سورة المائدة
[ من الآية (106) إلى الآية (108) ]
{يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}
قوله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ (106)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعرج والشعبي والحسن والأشهب: [شهادةٌ بَيْنَكم] رفع، وعن الأعرج بخلاف: [شهادةً بينَكم] نصب.
قال أبو الفتح: أما الرفع بالتنوين فعلى سمت قراءة العامة {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} بالإضافة، فحذف التنوين فانجرَّ الاسم.
وأما [شهادةً بينَكم] بالنصب والتنوين، فنصبها على فعل مضمر؛ أي: ليُقِمْ شهادةً بينكم اثنان ذوا عدل منكم، كما أن من رفع فنَوَّن أو لم يُنوِّن فهو على نحو من هذا؛ أي: مقيمُ شهادةِ بينِكم أو شهادةٍ بينَكم اثنان ذوا عدل منكم، ثم حُذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه.
وإن شئت كان المضاف محذوفًا من آخر الكلام؛ أي: شهادةٌ بينَكم شهادةُ اثنين ذوَي عدل منكم؛ أي: ينبغي أن تكون الشهادة المعتمدة هكذا). [المحتسب: 1/220]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة علي -كرم الله وجهه- والشعبي بخلاف ونعيم بن ميسرة: [شهادةً آلله].
ورُوي عن الشعبي: [شهادةً أًللهِ] مقصور وينون شهادة.
ورُوي عنه أيضًا: [شهادهْ آللهِ] مجزومة الهاء ممدودة الألف.
ورُوي عنه [شهادهْ أللهِ] بجزم شهادة وقصر الله.
فهذه أربعة أوجه رُويت عن الشعبي، وتابعه على [شهادةً أَللهِ] السلمي ويحيى وإبراهيم وسعيد بن جبير ويحيى بن يعمر والحسن والكلبي.
قال أبو الفتح: أما [شهادةً] فهي أعم من قراءة الجماعة: {شَهَادَةَ اللَّهِ} بالإضافة، غير أنها بالإضافة أفخم وأشرف وأحرى بترك كتمانها لإضافتها إلى الله سبحانه، وأما [ألله] مقصورة بالجر فحكاها سيبويه: أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزة الاستفهام، فيقول: أللهِ لقد كان كذا، قال: وذلك لكثرة الاستعمال.
وأما [آلله] بالمد، فعلى أن همزة الاستفهام صارت عوضًا من حرف القسم، ألا تراك لا تجمع بينهما فتقول: أولله لأفعلن؟
وأما سكون هاء [شهادة]، فللوقف عليها ثم استؤنف القسم، وهو وجه حسن؛ وذلك ليُستأنف القسم في أول الكلام فيكون أوقر له وأشد هيبة من أن يدرج في عرض القول؛ وذلك أن القسم ضرب من الخبر يُذْكَر ليؤكد به خبر آخر، فلما كان موضع توكيد مُكِّنَ من صدر الكلام، وأُعطي صورة الإعلاء والإعظام.
ويزيد في وضوح هذا المعنى وبيانه أنه لما نون شهادة فأَدرج وقَّر الهمزة عن حذفها كما يجب فيها من حيث كانت همزة وصل، فأقرها مقطوعة كما تُقطع مبتدأة، فقد جمع في هذه القراءة بين حالي الوصل والوقف.
أما الوصل فلتنوين شهادة، وأما الوقف فلإثباته همزة الوصل التي إنما تُقطع إذا وُقف على ما قبلها ثم استؤنفت، والعناية بقطعها واستئنافها ما قدمت ذكره لك من تمكن حال القسم بتوفية
[المحتسب: 1/221]
اللفظ جميع وجوهها، وقُطع ليكون في حال إدراجها في لفظ المبدوء بها لا الآتية مأتى النَّيِّف الذي لم يُوَفَّ من صدر الكلام ما يجب لها، فافهمه.
ويؤكد عندك شدة الاهتمام بهذا القسم لما فيه مجيئُه وحرفُ الاستفهام قبله، فكأنه- والله أعلم- قال: أنقسم بالله إنا إذن لمن الظالمين"، ففي هذا تهيب منهم للموضع، وتكعكع عن القسم عليه باستحقاق الظلم عنه؛ كأنه يريد القسم بالله عليه كما أقسم في الأخرى بلا استفهام، ثم إنه هاب ذلك فأخذ يشاور في ذلك كالقائل: أَؤُقدِم على هذه اليمين يا فلان أم أتوقف عنها؛ إعظامها لها ولا أرتكب ما أُقسِم عليه بها؟). [المحتسب: 1/222]
قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (من الّذين استحقّ عليهم الأوليان... (107)
قرأ أبو بكر وحمزة ويعقوب:، (استحق) بضم التاء، (عليهم الأوّلين) على الجميع، وقرأ الأعشى عن أبي بكر وحفص عن عاصم: (استحقّ عليهم) بفتح التاء (الأوليان) على التثنية.
وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير (من الّذين استحقّ عليهم الأوليان).
قال أبو منصور: أما من قرأ (من الّذين استحقّ عليهم الأوليان)
بالرفع والتثنية فلمعنى الاسم الذي في (يقومان)، كأنه قال: فآخران يقومان من الذين استحق عليهم يقوم الأوليان، وهو التثنية الأولى، أي: الأحق، وهذا قول الزجاج.
[معاني القراءات وعللها: 1/341]
وأما من قرأ (الأوّلين) فإنه يرده على الأسماء المضمرة في الهاء والميم من قوله: (عليهم)، وإن شئت رددته على (الذين).
ومن قرأ (من الذين استحقّ عليهم الأوليان) فعليهم بمعنى منهم، واستحقّ فعل للأولين، وقد أشبعت هذه الآية في كتاب على حدة، وأقصرت على هذا المقدار في هذا الكتاب، اعتمادًا على الكتاب المؤلف فيه، والله الموفق). [معاني القراءات وعللها: 1/342]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (16- وقوله تعالى: {استحق عليهم الأوليان} [107] روى حفص عن عاصم ونصير بن علي عن أبيه عن ابن كثير {استحق} بفتح التاء والحاء.
وقرأ الباقون بضم التاء وكسر الحاء.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/149]
وقرأ أهل الكوفة إلا حفصًا عن عاصم [و] أبو بكر وحمزة {الأولين}.
وقرأ الباقون {الأوليان} يعنون: اليهود والنصارى، كقوله تعالى: {أو آخران من غيركم} [106] أي من غير أهل دينكم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/150]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في التثنية والجمع في قوله: استحق عليهم الأوليان [المائدة/ 107].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: من الذين استحق عليهم مضمومة التاء، الأوليان على التثنية.
وروى نصر بن عليّ عن أبيه عن قرّة قال: سألت ابن كثير فقرأ: استحق بفتح التاء الأوليان على التثنية.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة استحق بضم التاء الأولين* جماع.
[الحجة للقراء السبعة: 3/260]
وروى حفص عن عاصم استحق بفتح التاء. الأوليان على التثنية.
قال الواقديّ: حدثنا أسامة بن زيد عن أبيه قال: كان تميم الداريّ وأخوه عديّ نصرانيّين، وكان متّجرهما إلى مكّة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرا، فخرج هو وتميم الداري وأخوه عديّ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية، فكتب وصية بيده ودسّها في متاعه، وأوصى إليهما، فلما مات فتحوا متاعه، فوجدوا وصيّته وقد كتب ما خرج به، ففقدوا شيئا فسألوهما فقالا: لا ندري، هذا الذي قبضنا له، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم [المائدة/ 106] فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما بالله ما قبضا له غير هذا ولا كتماه. قال الواقدي: فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر، فمكثا ما شاء الله، ثمّ ظهر على إناء من فضة منقوش بذهب معهما، فقالوا: هذا من متاعه، فقالا: اشتريناه منه، وارتفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية: فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما [المائدة/ 107] قال: فأمر
[الحجة للقراء السبعة: 3/261]
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيّبا. قال الواقدي: فحلف عبد الله بن عمرو والمطّلب بن أبي وداعة، فاستحقّا، ثمّ إنّ تميما أسلم، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: صدق الله وبلّغ رسوله، أنا أخذت الإناء.
قال: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان فشهادة مرتفع بالابتداء، واتّسع في بين، وأضيف إليه المصدر، وهذا يدل على قول من قال: إن الظروف التي تستعمل أسماء يجوز أن تستعمل أسماء في غير الشعر، ألا ترى أنّه قد جاء ذلك في التنزيل وكذلك:
لقد تقطع بينكم [الأنعام/ 94] في قول من رفع، فجاء في غير الشعر، كما جاء في الشعر نحو قوله:
فصادف بين عينيه الجبوبا
[الحجة للقراء السبعة: 3/262]
فأمّا قوله: إذا حضر أحدكم الموت [المائدة/ 106] فيجوز أن يتعلّق بالشهادة فيكون معمولها، ولا يجوز أن يتعلّق بالوصية لأمرين: أحدهما أنّ المضاف إليه لا يعمل في ما قبل المضاف، لأنّه لو عمل فيما قبله للزم أن يقدّر وقوعه في موضعه، فإذا قدر ذلك لزم تقديم المضاف إليه على المضاف، ومن ثمّ لم يجز:
القتال زيدا حين نأتي. والآخر: أنّ الوصية مصدر فلا يتعلّق به ما يتقدم عليه، فأما قوله: حين الوصية فلا يجوز أن تحمله على الشهادة، لأنّه إذا عمل في ظرف من الزمان لم يعمل في ظرف آخر منه، ولكن تحمله على ثلاثة أوجه، أحدها: أن تعلّقه بالموت، كأنه الموت من ذلك الحين، وهذا إنّما يكون على ما قرب منه. يدلّك على ذلك قوله عزّ وجل: حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن [النساء/ 18]، وكذلك قوله: حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا [الأنعام/ 61]، وقوله: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون [المؤمنون/ 99] فلو كان هذا على وقوعه، ولم يكن على مقاربته، لم يجز أن يسند إليه القول بعد الموت. والثاني: أن تحمله على حضر، أي: إذا حضر في هذا الحين. والثالث: أن تحمله على البدل من إذا، لأنّ ذلك الزمان في المعنى هو ذلك الزمان، فتبدله منه كما تبدل الشيء
[الحجة للقراء السبعة: 3/263]
من الشيء إذا كان إياه. وقوله تعالى: اثنان ذوا عدل منكم [المائدة/ 106]، هو خبر المبتدأ الذي هو شهادة بينكم، والتقدير شهادة بينكم شهادة اثنين، فأقام المضاف إليه مقام المضاف، ألا ترى أنّ الشهادة لا تكون إلّا باثنين. وقوله: منكم، صفة لقوله: اثنان، كما أنّ ذوا عدل صفة لهما وفي الظرف ضميرهما.
وقوله: أو آخران من غيركم تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم، ومن غيركم صفة للآخرين كما كان منكم صفة الاثنين، وأما من غيركم فقيل في تفسيره: إنّه من غير أهل ملّتكم.
حدّثنا الكندي قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا إسماعيل عن هشام بن حسان عن محمد قال: سألت عبيدة عن هذه الآية: اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم قال: اثنان ذوا عدل من أهل الملّة، أو آخران من غيركم من غير أهل الملة، وهو فيما زعموا قول ابن عباس وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، وقيل فيهما: من غير أهل قبيلتكم.
وقوله: إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت [المائدة/ 106] اعتراض بين الصفة والموصوف، وعلم به أن شهادة الآخرين اللّذين هما من غير أهل ملّتنا إنّما تجوز في السفر. واستغني عن جواب إن* بما تقدم من قوله: أو آخران من غيركم
[الحجة للقراء السبعة: 3/264]
لأنّه وإن كان على لفظ الخبر فالمعنى على الأمر، كأن المعنى: ينبغي أن تشهدوا إذا ضربتم في الأرض آخرين من غير أهل ملتكم. ويجوز أيضا أن يستغنى عن جواب إذا في قوله: إذا حضر أحدكم الموت بما تقدمها من قوله: شهادة بينكم فإن جعلت إذا بمنزلة حين، ولم تجعل له جوابا، كان بمنزلة الحين، وينتصب الموضع بالمصدر الذي هو شهادة بينكم كما تقدم.
وإن قدّرت له جوابا فإن قوله: شهادة بينكم يدل عليه ويكون موضع إذا في قوله: إذا حضر أحدكم الموت نصبا بالجواب المقدّر المستغني عنه بقوله: شهادة بينكم لأنّ المعنى ينبغي أن تشهدوا إذا حضر أحدكم الموت، وقوله: تحبسونهما من بعد الصلاة صفة ثانية لقوله: أو آخران من غيركم. وقوله: من بعد الصلاة معلّق، وإن شئت لم تقدر الفاء في قوله: فيقسمان بالله لعطف جملة على جملة ولكن تجعله جزاء كقول ذي الرّمّة:
وإنسان عيني يحسر الماء مرّة... فيبدو وتارات يجمّ فيغرق
تقديره عندهم: إذا حسر بدا، فكذلك إذا حبستموهما أقسما. وقال: من بعد الصلاة، لأنّ الناس فيما ذكروا كانوا يحلّفون بالحجاز بعد صلاة العصر، لاجتماع الناس وتكاثرهم في ذلك الوقت.
[الحجة للقراء السبعة: 3/265]
وقوله: فيقسمان بالله إن ارتبتم أي: ارتبتم في قول الآخرين اللّذين ليسا من أهل ملّتنا، أو غير قبيلة الميت، فغلب في ظنكم خيانتهما.
وقوله: لا نشتري به ثمنا: لا نشتري جواب ما يقتضيه قوله: فيقسمان بالله لأنّ أقسم ونحوه، يتلقّى بما يتلقّى به الأيمان. وقوله: لا نشتري به ثمنا: لا نشتري بتحريف شهادتنا ثمنا، فحذف المضاف وذكّر الشهادة، لأنّ الشهادة قول، كما جاء:
وإذا حضر القسمة ثمّ قال: فارزقوهم منه [النساء/ 8] لما كان القسمة يراد به المقسوم، ألا ترى أنّ القسمة التي هي إفراز الأنصباء لا يرزق منه، إنما يرزق من التركة المقسومة؟ وتقدير لا نشتري به ثمنا: لا نشتري به ذا ثمن، ألا ترى أنّ الثمن لا يشتري، وإنّما الذي يشتري المبيع دون ثمنه؟ وكذلك قوله: اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا أي: ذا ثمن، والمعنى: أنّهم آثروا الشيء القليل على الحق، فأعرضوا عنه وتركوه له. ولا يكون اشتروا في الآية بمعنى باعوا، وإن كان ذلك يجوز في اللغة، لأنّ بيع الشيء إخراج وإبعاد له من البائع، وليس المعنى هنا على الإبعاد، إنّما هو على التمسك به والإيثار له على الحق. ولو كان ذا قربى التقدير: ولو كان المشهود له ذا قربى. وخصّ ذو القربى بالذكر لميل الناس إلى قراباتهم ومن يناسبونه. ولا نكتم شهادة الله إنّا إن كتمناها لمن الآثمين. وقال: شهادة الله، فأضيفت الشهادة إليه سبحانه لأمره بإقامتها والنهي عن كتمانها في قوله: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [البقرة/ 283]. وقوله وأقيموا الشهادة لله [الطلاق/ 2] فإن عثر على أنهما استحقا إثما
[الحجة للقراء السبعة: 3/266]
[المائدة/ 107] أي غير أهل الميت أو من يلي أمره، على أنّ الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا استحقّا إثما بقصدهما في شهادتهما إلى غير الاستقامة، ولم يتحرّيا الحق فيها، فآخران يقومان مقامهما، أي: مقام الشاهدين اللذين هما من غيرنا من الذين استحق عليهم الأوليان- فقوله: من الذين صفة للآخرين.
فأما الأوليان فلا يخلو ارتفاعه من أن يكون على الابتداء وقد أخر، كأنّه في التقدير: فالأوليان بأمر الميت آخران من أهله، أو من أهل دينه يقومان مقام الخائنين اللذين عثر على خيانتهما كقولهم: تميمي أنا. أو يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه: فآخران يقومان: مقامهما، هما الأوليان. أو يكون بدلا من الضمير الذي في يقومان فيصير التقدير: فيقوم الأوليان. أو يكون مسندا إليه استحق.
وقد أجاز أبو الحسن شيئا آخر وهو أن يكون الأوليان صفة لقوله: فآخران لأنّه لما وصف اختصّ فوصف من أجل الاختصاص الذي صار له بما يوصف به المعارف.
ومعنى الأوليان: الأوليان بالشهادة على وصية الميت، وإنّما كانا أولى به ممن اتّهم بالخيانة من غيرنا، لأنّهما أعرف بأحوال الميت وأموره، ولأنّهما من المسلمين، ألا ترى أن وصفهم
[الحجة للقراء السبعة: 3/267]
بأنّه استحقّ عليهم يدل على أنّهم مسلمون، لأنّ الخطاب من أوّل الآية مصروف إليهم. فأما ما يسند إليه استحقّ فلا يخلو من أن يكون الأنصباء أو الوصية أو الإثم أو الجارّ والمجرور، وإنّما جاز: استحقّ الإثم لأن آخذه بأخذه آثم، فسمّي إثما كما سمي ما يؤخذ منا بغير حق مظلمة. قال سيبويه: المظلمة اسم ما أخذ منك، فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر.
وأمّا قوله عليهم فيحتمل ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون على فيه بمنزلة قولك: استحقّ على زيد مال بالشهادة، أي: لزمه ووجب عليه الخروج منه، لأنّ الشاهدين لما عثر على خيانتهما استحقّ عليهما ما ولياه من أمر الشهادة والقيام بها ووجب عليهما الخروج منها وترك الولاية لها، فصار إخراجهما منها مستحقّا عليهما كما يستحقّ على المحكوم عليه الخروج مما وجب عليه.
والآخر: أن يكون على* فيه بمنزلة «من»، كأنّه: من الذين استحق منهم الإثم، ومثل هذا قوله: إذا اكتالوا على الناس [المطففين/ 2] أي: من الناس.
والثالث: أن يكون «على» بمنزلة «في» كأنّه استحق فيهم، وقام «على» مقام «في» كما قام «في» مقام «على» في قوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 3/268]
لأصلبنكم في جذوع النخل [طه/ 71] والمعنى: من الذين استحق عليهم بشهادة الآخرين اللذين هما من غيرنا.
فإن قلت: فهل يجوز أن يسند استحق إلى الأوليان؟
فالقول: إن ذلك لا يجوز لأنّ المستحقّ إنّما يكون الوصية أو شيئا منها والأوليان بالميت لا يجوز أن يستحقّا فيسند استحقّ إليهما.
وأمّا من قرأ: من الذين استحق عليهم الأولين فتقديره: من الأوّلين الذين استحقّ عليهم الأنصباء أو الإثم، وإنّما قيل لهم الأوّلين من حيث كانوا الأولين في الذكر، ألا ترى أنّه قد تقدّم: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم وكذلك اثنان ذوا عدل منكم ذكرا في اللفظ، قبل قوله: أو آخران من غيركم.
واحتجّ من قرأ الأولين* على من قرأ: الأوليان بأن قال:
أرأيت إن كان الأوليان صغيرين؟ أراد أنّهما إذا كانا صغيرين لم يقوما مقام الكبيرين في الشهادة ولم يكونا لصغرهما أولى بالميت، وإن كانا لو كانا كبيرين كانا أولى به فيقسمان بالله، أي: يقسم
[الحجة للقراء السبعة: 3/269]
الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا.
وقوله: لشهادتنا أحق من شهادتهما متلقّى به فيقسمان بالله وما اعتدينا فيما قلناه من أن شهادتنا أحق من شهادتهما.
وأمّا من قرأ: من الذين استحق عليهم الأوليان فتقديره: من الذين استحقّ عليهم الأوليان بالميّت وصيّته التي أوصى بها إلى غير أهل دينه، والمفعول محذوف، وحذف المفعول من هذا النحو كثير). [الحجة للقراء السبعة: 3/270]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فآخران يقومان مقامهما من الّذين استحق عليهم الأوليان}
قرأ حمزة وأبو بكر {من الّذين استحق} بضم التّاء (الولين) على الجميع قال الفراء كان ابن عبّاس أيضا يقرأ {الأوّلين} يجعله نعتا ل الّذين وحجته ما قاله ابن عبّاس قال أرأيت إن كان الأوليان صغيرين كيف يقومان مقامهما
قرأ حفص {من الّذين استحق} بفتح التّاء {الأوليان} على التّثنية و{الأوليان} رفع ب استحق المعنى استحق عليهم الأوليان رد الأيمان
وقرأ الباقون {من الّذين استحق} بضم التّاء {عليهم الأوليان} وتأويلها الأولى فالأولى والأقرب قال الفراء الأوليان أراد وليي
[حجة القراءات: 238]
الموروث يقومان مقام النصرانيين إذا أتهما أنّهما قد خانا فيحلفان بعد حلف النصرانيي وظهر على خيانتهما قال ومن قرأ {الأوّلين} فهو جمع الأول وهو على البدل من الّذين استحق
اختلف أهل العربيّة في السّبب الّذي من أجله رفع {الأوليان} فقال الزّجاج رفعهما على البدل من الألف في {يقومان} المعنى فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين فيقسمان باللّه لشهادتنا أحق من شهادتهما وقال آخرون بدل من قوله {فآخران} فهذا بدل المعرفة من النكرة وقالوا يجوز أن يكون الأوليان خبر الابتداء الّذي هو {فآخران} ويجوز أن يكون {الأوليان} مبتدأ وآخران خبرا مقدما التّقدير فالأوليان آخران يقومان مقامهما). [حجة القراءات: 239]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (39- قوله: {من الذين استحق عليهم الأوليان} قرأ حفص
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/419]
«استحق» بفتح التاء والحاء، وقرأ الباقون بضم التاء وكسر الحاء، قرأ أبو بكر وحمزة «الأولين» جمع أول المسلم المخفوض، وقرأ الباقون «الأوليان» تثنية أولى المرفوع.
وحجة من فتح التاء أنه بنى الفعل للفاعل، فأضاف الفعل إلى «الأوليان» فرفعهما بـ «استحق»، التقدير: من الذين استحق عليهما أوليان بالميت وصيته التي أوصى بها إلى غير أهل دينه، أو إلى غير قبيلته.
40- وحجة من ضم التاء أنه بنى الفعل للمفعول، وهو الأوليان، فأقام الأوليان مقام الفاعل على تقدير حذف مضاف، والمعنى: من الذين استحق عليهم إثم الأوليين، لأن الأوليين لا تستحق نفساهما، إنما استحق الوصية أو الإثم، ويجوز ذلك، وقد بينا رفع الأوليان وما يجوز فيه، في كتاب تفسير مشكل الإعراب.
41- وحجة من قرأ «الأوليان» أنه جعله تثنية أولى، أي: أولى بالشهادة على وصية الميت، وقيل: معناه أولى بالميت من غيره.
42- وحجة من قرأ «الأولين» أنه جعله جمع أول، والتقدير: من الأولين الذين استحق عليهم الإيصاء أو الإثم، وإنما قيل لهم الأولين لتقدم ذكرهم في أول القصة، وهو قوله: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} وهذه الآية في قراءتها وإعرابها وتفسرها ومعانيها وأحكامها من أصعب آية في القرآن وأشكلها، ويُحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر، وقد ذكرنا من ذلك طرفًا صالحًا في «كتاب الهداية» وذكرنا من مشكل إعرابها طرفا في تفسير مشكل الإعراب، ثم ذكرناها مشروحة بجميع وجوهها في تفسير إعراب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/420]
في كتاب مفرد، والذي عليه الجماعة في قراءتها هو الاختيار، ضم التاء، والأوليان تثنية أولى أي: أولى بالوصية، أو بالميراث، أو بالميت، على الاختلاف في ذلك، وقد تقدم ذكر «طائرا» في آل عمران وحجته). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/421]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (21- {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ} [آية/ 107]:-
بفتح التاء والحاء، قرأها عاصم وحده -ص-.
والوجه أن أسند الفعل إلى الأوليين، والتقدير: من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصية التي أوصى بها إلى غير أهل دينه، والمفعول محذوف،
[الموضح: 452]
وهو الوصية، وقيل: استحق الأوليان اليمين، وحذف المفعول مما لا يحصى كثرة.
وقرأ الباقون {اسْتَحَقَّ} بضم التاء وكسر الحاء على ما لم يسم فاعله.
والقائم مقام الفاعل فيه، إما أن يكون الإيصاء أو الإثم أو الجار (و) المجرور الذي هو «عليهم»، وكل واحد من هذه الأشياء يجوز أن يقام مقام الفاعل ههنا، ولا يجوز أن يقام {الْأَوْلَيَانِ} مقام الفاعل لفساد المعنى، ألا ترى أن المستحق إنما هو الوصية أو شيء منها، ولا يصح أن يستحق الأوليان، وإنما يرتفع الأوليان بالابتداء وتقديم الخبر، والتقدير: فالأوليان بأمر الميت آخران يقومان مقامهما، ويجوز أن يرتفع على أنه بدل من الضمير الذي في {يَقُومَانِ}، والتقدير: فيقوم الأوليان). [الموضح: 453]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (22- {الْأَوْلَيَنِ} [آية/ 107]:-
على الجمع، قرأها عاصم -ياش- وحمزة ويعقوب.
وهو جمع الأول، كما أن {الْأَوْلَيَانِ} تثنيه، و{الْأَوْلَيَنِ} يجوز أن يكون صفة للذين أو بدلا منه، والتقدير: من الأولين الذين استحق عليهم الإيصاء أو الإثم.
وقرأ الباقون {الْأَوْلَيَانِ} بالتثنية، وقد مضى الكلام فيه). [الموضح: 453]
قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين