سورة فاطر
[ من الآية (42) إلى الآية (45) ]
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)}
قوله تعالى: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ومكر السّيّئ ولا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله (43)
قرأ حمزة وحده (ومكر السّيّئ) ساكنة الهمزة.
وقرأ الباقون (ومكر السّيّئ) بكسر الهمزة.
واتفقوا على ضم الهمزة في قوله: (ولا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله)
قال أبو منصور: تسكين الهمزة في قوله: (ومكر السّيّئ) عند أهل العربية غير جائزة.
وقد قال الفراء: جزم الأعمش وحمزة (ومكر السّيّئ) لكثرة الحركات، كما قرئ (لا يحزنهم)) بالجزم.
وكما قال:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
[معاني القراءات وعللها: 2/300]
والأصل: صاحب أو صاحب، على النداء المفرد أو المضاف، فجزم لكثرة الحركات.
قال أبو منصور: ومثل هذا يسوغ للشاعر الذي يضطر إلى تسكين متحرك ليستقيم له وزن الشعر.
فأما كتاب الله فقد أمر الله جلّ وعزّ بترتيله وتبيينه، وقارئ القرآن غير مضطر إلى تسكين متحرك، أو تحريك ساكن.
وأنشد المبرد البيت:
إذا اعوججن قلت صاح قوّم). [معاني القراءات وعللها: 2/301]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (7- وقوله تعالى: {ومكر السييء} [43].
قرأ حمزة وحده: {السيئ} بجزم الهمزة، وإنما فعل ذلك لتوالي الكسرات مع الياء والهمزة، فأسكنه تخفيفًا، كما يفعل أبو عمرو في نحو: {خدعهم} و{ينصركم} و{يأمركم} وقد نسب بعض من لا يعرف العربية واتساع العرب حمزة إلى اللحن، وليس لحنًا لما أخبرتك.
وقرأ الباقون: {السيئ} بكسر الهمزة على الأصل.
وفيها قراءة ثالثة: روى شبل عن ابن كثير {السيئ} قال ابن مجاهد: وهو خطأ.
وأجمعوا على {ولا يحيق المكر السيئ} أن همزتها مرفوعة.
فإن قيل لك: فهلا أسكن حمزة الثاني كما أسكن الأول؟
فقيل: إنما أسكن الأول استثقالا لاجتماع الكسرة مع الياء ولما انضمت الهمزة في الثانية لم يستثقل فأتي به على الأصل). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/227]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قرأ حمزة وحده: ومكر السيئ ولا.. [فاطر/ 43] ساكنة الهمزة، ولا يحيق المكر السييء إلا [فاطر/ 43] مرفوعة الهمزة.
وقرأ الباقون بالكسر في الهمزة الأولى وبالضم في الثانية.
قال أبو علي: التقدير في قوله عزّ وجلّ: استكبارا في
[الحجة للقراء السبعة: 6/30]
الأرض [فاطر/ 43] استكبروا استكبارا في الأرض ومكر السّيّئ.
أي: مكروا المكر السّيّئ، فأضيف المصدر إلى صفة المصدر، المعنى: ومكروا المكر السّيّئ، ألا ترى أنّه قد جاء بعد ولا يحيق المكر السييء إلا بأهله [فاطر/ 43] فكما أنّ السّيّئ صفة للمصدر، كذلك الّذي قبل. تقديره: ومكروا المكر السّيّئ. وكذلك قوله:
أفأمن الذين مكروا السيآت [النحل/ 45] تقديره: الّذين مكروا المكرات السيئات. إلّا أنّك إذا أضفت إلى السّيّئ قدّرت الصفة وصفا لشيء غير المكر، كما أنّ من قال: دار الآخرة، وجانب الغربي، قدّره كذلك، فحذف المصدر من قوله: المكرات السيئات، وأقام صفته مقامه، فوقعت الإضافة إليه، كما كانت تقع على موصوفه [الذي هو المصدر]. فأمّا قراءة حمزة: ومكر السيئ وإسكانه الهمزة في الإدراج، فإنّ ذلك يكون على إجرائها في الوصل مجراها في الوقف، فهو مثل:
سبسبا، وعيهل، والقصبا، وجدببا.
وهو في الشعر كثير. وممّا يقوّي ذلك: أنّ قوما قالوا في الوقف:
أفعي وأفعو، فأبدلوا من الألف الواو والياء ثم أجروها في الوصل مجراها في الوقف، فقالوا: هذا أفعو يا هذا، فكذلك عمل حمزة بالهمزة في هذا الموضع لأنها كالألف في أنها حرف علة، كما أن الألف كذلك. ويقوّي مقاربتها الألف أن قوما يبدلون منها الهمزة في
[الحجة للقراء السبعة: 6/31]
الوقف فيقولون: رأيت رجلا ورأيت حبلا. ويحتمل وجها آخر: وهو أن تجعل يىء ولا من قوله: ومكر السيئ ولا بمنزلة إبل، ثم أسكن الحرف الثاني كما أسكن من إبل لتوالي الكسرتين إحداهما ياء قبلها ياء فخفّف بالإسكان لاجتماع الياءات والكسرات كما خفّفت العرب نحو ذلك بالحذف من نحو: أسيديّ وبالقلب في نحو رحويّ، ونزّل حركة الإعراب بمنزلة غير حركة الإعراب، كما فعلوا في قولهم:
فاليوم أشرب غير مستحقب وقد بدا هنك من المئزر..... ولا تعرفكم العرب وكما أن حركة غير الإعراب نزلت منزلة حركة الإعراب في نحو: ردّ وفرّ، وعضّ. فأدغم كما أدغم يعضّ، ويفرّ لمّا تعاقب حركات غير الإعراب على لامها، وهي حركة التقاء الساكنين، وحركة الهمزة المخفّفة، وحركة النونين فنزلت هذه الحركات منزلة حركة الإعراب حتّى أدغم فيما يتعاقب عليه فيها، كما أدغم المعرب، وكذلك نزلت حركة الإعراب منزلة غير حركة الإعراب، في أن استجيز
[الحجة للقراء السبعة: 6/32]
فيها من التخفيف ما استجيز في غيرها، وليس يختلّ بذلك دلالة الإعراب، لأنّ الحكم بمواضعها معلوم، كما كان معلوما في المعتل، والإسكان للوقف. فإذا ساغ ما ذكرنا في هذه القراءة من التأويل لم يسغ لقائل أن يقول: إنّه لحن، ألا ترى أنّ العرب قد استعملت ما في قياس ذلك؟ فلو جاز لقائل أن يقول: إنّه لحن للزمه أن يقول:
إنّ قول من قال: إفعوا في الوصل لحن، فإذا كان ما قرأ به على قياس ما استعملوه في كلامهم المنثور، لم يكن لحنا، [وإذا لم يكن لحنا] لم يكن لقادح بذلك قدح، وهذه القراءة وإن كان لها مخلص من الطعن، فالوجه قراءة الحرف على ما عليه الجمهور في الدرج ويقال:
سيّئ مثل سيّد، ويخفّف كما يخفّف. قال أبو زيد: سؤته أسوؤه مساءة، وقال أبو عبيدة: يحيق المكر السيئ لا إلا بأهله). [الحجة للقراء السبعة: 6/33]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن مسعود: [وَمَكْرًا سَيئًا].
قال أبو الفتح: يشهد لتنكيره تنكير ما قبله من قول الله سبحانه: {اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ}، وقراءة العامة أقوى معنى؛ وذلك أن "المكر" فيها معرفة لإضافته إلى معرفة، أعنى [السَّيِّئ]، فكأنه قال: والمكرَ السَّيِّئ الذي هو عالٍ مستكرَه مستنكَر في النفوس. وعليه قال من بعد: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، وأبدل "استكبارا" وما بعده من النكرة قبله، وهي هو من قوله: {مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا}، وحسن تنكير الاستكبار لأنه أدنى إلى "نفور" مما بعده. وقد يحسن مع القرب فيه ما لا يحسن مع البعد، واعتمد ذلك لقوة معناه بتعريفه، والإخبار عنه بأن مثله لا يخفى، لعظمه وشناعته). [المحتسب: 2/202]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({استكبارا في الأرض ومكر السيء}
قرأ حمزة {ومكر السيء} ساكنة الهمزة قال الفراء إنّما فعل ذلك لكثرة الحركات مع الياء والهمزة فأسكنه تخفيفًا كما فعل أبو عمرو في قوله {يأمركم} و{ينصركم} وقرأ الباقون {ومكر السيء} بكسر الهمز). [حجة القراءات: 594]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (5- قوله: {ومكر السيء} قرأه حمزة بإسكان الهمزة، وقرأ الباقون بكسرها.
وحجة من أسكن أنه استثقل كسرة على ياء مشددة، فهي مقام كسرتين، والكسرة ثقيلة، وهي على الياء المشددة أثقل ثم كسرة على همزة، والكسر على الهمز ثقيل أيضًا، مع ثقل الكسر في نفسه، فاجتمع أشياء ثقيلة، فأسكن الهمزة استخفافًا، وهو على ذلك ضعيف؛ لأنه حذف علامة الإعراب، وقد قيل: إنه نوى الوقف على الهمزة، وهو ضعيف؛ لأنه لو نوى الوقف لخفف الهمزة في الوصل؛ لأن أصله تخفيف كل همزة في الوقف، وهو لا يخففها إلا إذا وقف عليها وقفًا صحيحًا، فيبدل منها ياء ساكنة إن وقف بالسكون، أو يجعلها بين الهمزة والياء إن وقف بالروم، ومثله هشام في الوقف، وقرأ الباقون بهمزة مكسورة على الأصل، وهو المختار؛ لأنه الأصل، فأما وقف حمزة وهشام على قوله: {ولا يحيق المكر السيء} فإنهما يقفان بالسكون، ويبدلان من الهمزة ياء؛ لأنها همزة ساكنة قبلها كسرة، ولا يحسن أن يوقف عليه بين بين، بين الهمزة
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/212]
والواو؛ لأن الخط ليس فيه واو، فلا يوقف وقف يخالف الخط، وقد تقدم ذكر هذا كله وعلته). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/213]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (8- {وَمَكْرَ السَّيِّءْ} [آية/ 43] بإسكان الهمزة:
قرأها حمزة وحده، فإذا وقف ترك الهمز.
والوجه أنه يوز أن يكون إسكان الهمزة على إجراء الوصل مجرى الوقف؛ لأنها في الوقف ساكنةٌ لا محالة، فأُجريت حالة الوصل عليه أيضًا.
ويجوز أن يكون على تسكين الأوسط من الحركات المختلفة إذا توالت، والأوسط منها غير فتحةٍ نحو إبلٍ وإطلٍ، وفخذٍ وعضدٍ، فهذا في المتصل، ومن المنفصل قوله:
138- فاليوم أشرب غير مستحقبٍ
139- ... ولا تعرفكم العرب
140- وقد بدا هَنْكِ من المِئْزَرِ
[الموضح: 1065]
ألا ترى أن قوله: يئي ولا، بمنزلة إبل، كما أن: رَبُ غَيْ، مِنْ قوله: فاليوم أشرب غير مستحقبٍ، بمنزلة فعلٍ فأُسكنت كما أُسكن نحو عضدٍ.
وأما تركه الهمز في حال الوقف، فلأن الوقف موضع تغييرٍ، فقلبت الهمزة فيه ياءً.
وقرأ الباقون {السَّيِّئِ} بكسر الهمزة.
والوجه أنه هو الأصل، وهو المشهور.
ولم يختلفوا في رفع الثانية وهي قوله {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} ). [الموضح: 1066]
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)}
قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)}