ترتيب المصحف
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ (م):(ترتيب المصحف
أ- ترتيب الآيات : صرح جمع من أهل العلم بأن ترتيب الآيات فى سورها على ما مشاهد فى المصاحف التى فى أيدينا اليوم كان عن توقيف من النبى صلى الله عليه وسلم وبنصه على ذلك , وأن كتابتها فى المصحف على هذا الترتيب أمر متعين لا تحل مخالفته , ولا يجوز العدول عنه لأن فى ذلك إفسادا لنظم القرآن . قال أبو بكر ابن الأنبارى : ( ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به ورد على محمد صلى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه تعالى )
قال مكى وغيره : ( ترتيب الآيات فى السور هو من النبى صلى الله عليه وسلم , ولما لم يأمر فى أول براءة تركت بلا بسملة ) . ذكر ذلك مكى فى تفسير براءة .
قال القاضى عياض ونقله عنه الحافظ فى الفتح : (لاخلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هى عليه الآن فى المصحف توقيف من الله تعالى , وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم )
قال الزركشى فى البرهان : ( فأما فى كل سورة ووضع البسملة فى أوائلها فترتيبها توقيفى بلا شك ولا خلاف فيه , ولهذا لا يجوز تعكيسها ) . وقال السيوطى فى الإتقان : ( الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفى لا شبه فى فى ذلك , أما الأجماع فنقله غير واحد , منهم الزركشى فى البرهان , وأبو جعفر بن الزبير فى مناسباته , وعبارته ترتيب الآيات فى سورها واقع بتوقفيه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف فى هذا بين المسلمين ). واستدل السيوطى على كون ترتيب الآيات توقيفيا بجملة من الآثار على ما سيأتى بيانه فى موضعه أن شاء الله
قال الشيخ الزرقانى فى المناهل :( انعقد إجماع الأمة على ترتيب آيات القرآن الكريم على هذا النمط الذى نراه اليوم بالمصاحف كان بتوقيف من النبى صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى , وأنه لا مجال للرأى والأجتهاد فيه , بل كان جبريل ينزل بالآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرشده إلى موضع كل آيه من سورتها , ثم يقرؤها النبى صلى الله عليه وسلم على أصحابه , ويأمر كتاب الوحى بكتابتها معينا لهم السورة التى تكون فيها الآية , وموضع الأية من السورة . وكان يتلوه عليهم مرارا وتكرارا فى صلاته وعظاته وفى حكمه وأحكامه . وكان يعارض به جبريل كل عام مرة , وعارضه به فى العام الأخير مرتين , كل ذلك على الترتيب المعروف لنها فى المصاحف , وكذلك كان من حفظ القرآن أو شيئا منه من الصحابة حفظه الآيات على هذا النمط , وشاع وذلك وذاع وملأ البقاع والأسماع , يتدارسونه فيما بينهم , ويقرأونه فى صلاتهم , ويأخذه بعضهم عن بعض , ويسمعه بعضهم من بعض بالترتيب القائم الآن , فليس لواحد من الصحابة والخلفاء الراشدين يد ولا تصرف فى ترتيب شئ من آيات القرآن الكريم , بل الجمع الذى كان على عهد أبى بكر لم يتجاوز نقل القرآن من العسب واللخاف وغيرها فى صحف , والجمع الذى كان على عهد عثمان لم يتجاوز نقله من الصحف فى مصاحف وكلا هذين كان وفق الترتيب المحفوظ المستفيض عن النبى صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى . أجل انعقد الإجماع على ذلك تاما لا ريب فيه )
مستند الإجماع على كون ترتيب الآيات توقيفيا :
وقد استند هذا الإجماع إلى طائفة من الأحاديث القولية والفعلية , وجملة من الآثار عن الصحابة رضى الله عنهم أجمعين . فمن الأحاديث القولية ما أخرجه الإمام أحمد فى المسند عن عثمان بن أبى العاص , قال : كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره , ثم صوبه , ثم قال : " أتانى جبريل فأمرنى أن أضع هذه الآية هذا موضع من السورة :(إ ِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى).
وأخرج أيضا هو وغيره من حديث عمر رضى الله عنه وسؤاله النبى صلى الله عليه وسلم عن الكلالة وفيه : " تكفيك آية الصيف التى نزلت فى آخر سورة النساء "
وأخرج ابن الأنبارى بسنده عن ابن عباس قال : " آخر ما أنزل من القرآن : (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )
فقال جبريل للنبى صلى الله عليه وسلم : يا محمد ضعها فى رأس ثمانين ومائتين من البقرة "
قال القرطبى فى تفسيره : ( وحكى مكى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " جاءنى جبريل فقال : اجعلها على رأس مائتين وثمانين من البقرة " . قال القرطبى : ( وروى أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات , وأنه قال : " اجعلوها بين آية الربا وآية الدين " ).
وأخرج أحمد والشيخان من حديث ابن مسعود رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه " . السنة الفعلية:
قال السيوطى فى الإتقان : ( ومن النصوص الدالة على ذلك إجمالا ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم لسورةعديدة كسورة البقرة و آل عمران والنساء فى حديث حذيفة والأعراف فى صحيح البخارى أنه قرأها فى المغرب , وقد أفلح , روى النسائى أنه قرأها فى الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أخذته سلعة فركع والروم . روى الطبرانى أنه قرأها فى الصبح , والم تنزيل , وهل أتى على الإنسان روى الشيخان أنه كان يقرأهما فى صبح الجمعة , وق فى صحيح مسلم أنه كان يقرؤها فى الخطبة , والرحمن فى المستدرك وغيره أنه قرأها على الجن , والنجم فى الصحيح أنه قرأها بمكة على الكفار وسجد فى آخرها , واقتربت عند مسلم أنه كان يقرأ بهما فى صلاة الجمعة والصف فى المستدرك عن عبد الله بن سلام أنه قرأها صلى الله عليه وسلم قرأها عليهم حين أنزلت حتى ختمها , فى سور شتى من المفصل تدل على قراءته صلى الله عليه وسلم لها بمشهد من الصحابة أن ترتيب آياتها توقيفى , وما كان الصحابة ليرتبوا تريبا سمعوا النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ على خلافه فبلغ ذلك مبلغ التواتر ).
شبهة وتفنيدها :
قال السيوطى فى الإتقان : ( نعم يشكل على ذلك ما أخرجه ابن أبى داود فى المصاحف من طريق محمد بن إسحاق عن يحى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : " أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقا : أشهد أنى سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتهما . فقال عمر : وأنا أشهد , لقد سمعتها . ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة , فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوها فى آخرها "
قال بن حجر : ( ظاهر هذا أنهم كانوا يؤلفون آيات السور باجتهادهم , وسائر الأخبار تدل على أنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك إلا بتوقيف )
قال السيوطى : ( قلت يعارضه ما أخرجه ابن أبى داود أيضا من طريق أبى العالية عن أبى كعب أنهم جمعموا القرآن , فلما انتهوا إلى الآية التى فى سورة براءة : " ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون" ظنوا أن هذا آخر ما أنزل , فقال أبى : " إن رسول صلى الله أقرأنى بعد هذا آيتين : " َقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ .." إلى آخر السورة ") فأثر بن كعب هذا نص على كون الآيتين المذكورتين قد وضعتا فى مكانهما من سورة " براءة " وأن هذا الوضع إنما كان توقيفا لا اجتهادا , وعلى مثله انعقد الإماع , فيندع الإشكال الناجم عما عارض الإجماع لكونه مضطربا , ولأن ما عارض الإجماع معارض للقاطع , وما عارض القاطع كان ساقطا .
المأثور عن الصحابة فى كون ترتيب الآيات توقيفيا :
فقد روى عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم جملة من الآثار تدل على اعتبارهم التوقيف فى ترتيب آيات القرآن عند كتابته , فمن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد وغيره عن زيد بن ثابت رضى الله عنه فى قصة جمع القرآن قال : ( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع .. الحديث ) . قال البيهقى : ( وهذا يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة فى سورها , وجمعها فيها بإشارة النبى صلى الله عليه وسلم ).
وأخرج البخارى عن ابن الزبير قال : ( قلت لعثمان : " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً " )
قد نسختها الآية الأخرى فلم تكبها أو تدعها ؟ قال : يا ابن أخى لا أغير شيئا من مكانه ). وذكره البخارى فى موضع آخر بلفظ : ( قال ابن الزبير : قلت لعثمان هذه الأية فى البقرة : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وأَزْوَاجاً ) إلى قوله : (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) قد نسختها الأخرى فلم تكتبها ؟ قال : تدعها يا ابن أخى , لا غير شيئا من مكانه ) . قال الحافظ بن حجر : ( وفى جواب عثمان هذا دليل على أن ترتيب الآى توقيفى , وكأن عبد الله بن الزبير ظن أن الذى ينسخ حكمه لا يكتب , فأجابه عثمان بأن ليس بلازم والمتبع فيه التوقيف ). إلى أن قال : ( وهذا الموضع مما وقع فيه الناسخ مقدما فى ترتيب التلاوة على المنسوخ . وقد قيل أنه لم يقع نظير ذلك إلا هنا , وفى الأحزاب على قول من قال أن إحلال جميع النساء هو الناسخ وسيأتى البحث فيه هناك إن شاء الله تعالى , وقد ظفرت بمواضع أخرى ) . ثم سرد الحافظ ذكر المواضع المشار إليها , وقد آثرت إثباتها فى الحاشية ليطلع عليها من رامها .
تنبيه :
بث المستشرقون دعوة إلى إعادة ترتيب القرآن حسب نزول الآيات كخطوة منهم فى سبيل إفساد النظم القرآنى , ورغبه منهم فى طمس معالم إعجازه , وما ذلك منهم بعجيب , إذ هم الأعداء الذين تكن صدورهم الضغينة لإسلام وأهله , وغاية ما يتمنون أن تقطع كل رابطة تربط المسلمين بقرآنهم إيقانا منهم بأن عز المسلمين وتآخيهم رهن ببقاء هذا القرآن كأعظم آصرة تربط بين أبناء الإسلام حتى تفشل إذا فشل المستشرقون فى بلوغ مرامهم أو كادوا بسبب نظرة المسلمين إلى كل ما يصدر عنهم , وحذرهم البالغ من كل فكر يطبع بطابعهم كيف ولا وهم العدو المتربص والحاقد المترصد , لجأوا إلى اتخاذ واسطة ممن ينتس إلى الإسلام , أو يحسب عليه ليقوم بنقل سمومهم وتمرير أغراضهم الخبيثة من مثل صاحب كتاب ترتيب سور القرآن الكريم حسب التبليغ الإلهى بزعمه , والذى تصدت له غير جهة إسلامية كدار الإفتاء بلبان , ورابطة العالم الإسلامى وغيرهما من كل جهة إسلامية رسمية كانت أو فردية نذرت نفسها للذود عن هذا الدين ومقوماته , والتصدى لكل مفسد , وإفشال كل مخطط يرمى إلى الإضرار با لإسلام وأهله.
ب- ترتيب السور :
ذكر غير واحد من الكاتبين فى علوم القرآن أن لأهل العلم فى ترتيب السور على ما هى عليه اليوم فى المصاحف التى بين أيدينا ثلاثة أقوال فى الجملة :
أحدهما : أن ترتيب السور على ما هو عليه الآن لم يكن بتوقيف من النبى صلى الله عليه وسلم إنما كان باجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم .
وثانيهما : أن ترتيب السور كلها توقيفى بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم , كترتيب الآيات , وأنه لم توضع سورة فى مكانه إلا بأمر منه صلى الله عليه وسلم
وثالث هذه الأقوال : أن ترتيب بعض السور كان بتوقيف من النبى صلى الله عليه وسلم , وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة .
تسمية القائلين بالقول الأول :
وقد ذهب إلى القول بأن ترتيب السور فى المصحف كان عن اجتهاد من الصحابة جمهور أهل العلم , وهو ظاهر ما حكى عن الإمام رحمة الله .
وهو اختيار أبى الحسين بن فارس فى كتابه المسائل الخمس , واعتمده أبو بكر الباقلانى فى أرجح قوليه
وهو ظاهر المحكى عن مكى بن أبى طالب , وهو اختيار أبى العباس بن تيميه على ما حكاه عنه غير واحد من أصحابنا الحنابلة . قال ابن مفلح فى فروعه : ( وعند شيخنا ترتيب الآيات واجب , لأن ترتيبها بالنص " ع " وترتيب السور بالأجتهاد لا بالنص فى قول جمهور العلماء , منهم المالكية والشافعية , قال شيخنا فيجوز قراءة هذه قبل هذه وكذا فى الكتابة ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة رضى الله عنهم فى كتابتها , لكن لما اتفقوا على المصحف فى زمن عثمان صار هذا مما سنه الخلفاء الراشدون , وقد دل على أن لهم سنة يجب اتباعها )
والقول بأن ترتيب السور فى المصحف اجتهادى محكى عن أبى جعفر بن الزبير وهو اختيار الزركشى فى البرهان , وهو اختيار الحافظ بن حجر على ما الفتح وهو ظاهر كلام القاضى بن عياض على ما ذكره النووى والحافظ بن حجر . وإليه ميل الرزقانى فى المناهل .
تسمية بعض القائلين بالقول الثانى :
والقول بأن ترتيب السور كما هو مشاهد فى المصاحف اليوم توقيفى محى عن ربيعة بن فروخ التيمى شيخ الإمام مالك رحمهما اله . قال القرطبى : ( وذكر ابن وهب فى جامعه قال : سمعت سليمان بن بلال يقول : سمعت ربيعة يسأل : لما قدمت البقرة وآل عمران , وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة , وإنما نزلتا بالمدينة ؟ فقال ربيعة : ( قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه , وقد أجمعوا على العلم بذلك , فهذا مما تنتهى إليه ولا نسأل عنه ")
والقول بالتوقيف هو اختيار الحسن ومحمد وأبى عبيد , وهو اختيار أبى بكر الأنبارى حيث قال : ( بأن اتساق السور كاتساق الآيات والحروف , فكله عن محمد خاتم النبين عن رب العالمين ) . وتمام كلامه فى الحاشية قبله .
وقال أبو جعفر النحاس : ( المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) , ثم ذكر وجه اختيار ه هذا . والقول بالتوقيف هو أحد قولى الباقلانى , بل حكاه الحافظ فى الفتح الراجح منهما .
وهو اختيار برهان الدين الكرمانى حيث قال فى كتابه البرهان فى توجيه متشابه القرآن : ( ترتيب هكذا هو عند الله وفى اللوح المحفوظ , وهو على هذا الترتيب كان يعرض عليه السلام على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه , وعرض عليه فى السنة التى فيها مرتين )
وهو اختيار جماعة من المفسرين كالقرطبى , وحكاه السيوطى فى الإتقان قولا لأبى جعفر ابن الزبير الغرناطى صاحب كتاب ( البرهان فى مناسبة ترتيب سور القرآن)
وحكاه السيوطى أيضا اختيارا لابن الحصار حيث قال : ( ترتيب السور ووضع الآيات موضعها إنما كان بالوحى ) والقول بالتوقيف فى ترتيب السور هو احتمال للحافظ بن حجر على ما فى الفتح , وحكاه السيوطى اختيارا للطيبى أيضا , وقطع به جمع من المعاصرين كالشيخ أحمد شاكر فى تخريجه لمسند الإمام أحمد و وتابعه على اختياره هذا الشيخ صبحى الصالح فى كتابه علوم القرآن .
تسمية القائلين بالتفصيل :
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى القول بأن ترتيب السور فى القرآن بعضه توقيفى وترتيب بعضها الآخر كان باجتهاد من الصحابة على اختلاف بينهم فى قدر ما هو اجتهادى , فمنهم من قصر الإجتهادى على سورتى الأنفال وبراءة كالبيهقى , من تابعه كالسيوطى , ومنهم من خصه بما عدا السبع الطوال والحواميم والمفصل كعبد الحق بن عطية
ومنهم من ذهب إلى الاجتهادى منحصر فى الأقل من سور القرآن , لكنه يتعدى الأنفال وبراءة إلى غيرهما من سور القرآن كالزهراوين مع النساء , وهذا اختيار أبى جعفر بن الزبير .
الاستدلال
حجة القول الأول :
استدل القائلون بأن ترتيب السور فى المصحف كان باجتهاد من الصحابة بدليلين :
أحدهما : أن مصاحف الصحابة كانت مختلفة فى ترتيب السور قبل أن يجمع القرآن فى عهد عثمان , فلو كان هذا الترتيب توقيفا منقولا عن النبى صلى الله عليه وسلم ما ساغ لهم أن يهملوه ويتجازوه ويختلفوا فيه ذلك الاختلاف الذى تصوره لنا الروايات . فهذا مصحف أبى بن كعب روى أنه كان مبدوءا بالفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران.. إلخ , على اختلاف شديد . وهذا مصحف على كان مرتبا على النزول فأوله { اقرأ} ثم المدثر ثم (ق) ثم ( المزمل ) ثم ( تبت ) ثم التكوير وهكذا إلى آخر المكى والمدنى .
والدليل الثانى : ما أخرجه اب أشته فى المصاحف من طريق إسماعيل بن عباس عن حبان بن يحى عن أبى محمد القرشى قال : ( أمرهم عثمان أن يتابعوا الطوال , فجعل سورة الأنفال وسورة التوبة فى السبع ولم يفصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم ) . أ. هـ .
حجة القول الثانى :
واحتج القائلون بأن ترتيب السور توقيفى بجملة حجج :
إحداهما : حديث واثلة بن الأسقع أنه علية الصلاة والسلام قال : ( أعطيت مكان التوراة السبع الطوال , وأعطيت مكان الأنجيل المثانى , وفضلت بالمفصل )
قالوا : فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبى صلى الله عليه وسلم وأنه من هذا الوقت هكذا .
الحجة الثانية : حديث أوس بن أبى أوس حذيفة الثقفى فى تحزيب القرآن قال: ( كنت فى وفد ثقيف , فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " طرأ على حزبى من القرآن , فأردت ألا أخرج حتى أقضيه "). وقد مضى هذا الحديث بتمامه فى مسألتى " أجزاء المصحف وأحزابه ") , وفيه ( فقلنا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد حدثنا أنه قد طرأ عليه حزبه من القرآن فكيف تحزبون القرآن ؟ قالوا : تحزبه ثلاث سور , وخمس سور وبع سور , وتسع سور , وإحدى عشرة سورة , وثلاث عشرة سورة , وحزب المفصل ما بين " ق " فأسفل .
قال الحافظ بن حجر فى الفتح إثر هذا الحديث : ( فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو عليه فى المصحف الآن كان على عهد النبى صلى الله عليه وسلم )
واحتجوا ثالثا: بحديث معبد بن خالد أنه صلى الله عليه وسلم ( صلى بالسبع الطوال فى ركعة وأنه كان يجمع المفصل فى ركعه)
واستدلوا رابعا : بحديث عائشة عند البخارى وغيره أنه صلى الله عليه وسلم (كان إذا اوى إلى فراشه قرأ قل هو الله أحد والمعوذتين )
واحتجوا خامسا : بما أخرجه ابن أشته فى كتاب المصاحف عن سليمان بن بلال قال : سمعت ربيعه : يسأل لما قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة , وإنما أنزلتا فى المدينة ؟ فقال : قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه ومن كان معه فيه اجتماعهم على علمهم على علمهم بذلك فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه .
واستدلوا سادسا : بماورى عن ابن مسعود وابن عمر : " أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا , وقالا : ذلك منكوس القلب "
واستلوا سابعا : بتوالى الحواميم وذوات " الر" والفصل بين المسبحات وتقديم " طس " على القصص مفصولا بها بين النظريتين " طسم الشعراء , طسم القصص " فى المطلع والطول وكذا الفصل بين الانفطار والانشقاق بالمطففين , وهما نظريتان فى المطلع والمقصد , وهما أطول منها , فلولا أنه توفيقى لحكمة توالت المسبحات وأخرت " طس " عن القصص , وأخرت " المطففين " أو قدمت ولم يفصل بين " الر " و " الر "
واستدلوا ثامنا : على التوقيف فى ترتيب المصحف بكون ذلك مقتضى نظم القرآن ومخالفة الترتيب تفضى إلى إفساد ذلك النظم وقد ذكر أبو بكر بن الأنبارى فى كتابه الرد على من خالف مصحف عثمان رضى الله عنه بأن جبريل كان يوقف رسول الله على موضع السورة والآية . قال الأنبارى : ( فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف , فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام , عن رب العالمين , فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات وغير الحروف والكلمات ) . إلى أن قال l فمن عمل على ترك الأثر والإعراض عن الإجماع , ونظم السور على منازلها بمكة والمدينة لم يدر أين تقع الفاتحة , لا ختلاف الناس فى موضع نزولها , ويضطر إلى تأخير الآية التى فى رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة إلى رأس الأربعين ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به , ورد على محمد صلى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه تعالى)
واستلوا تاسعا : بعدم الدليل على كون الترتيب اجتهاديا , قالوا : ولسنا نملك دليلا على عدم التوقيف , فلا مسوغ للرأى القائل إنم ترتيب السور اجتهادى من الصحابة , ولا للرأى الآخر الذى يفصل : فمن السور ما كان ترتيبه اجتهاديا ومنه ما كان توقيفيا لكون مستند كل واحد من هذين المذهبين غير مسلم , إذ منه ما هو غير محفوظ ولا وجود له فى كتب السنن والآثار المعتمدة ومنه ما فى سنده مجهول لا يجوز التعويل على مرويه فى ما هو أدنى من محل النزاع . على ما سيأتى بيانه عند مناقشة الأدلة .
واستدلوا عاشرا : بكون احترام ترتيب المصحف الإمام أمرا مطلوبا ومحل وفاق بين الجمع . قال الحافظ بن حجر : ( ولا شك أن تأليف المصحف العثمانى أكثر مناسبه من غيره ) . ثم هو أمر حصل عليه من الصحابة إجماع أو شبه إجماع فصار مما سنه الخلفاء الراشدون وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب عليها اتباعها , كقوله عليه الصلاة والسلام فى حديث العرباض بن سارية : ( فعلليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليها بالنواجذ)
وعن قتادة قال: قال ابن مسعود : ( من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما , وأقلها تكلفا , وأقوامها هديا ,وأحسنها حالا , أختارهم الله لصحبة النبى صلى الله عليه وسلم , وإقامة دينه , فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم فى آثارهم فإنهم كانو على الهدى المستقيم )
مآل الخلاف فى رأى الزركشى :
ومع أن الزركشى فى البرهان قد مال إلى كون ترتيب السور اجتهاديا , إلا أنه قد قال فى موضع من البرهان أيضا : ( والخلاف يرجع إلى الفظ لأن القائل بالثانى _ أى أن الترتيب متروك لاجتهاد الصحابة _ يقول : إنه رمز إليهم بذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته , ولهذا قال الإمام مالك : إنما { الفوا } القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبى صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور اجتهاد منهم . فآل الخلاف إلى أنه هل ذلك بتوقيف قولى أم بمجرد استناد فعلى , وبحيث بقى لهم فيه مجال للنظر . فإن قيل : فإذا كانوا قد سمعوه منه كما استقر عليه ترتيبه ففى ماذا أعملوا الأفكار , وأى مجال بقى لهم بعد هذا الأعتبار ؟ قيل : قد روى مسلم فى " صحيحه" عن حذيفه قال : " صليت مع النبى صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح سورة البقرة , فقلت يركع عن المائة ثم مضى فقلت يصلى بها فى ركعة فمضى , فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها , ثم افتتح آل عمران....) الحديث. فلما كان النبى صلى الله عليه وسلم ربما فعل هذا إرادة للتوسعة على الأمة , وتبيانا لجليل تلك النعمة كان محلا للتوقف , حتى استقر النظر على رأى ما كان من فعله الأكثر فهذا محل اجتهادهم فى المسألة .
حجة القول الثالث:
واحتج القائلون التفصيل , وأن القرآن قد رتبت بعض سوره بتوقيف من النبى صلى الله عليه وسلم , وأن بعضها الآخر قد ترك تربيه لاجتهاد الصحابة بحديث عثمان , فقد أخرج أبو عبيد والإمام أحمد وأصحاب وأصحاب السنن وغيرهم عن يزيد الفارسى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : ( قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهى من المثانى وإلى براءة وهى من المئين ففرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم , ووضعتموها فى السبع الطول , ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : إن رسول الله كان مما يأتى عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد , فكان إذا نزلت عليه سورة يدعو بعض من يكتب فيقول : ( ضعوا هذه السورة فى الموضع الذى يذكر فيه كذا وكذا ) وكانت براءة من آخر القرآن نزولا , وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة , وكانت قصتها سبيهة بقصتها , فظننتها منها , وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أمرها . قال : فلذلك قرنت بينهما ولم أجعل بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها فى السبع الطول )
قال البيهقى فى المدخل : ( كان القرآن على عهد النبى صلى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق )
مناقشة الأدلة :
وقد نوقشت بعض الأدلة التى استدل بها كل فريق بمناقشات قد لا تكون مقنعه بالضرورة لأن أكثرها يمكن المخالف رده والجواب عنه , لكننى مع ذلك كله أجدنى مضطرا إلى إيرادها هنا على سبيل الاحتياط للموضوع , وإعمالا لقاعدة ما لايدرك كله لا يترك جله , وقد نوقشت أدلة القول الأول بأن احتجاجهم باختلاف مصاحف الصحابة من حيث الترتيب وتنوعها ابتداءا وانتهاءا , وأن الترتيب لو كان توقيفا لم يقع بينها اختلاف كما لم يقع فى ترتيب الآيات بأن هذا الاختلاف محمول على ما كان مكتوبا من المصاحف قبل أن يستقر الترتيب فى العرضة الأخيرة . قال السيوطى فى كتابه أسرار ترتيب القرآن : ( وليس هنا شئ أعارض به سوى اختلاف مصحف أبى وابن مسعود , ولو كان توقيفيا لم يقع فيهما اختلاف , كما لم يقع فى " ترتيب " الآيات وقد من الله على بجواب نفيس وهو أن القرآن وقع فيه النسخ كثيرا للرسم , حتى لسور كاملة , وآيات كثيرة , فلا بدع أن يكون الترتيب العثمانى هو الذى استقر فى العرضة الأخيرة كالقراءات التى فى مصحفه , ولم يبلغ ذلك أبيا وابن مسعود , كما لم يبلغها نسخ ما وضعاه فى مصاحفهما من القراءات التى تخالف المصحف العثمانى , ولذلك كتب أبى فى مصحفه سورتى الحفد والخلع وهما منسوختان .
فالحاصضل أنى أقول ترتيب كل المصاحف بتوقيف , واستقر التوقيف فى العرضة الأخيرة على القراءات العثمانية ورتب أولئك على ماكان عندهم ولم يبلغهم ما استقر كما كتبوا القراءات المنسوخة المثبتة فى مصاحفهم بتوقيف , واستقر التوقيف فى العرضة الأخيرة على القراءات المنسوخات ولم يبلغهم النسخ).
وأجمل الزرقانى الاختلاف بين مصاحف الصحابة بنحو مما ذكره السيوطى قال : ( الجواب عنهم بأنهم اختلفوا فيما اختلفوا قبل أن يعلموا التوقيف فيه, ولما جمع عثمان القرآن على هذا الترتيب علموا ما لم يكونوا يعلمونه , ولذلك تركوا ترتيب مصاحف فردية , لم يكونوا يكتبونها للناس إنما كانوا يكتبونها لأنفسهم , فبديهى أن الواحد منهم لم يثبت فيها إلا ما وصل إليه بمجهوده الفردى , وقد يفوته ما لم يفت سواه من تحقيق أدق أو علم أوسع . ولهذا كان يوجد بتلك تالمصاحف نسخها , وقد يهمل صاحب المصحف إثبات سورة لشهرتها وغناها بهذه الشهرة عن الإثبات , كما كما ورد أن مصحف ابن لم تكن به الفاتحة . وقد يكتب صاحب المصحف ما يرى أنه بحاجة إليه من غير القرآن فى نفس المصحف , كما تقدم ذلك فى قنوت الحنفية الذى روى أن بعض الصحابة كان قد كتبه بمصحفه وسماه سورة الخلع والحفد )
ولقائل أن يقول إن دعوى عدم العلم باستقرار الترتيب توقيفا فى العرضة الأخيرة ما جاء فى رواية يوسف بن ماهك عن سؤال العراقى عائشة أن تريه مصحفها ليؤلف عليه مصحفه , فإنه يقرأ غير مؤلف , لأن يوسف بن ماهك لم يدرك زمان أرسل عثمان المصاحف إلى الآفاق , فقد ذكر المزى أن روايته عن أبى بن كعب مرسلة , وأبى عياش بعد إرسال , المصاحف على الصحيح , وقد صرح يوسف فى هذا الحديث أنه كان عند عائشة حين سألها هذا العراقى . ذكر ذلك الحافظ بن حجر فى التح قال : ( والذى يظهر لى أن هذا العراقى كان ممن يأخذ بقراءة ابن مسعود , وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفه لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه , فكان تأليف مصحفه مغايرا لتأليف مصحف عثمان , ولا شك أن تأليف المصحف العثمانى أكثر مناسبة من غيره , فلهذا أطلق العراقى أنه غير مؤلف . وهذا كله على أن السؤال إنما وقع عن ترتيب السور , ويدل على ذلك قولها له " وما يضرك أيه قرأت قبل " ) . ثم ذكر الحافظ بقية الاحتمالات , وقد نوقش أيضا دليل القائلين بالتفصيل والمتمثل فى قصة سؤال ابن لعثمان رضى الله عنهما عن سبب قرنه سورة براءة بسورة الأنفال من غير أن يفصل بينهما بسطر بسم الله الرحمن الرحيم . وهو أثر لا يعرف إلا من طريق عوف بن أبى جميلة الأعرابى عن يزيد الفارسى , وفى كل واحد منهما كلام لأئمة الجرح والتعديل , فالأول مبتدع والثانى مشتبه اشتباها يصيره فى عداد المجاهيل , ثم على تقدير صحة هذا الأثر فإن عثمان رضى الله عنه لم يقل ذلك رأيا , إذ كان مثله لا يقال بالرأى , وأنه إنما قاله توفيقا , لأن مثله لا يؤخذ إلا بتوقيف
الترتيب حال القراءة وحكم التنكيس :
لاخلاف بين علماء السلف فى وجوب مراعاة ترتيب الآيات فى الكتابة والقراءة وأن تنكسيها أمر محرم , فقد جاء النص بترتيب الآياتن فصار ذلك الترتيب وتوقيفيا , وقد صرح غير واحد من أهل العلم بوجوب مراعاة الترتيب فى الآيات وحرمة تنكسيها .
قال النووى فى التبيان : ( وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولهما فممنوع منعا متأكدا , فإنه يذهب بعض ضروب الأعجاز , ويزيل حكمة ترتيب الآيات . وقد روى ابن أبى داود عن إبراهيم النخعى الإمام التابعى الجليل , والإمام مالك بن أنس أنهما كرها ذلك , وأن مالكا كان يعيبه , ويقول هذا عظيم )
وحكى أصحابنا الحنابلة نحوا من ذلك عن الإمام أحمد , فقد سأله حرب عمن يقرأ أو يكتب من آخر السورة إلى أولها فكرهه شديدا . وقال القاضى فى التعليق : ( مواضع الآى كالآى أنفسها , ألا ترى أن من رام إزالة ترتيبها كم رام إسقاطها , وإثبات الآى لا يجوز إلا بالتواتر كذلك مواضعها ).
وقال القرطبى وهو بصدد الكلام عن حرمة القرآن ووجوب صيانته l من حرمته أن لا يتلى منكوسا كفعل معلم الصبيان يلتمس بذلك أحدهم أن يرى الحذق من نفسه والمهارة , وذلم محرم ومجانة من فاعله , فإن فيه إخراج القرآن عن موضعه ونظمه وإبطالا لإعجازه )
وذكر القرطبى أيضا كلاما لأبى الحسن بن بطال وحمل فيه المروى عن السلف من النهى عن تنكيس القرآن على تنكيس الآيات خاصة , قال : ( وأما ما وروى عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا , وقالا : ذلك منكوس القلب , فإنما عينا بذلك من يقرأ السورة منكوسة , ويبتدئ من آخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور , ومن الناس من يتعاطى هذا فى القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ وهذا حظره الله تعالى ومنعه فى القرآن لأنه إفساد لسوره ومخالفة لما قصد بها )
وقد مر فى أول الكلام على هذه المسألة غير نص عن علماء السلف فى هذا المعنى ومر قول أبى بكر بن الأنبارى : ( ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به ورد على محمد صلى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه تعالى )
وقد نص على وجوب ترتيب الآيات فى الكتابة والقراءة معا جمع من أهل العلم كأبى بكر الباقلانى , ومكى بن أبى طالب , والقاضى عياض , وأبى العباس بن تيمية , ابن كثير , وغيرهم على ما مر بيانه فى أول المسألة
وقد ذكر الشيخ تقى الدين بن تيمية أن كتابة الآيات أو السور مقلوبة الحروف إنما هو من صنيع الكهنة المشركين يلتمسون به ما يرضى الشياطين .
قال فى الفروع وغيره : ( وتنكيس الكلمات محرم مبطل ) . قالوا : لما فيه من مخالفة النص وتغير المعنى .
الترتيب بين السور فى الصلاة والقراءة وحكم تنكسيها :
صرح غير واحد من أهل العلم كابن بطال والقاضى عياض بكون القول بعدم وجوب الترتيب بين السور فى الصلاة والتلاوة محل وفاق العلماء , إلا أن الأثور عن السلف من النهى عن تنكيس القرآن والإنكار على من نكسه يشعر بأن القول بالاتفاق على عدم الوجوب محل نظر , نعم قد حمل بعض أهل العلم النهى المذكور على تنكيس الآيات دون السور كما مر , وتأول ذلك بأن يقرأ السورة من آخرها إلى أولها , لكن أبا عبيد فى غريبه لم يقبل هذا التأويل لكونه غير معروف فى زمن من نقل عنهم النهى كابن مسعود مثلا حين سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسا فقال : ( ذلك منكوس القلب ) . وفسره أبو عبيد بأن يقرأ فى الركعة الأولى سورة , ثم يقرأ فى الثانية سورة قبلها فى ترتيب المصحف . وقد حكى أبو عبيد عن الحسن وابن سيرين التشديد فى أمر التنكيس , واختاره وخص الرخصة فى ذلك بحال تعليم الصبيان للحاجة .
قال النووى فى التبيان : ( وروى ابن أبى داود عن الحسن :" أنه كان يكره أن يقرأ القرآن إلا على تأليفه فى المصحف ) وبأسناده الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قيل له : إن فلانا منكوسا ؟ فقال: " ذلك منكوس القلب ")
والقول بكراهة التنكيس فى القراءة والصلاة هو مذهب الحنفية والمالكية ,والحنابلة , وإليه ميل متأخرى الشافعية .
فقد نقل البيهقى فى مناقب الإمام الشافعى أن القراءة على غير تأليف المصحف خلاف الأولى .
وذهب فريق من أهل العلم إلى القول بجواز القراءة على غير ترتيب المصحف وهو رواية عن الإمام أحمد لما ثبت فى الصحيح من حديث حذيفة رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم فى تنفله ذات , ليله فقرأ القرة ثم النساء ثم آل عمران . وقرأ عمر رضى الله عنه فى صلاة الصبح بالكهف فى الأولى وفى الثانية بيوسف أو هود وقرأ عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه : {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }. فى أول ركعتي الفجر , وقرأ فى الثانية بالكوثر . وحكى أيضا عن إبراهيم النخعى أنه قرأ بالزلزلة والقدر
واحتج بعضهم بقول أبى عبد الله الصنابحى : ( قدمت المدينة فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه فصليت وراء أبى بكر رضوان الله عليه المغرب فقرأ بالأولى بأم القرآن وسورة من المفصل , ثم قرأ فى الثانية بأم الكتاب وبهذه الآية {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا...} . لكن لا حجة فى هذا , لأن الروايات الصحيحة تفيد أن قراءته للآية المذكورة إنما كانت فى الركعة الثالثة وهى محمولة على الدعاء .
قال الأمام أحمد لما سئل عن مسألة التنكيس وقراءة المصحف من آخره إلى أوله : ( لا بأس به , أليس يعلم الصبى على هذا ؟)
وقال فى رواية مهنا : ( أعجب إلى أن يقرأ من البقرة إلى أسفل )
تتمة :
والمتأمل فى كلام أهل العلم على مسألة مراعاة ترتيب المصحف حال الصلاة والقراءة يلحظ اتفاقهم على أولوية مراعاة الترتيب المذكور , ولكونه يتفق مع غالب قراءته صلى الله عليه وسلم ومواظبته على ذلك , وهكذا كانت قراة أصحابه رضوان الله عليهم فى الغالب الأعم من أحوالهم , نعم قد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه خلاف ذلك لكنه فى النادر من قراءتهم , وهو محمول على بيان الجواز وقد يستدل به على نفى كراهة التنكيس بين السور , ولهذا مال فريق من أهل العلم إلى القول بسنية القراءة على ترتيب المصحف .
وعبر فريق آخر عن ذلك بالاستحباب , وماهذا سبيله لا ينبغى العدول عنه، والله أعلم بالصواب). [المتحف: 281-320]