سورة مريم
[ من الآية (22) إلى الآية (26) ]
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)}
قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)}
قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وكنت نسيًا منسيًّا (23)
قرأ حمزة وحفص (نسيًا) بفتح النون، وقرأ الباقون (نسيًا) بكسر النون).
قال أبو منصور: من قرأ (نسيًا) بكسر النون فإن النسي في كلام العرب: الشيء الذي يلقى ولا يؤبه له كالحيضة الملقاة، والخرق البالية، والرمم التي لا قيمة لها.
[معاني القراءات وعللها: 2/132]
ومن قرأ (نسيًا) فإنه كان في الأصل (نسيًّا) فخفف فقيل: نسي، معناه: المنسي، كما يقال، للهدى هدي، وجاز تكرير لفظين مختلفين بمعنى واحد للتأكيد.
والنّسي أكثر في الكلام من النّسي). [معاني القراءات وعللها: 2/133]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (8- وقوله تعالى: {نسيًا منسيًا} [23] قرأ حمزة وحفص عن عاصم ~{نسيا}بفتح النون، والباقون بالكسر. فمن فتح أراد المصدر نسيت الشيء أنسي نسيًا ونسيانًا. ويقال: هذا شيء لقًا – مقصور – ونسي. قال الشاعر:-
كأن لها في الأرض نسيًا تقصه = على أمها وإن تحادثك تبلت
معنى تبلت أي: تعقب وتصدق. فأما النسء – بالفتح والهمز – فالتأخير قرأ ابن كثير {إنما النسؤ زيادة في الكفر} والنسؤ: اللبن، قال عروة بن الورد:
بآنسة الحديث رضاب فيها = بعيد النوم كالعنب العصير
أطعت الآمرين بصرم سلمى = فطاروا في البلاد اليستعور
سقوني الحمر ثم تكنفوني = عداة الله من كذب وزور
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/15]
اليتستعور: البلاد البعيدة. والحيتعور: الداهيه والخيتعور: الغدر، والمرأة الغدارة، والخيتعور: الأسد: قال الشاعر:
كل أنثى وإن بدا لك منها = آية الحب حبها خيتعور
إن من غرة النساء بشيء = بعد هند لجاهل مغرور
ويروي: «سقوني النسيء» يعني اللبن. وكان ابن الأعرابي ينشد: «سقوني النسي» أي: شيء نساني عقلي). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/16]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في كسر النون وفتحها من قوله عز وجل: نسيا منسيا [مريم/ 23] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر والكسائي: (نسيا) بكسر النون.
وقرأ حمزة بفتح النون.
واختلف عن عاصم فروى أبو بكر عنه: (نسيا) كسرا، وروى حفص عن عاصم نسيا فتحا مثل حمزة.
وقال أبو الحسن: النسي: هو الشيء الحقير ينسى نحو النعل والسوط، وقال غيره: النّسي ما أغفل من شيء حقير، وقال بعضهم:
ما إذا ذكر لم يطلب، وقالوا: الكسر أعلى اللغتين. وقال الشنفرى:
كأنّ لها في الأرض نسيا تقصّه... على أمّها وإن تحدّثك تبلت). [الحجة للقراء السبعة: 5/196]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة شبيل بن عزرة: [فَأَجَأها]، مثل فألجأها.
قال أبو الفتح: رواها ابن مجاهد أيضا أنها من المفاجأة، إلا أن ترك همزها إنما هو بدل لا تخفيف قياسي. وقد يجوز أن تكون القراءة على التخفيف القياسي، إلا أنه لطفت لضعف
[المحتسب: 2/39]
الهمزة بعد الألف فظنها القراء ألفا ساكنة مدة، إلا أن قوله: مثل ألجأها يشهد لقراءة الجماعة: {فَأَجَاءَهَا} . وقد يمكن أن يكون أراد مثل: أجاءها إذا أبدلت همزته ألفا فيكون التشيبه لفظيا لا معنويا). [المحتسب: 2/40]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة محمد بن كعب وبكر بن حبيب السهمي: [نَسْئًا]، بفتح النون مهموزة؟
قال أبو الفتح: قال أبو زيد نسأت اللبن أنسؤه نسئا، وذلك أن تأخذ حليبا فتصب عليه ماء، واسمه النسء والنسيء، وأنشد:
سَقُونِي نَسْئًا قَطَعَ الماءُ مَتْنَهُ ... يُبِيلُ على ظَهْرِ الفِرَاشِ ويُعْجِلُ
فتأويل هذه القراءة -والله أعلم- يا ليتني مِتُّ قبل هذا، وكنت كهذا اللبن المخلوط. بالماء في قلته وصغارة حاله، كما أن قوله: [وَكُنْتُ نِسْيًا مَنْسِيًّا]، أي: كنت كالشيء المحقر ينساه أهله، ونَزَارَة أمره). [المحتسب: 2/40]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا}
قرأ حمزة وحفص {نسيا} بفتح النّون مصدر نسيت أنسى نسيا ونسيانا مثل غشيته غشيا وغشيانا
وقرأ الباقون {نسيا} بالكسر وهو الاسم وقال الفراء هما لغتان مثل الجسر والجسر والوتر والوتر قال الأخفش النسي هو الشّيء الحقير ينسى نحو النّعل قال الزّجاج نسيا حيضة ملقاة وقيل نسيا في معنى منسية لا أعرف). [حجة القراءات: 441]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (9- قوله: {نسيًا} قرأه حمزة وحفص بفتح النون، وكسرها الباقون، وهما لغتان، ومعنى النسي أنه الشيء الحقير الذي لا قيمة له، ولا يحتاج إليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/86]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (9- {نَسْيًا مَّنسِيًا}[آية/ 23] بفتح النون:
قرأها حمزة و- ص- عن عاصم.
وقرأ الباقون {نَسْيًا}بكسر النون.
والوجه أنهما لغتان: نسي ونسي بكسر النون وفتحها، والكسر أعلى اللغتين، والمعنى هو الشيء الحقير ينسى). [الموضح: 815]
قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فناداها من تحتها)
قرأ ابن كثير فالمعنى وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب (من تحتها) مفتوحة الميم والتاء، وقرأ الباقون (من تحتها) بكسر الميم والتاء قال أبو منصور: من قرأ (من تحتها) عنى به عيسي عليه السلام، والمعنى في مناداة عيسى لها أن الله - عزّ وجلّ - بيّن لمريم الآية فيه، وأعلمها أن الله سيجعل لها في النخلة آية.
ومن قرأ (من تحتها) أراد الذي استقر تحتها). [معاني القراءات وعللها: 2/133]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (9- وقوله تعالى: {فنادها من تحتها} [24].
قرأ نافع وحموة الكسائي وحفص عن عاصم {من تحتها} بكسر الميم.
وقرأ الباقون {من تحتها} بالفتح فـ «من» اسم، و«من» حرف، فمن فتح أراد: عيسى عليه السلام، ومن كسر أراد: جبريل عليه السلام). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/16]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): ({وقد جعل ربك تحتك سريا} [24] قال الحسن: كان والله عيسى سريًا فقيل له: إن السري: النهر، فقال أستغفر الله). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/17] (م)
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح الميم والتاء وكسرها من قوله جل وعز: من تحتها [مريم/ 24].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر: (من تحتها) بفتح الميم والتاء.
[الحجة للقراء السبعة: 5/196]
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم من تحتها بكسر الميم والتاء.
قال أبو علي: من تحتها لأنه إنما هو جبريل عليه السلام، أو عيسى، وقال بعض أهل التأويل: لا يكون إلا عيسى، ولا يكون جبريل لأنه لو كان جبريل لناداها من فوقها. وقد يجوز أن يكون جبريل، وليس قوله من تحتها يراد به الجهة المحاذية للتمكن من تحته، ولكن المعنى: فناداها من دونها، ويدلّ على ذلك قوله: قد جعل ربك تحتك سريا [مريم/ 24] فلم يكن الجدول محاذيا لهذه الجهة، ولكن المعنى جعله دونك، وقد يقال: فلان تحتنا، أي: دوننا في الموضع، قال ذلك أبو الحسن، فمن تحتها، أبين لأن المنادي أحد هذين، وأن يكون المنادي عيسى أشبه وأشدّ إزالة لما خامرها من الوحشة والاغتمام، لما يوجد به طعن عليها، لأن ذلك يثقل على طباع البشر، ألا ترى قوله للنبي صلّى الله عليه وسلّم: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [الأنعام/ 33] وقوله: ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون [الحجر/ 97] وإذا قال: من تحتها، كان عاما، فلم يبلغ في إزالة وحشتها وهمّها ما يبلغه نداء عيسى عليه السلام.
ووجه من قرأ: (من تحتها): أنه وضع اللفظة العامة موضع اللفظ الخاص، فقال: (من تحتها) وهو يريد عيسى صلى الله عليه كما تقول: رأيت من عندك، وأنت تعني واحدا بعينه). [الحجة للقراء السبعة: 5/197]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فناداها من تحتها ألا تحزني}
قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر {فناداها من تحتها} بفتح الميم والتّاء جعلوا {من} اسما وجعلوا النداء له المعنى فناداها الّذي تحتها وهو عيسى و{تحتها} صلة {من} وحجتهم ما روي عن أبي بن كعب قال الّذي خاطبها هو الّذي حملته في جوفها
وقرأ الباقون {من تحتها} بكسر الميم والتّاء أي فناداها جبريل من بين يديها وحجتهم ما روي عن ابن عبّاس {من تحتها} قال جبريل ولم يتكلّم عيسى حتّى أتت به قومها وقال آخرون منهم الحسن
[حجة القراءات: 441]
البصريّ من تحتها عيسى فكأنّه جعل الفاعل مستترا في {فناداها} المعنى فناداها عيسى من تحتها وهو أجود الوجهين وذلك أنه جرى ذكره في قوله {فحملته} فلمّا أتى الفعل بعد ذكره دلّ على أنه فعل المذكور وأنه مستتر في فعله فالكسر أعم وذلك أن من كسر يحتمل المعنى أن يكون الملك ويحتمل أن يكون عيسى عليه السّلام). [حجة القراءات: 442]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (10- قوله: {من تحتها} قرأه نافع وحفص وحمزة والكسائي بكسر الميم والتاء الثانية، وقرأ الباقون بفتح الميم والتاء الثانية.
وحجة من كسر أنه حمله على معنى: أن عيسى كلمها، وهو تحتها، أي: تحت ثيابها؛ لأن ذلك موضع ولادة عيسى، فجعل {من} حرف جر وخفض بها {تحتها}، فكسر التاء الثانية وفي {ناداها} ضمير الفاعل، وهو عيسى، وقيل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/86]
إن معناه: فناداه جبريل من تحتها، أي: من أسفل من مكانها، أي: من دونها، كما تقولك داري تحت دارك، وبلدي تحت بلدك، أي: دونها، وعلى هذا معنى قوله: {قد جعل ربك تحتك سريا}، أي: دونك نهرا، تستمتعين به، فليس المعنى إذا جعلنا الفاعل جبريل أنه تحت ثيابها، فيكون في {ناداها} ضمير جبريل عليه السلام، وكون الضمير لـ {عيسى} أبينُ لها، وأعظم في زوال وحشتها، لتسكين نفسها، فالمعنى: فكلمها جبريل من الجهة المحاذية لها، أو فكلمها عيسى من موضع ولادته، وذلك تحت ثيابها.
11- وحجة من فتح الميم أنه جعل {من} الفاعل للنداء، ونصب {تحتها} على الظرف، و{من} هو عيسى، كلمها من تحتها، أي: من موضع ولادته، وكون الضمير لـ {عيسى} في القراءة بفتح الميم أقوى في المعنى، وكون الضمير لجبريل عليه السلام، في القراءة بكسر الميم، أقوى في المعنى، ويجوز في القراءتين أن يكون لـ {عيسى} وأن يكون لجبريل عليهما السلام، فإذا كان لجبريل كان معنى {تحتها} دونها، أسفل منها، وإذا كان لعيسى كان معنى {تحتها} تحت ثيابها، من موضع ولاداته، وأصل {من} أن تقع للعموم، ولكنها وقعت في هذا الموضع للخصوص، لعيسى أو لجبريل عليهما السلام، وذلك جائز). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/87]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (10- {مِن تَحْتِهَا}[آية/ 24] بفتح ميم «من» ونصب تحت:
قرأها ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم- ياش- ويعقوب- يس-.
[الموضح: 815]
والوجه أن المعنى: الذي تحتها، وهو عيسى عليه السلام، والتقدير: من حصل تحتها، وانتصاب تحت لأنه ظرف، والعامل فيه معنى الفعل من الحصول أو الاستقرار.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي و- ص- عن عاصم و- ح- و- ان- عن يعقوب {مِن تَحْتِهَا}بكسر ميم {مِن}وجر تحت.
والوجه أن قوله {فَنَادَاهَا}فيه ضمير الغلام، وهو عيسى عليه السلام، أي ناداها الغلام الزكي من تحتها، فمن جارة وتحت مجرور بها وهو اسم غير ظرف.
وقيل بل المنادى جبريل عليه السلام، ويكون معنى من تحتها: من دونها، كما يقال: فلان تحتنا أي دوننا في الموضع). [الموضح: 816]
قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (تساقط عليك رطبًا جنيًّا (25)
قرأ حمزة (تساقط) بفتح التاء مخففة، وقرأ حفص (تساقط عليك) بضم التاء، وكسر القاف خفيفتين، وقرأ الحضرمي (يسّاقط عليك) بياء مفتوحة وتشديد السين، وقرأ الباقون (تسّاقط) بفتح التاء وتشديد السين، وقرأ عاصم في رواية حمّاد والكسائي في رواية نصير (يسّاقط) بالياء مفتوحة وبتشديد السين وفتح القاف.
[معاني القراءات وعللها: 2/133]
قال أبو منصور: قوّى قراءة يعقوب ما حدثنا محمد بن إسحاق عن الصّغاني عن أبي عبيد عن يزيد بن هارون عن جرير بن حازم عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء بن عازب يقرأ (يسّاقط).
وروي عن مسروق مثله.
قال أبو منصور: وقوله (يسّاقط) الأصل فيه: يتساقط، المعنى: يساقط الرطب جنيًّا.
ومن قرأ (تساقط) بفتح التاء مخففة ذهب به إلى النخلة، وكان في الأصل: تتساقط.
قال الفراء: انتصاب قوله (رطبا) على التمييز المحوّل، كأن الفعل كان للرطب، فلما حوّل إلى الجذع أو النخلة خرج قوله رطبا مفسّرًا.
ومن قرأ (تسّاقط) بتشديد السين فإنه أدغم إحدى التاءين في السين، ومعناه معنى تساقط.
ومن قرأ (تساقط) ذهب به إلى النخلة، ومن قرأ (يساقط) ذهب به إلى الجذع، ومعناهما يسقط، ولم يقرأ به هؤلاء القراء.
وذكر أبو إسحاق عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: نصب (رطبًا) لأنه مفعول به، المعنى: وهزّي إليك بجذع النّخلة رطبا تسّاقط عليك.
قال، وهذا وجه حسن، والله أعلم). [معاني القراءات وعللها: 2/134]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (10- وقوله تعالى: {تساقط عليك} [25].
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/16]
قرأ حمزة وحده {تساقط} خفيفًا.
والباقون {تساقط عليك} مشددًا، أرادوا: تتساقط فأدغموا التاء في السين. وحمزة أسقط تاء مثل تذكرون وتذكرون. وقد بينت نحو ذلك فيما سلف. وروى حفص عن عاصم {تساقط عليك} جعله فاعل ساقط يساقط مساقطة فهو مساقط. وحدثني أحمد عن علي عن أبي عبيد أن البراء بن عازب قرأ {يساقط عليك} بالياء والتشديد، أراد: يتساقط فأدغم، فمن ذكر رده على الجذع. ومن أنث رده على النخلة. {وهذي إليك بجدع النخلة تساقط عليك رطبًا جنيًا} قيل: بغباره، وقيل: برنيا وقيل: كانت النخلة صرفانة وهو رطب يملا الضرس، وهو أملأ للضرس، وكان الجذع جذعًا يابسًا أتي به ليبني به بناء فاهتز خضيرًا وأينع بالرطب بإذن الله تعالى.
{وقد جعل ربك تحتك سريا} [24] قال الحسن: كان والله عيسى سريًا فقيل له: إن السري: النهر، فقال أستغفر الله. وقرأ أبو حيوة: {يسقط عليك} وروي عنه {يسقط عليك} ففي هذا الحرف من القراءات: يساقط وتساقط ويساقط وتسقط وتسقط وتساقط). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/17]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: تساقط عليك [مريم/ 25].
[الحجة للقراء السبعة: 5/197]
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: (تساقط) بالتاء مشددة السين.
وقرأ حمزة: (تساقط) بالتاء مخففة السين.
واختلف عن عاصم فروى عنه أبو بكر: (تسّاقط) مثل أبي عمرو وروى عنه حفص تساقط بضم التاء، وكسر القاف مخفّفة السين.
قال أبو علي: هذه الوجوه كلّها متفقة في المعنى إلا ما رواه حفص عن عاصم، ألا ترى أن قول حمزة: (تسّاقط) إنما هو تتساقط، فحذف التاء التي أدغمها غيره، وكلّهم جعل فاعل الفعل الذي هو (تسّاقط) أو تساقط في رواية حفص: النخلة، ويجوز بأن يكون فاعل تساقط أو تساقط هو: جذع النخلة، إلا أنه لما حذف المضاف أسند الفعل إلى النخلة في اللفظ، ويجوز في قراءة عاصم: تساقط هزّه النخلة فيحذف، أو: تساقط النخلة، فأمّا تعديتهم تساقط وهو تفاعل، فإن يتفاعل مطاوع فاعل، كما أن تفعل مطاوع فعّل، فكما عدّى تفعل في نحو: تجرعته وتمليته، وتمزّزته، كذلك عدي تفاعل، فمما جاء من ذلك في الشعر قول ذي الرمة:
ومن جودة غفل بساط تحاسنت... بها الوشي قرّات الرياح وخورها
ومن ذلك قول الآخر:
[الحجة للقراء السبعة: 5/198]
تطالعنا خيالات لسلمى... كما يتطالع الدين الغريم
وأنشد أبو عبيدة لأوفى بن مطر:
تخاطأت النبل أحشاءه... وأخّر يومي فلم يعجل
قال هو في موضع أخطأت، وأنشد للأعشى:
ربّي كريم لا يكدّر نعمة... وإذا تنوشد بالمهارق أنشدا
قال: هو في موضع نشد، أي: يسأل بالكتب، وهي المهارق، وأنشد لامرئ القيس:
ومثلك بيضاء العوارض طفلة... لعوب تناساني إذا قمت سربالي
قال: يريد تنسيني. وقد قرأ غيرهم: (يتساقط). فمن قرأ كذلك أمكن أن يكون فاعله الهزّ، لأن قوله: هزي قد دل على الهزّ، فإذا كان كذلك جاز أن يضمره كما أضمر الكذب في قوله: من كذب كان شرا له، ويمكن أن يكون الجذع، أي: يساقط عليك الجذع، ويجوز في الفعل إذا أسند إلى الجذع وجهان: أحدهما أن الفعل أضيف إلى الجذع كما أضيف إلى النخلة برمتها، لأن الجذع معظمها. والآخر:
[الحجة للقراء السبعة: 5/199]
أن يكون الجذع منفردا عن النخلة يسقط عليها، ويكون سقوط الرطب من الجذع آية لعيسى عليه السلام، ويصير سقوط الرطب من الجذع أسكن لنفسها وأشد إزالة لاهتمامها، وسقوط الرطب من الجذع منفردا عن النخل مثل رزقها الذي كان يأتيها في المحراب في قوله: كلما دخل عليها زكرياء المحراب وجد عندها رزقا [آل عمران/ 37] إلى قوله: قالت هو من عند الله [آل عمران/ 37].
وقوله: رطبا في هذه الوجوه منصوب على أنه مفعول به، ويجوز في قوله: (تساقط عليك): أي تساقط عليك ثمرة النخلة رطبا، فحذف المضاف الذي هو الثمرة، ويكون انتصاب رطب على الحال، وجاز أن تضمر الثمرة وإن لم يجر لها ذكر، لأن ذكر النخلة يدلّ عليها كما دلّ البرق على الرعد فيما ذكرناه فيما مر.
فأما الباء في قوله: هزي إليك بجذع النخلة، فتحتمل أمرين: أحدهما: أن تكون زائدة، كقولك: ألقى بيده، أي: ألقى يده، وقوله:
بواد يمان ينبت الشّثّ حوله... وأسفله بالمرخ والشّبهان
ونحو ذلك، ويجوز أن يكون المعنى: وهزي إليك بجذع النخلة أي: بهز جذع النخلة رطبا كما قال:
[الحجة للقراء السبعة: 5/200]
وصوّح البقل نئّاج تجيء به... هيف يمانية في مرّها نكب
أي: تجيء بمجيئه هيف، أي: إذا جاء النئّاج جاء الهيف، وكذلك إذا هززت الجذع هززت بهزّه رطبا، أي: فإذا هززت الرطب سقط). [الحجة للقراء السبعة: 5/201]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة مسروق: [يُسَاقِطْ]، بالياء خفيفة.
[المحتسب: 2/40]
قال أبو الفتح: يساقط هنا بمعنى يسقط، إلا أنه شيئا بعد شيء، وعليه قول ضابئ البرجمي:
يُسَاقِطُ عَنْهُ رَوْقُهُ ضَارِيَاتِها ... سِقَاطَ حَدِيدِ القَين أَخْوَلَ أَخْوَلا
أي يسْقُطُ قرن هذا الثور ضاريات كلاب الصيد لطعنه إياها، شيئا بعد شيء). [المحتسب: 2/41]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة طلحة: [رُطَبًا جِنِيًّا]، بكسر الجيم.
قال أبو الفتح: أتبع فتحة الجيم من [جِنِيًّا] كسرة النون، وشبه النون وإن لم تكن من حروف الحلق بهن في نحو صَأَى الفرخ صِئِيا، وفي نحو: الشخير، والنخير، والنغيق والشعير، والبعير، والرغيف. وحكى أبو زيد عنهم: ذلك لمن خاف وعيد الله.
وله في تشبيهه النون بالحرف الحلقي عذر ما؛ وذلك لتفاوتهما، فالنون متعالية، كما أنهن سوافل: فكل في شقه مضاد لصاحبه، ألا ترى أن أبا العباس قال في همزة صحراء وبطحاء ونحوهما: صحراوان وبطحاوان وصحراوات وبطحاوات؟ شبهت الهمزة بالواو، لأن كل واحدة منهما طارفة في جهتها؛ فجعل تناهيهما في البعد طريقا إلى تلاقيهما في الحكم.
وبعد فالعرب تجري الشيء مجرى نقيضه، كما تجريه مجرى نظيره. ألا تراها قالت: طَوِيل كما قالت: قَصِير، وشَبْعان كجَوْعان، وكَرُمَ كلَؤُمَ، وعَلِمَ كجَهِلَ؟ ولأجل هذا قال بعضهم: إن قَوِيَ فعل في الأصل حملا على نظيره الذي هو ضَعُفَ، وفي هذا كاف من غيره. ونحو من معناه قول المنجمين في النحسين إذا تقابلا: استحالا سعدا، وعليه قول الناس: عداوة أربعين سنة مودة. والمعاني في هذا العالم متلاقية على تفاوُتها، ومجتمعة مع ظاهر تفرقها، لكنها محتاجة إلى طَبٍّ بها وملاطف لها). [المحتسب: 2/41]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وهزي إليك بجذع النّخلة تساقط عليك رطبا جنيا}
قرأ حفص {تساقط} بضم التّاء وكسر القاف جعله فاعل ساقط يساقط مساقطة وعنى به النّخلة وقال {تساقط} لأن ذلك لا يكون دفعة واحدة ومثله في الكلام أنا أساقط إليك المال أولا فأولا
قرأ حمزة {تساقط} بفتح التّاء والتّخفيف أراد تتساقط ثمّ حذف التّاء لاجتماع التّاءين
[حجة القراءات: 442]
وحجته قوله {فأنت له تصدى} {فأنت عنه تلهى} والأصل تتلهى وتتصدى
وقرأ الباقون {تساقط} بالتّشديد أدغموا التّاء في السّين
قرأ حمّاد (يساقط) بالياء ذهب إلى الجذع وآخرون ذهبوا إلى النّخلة). [حجة القراءات: 443]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (12- قوله: {تُساقط عليك} قرأه حفص بضم التاء وكسر القاف مخففة، وفتحهما الباقون، وكلهم شدد السين إلا حمزة وحفصا.
وحجة من ضم التاء أنه جعله مستقبل «ساقطت» فعدّاه إلى الرطب فنصبه به، والفاعل النخلة تُضمر في {تساقط} أي: تساقط النخلة رطبًا جنيًا عليك.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/87]
ويجوز أن يكون الفاعل الجذع، وأنثه لأنه ملتبس بالنخلة، إذ هو بعضها كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه، فأنثوا البعض لالتباسه بالأصابع، لأنه بعضها.
13- وحجة من فتح التاء وخفف أنه أراد «تتساقط» ثم حذف إحدى التائين مثل «تظاهرون وتساءلون» وشبهه، وقد مضى الكلام عليه، ويكون الفعل مسندًا إلى النخلة وأيضًا أو إلى الجذع، وفي نصب {رطبًا} في هذه القراءة بـ {تساقط} فيه بُعد، لأنه مستقبل «تفاعل» وهو في أكثر أحواله لا يتعدى، فيكون نصب «رطب» على الحال، وقد أجاز بعض النحويين نصبه، في هذه القراءة على المفعول به قال: لأن {تساقط} مطاوع ساقط كما أن «تفعل» مطاوع «فعل» فكما عدّى «تفعل» في نحو «تجرعته» كذلك عدّى «تفاعل» كما عدّى «فاعل».
14- وحجة من شدد أنه أدغم التاء الثانية في السين، على ما ذكرناه في {تساءلون به} وهو الاختيار؛ لأن الجماعة عليه، ولأنه الأصل). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/88]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (11- {يَسَاقِطْ عَلَيْكِ}[آية/ 25] بالياء مفتوحة، وبتشديد السين:
قرأها يعقوب وحده، وكذلك حماد عن عاصم.
والوجه أن أصله: يتساقط، فأدغمت التاء في السين لتقاربهما في المخرج ولتشاركهما في الهمس فبقي: يساقط، وهو من فعل الجذع أو الهز، والمعنى يتساقط عليك جذع النخلة أو الهز رطبا، أي يسقطه، ويدل على الهز قوله {وهُزِّي إلَيْكِ}.
وقوله {رُطَبًا}يجوز أن يكون مفعولاً به على ما ذكرنا، ويتساقط متعد؛
[الموضح: 816]
لأنه يقال تسقطته وتساقطته أي اسقطته، ويجوز أن يكون تمييزاً، ويتساقط لازم، والأصل يتساقط عليك رطب جذع النخلة، فلما نقل الفعل عن الرطب إلى الجذع نصب {رُطَبًا}على التمييز، ويجوز أن يكون حالاً، وتساقط لازم أيضًا، والتقدير يتساقط عليك تمر النخلة في حال كونه رطبا.
وروى- ص- عن عاصم {تُسَاقِطْ}بالتاء مضمومة، مخففة السين، مكسورة القاف.
والوجه أن معنى {تُسَاقِطْ}: تسقط يقال أسقطته وساقطته كأبعدته وباعدته، والتأنيث للنخلة، أي تسقط النخلة رطبا، فهو مفعول به.
وقرأ حمزة {تُسَاقِطْ}بالتاء مفتوحة، وبتخفيف السين، وفتح القاف.
والوجه أن أصله تتساقط، فحذفت التاء الثانية؛ لأنها هي التي تدغم في السين إذا أدغمت، فبقي تساقط، والتأنيث للنخلة، أو الثمرة، والتقدير تتساقط عليك النخلة رطبًا، أي تسقطه فيكون تتساقط متعديًا كما سبق، و{رُطَبًا}مفعولاً به، أو يكون لازمًا و{رُطَبًا}حالاً أو تمييزاً على ما سبق.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي و- ياش- عن عاصم {تُسَاقِطْ}بالتاء مفتوحة، وبتشديد السين.
والوجه أن أصله أيضًا تتساقط، فأدغمت التاء الثانية في السين، وهي التي حذفت في قراءة حمزة). [الموضح: 817]
قوله تعالى: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة طلحة: [فَإِمَّا تَرَيِنَ].
وروى عن أبي عمرو: [تَرَئِنَّ]، بالهمز.
قال أبو الفتح: الهمز هنا ضعيف؛ وذلك لأن الياء مفتوح ما قبلها، والكسرة فيها لالتقاء الساكنين؛ فليست محتسبة أصلا، ولا يكثر مستثقَلُه، وعليه قراءة الجماعة: {تَرَيِنَّ}، بالياء لما ذكرنا. غير أن الكوفيين قد حكوا الهمز في نحو هذا، وأنشدوا:
كَمُشْتَرِئ بِالْحَمْدِ أَحْمِرَةً بُتْرَا
نعم، وقد حكى الهمز في الواو التي هي نظيرة الياء في قول الله: تعالى : {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ}، فشبه الياء لكونها ضميرا وعلم تأنيث بالواو؛ من حيث كانت ضميرا وعلم تذكير. وهذا تعذر ما وليس قويا، ولا تُرَيَنَّ هذه الهمزة هي همزة رأيت، تلك قد حذفت للتخفيف في أصل الكلمة [تَرْأَيْنَ]؛ فحذفت الهمزة، وألقيت حركتها على الراء فصارت [تَرَيْنَ]، فالهمزة الأصلية إذا محذوفة، وغير هذه الملفوظ بها.
وأما قراءة طلحة: [فَإِمَّا تَرَيِن] فشاذة، ولست أقول إنها لحن لثبات علم الرفع، وهو النون في حال الجزم، لكن تلك لغة: أن تثبت هذه النون في الجزم، وأنشد أبو الحسن:
لَوْلَا فَوَارِسُ مِنْ قَيْسٍ وَأُسْرَتِهِمْ ... يَوْمَ الصُّلَيْفَاءِ لَمْ يُوفُونَ بِالْجَارِ
كذا أنشده "يُوفُونَ" بالنون، وقد يجوز أن يكون على تشبيه "لم" بلا). [المحتسب: 2/42]