشمس. ذهب ضوؤه). [غريب القرآن وتفسيره: 401]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وَخَسَفَ الْقَمَرُ} و«كسف» واحد). [تفسير غريب القرآن: 499]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)} أي ذهب ضوء القمر). [معاني القرآن: 5/252]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({خَسَفَ}: كسف). [العمدة في غريب القرآن: 325]
تفسير قوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله عز وجل:{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ...}. [وفي قراءة عبد الله] (وجمع بين الشمس والقمر) يريد: في ذهاب ضوئها أيضا فلا ضوء لهذا ولا لهذه. فمعناه: جمع بينهما في ذهاب الضوء كما تقول: هذا يوم يستوي فيه الأعمى والبصير أي: يكونان فيه أعميين جميعا. ويقال: جمعا كالثورين العقيرين في النار. وإنما قال: جمع ولم يقل: جمعت لهذا؛ لأن المعنى: جمع بينهما فهذا وجه، وإن شئت جعلتهما جميعا في مذهب ثورين. فكأنك قلت: جمع النوران، جمع الضياءان، وهو قول الكسائي: وقد كان قوم يقولون: إنما ذكرنا فعل الشمس لأنها لا تنفرد بجمع حتى يشركها غيرها، فلما شاركها مذكر كان القول فيهما جمعا، ولم يجر جمعتا، فقيل لهم: كيف تقولون الشمس جمع والقمر؟
فقالوا: جمعت، ورجعوا عن ذلك القول). [معاني القرآن: 3/209-210]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت: 210هـ): ({وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} لتذكير القمر). [مجاز القرآن: 2/277]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38].
قوله: {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي: إلى مستقر لها، كما تقول: هو يجري لغايته وإلى غايته.
ومستقرّها: أقصى منازلها في الغروب، وذلك لأنها لا تزال تتقدم في كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع، فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزه.
وقرأ بعض السلف: والشمس تجري لا مستقر لها والمعنى أنها لا تقف، ولا تستقر، ولكنها جارية أبدا.
وقوله: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} يريد: أنه ينزل كل ليلة منزلا، ومنازله ثمانية وعشرون منزلا عندهم، من أول الشهر إلى ثمان وعشرين ليلة منه ثم يستسرّ. وهذه المنازل هي النجوم التي كانت العرب تنسب إليها الأنواء، وأسماؤها عندهم الشّرطان والبطين، والثّريّا، والدّبران، والهقعة، والهنعة، والذّراع، والنّثرة، والطّرف، والجبهة، والزّبرة، والصّرفة، والعوّاء، والسّماك، والغفر، والزّباني، والإكليل، والقلب، والشّولة، والنّعائم، والبلدة، وسعد الذّابح، وسعد بلع، وسعد السّعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدّلو المقدّم، وفرغ الدّلو المؤخّر، والرّشا وهو الحوت. وإذا صار القمر في آخر منازله دقّ حتى يعود كالعرجون القديم وهو العذق اليابس. والعرجون إذا يبس دقّ واستقوس حتى صار كالقوس انحناء، فشبّه القمر به ليلة ثمانية وعشرين.
ثم قال سبحانه: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} يريد: أنهما يسيران الدّهر دائبين ولا يجتمعان، فسلطان القمر بالليل، وسلطان الشمس بالنهار، ولو أدركت الشمس القمر لذهب ضوءه، وبطل سلطانه، ودخل النهار على الليل.
يقول الله جل وعز حين ذكر يوم القيامة: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وذلك عند إبطال هذا التدبير، ونقض هذا التأليف.
{وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} يقول: هما يتعاقبان، ولا يسبق أحدهما الآخر: فيفوته ويذهب قبل مجيء صاحبه.{وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي: يجرون، يعني الشمس والقمر والنجوم). [تأويل مشكل القرآن: 316-318](م)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): ({وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)} أي جمعا في ذهاب نورهما). [معاني القرآن: 5/252]
تفسير قوله تعالى: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله عز وجل: {أين المفرّ...}. قرأه الناس المفر بفتح الفاء...
- وحدثني يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن رجل عن ابن عباس أنه قرأ: "أين المفر" وقال: إنما المفر مفر الدابة حيث تفر، وهما لغتان: المفر والمفر، والمدبّ والمدبّ. وما كان يفعل فيه مكسورا مثل: يدب، ويفر، ويصح، فالعرب تقول: مفر ومفر، ومصح ومصح، ومدب ومدب.
أنشدني بعضهم:
كأن بقايا الأثر فوق متونه = مدب الدّبى فوق النقا وهو سارح
ينشدونه: مدب، وهو أكثر من مدب. ويقال: جاء على مدب السيل، ومدب السيل، وما في قميصه مصح ولا مصحٌّ). [معاني القرآن: 3/210]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} وقال: {أين المفرّ} أي: أين الفرار. وقال الشاعر:
يا لبكر أنشروا لي كليباً = يا لبكر أين أين الفرار
لأنّ كلّ مصدرٍ يبنى هذا البناء فإنما يجعل "مفعلاً" وإذا أراد المكان قال: {المفرّ} وقد قرئت {أين المفرّ} لأنّ كلّ ما كان فعله على "يفعل" كان "المفعل" منه مكسورا نحو "المضرب" إذا أردت المكان الذي يضرب فيه). [معاني القرآن: 4/39]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): ({يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)}
ويقرأ (أين المفرّ) -بكسر الفاء- فمن فتح فهو بمعنى أين الفرار، ومن كسر فعلى معنى أين مكان الفرار.
والمفعل من مثل جلست بفتح العين، وكذلك المصدر، تقول: جلست مجلسا -بفتح اللام- بمعنى جلوسا. فإذا قلت جلست مجلسا، فأنت تريد المكان). [معاني القرآن: 5/252]