الخلاصة في حكم تدنيس المصحف وإهانته
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (الاستخفاف بالمصحف
صرح غير واحد من أهل العلم بأن الاستخفاف بالمصحف كفر وردة . ونص أبو الوفاء ابن عقيل فى فنونه على أن من قصد كتب القرآن بنجس إهانة له , فالواجب قتله . وجزم ابن عقيل فى موضع آخر : ( بأن من وجد منه امتهان للقرآن أو خمص منه أو طلب تناقضه , أو دعوى أنه مختلف أو مختلق , أو مقدور على مثله أو إسقاط لحرمته , كل ذلك دليل على كفره , فيقتل بعد التوبة )
وقال القاضى عياض فى كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى : ( واعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف أو بشئ منه أو سبهما أو جحده أو حرفا منه أو آيه أو كذب به أو بشئ منه أو كذب بشئ مما صرح به فيه من حكم أو خبر أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته , على علم منه بذلك , أو شك فى شئ من ذلك , فهو كافر عند أهل العلم بإجماع . قال الله تعالى : ("وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ")
حدثنا الفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد رحمه الله , حدثنا أبو على , حدثنا ابن عبد البر , حدثنا ابن عبد المؤمن , حدثنا ابن داسة , حدثنا أبو داود , حدثنا أحمد بن حنبل , حدثنا يزيد بن هارون , حدثنا محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال :" المراء فى القرآن كفر ". تؤول بمعنى الشك وبمعنى الجدال .
وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم : " من جحد آية من كتاب الله من المسلمين فقد حل ضرب عنقه " . وكذلك أن جحد التوراة والإنجيل وكتب الله المنزلة , أو كفر بها أو لعنها أو سبها , أو استخف بها فهو كافر . وقد أجمع المسلمون أن القرآن المتلو فى جميع أقطار الأرض , المكتوب فى المصحف بأيدى المسلمين , مما جمعه الدفتان من أول {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} , إلى آخر{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } أنه كلام الله ووحيه المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم , وأن جميع ما فيه حرفا مما لم يشتمل عليه المصحف الذى وقع الاجماع عليه , وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدا , لكل هذا أنه كافر . ولهذا رأى مالك قتل من سب عائشة رضى الله عنها بالفرية , لأنه خالف القرآن , ومن خالف القرآن قتل , أى لأنه كذب بما فيه , وقال ابن القاسم : من قال إن الله تعالى لم يكلم موسى تكليما يقتل . وقاله عبد الرحمن بن مهدى . وقال محمد بن سحنون فيمن قال المعوذتان ليستا من كتاب الله يضرب عنقه , إلا أن يتوب . وكذلك كل من كذب بحرف منه قال وكذلك إن شهد شاهد على من قال إن الله لم يكلم موسى تكليما , وشهد آخر عليه أنه قال إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا , لأنهما اجتمعا على أنه كذب النبى صلى الله عليه وسلم . وقال أبو عثمان الحداد : جميع من ينتحل التوحيد متفقون أن الجحد لحرف من التنزيل كفر , وكان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل له ليس كما قرأت , ويقول : أما أنا فأقرأ كذا , فبلغ ذلك إبراهيم فقال : أراه سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله .
وقال عبد الله بن مسعود : ( من كفر بآية من القرآن فقد كفر به كله ). وقال أصبغ بن الفرج : ( من كذب ببعض القرآن فقد كذب به كله , ومن كذب به فقد كفر به , ومن كفر به فقد كفر بالله ).
وقد سئل القابسى عمن خاصم يهوديا , فحلف له بالتوراة , فقال الآخر : لعن الله التوراة , فشهد عليه بذلك شاهد , ثم شهد آخر أنه سأله عن القضية , فقال : إنما لعنت توراة اليهود . فقال : أبو الحسن : الشاهد الواحد لا يوجب القتل , والثانى علق الأمر بصيغة تحتمل التأويل , إذ لعله لا يرى اليهود متمسكين بشئ من عند الله , لتبديلهم وتحريفهم , ولو اتفق الشاهدان على لعن التوراة مجردا لضاق التأويل .
وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة ابن شنبوذ المقرئ , أحد أئمة المقرئين المتصدرين بها مع ابن مجاهد لقراءته بشواذ من الحروف مما ليس فى المصحف , وعقدوا عليه بالرجوع عنه والتوبة منه سجلا أشهد فيه بذلك على نفسه فى مجلس الوزير أبى على بن مقلة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة , وكان فيمن أفتى عليه بذلك أبو بكر الأبهرى وغيره , وأفتى أبو محمد بن أبى زيد بالأدب فيمن قال لصبى لعن الله معلمك وما علمك , وقال : أردت سوء الأدب ولم أرد القرآن . قال أبو محمد : ( وأما من لعن المصحف فإنه يقتل ) أ. هـ كلام القاضى عياض , وقد حكاه عنه غير واحد من أهل العلم كالنووى وابن مفلح ). [المتحف:105-106]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (إلقاء المصحف فى القاذورات كفر
صرح غير واحد من أهل العلم كأبى الوفاء بن عقيل , والقاضى عياض , والقرافى , والنووى , وأبى العباس بن تيمية بكفر من ألقى المصحف أو بعضه , ولو آيه منه فى قاذورة استخفاف , يستوى فى ذلك كون القاذورة نجسة كالعذرة والبول , أو طاهرة مستخبثة كالمخاط والبزاق مثلا , لما فى ذلك من الامتهان للمصحف وأبعاضه , ولكونه دليلا على إسقاط حرمته , ومن أسقط حرمة المصحف مستخفا به كان مرتدا باتفاق المسلمين . وأجمع العلماء على اعتبار ذلك الصنيع ضربا من ضروب الكفر الذى يذكره أهل العلم فى أبواب الردة من مصنافتهم.
وقد صرح بعضهم بأن الحكم المذكور شامل لكل كيفية حصل بها تعريض المصحف أو بعضه لتلويث بقذر , فلا يقتصر الحكم المذكور على الإلقاء فى القاذورة , بل يتناول كافة أنواع التعريض إذا شم منه الاستخفاف ولو ادعى فاعله الإيمان , لأن الاستخفاف بالمصحف نفى لحكم التصديق , وتكذيب لدعوى الإيمان . ثم إن بعض أهل العلم قد عبر عن حكم الاستخفاف بالمصحف بكونه كبيرة من أكبر الكبائر , وهو مسلك العز بن عبد السلام فى قواعده , وهذا لا يعنى مخالفة للإجماع الحاصل من أهل العلم على كون الاستخفاف ردة , لأن من الكبائر ما هو كفر كالشرك بالله , وقد وردت السنة بذلك من مثل قوله عليه السلام ).
" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله " , على أن بعض الفقهاء قد قيد الحكم بحصول الردة الفعلية بالإلقاء المذكور مصحوبا بقصد الامتهان , لا أن يكون الحامل عليه خوفا من تلف جزئى أو كلى هدده به قادر على مثله , أو حمله على مثل هذا الصنيع ضرورة ملجئة , فلا كفر إذا .
ثم اختلفوا فى تأثيمه والحالة هذه , وألحق بعض الفقهاء بهذه الصورة محو مكتوب القرآن بالبزاق مثلا , كصنيع غلمان الكتاتيب بألواحهم , وكون مؤدبهم يأثم بتركهم يفعلون ذلك , أو يقصر فى منعهم منه .
وقد فرق بعض الفقهاء فى التحريم بين ما لو بصق على اللوح مباشرة لغرض محوه , وبين ما لو بصق على نحو خرقة مثلا , ثم محى بها اللوح لحصول صورة الامتهان فى الأولى دون الثانية .
وقد بالغ بعض الفقهاء فى التشنيع على من اعتاد بل أصبعه بريقه عند تقليب صفحات المصحف , واعتبر ذلك ضربا من المنكرات الواجب تغيرها .
وسيأتى فى غير موضع من هذا البحث لهذه المسألة مزيد بيان إن شاء الله تعالى). [المتحف: 193-196]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (تلويث المصحف
لا خلاف بين أهل العلم في تحريم تلويث المصحف بأي نوع من أنواع الملوثات؛ بل صرح بعض أهل العلم بأنه لا يحل تلويث المصحف بما هو مستقذر ولو كان ذلك طاهرا كالريق أو البزاق مثلا، ولقد اشتد نكير بعض أهل العلم على من اعتاد بل إبهامه بريقه عند تقليب ورق المصحف ليسهل على ذلك، ولو لم يكن بصنيعه هذا قاصدا لتلويث المصحف فإن توفر قصد التلويث فالظاهر أن القول بتكفيره محل وفاق بين أهل العلم وموجبا لقتله إن تعمد تنجيس المصحف على ما مر تفصيله في غير موضع من هذا البحث كمسائل الاستخفاف بالمصحف، واستعمال المواد النجسة في كتابته، وإلقاؤه في قاذورة، وبله بالريق. وقد يأتي في مسألة تنجيس المصحف بأبسط من هذا).[المتحف:451]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (تنجس المصحف وتنجيسه
مضى في مسألة تطهير المصحف ذكر النقول عن أهل العلم في وجوب صيانته وتعين تطهيره إذا تعرض لنجاسة، واتفاقهم على القول بوجوب تطهير المصحف في الجملة، وإن خالفت قلة منهم في صور محددة على ما مر بيانه وتفصيله.
ثم إن أهل العلم قد اتفقوا على القول بوجوب صيانة المصحف عن أماكن
القاذورات ومظانها، وأنه يحرمه تعريضه للنجاسة ولو لم يتلوث بها لجفافها، أو وجود حائل بينه وبينها، وقد مضى طرف من هذا عند الكلام عن مسألة استعمال المواد النجسة في كتابة المصحف، ومسألة إلقائه في قاذورة، والاستخفاف به، وأقوال الفقهاء في حكم من تعمد شيئا من هذا، وأن ذلك باب من أبواب الردة، وأنه موجب لقتل من قصد امتهان المصحف بشيء مما ذكر.
ثم إن حرمة تعريض المصحف للنجاسة يستوي فيها حال قصد الامتهان وعدمه كما لو ألقى المصحف في قاذورة خوفا عليه من الوقوع في يد كافر يتدين بامتهان المصحف.
والقول بتحريم تعريض المصحف للنجاسة يتناول المصحف الكامل أو بعضه أو قدر منه كتب على هيئة المصحفية أو لا، حتى أن بعض الفقهاء قد صرح بتحريم القتال بسيف كتب عليه قرآن، أو ذكر شرعي، والظاهر أن ذلك محل وفاق حتى على القول بعدم نجاسة الدم. ولا يخفى على اللبيب أن تلويث المكتوب بما هو أفحش من الدم نجاسة، وما نجاسته مجمع عليها كالبول وما شاكله أشنع وأبشع وأشد تحريما، وأنه لا يقدم على مثل هذا من له أدنى حظ من العلم والإيمان، وأن من تعمد ذلك يكون داخلا في عداد الكفرة والمرتدين، أعاذنا الله من ذلك.
وقد مر في مسألة اشتراط الطهارة لمس المصحف ما يشبه الإجماع بين أهل العلم على منع المحدث من مس المصحف، كما صرح بعضهم باشتراط الطهارة من الحدث والخبث معا، وإن كان الجمهور يشترط في مسألة الطهارة من الخبث طهارة العضو الذي يحصل به مس المصحف، بيان ذلك أنه إذا كان على موضع من بدن المتطهر نجاسة مطلقا، وقيدها بعضهم بغير المعفو عنها فإنه يحرم عليه مس المصحف بموضع النجاسة بغير خلاف على ما ذكره النووي في تبيانه. وقال ابن مفلح في الفروع: (ويحرم مسه بعضو نجس لا بغيره في الأصح فيهما، وكذا مس ذكر الله تعالى بنجس).
وذكر المرداوي في الإنصاف تحريم مس المصحف بعضو عليه نجاسة.وقال على الصحيح من المذهب قال: ( وقيل لا يحرم. قلت: هذا خطأ قطعا، ولا يحرم مس المصحف بعضو طاهر إذا كان على غير نجاسة).
والقول بتحريم مس المصحف بعضو متنجس لا بعضو طاهر وإن كان على غيره من بدن الماس نجاسة هو المذهب عند جماهير أهل العلم.
وذهب الصيمري إلى القول بحرمة المس في الصورتين معا. قال النووي: (ولا يحرم بغيره، يعني المس بغير العضو المتنجس على المذهب الصحيح المشهور الذي قاله جماهير أصحابنا وغيرهم من العلماء).
وقال أبو القاسم الصيمري من أصحابنا [يحرم]، وغلطه أصحابنا، قال القاضي أبو الطيب: (هذا الذي قاله مردود بالإجماع، ثم على المشهور قال بعض أصحابنا أنه مكروه، والمختار أنه ليس بمكروه).
وذكر المرداوي القول بمنع من على بدنه نجاسة من مس المصحف مطلقا، وعبر عنه بقيل اشارة إلى تضعيفه، وجعله في مقابل الصحيح من المذهب.
قال الزركشي الحنبلي: (أما طهارة الخبث فلا يشترط انتفاؤها، نعم العضو المتنجس يمنع من المس به على المذهب).
وقال الهيتمي في التحفة: (ويحرم مسه ككل اسم معظم بمتنجس بغير معفو عنه، وجزم بعضهم بأنه لا فرق تعظيما له). قال الشرواني في حاشيته على التحفة: ("قوله بغير معفو عنه" قضية التقيد به أنه يجوز المس بموضع المعفو عنه سم، ويأتي فيه "قوله بأنه لا فرق" أي بين المعفو عنه وغيره، عبارة البجرمي على المنهج. "قوله ومسه بعضو نجس" وفي حاشية شرح الروض ولو بمعفو عنه ع ش. وقال سم: بغير معفو عنه. وعبارة الحلبي أي ولو بمعفو عنه حيث كان عينا لا أثر، أو يحتمل الأخذ بالإطلاق، ثم رأيت في شرح الإرشاد الصغير ومسه بعضو متنجس برطب مطلقا وبجاف غير معفو عنه).[المتحف: 466-469]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (دوس المصحف
صرح غير واحد من أهل العلم بحرمة دوس المصحف، والذكر الشرعي، وأن من فعله امتهانا للمصحف قتل وحكم بكفره.. ويأتي في مسألة وضع الرجل على المصحف والوطء عليه بأبسط من هذا).[المتحف: 598]
قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (سب المصحف صرح غير واحد من أهل العلم بأن سب المصحف إسقاط لحرمته، وإسقاط حرمة المصحف على وجه الاختيار كفر، قال سبحانه في سورة التوبة: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم).
وجزم أبو الوفاء ابن عقيل : (بأن من وجد منه امتهان للقرآن أو خمص منه أو طلب تناقضه أو دعوى أنه مختلف أو مختلق أو مقدور على مثله أو إسقاط لحرمته كل ذلك دليل على كفره فيقتل بعد التوبة).
قال الإمام الحافظ أبو الفضل القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفا: (اعلم أن من استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء منه، أو سبهما أو جحد حرفا منه، أو كذب بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر، أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته وهو عالم بذلك، أو شك في شيء من ذلك هو كافر بإجماع المسلمين)...إلى أن قال: (وأفتى أبو محمد بن أبي زيد فيمن قال لصبي: لعن الله معلمك وما علمك؟ وقال: أردت سوء الأدب ولم أرد القرآن. قال: يؤدب القائل. قال: وأما من لعن المصحف فإنه يقتل).
هذا فيما لو كان السب المذكور صادرا عن مسلم فإن حصل السب لكتاب الله أو التعرض له بسوء من كافر ذمي أو معاهد انتقض بذلك عهده في أحد قولي أهل العلم سواء شرط عليه الكف عن ذلك أم لم يكن مشروطا، وهو المذهب عند أصحابنا الحنابلة، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، وأحد القولين عند الشافعية، وقدمه الماوردي في الحاوي الكبير.
وقيل لا ينتقض عهده بذلك ما لم يشترط عليهم، لكن يعزر بما ينكف به أمثاله عن فعله، وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد وقول عند الشافعية).[المتحف: 623-624]