إصلاح الخطأ في المصحف وتصويبه
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (صرح غير واحد من أهل العلم بوجوب إصلاح الخطأ فى المصحف وتصويبه متى عثر عليه فى خطه أو شكله , لأن الغلط فى المصحف نوع منكر تتعين إزالته على من قدر عليه , ويتحتم تغييره ممن أمكنه ذلك , فإن لم يفعل مع القدرة كان آثما والقول بوجوب إصلاح الخطأ فى المصحف مطلقا هو الذى صرح به العبادى الشافعى , ونقله عنه وأقره الأسنوى , والزركشى وغيرهما من علماء الشافعية . {158}
وقد أطلقوا القول بوجوب إصلاح الخطأ فى المصحف وسووا فى ذلك بين ما كان من المصاحف وقفا أو طلقا , وبين ما كان منها مملوكا للمصلح , أو كان ملكا لغيره رضى صاحبه بذلك التصويب أم لا , وسواء كان خط المصوب حسنا أم سقيما .
لكن طائفة من أهل العلم قد جعلوا لذلك قيودا , واعتبروا له شروطا ككون خط المصوب مناسبا , وإذن مالك المصحف بذلك التصويب , وعدم كثرته كثرة تستتبع أجرة للمصوب لم يقل بها مالك المصحف سلفا , وقد قال بهذه القيود جمع منهم البدر بن جماعة , والسراح البلقينى , وابن حجر الهيتمى من فقهاء الشافعية , بل إن الأخير منهم قد مال إلى القول بتحريم التصويب إذا كان بخط سقيم يعيب المصحف وينقصه .
وقد اشترط غير واحد من فقهاء الحنفية لوجوب التصويب وإصلاح الخطأ فى المصحف كون الخط مناسبا , وهو الذى صرح به الحصكفى فى الدر , وابن عابدين فى حاشيته عليه , وهو ظاهر اختيار ابن وهبان فى نظمه . ولم يظهر {159}
لى وجه القول بهذه القيود لا سيما وإن إقرار الغلط فى المصحف وتركه من غير تصويب مفسدة عظيمة يتعين درؤها , ويتحتم دفعها حتى مع التسليم بوجود ضرر ولو وجه الاحتمال يلحق المصحف أو مالكه , فإن هذا الضرر وإن كان مفسدة إلا إنها دون مفسدة ترك الخطأ على ما هو عليه , وقد تقرر فى الأصول أن ارتكاب أخف المفسدتين لدرء أعظمها أمر متعين . وقد نص المحققون من أهل العلم على أنه ينبغى إصلاح الخطأ فى الحديث وتصويب اللحن فيه و الأصل فى ذلك ما أخرجه الطبرانى وغيره عن زيد بن ثابت رضى الله عنه فى قصة كتابته للوحى بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم وفيها {فإذا فرغت , قال : اقرأه , فاقرأه , فإن كان فيه سقط أقامه , ثم أخرج به إلى الناس }
بل جزم بعضهم بوجوب تصويب الخطأ واللحن فى الفتاوى ورقاع المستفتين , وهو الذى صرح به أصحابنا الحنابلة وغيرهم , فإصلاح الخطأ وتصويبه فى المصحف واجب بطريق الأولى .
على أن من أهل العلم من صرح بوجوب إتلاف المصحف إذا كثر الغلط {160}
واللحن فيه , أو كان خطه رديئا يتعذر معه الانتفاع به أو يفضى إلى الوقوع فى لبس على قارئه , ولم يلتفتوا إلى ما فيه من مالية إعمالا لقاعدة ارتكاب أخف الضررين وأهون المفسدتين درءا لأكبرهما .
لا لحن فى المصحف الإمام :
لا يقال بأن اليسير من اللحن فى المصحف مغتفر , وأن إصلاحه غير متعين بدليل ما روى عن عثمان رضى الله عنه من قوله حين رفع إليه المصحف بعد الفراغ من كتابته : ( أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها )
وفى لفظ عكرمة قال : ( لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان , فوجد فيها {161}
حروفا من اللحن , فقال : لا تغيروها فإن العرب ستغيرها , أو قال : ستعربها بألسنتها , لو كان الكاتب من ثقيف والمملى من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف )
وعن هشام بن عروة عن أبيه قال : ( سألت عائشة عن لحن القرآن , عن قوله : {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه 63], وعن قوله : {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً}[النساء : 162] وعن قوله :{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ}[المائدة 69], فقالت : يا ابن أختى هذا عمل الكتاب , أخطأوا فى الكتاب ) .
وروى نحو من ذلك عن أبان بن عثمان , وسعيد بن جبير , وفى الأخير زيادة وعن قوله : {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون : 10] . فإن هذه الآثار لا {162}
تثبت ولا يصح منها شئ عند المحققين من أهل العلم , وعلى فرض صحتها فقد أجابوا عنها بما يقتضى نفى اللحن المتوهم هنا , والذى يعد نوع خطأ فى المصحف أقره الصحابة ومن بعدهم من علماء السلف , وقد تضمنت الحواشى السابقة طرفا من أجوبة أهل العلم عن ذلك , فلا حجة إذا بما روى فى هذا الباب للقول باغتفار الخطأ أو اللحن اليسير فى خط المصحف .
وقد ذكر غير واحد من أهل العلم توجيه ما قيل عنه أنه لحن كقوله تعالى : {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ}. {164}
وقوله سبحانه :{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ}.{165}
وقوله سبحانه : {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ}.{166}
قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية فى كلام مبسوط له حول هذه المسألة: ( ... فلم يختلف لسان قريش والأنصار إلا فى لفظ " التابوه " والتابوت" فكتبوه " التابوت " بلغة قريش . وهذا يبين أن المصاحف التى نسخت كانت مصاحف متعددة , وهذا معروف مشهور , وهذا مما يبين غلط من قال فى بعض الألفاظ إنه غلط من الكاتب , أو نقل ذلك عن عثمان , فإن هذا ممتنع لوجوه ) . {169}
ثم ذكرها إلى أن قال : ( ومن زعم أن الكاتب غلط فهو الغالط غلطا منكرا كما قد بسط فى غير هذا الموضع , فإن المصحف منقول بالتواتر , وقد كتبت عدة مصاحف وكلها مكتوبة بالألف , فكيف يتصور فى هذا غلط , وأيضا فإن القراء إنما قرأوا بما سمعوه من غيرهم , والمسلمون كانوا يقرأون " سورة طه " على عهد رسول الله {172}
وأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وهى من أول ما نزل من القرآن ). إلى آخر كلامه رحمه الله وإنما خص سورة طه بالذكر هنا كلامه من أصله كان يدور حول الآية الثالثة والستين منها ومن المواطن التى قيل بأن فيها لحنا قوله تعالى {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} وملخص المختار من تلك التوجيهات أن النصب فى الموطن الأول كان على وجه المدح , والرفع فى الموطن الثانى على سبيل الابتداء مع افتراض التقديم والتأخير فى الآية , والألف فى الموطن الثالث إنما كان إعمالا للأصل فى الأسماء المبهمة إذا ثنيت , ومن قرأ بالياء فإنما اعتمد على القياس المجرد . وأما وجه الجزم فى الموطن الرابع فقد جاء عطفا على موضع الفاء فى قوله تعالى :( فَأَصَّدَّقَ). وقد جرى تفصيل ذلك كله منقولا من مصادره فى الحواشى ذوات الأرقام العشرين والحادى والعشرين والثانى والعشرين والثالث والعشرين والرابع والعشرين والخامس والعشرين بعد المائه الرابعة , فليطالعها فيها من رامه .
وقد نفى غير واحد من أهل العلم الغلط فى المصحف الإمام ولم يسلم بصحة المروى عن عثمان وعائشة وغيرهما فى هذا ورده من عدة أوجه نظير ما جاء فى كلام طائفة من أهل العلم كابن قتيبة فى مشكل القرآن , وابن الأنبارى فى كتاب " الرد على من خالف مصحف عثمان " , وأبى بكر الباقلانى فى الانتصار لنقل القرآن , وأبى عمرو الدانى فى المقنع , والسيوطى فى الإتقان . وقد مر النقل عنهم فى الحاشية {173}
التاسعة عشرة بعد الأربعمائة من هذا البحث مما أغنى عن إعادته هنا
وهكذا يتبين من مجموع النقول التى مر ذكرها عن أهل التحقيق ألا حجة ثابتة مع من قال بوجود لحن فى المصحف الإمام , ولا برهان لديه من أثر أو نظر .. والله أعلم بالصواب) .{174}