رسم المصحف الإمام وحكم الالتزام به
الكلام على رسم المصحف الإمام وحكم الالتزام به
الكلام على رسم المصحف يتناول ماهية الرسم المقصود، وحكم الالتزام به، والمذاهب في ذلك، وذكر الشبه التي تعلق بها مخالفوا الجمهور وتفنيدها.
ماهية الرسم المقصود:
رسم المصحف يراد به الوضع الذي ارتضاه عثمان رضي الله عنه في كتابة كلمات القرآن وحروفه. والأصل في المكتوب أن يكون موافقا تمام الموافقة للمنطوق، ومن غير زيادة ولا نقص ولا تبديل ولا تغيير، لكن المصاحف العثمانية قد أهمل فيها هذا الأصل، فوجدت بها حروف كثيرة جاء رسمها مخالفا لأداء النطق، وذلك لأغراض شريفة ظهرت وتظهر لك فيما بعد.
فالمقصود برسم المصحف أن يكتب طبقا للمصطلح الإملائي الذي اتبعه زيد بن ثابت رضي الله عنه وصحبه حين كتب المصحف الإمام في عهد عثمان رضي الله عنه ووافقهم عليه. وقد عني العلماء بالكلام على رسم القرآن، وحصر تلك الكلمات التي جاء خطها على غير مقياس لفظها، وقد عقد بعضهم له بابا في غير مصنف من مصنفاته كما هو صنيع ابن أبي داود في كتاب المصاحف، وربما أفرده بعض أهل العلم في مصنفات خاصة، كالداني في المقنع وغيره، وآخرون سماهم الزركشي
[599]
في البرهان، والسيوطي في الإتقان، والزرقاني في المناهل، حيث عدوا فيما أفردوا رسم المصحف بمصحف أبا عمرو الداني إذ ألف فيه كتابه المسمى " المقنع في رسم مصاحف الأمصار".
ومنهم أبو العباس المراكشي الشهير بابن البناء في كتابه "عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل". ومنهم الشيخ محمد بن أحمد الشهير بالمتولي، إذ نظم أرجوزة سماها "اللؤلؤ المنظوم في ذكر جملة المرسوم"، وقد شرح هذه الأرجوزة الشيخ محمد خلف الحسيني شيخ المقاريء بالديار المصرية ، وذيل الشرح بكتاب سماه "مرشد الحيران إلى معرفة ما يجب اتباعه في رسم القرآن".
قواعد رسم المصحف:
وقد ذكر الكاتبون في علوم القرآن أن قواعد رسم المصحف تنحصر في ست قواعد، الحذف والزيادة، والهمز والبدل، والوصل والفصل، وما فيه قراءتان فكتب على إحداهما.
مذاهب العلماء في التزام رسم المصحف:
لقد كان الالتزام برسم المصحف الإمام محل إجماع بين علماء القرون الثلاثة المفضلة، ثم حدث الخلاف بعد ذلك وصار من الناس من يقول بعدم وجوب الالتزام برسم المصحف، ثم اختلف هؤلاء بين قائل بالترخيص بمخالفة الرسم مطلقا، وبين قائل بالتفريق بين الأمهات من المصاحف، وبين المصاحف التي يتعلم بها الناس على ما سيأتي بيانه عند ذكر أقوالهم في هذا الشأن وشبههم التي تعلقوا بها.
[600]
القول بالتزام رسم المصحف:
أجمع سلف هذه الأمة من لدن الصحابة رضوان الله عليهم وحتى أن أوان أئمة المجتهدين على وجوب التزام رسم المصحف العثماني وحرمة مخالفته، وممن حكى الإجماع على ذلك أبو عمرو الداني في كتابه المقنع، إذ يروي بإسناده إلى مصعب بن سعد قال: (أدركت الناس حين شقق عثمان رضي الله عنه المصاحف، فأعجبهم ذلك ولم يعبه أحد).
وكذلك ما رواه علم الدين السخاوي في شرحه على العقيلة عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن عثمان أرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين مصحفا، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف الذي أرسل إليهم"، ولم يعرف أن أحدا خالف في رسم هذه المصاحف العثمانية.
وذكر أبو عمرو الداني في المقنع، وابن رشد في البيان والتحصيل، وأبو بكر الطرطوشي في الحوادث والبدع أن مالكا سئل هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: "لا.. إلا على الكتبة الأولى" رواه الداني في المقنع، ثم قال: (ولا مخالف له من علماء الأمة)
[601]
وقال في موضع آخر: (سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف، أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: "لا". قا أبو عمرو: يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو: (أولوا". وقال الإمام أحمد يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك، ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية. وقال في الفروع أيضا: (قال أحمد: نفس ما في المصحف يكتب كما في المصحف يعني لا يخالف حروفه. وقال القاضي: لا يجوز. وقال بعد كلام أحمد: إنما اختار ذلك لأنهم أجمعوا على كتبه بهذه الحروف فلم تحسن مخالفته).
وقال البيهقي في شعب الإيمان: (من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على حروف الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيها ولا يغير مما كتبوه شيئا، فإنهم كانوا أكثر علما، وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم).
وقال ابن الحاج في المدخل في باب نية الناسخ وكيفيتها: ( ويتعين عليه أن يترك ما أحدثه بعض الناس في هذا الزمان، وهو أن ينسخ الختمة على غير مرسوم المصحف الذي اجتمعت عليه الأمة على ما وجدته بخط عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد قال مالك رحمه الله: القرآن يكتب بالكتاب الأول. فلا يجوز غير ذلك، ولا يلتفت إلى إعتلال من خالف بقوله أن العامة لا تعرف مرسوم المصحف، ويدخل عليهم الخلل في قرائتهم في المصحف إذا كتب على المرسوم)، (فأنى يصرفون)، فإنهم يقرءون ذلك وما أشبهه بإظهار الياء، إما ساكنة وإما مفتوحة، وكذلك قوله تعالى: (وقالوا مال هذا الرسول) مرسوم المصحف فيها بلام منفصلة عن الهاء، فإذا وقف عليها التالي وقف على اللام، وكذلك قوله تعالى: (لا أذبحنه)، (ولا أوضعوا خلالكم) مرسومها بألف بعد لا، فإذا قرأهما من لا يعرف قرأهما بمدة بينهما...إلى غير ذلك وهو كثير، وهذا ليس بشيء لأن من لا يعرف المرسوم من الأمة يجب عليه
[602]
أن لا يقرأ في المصحف إلا بعد أن يتعلم القراءة على وجهها، أو يتعلم مرسوم المصحف، فإن فعل غير ذلك فقد خالف ما اجتمعت عليه الأمة، وحكمه معلوم في الشرع الشريف، فالتعليل المتقدم ذكره مردود على صاحبه لمخالفته للإجماع المتقدم.
وقد تعدت هذه المفسدة إلى خلق كثير من الناس في هذا الزمان، فليتحفظ من ذلك في حق نفسه وحق غيره.. والله الموفق).
وجزم الونشريسي في المعيار بأن الصواب أن يقال في خط المصحف السلفي
إنه إجماع وتواتر في أصله وجملته دون جميع تفاصيله، لأن ذلك الرسم الملغي في الكلمات أنفسها في إثبات الحروف وحذفها في الكلمة الواحدة وزيادتها ونقصانها، وتعويض في بعضها لا يعرفها إلا الأفراد من الناس... وقد اختلفت في ذلك مصاحف الأمصار اختلافا كثيرا حسبما يظهر في التواليف الموضوعة في ذلك. ثم ذكر لذلك أمثلة تطلب فيه.
وقال الهيتمي في التحفة: (يعتبر في القرآن رسمه بالنسبة لخط المصحف الإمام، وإن خرج عن مصطلح علم الرسم، لأنه ورد له رسم لا يقاس عليه فتعين اعتباره به). وذكر الهيتمي ذلك في معرض ذكر الفرق بين القرآن والتفسير، وحكم مس كل منهما حال الحدث.
والقول بالتزام الرسم هو المفتى به لدى فقهاء الحنفية، ففي الهندية: (ولا ينبغي له أن يخالف اللذين اتفقوا وكتبوا المصاحف التي في أيدي الناس). وفي المحيط البرهاني: (أنه ينبغي ألا يكتب المصحف بغير الرسم العثماني).
الترخيص بمخالفة رسم المصحف الإمام:
بيد أن فريقا من علماء الخلف قد قالوا بخلاف الإجماع المحكي آنفا، وجوزوا
[603]
مخالفة رسم المصحف الإمام، وقد كان القاضي أبو بكر الباقلاني من أوائل المصرحين بذلك في كتابه الانتصار، ثم تابعه على ذلك جمع من أهل العلم الذين جاؤا بعده كالعز بن عبد السلام، وابن خلدون، وأبي العباس ابن تيمية، والبدر الزركشي، والقاضي الشوكاني.. وهاك نصوصهم في هذا الشأن:
قال الباقلاني في كتابه الانتصار بنقل القرآن: (وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم، وترك ما عداه إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على مخصوص وحد محدود لا يجوز تجاوزه، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك، ولا دلت عليه القياسات الشرعية؛ بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا، ولا نهى أحدا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول، وأن يجعل اللام على صورة الكاف، ,أن تعوج الألفات، وأن يكتب على غير هذه الوجوه، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة، وجاز أن يكتب بين ذلك، وإذا كانت خطوط المصاحف وكثير من حروفها
[604]
مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا ذلك وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته وما هو أسهل وأشهر وأولى من غير تأثيم ولا تناكر على أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص، كما أخذ عليهم في القراءة والآذان، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دال على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به على أي صورة كانت.
وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه، وأنى له ذلك؟ )أ.ه بتلخيص ذكره الزرقاني في المناهل عن كتاب الانتصار.
وقال الزركشي في البرهان إثر حكايته النقول عن الأئمة في وجوب التزام الرسم العثماني، قال: (قلت: وكان هذا في الصدر الأول، والعلم حي غض، وأما الآن فقد يخشى الإلباس، ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: "لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال" ، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة).
وسئل أبو العباس ابن تيمية رحمه الله عن المروي عن الإمام مالك أنه قال: " من كتب مصحفا على غير رسم المصحف العثماني فقد أثم"، أو قال: "كفر". فهل هذا صحيح؟ وأكثر المصاحف اليوم على غير المصحف العثماني، فهل يحل لأحد كتابته على غير المصحف العثماني بشرط ألا يبدل لفظا ولا يغير معنى، أم لا؟
فأجاب: أما هذا النقل عن الإمام مالك في تكفير من فعل ذلك فهو كذب على
[605]
مالك، سواء أريد به رسم الخط أو رسم اللفظ، فإن مالكا كان يقول عن أهل الشورى إن لكل منهم مصحفا يخالف رسم مصحف عثمان، وهم أجل من أن يقال فيهم مثل هذا الكلام وهم علي بن أبي طالب، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف مع عثمان.
وأيضا فلو قرأ رجل بحرف من حروفهم التي خرج عن مصحف عثماني ففيه روايتان عن مالك وأحمد، وأكثر العلماء يحتجون بما ثبت من ذلك عنهم، فكيف يكفر فاعل ذلك؟
وأما اتباع رسم الخط بحيث يكتبه بالكوفي فلا يجب عند أحد من المسلمين، وكذلك اتباعه فيما كتبه بالواو والألف هو حسن لفظ رسم خط الصحابة.
وأما تكفير من كتب ألفاظ المصحف بالخط الذي اعتاده فلا أعلم أحدا قال بتكفير من فعل ذلك، لكن متابعة خطهم أحسن هكذا نقل عن مالك وغيره..والله أعلم).
وقال الشوكاني في تفسير فتح القدير عند تفسيره لآية الربا: (وقياس كتابة الربا بالياء للكسرة في أوله، وقد كتبوه في المصحف بالواو. وقال في الكشاف: على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة، وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع انتهى.
قلت: وهذا مجرد اصطلاح لا يلزم المشي عليه، فإن هذه النقوش الكتابية أمور اصطلاحية لا يشاحح في مثلها إلا فيما كان يدل به منها على الحرف الذي كان في أصل الكلمة ونحوه، كما هو مقرر في مباحث الخط من علم الصرف، وعلى كل حال فرسم الكلمة وجعل نقشها الكتابي على ما يقتضيه اللفظ بها هو الأولى، ما كان في النطق ألفا كالصلاة والزكاة ونحوهما كان الأولى في رسمه أن يكون كذلك، وكون أصل هذه الألف واوا أو ياء لا يخفى على من يعرف علم الصرف، وهذه النقوش ليست إلا لفهم اللفظ الذي يدل بها عليه كيف هو في نطق من ينط به لا لتفهيم أن أصل الكلمة كذا مما لا يجري به النطق، فاعرف هذا ولا تشتغل بما يعتبره كثير من أهل العلم في هذه النقوش ويلزمون به أنفسهم، ويعيبون من خالفه، فإن ذلك من المشاححة في الأمور الاصطلاحية التي لا تلزم أحد أن يتقيد بها، فعليك بأن ترسم هذه النقوش على ما يلفظ به اللافظ عند قراءتها، فإنه الأمر المطلوب من وضعها
[606]
والتواضع عليها، وليس الأمر المطلوب منها أن تكون دالة على ما هو أصل الكلمة التي يتلفظ بها المتلفظ مما لا يجري في لفظه الآن، فلا تغتر بما يروي عن سيبويه ونحاة البصرة أن يكتب الربا بالواو، لأنه يقول في ثنيته ربوان.
وقال الكوفيون: يكتب بالياء وتثنيته ربيان. قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا ولا أشنع، لا يكفيهم الخطأ في الخط حتى يخطئوا في التثنية وهم يقرءون: {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو} أ.ه كلام الشوكاني في الفتح.
التفريق بين المصاحف الأمهات وغيرها:
وفرق قوم في مسألة التزام الرسم بين الأمهات من المصاحف، وبين المصاحف التي يتعلم فيها الغلمان.. فأوجبوه في الأولى دون الثانية. وقد نسب الشيخ محمد رشيد رضا القول بالتفريق المذكور إلى الإمام مالك، فقد جاء في حاشية فضائل القرآن لابن كثير عند قوله حكاية عن الإمام مالك: (وأكره تعداد آي السور في أولها في المصاحف الأمهات، فأما ما يتعلم فيه الغلمان فلا أرى به بأسا).
قال الشيخ محمد رشيد رضا تعليقا على هذا النص: (ومثل هذا قوله بوجوب اتباع رسم الصحابة في المصاحف التي تكتب للتلاوة، وإباحة الرسم المستحدث في مصاحف التعليم فقط لتسهيله. وغرضه أن مصاحف التلاوة يجب أن تكون كالمصحف الإمام الذي أجمع عليه الصحابة حفظا للأصل).
وقد سئل الشيخ محمد رشيد رضا عن حكم مخالفة رسم المصحف الإمام فأجاب على السؤال في مجلة المنار قائلا: (إن ديننا يمتاز على جميع الأديان بحفظ أصله على منذ الصدر الأول، فالذين تلقوا القرآن عمن جاء به من عند الله، صلى الله عليه وسلم حفظوه وكتبوه، وتلقاه عنهم الألوف من المؤمنين، وتسلسل ذلك جيلا بعد جيل. وقد أحسن التابعون وتابعوهم وأئمة العلم في اتباع الصحابة في رسم المصحف وعدم تجويز كتابته بما استحدث الناس من فن الرسم، وكان أرقى مما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، لأنه صنعة ترتقي بارتقاء المدينة إذ لو فعلوا لجاز أن يحدث اشتباه في
[607]
بعض الكلمات باختلاف رسمها وجهل أصلها، فالاتباع في رسم المصحف يفيد مزيد ثقة واطمئنان في حفظه، كما هو يبعد الشبهات أن تحوم حوله، وفيه فائدة أخرى وهي حفظ شيء من تاريخ الملة وسلف الأمة كما هو.
نعم إن تغير الرسم واختلاف الإملاء يجعل قراءة المصحف على وجه الصواب خاصة بمن يتلقاه عن القراء، ولذلك أحدثوا فيه النقط والشكل وهي زيادة لا تمنع معرفة الأصل على ما كان عليه في عهد الصحابة، ثم إنه يجعل تعليم الصغار عسرا، ولذلك أفتى الإمام مالك بجواز كتابة الألواح ومصاحف التعليم بالرسم المعتاد كما نقل.
قال علم الدين السخاوي في شرحه لعقيلة الشاطبي: قال أشهب رحمه الله: "سئل مالك رضي الله عنه أرأيت من استكتبته مصحفا أترى أن يكتب على ما أحدثه الناس من الهجاء اليوم؟
فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى. قال مالك: ولا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن فأقول له: أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط، ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها، وأما المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان والألواح فلا أرى بأسا". ثم قال أشهب: والذي ذهب إليه مالك هو الحق، إذ فيه بقاء الحال الأولى إلى أن يعلمها الآخر، وفي خلاف ذلك تجهيل الناس بأوليتهم.
وقال أبو عمرو الداني في كتابه المسمى المحكم في النقط عقب قول مالك هذا: "ولا مخالف لمالك في ذلك من علماء الأمة".
فالذي أراه هو أن تطبع المصاحف التي تتخذ لأجل التلاوة برسم المصحف الإمام الذي كتبه الصحابة عليهم الرضوان حفظا لهذا الأثر التاريخي العظيم الذي هو أصل ديننا كما هو، لكن مع النقط والشكل للضبط. ولو كان لمثل الأمة الإنكليزية هذا الأثر لما استبدلت به ملك كسرى وقيصر، ولا أسطول الألمان الجديد الذي هو شغلها الشاغل اليوم. أما الألواح والأجزاء وكذا المصاحف التي تطبع لأجل تعليم الصغار بها في الكتاتيب فلتطبع بالرسم المصطلح عليه اليوم من كل وجه تسهيلا للتعليم، ومتى كبر الصغير وكان متعلما للقرآن بالرسم المشهور لا يغلط إذا قرأ المصاحف المطبوعة برسم الصحابة مع زيادة النقط والشكل، وكذلك يكتب القرآن في أثناء كتب التفسير وغيرها بالرسم الاصطلاحي ليقرأه كل أحد على وجه الصواب، وبهذا تجمع
[608]
بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين.
أما ما احتج به العز بن عبد السلام على رأيه فليس بشيء، لأن الاتباع إذا لم يكن واجبا من الأصل، فإن فرق بين الآن الذي قال فيه ما قال وبين ما قبله وما بعده؛ بل يكتب الناس القرآن في كل زمن بما يتعارفون من الرسم، وإذا كان واجبا في الأصل وهو ما لا ينكره فترك الناس له لا يجعله حراما أو غير جائز لما ذكره من الالتباس؛ بل يزال هذا الالتباس في أنه لا يسلم له.
وأما ما طبعه المسلمون من المصاحف في الآستانة وقزان ومصر وغيرها من البلاد غير متبعين فيه رسم المصحف الإمام في كل الكلمات، فسببه التهاون والجهل والاعتماد على بعض المصاحف الخطية التي كتبت قبل عهد الطباعة، فرسم فيها بالرسم المعتاد الكلمات التي يظن أنه يقع الاشتباه فيها إذا هم كتبوها كما كتبها الصحابة كلفظ "الكتاب" بالألف بعد التاء، وهو في المصحف الإمام بغير ألف ليوافق في بعض الآيات قراءة الجمع فكتبوه بالألف، ولم أر مصحفا كتب أو طبع كله بالرسم المعتاد.
ونحمد الله تعالى أن وفق بعض الناس إلى طبع ألوف من المصاحف برسم الصحابة المتبع، وأحسن المصاحف التي طبعت في أيامنا هذه ضبطا وموافقة للمصحف الإمام المتبع هو المصحف المطبوع في مطبعة محمد بن زيد بمصر سنة 1308، إذ وقف على تصحيحه وضبطه الشيخ رضوان ابن محمد المخللاتي أحد علماء هذا الشأن وصاحب المصنفات فيه، وقد وضع له مقدمة بين فيها ما يحتاج إليه في ذلك، فالذي أراه أنه ينبغي للجنة القرآنية أن تراجع هذا المصحف، فإنها تجد فيه حل عقد المشكلات كلها إن شاء الله تعالى ككلمة "الأقلام" وأمثالها، وهي بغير ألف، وكلمة "أتاني" التي رسمت في المصحف الإمام "اتني"، فيرون أن هذا المصحف وضع فوق "النون" "ياء" صغيرة مفتوحة هي من قبيل الشكل لتوافق قراءة حفص فهي فيه هكذا "اتني".
وجملة القول أننا نرى أن الصواب الذي ينبغي أن يتبع ولا يعدل عنه هو أن تطبع الأجزاء والمصاحف التي يعلم فيها المبتدئون بالرسم الاصطلاحي لتسهيل التعليم، وهي ما جرت عليه الجمعية الخيرية الإسلامية هنا بإذن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، فهي تطبع أجزاء القرآن كل جزء على حدته بالرسم الاصطلاحي وتوزيعها
[609]
على التلاميذ في مدارسها، وأما سائر المصاحف فيتبع في طبعها رسم المصحف الإمام كالمصحف الذي ذكرناه آنفا، وإذا جرى المسلمون على هذا في الآستانة ومصر وقزان والقريم وسائر البلاد الإسلامية فلا يمضي جيل أو جيلان إلا وتنقرض المصاحف التي طبع بعض كلماتها بالرسم الاصطلاحي، وبعضها برسم الصحابة، ولا ضرر من وجودها الآن إذ هي مضبوطة بالشكل كغيرها، فالاشتباه والخطأ مأمونان في جميع المصاحف ولله الحمد).
على أن الشيخ رضا قد اختار في جواب له في مجلة المنار أيضا القول بأن رسم المصحف الإمام سماعي توقيفي، وادعى اتفاق العلماء على ذلك... ولم أقف على من صرح بذلك من أهل العلم، ولا وجه القول بتوقيفية الرسم؛ بل صرح بعض الكاتبين في علوم القرآن بأنه لا حجة مع القائلين بأن رسم المصحف توقيفي وهو قول بعض متأخري الصوفية ولا يستند إلى برهان؛ بل إنهم احتكموا في ذلك إلى عواطفهم، واستسلموا استسلاما شعريا صوفيا إلى مذاويقهم ومواجيدهم والأذواق نسبية لا دخل لها في الدين، ولا يستنبط منها حقيقة شرعية.
وقد حكى الزرقاني في المناهل القول بأن رسم المصحف الإمام توقيفي عن عبد العزيز الدباغ أحد صوفية القرن الثاني عشر طبقا لما نقله عنه تلميذه ابن المبارك السلجماسي في كتابه الأبريز ولا أعلم له في ذلك سلفا.
التزام رسم المصحف هو مقتضى التحقيق:
قد اتفقت كلمة أهل التحقيق على وجوب التزام رسم المصحف الإمام وعدم
[610]
التعريج على ما يخالفه نظرا إلى المخاطر المترتبة على القول بجواز المخالفة، فضلا عن ضعف المبررات التي تعلق بها مجوزو مخالفة الرسم، وعلى فرض صحتها فهي أمور وقتية ومصالح جزئية. وقد تقرر في الأصول أن المصالح الجزئية يغتفر إهمالها تقديما للمصالح الكلية، ثم إن المفاسد المترتبة على مخالفة رسم المصحف الإمام أكبر، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ولقد بحثت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية مسألة كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء وإن خالف ذلك الرسم العثماني، وعرضت في ذلك البحث النقول الواردة في هذا الشأن عن ذوي الاختصاص من السلف والخلف، وخلصت اللجنة إلى النتيجة التالية:
أولا...ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في خلافة عثمان رضي الله عنه بأمره، وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوا ما اختلفوا فيه بلغة قريش، وذلك مما يدل على القصد إلى رسم معين، ووافقه في ذلك الصحابة رضوان الله عنهم، وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا رغم وضع قواعد الإملاء والعمل بمقتضاها في التأليف والقراءة وكتابة الرسائل، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي" فكانت المحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم واجبة أو سنة متبعة اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم، وعملا بالإجماع.
ثانيا... إن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح في الخط، فهو قابل للتغيير والتبديل باصطلاح آخر مرة بعد أخرى كسائر رسوم الخطوط في اللغة العربية وغيرها، فإذا عدلنا عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليا تسهيلا للقراءة فقد يفضي ذلك إلى التغير كلما تغير الاصطلاح في الكتابة لنفس العلة، وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف من بعض، والزيادة فيها، والنقص فيها، ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ويقع فيها التخليط على مر الأيام والسنين، ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن في القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه، وهذا من جنس البلاء الذي أصيبت به الكتب الأولى حينما عبثت بها الأيدي والأفكار، وقد جاءت شريعة الإسلام بسد الذرائع والقضاء عليها محافظة على الدين ومنعا للشر والفساد.
[611]
ثالثا... يخشى إن وقع ذلك أن يصير كتاب الله- القرآن- ألعوبة بأيدي الناس، كلما عن لإنسان فكرة في كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه، فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية، وآخرون كتابته بالعبرانية.. وهكذا مستندين في ذلك إلى ما استند إليه من اقترح كتابته حسب قواعد الإملاء من التيسير ورفع الحرج والتوسع في الاطلاع وإقامة الحجة، وفي هذا ما فيه من الخطر، وقد نصح مالك بن أنس الرشيد أو جده المنصور ألا يهدم الكعبة ليعيدها إلى بنائها الذي قام به عبد الله بن الزبير حيث بناها على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بين أيدي الولاة. قال تقي الدين الفاسي في كتابه شفاء الغرام: "ويروى أن الخليفة الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة، وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير، فنهاه عن ذلك الإمام مالك ابن أنس رحمه الله، وقال له: نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس" انتهى بالمعنى.
ثم قال: "وكان مالك لحظ في ذلك أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح وهي قاعدة مشهورة معتمدة" انتهى.
خلاصة القول: أن لكل من القول بجواز كتابة المصحف- القرآن- على مقتضى قواعد الإملاء والمنع من ذلك وحرمته وجهة نظر، غير أن مبررات الجواز فيها مآخذ ومناقشات تقدم بيانها، وقد لا تنهض معها لدعم القول بالجواز، ومع ذلك قد عارضها ما تقدم ذكره من الموانع، وجريا على القاعدة المعروفة من تقديم الحظر على الإباحة.
وترجيح جانب درء المفاسد على جلب المصالح عند التعادل أو رجحان جانب المفسدة. قد يقال: إن البقاء على ما كان عليه المصحف من الرسم العثماني أولى وأحوط على الأقل، وعلى كل حال فالمسألة محل نظر واجتهاد، والخبر في اتباع ما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضي الله عنهم... والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
[612]