العودة   جمهرة العلوم > جمهرة علوم القرآن الكريم > توجيه القراءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 09:40 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي سورة البقرة [من الآية (6) إلى الآية (10) ]

سورة البقرة
[من الآية (6) إلى الآية (10) ]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) }

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وأما قول الله جلّ وعزّ: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) فالأصل فيه همزتان:
إحداهما: الألف، والأخرى ألف الاستفهام.
واختلف القراء فيه، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب "آنذرتهم " بهمزة مطولة، وكذلك جميع ما أشبه هذا، نحو قوله:
[معاني القراءات وعللها: 1/129]
(آنت قلت للنّاس)، (آلد وأنا عجوزٌ).
وقرأ الباقون بهمزتين في كل هذا.
وكل ذلك عربي فصيح، فمن همز همزة مطولة فر من الجمع بين الهمزتين، ومن جمع بينهما فهو الأصل.
وكان أبو عمرو يخفف الهمزة الأولى، ويحقق الثانية.
وكان الخليل يحقق الأولى ويخفف الثانية، ونحويو أهل البصرة مالوا إلى قول الخليل، وكلهم أجاز ما اختاره أبو عمرو.
قال أبو منصور: ومن القراء القدماء من أدخل بين الهمزتين ألفا ساكنة فراراً من الجمع بينهما، فقرأ: (ءاأنذرتهم)، و: (ءاألد)، قال أبو حاتم: أخبرني الأصمعي أنه سمع نافعا يقرأ: (ءانّئكم لتشهدون)، أدخل بين الهمزتين ألفا.
قال الأصمعي: أنشدني أبو عمرو لمزرد:
تطاللت فاستشرفته فعرفته... فقلت له آأنت زيد الأرانب
[معاني القراءات وعللها: 1/130]
ومثله قول، ذي الرّمة:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ... وبين النقا آأنت أم أمّ سالم
قال أبو حاتم: ويجوز تخفيف الهمزة الثانية التي بعد الألف الزائدة، وكان أبو عمرو ربما فعل ذلك.
قال أبو حاتم: ونحن نكره الجمع بين همزتين، قال: ومما يدلك على كراهية العرب اجتماع الهمزتين قول الله تبارك وتعالى: (ها أنتم).
قال أبو حاتم: قال الأخفش: إنما هو (ءاأتتنم)، أدخلوا بين الهمزتين ألفا استثقالا لهما، وأبدلوا من الهمزة الأولى هاء كما قالوا: (هرقت الماء) و(أرقت)، وقالوا: (هياك) بمعنى: إياك). [معاني القراءات وعللها: 1/131]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (4- قوله تعالى: {ءأنذرتهم}.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي {ءأنذرتهم} بهمزتين على أصل الكلمة. فالهمزة الأولى ألف التسوية على لفظ الاستفهام، والألف الثانية ألف القطع.
وقرأ ابن عامر {آآنذرتهم} بهمزتين بينهما مدة كأنه كره أن يجمع بين همزتين وأن يحذف إحداهما
قال الشاعر شاهدًا لقراءة ابن عامر:
تطاللت فاستشرفته فعرفته = فقلت له آآنت زيد الأراقم
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/59]
وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثري {آنذرتهم} كرهوا الجمع بين همزتين فلينوا الثانية كما تقول: آمن، وآدم، وآزر غير أن ابن كثير أقصر مدًا من أبي عمرو ونافع، قال ذو الرمة:
آن توسمت من خرقاء منزلة = ماء الصبابة من عينيك مسجوم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/60]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله جل وعز: أأنذرتهم [البقرة/ 6]
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: آأنذرتهم بهمزة مطولة، وكذلك ما أشبه ذلك في كل القرآن، مثل: أأنت قلت للنّاس [المائدة/ 116] وأ إلهٌ مع اللّه [النمل/ 60] وأ إنّكم وما كان مثله، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خفف، غير أن مدّ أبي عمرو في أأنذرتهم أطول من مدّ ابن كثير، لأنّ من قوله أنّه يدخل بين الهمزتين ألفا وابن كثير لا يفعل ذلك.
واختلف عن نافع في إدخال الألف في الهمزتين. وأمّا عاصم وحمزة والكسائي- إذا حقق- وابن عامر فبالهمزتين أأنذرتهم وما كان مثله في القرآن من الهمزتين في الكلمة الواحدة فهو بتحقيق الهمزتين وبتخفيف إحداهما وبإدخال الألف بينهما.
إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. [البقرة/ 6].
الكفر: خلاف الشكر، كما أن الذمّ خلاف الحمد.
فالكفر: ستر النعمة وإخفاؤها، والشكر: نشرها وإظهارها.
وفي التنزيل: واشكروا لي ولا تكفرون [البقرة/ 152] وفيه: لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديدٌ [إبراهيم/ 7] وقال:
في ليلة كفر النجوم غمامها
[الحجة للقراء السبعة: 1/244]
وقالوا: كفر كفرا وكفورا، كما قالوا: شكر شكرا وشكورا. وفي التنزيل: لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكوراً [الفرقان/ 62] [وقال] اعملوا آل داود شكراً [سبأ/ 13] وقال: فأبى أكثر النّاس إلّا كفوراً [الإسراء/ 89] وقالوا:
الكفران، وقال: فلا كفران لسعيه [الأنبياء/ 94] وقال الأعشى:
ولا بدّ من غزوة في الربيع... حجون تكلّ الوقاح الشّكورا
قال أحمد بن يحيى: الشّكور: السريع القبول للسّمن. قال أبو علي: فكأن سرعة قبوله لذلك إظهار للإحسان إليه والقيام عليه.
وقالوا: أشكر من بروقة.
وأمّا قوله: سواءٌ عليهم فإنّ السواء والعدل والوسط والقصد والنّصف ألفاظ يقرب بعضها من بعض في المعنى.
[الحجة للقراء السبعة: 1/245]
قالوا للعدل: السواء. قال زهير:
أرونا خطة لا خسف فيها... يسوّي بيننا فيها السّواء
وأنشد أبو زيد لعنترة:
أبينا فلا نعطي السّواء عدوّنا... قياما بأعضاد السّراء المعطف
والسواء: وسط الشيء. وفي التنزيل: فرآه في سواء الجحيم [الصافات/ 55] وقال عيسى بن عمر: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي. والسواء: ليلة النصف من الشهر.
وقالوا: سيّ بمعنى سواء، كما قالوا: قيّ وقواء، وقالوا:
سيان فثنّوا، كما قالوا: مثلان. وقال عز وجل: لو تسوّى بهم الأرض [النساء/ 42] فالمعنى: يودّون لو جعلوا والأرض سواء. كما قال: ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً [النبأ/ 40] وقال: فدمدم عليهم ربّهم بذنبهم فسوّاها [الشمس/ 14] أي: سوى بلادهم بالأرض، وقال: ونفسٍ وما سوّاها [الشمس/ 7] أي: ونفس وتسويتها أي: ورب تسويتها، أو
[الحجة للقراء السبعة: 1/246]
يكون: والذي سواها، أي: ونفس وخالقها، كما قال: ثمّ سوّاك رجلًا [الكهف/ 37] وقال: خلقك فسوّاك فعدلك [الانفطار/ 7] وقال: بلى قادرين على أن نسوّي بنانه [القيامة/ 4]، أي: نجعلها مع كفه صفحة مستوية لا شقوق فيها كخف البعير، ويعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة والخرز والصياغة ونحو ذلك من لطيف الأعمال التي يستعان عليها بالأصابع.
قال أحمد بن يحيى: من أيمانهم: لا والذي شقّهن خمسا من واحدة. يريدون الأصابع من الكف.
وقيل في: نسوّي بنانه: نردّها كما كانت. قالوا: وذكرت البنان لأنّه قد ذكرت اليدان فاختص منها ألطفها. وقالوا: قوم أسواء، أي: مستوون وأنشد أبو زيد:
هلّا كوصل ابن عمّار تواصلني... ليس الرّجال وإن سوّوا بأسواء
فأسواء ليس يخلو من أن يكون جمع سي أو سواء، فإن كان جمع سي فهو مثل: مثل وأمثال، ونقض وأنقاض، وجلف وأجلاف. وإن كان جمع سواء فهو مثل ما حكاه أبو زيد من قولهم جواد وأجواد. وحكى أيضا في الاسم: حياء الناقة وأحياء، ولا يمتنع جمعه وإن كانوا لم يثنوه كما لم يمتنعوا
[الحجة للقراء السبعة: 1/247]
من جمعه على سواسية. فأمّا قوله: ولا أنت مكاناً سوىً [طه/ 58] فقال أبو عبيدة: يضم أولها ويكسر، مثل: طوى وطوى، قال: وهو المكان النّصف فيما بين الفريقين وأنشد لموسى بن جابر الحنفي:
وإنّ أبانا كان حلّ ببلدة... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
قال: الفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم.
ومثل سوى في أنّه فعل جاء وصفا قولهم: قوم عدى للغرباء. فأمّا عدى للأعداء فزعم أحمد بن يحيى وغيره أنّهم يقولون فيه: عدى وعدى. فهذا مثل سوى وسوى في وصف المكان.
وقال أبو الحسن في قوله: (مكانا سوى): إنّها قد تضم في هذا المعنى. قال: والممدودتان في ذا المعنى أيضا.
يريد بالممدودتين ما يذكره من أن في سوى وسواء أربع لغات، منهم من يفتح أوله ويمده، ومنهم من يكسر أوله ويقصره.
قال: وهاتان لغتان معروفتان. قال: ومنهم من يكسر أوله ويمده، ومنهم من يضم أوله ويقصره. وهاتان اللغتان أقل من تينك، والمضمومة الأولى أعرفهما، وقال: مكانا سوى أي عدل، وأنشد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/248]
وإنّ أبانا كان حلّ ببلدة... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
يقول: عدل، وقال في قول الشاعر:
لو تمنّت حليلتي ما عدتني... أو تمنّيت ما عدوت سواها
يقول: ما عدوت قصدها، قال: والقصد والعدل مشتبهان. وأنشد:
ولأصرفنّ سوى حذيفة مدحتي... لفتى العشيّ وفارس الأجراف
قال: يريد لأصرفنّ قصده، أي عن قصده أو لأصرفنّ إلى غيره، ولأنّ سواه غيره كما قال حسان:
أتانا فلم نعدل سواه بغيره... نبي أتى من عند ذي العرش هاديا
قال: يقول: لم نعدل سوى النبي صلّى الله عليه وسلّم بغير سواه، وغير
[الحجة للقراء السبعة: 1/249]
سواه هو هو. فأمّا قوله:
وما قصدت من أهلها لسوائكا
فإنّه عدّى قصدت باللام، وإن كان يعدّى بإلى، كما عدّوا أوحيت وهديت بهما في نحو: وأوحى ربّك إلى النّحل [النحل/ 68]، وفي أخرى: بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5] وقال: ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً [النساء/ 175] والحمد للّه الّذي هدانا لهذا [الأعراف/ 43].
فأمّا سواء فإنّها تستعمل ظرفا، تقول: إنّ سواءك زيدا كما تقول: إن عندك زيدا، فجعله الشاعر اسما في قوله، لسوائكا، وجعله بمنزلة غير إذ كانت بمعناها، وإذا كانت كذلك أجمع عامة العرب فيما زعم أبو الحسن أنّهم يستعملونه ظرفا ولا يستعملونه اسما.
ومثل ذلك قولهم: وسط- الساكن الأوسط- هي تستعمل ظرفا، فإذا اضطر الشاعر استعمله اسما كقوله الفرزدق:
صلاءة ورس وسطها قد تفلّقا
وقول القتّال الكلابي:
[الحجة للقراء السبعة: 1/250]
من وسط جمع بني قريظ بعد ما... هتفت ربيعة يا بني جوّاب
فكذلك سواء، ولذلك شبهه بالظرف في قولهم: أتاني القوم سواءك فقال: كأنه قال: أتاني القوم مكانك. واستدل على كونه ظرفا بوصلهم الذي بها في نحو: أتاني الذي سواؤك. [قال أبو علي: سواك أشبه]. وزعم أبو الحسن أن هذا الذي استعمل ظرفا إذا تكلم به من يجعله ظرفا في موضع رفع نصبوه استنكارا منهم لرفعه، لأنه إنما يقع في كلامهم ظرفا، فيقولون: جاءني سواؤك، وفي الدار سواؤك. وفي كتاب الله [تعالى]: وأنّا منّا الصّالحون ومنّا دون ذلك [الجن/ 11] وقال: منهم الصّالحون ومنهم دون ذلك [الأعراف/ 168]، وقال: لقد تقطّع بينكم [الأنعام/ 94] وقال: يوم القيامة يفصل بينكم. قال: وتقول معي فوق الخماسي ودون السداسي، ولك السداسي وفوقه، وجئتك بسداسي أو فوقه، وهو بالبصرة أو دونها، فكل ذلك نصب.
قال أبو الحسن وأخبرني بعض النحويين أنّه سمع العرب يقولون: ارقبني في سوائه، فأجراه مجرى (غير) وجعله اسما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/251]
قال أبو علي: ولو تأول متأول ما حكاه أبو الحسن من قولهم: ارقبني في سوائه على «سواء» الذي هو الوسط، لا التي بمعنى غير- كما جاء في التنزيل: في سواء الجحيم [الصافات/ 55]- لكان مذهبا. فيجوز على ما تأوله أبو الحسن في الآي وفي سواء- في قول الشاعر:
فلم يبق منها سوى هامد... وسفع الخدود، وغير النّئيّ
أن يكون سوى في موضع نصب، وإن كان فاعلا، لأنّه ظرف. ويجوز أن يكون لما جعله اسما للضرورة رفعه كما رفع وسطا في قولهم:
وسطها قد تفلّقا
وجعله بمنزلة «غير» لما كان بمعناها، ألا ترى أنّه جعلها بمنزلة غير في عطفها عليها في قوله: وغير النّئيّ. كأنّه قال:
فلم يبق غير هامد وغير النّئي.
وقولهم في الاسم العلم: سواءة ليس من هذا الباب.
ألا ترى أن اللام منه همزة وليست منقلبه بدلالة قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/252]
فأبلغ إيادا إن عرضت وطيّئا... وأبلغ حليفينا، ومن قد تسوّءا
وأما الإنذار فإعلام معه تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذرا، ولم يمتنع أن يوصف [به] القديم سبحانه في نحو قوله: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40] لأن الإعلام على الانفراد قد جاز وصفه به. والتخويف أيضا كذلك في قوله: ذلك يخوّف اللّه به عباده [الزمر/ 16].
فإذا جاز الوصف بكل واحد منهما على الانفراد لم يمتنع إذا دلّ لفظ على المعنيين اللذين جاز الوصف بكل واحد منهما منفردا أن يوصف سبحانه به.
وأنذرت: فعل يتعدى إلى مفعولين، يدلك على ذلك قوله: فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود [فصلت/ 13] وقال: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40]، وقال تعالى:
قل إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45] فتعديته بالباء يحتمل أمرين: يجوز أن يكون لما دل على التخويف أجري مجراه:
فقلت أنذرته بكذا كما تقول: خوفته بكذا، ولذلك نظائر.
ويجوز أن يكون لما لم يتعد إلى مفعولين، الثاني فيه الأول عدي إلى مفعول واحد كما عدي علمت الذي بمعنى عرفت إلى مفعول واحد، فلما أريد تعديته إلى مفعولين، زيدت الباء لأنّ بناء الفعل على أفعل، فلا يجوز أن تدخل عليه همزة
[الحجة للقراء السبعة: 1/253]
أخرى للثقل، كما أنّه إذا أريد تعدية علمت الذي بمعنى عرفت إلى مفعولين زيدت عليه الهمزة أو ضعفت العين. فإذا حذفت الباء تعدى الفعل إلى المفعول الآخر، كما تعدى: أمرتك الخير واخترتك الرجال.
فأمّا قوله تعالى: قل إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45] فيحتمل أمرين: يجوز أن يكون الوحي الموحى، فسمّي بالمصدر مثل الخلق والصيد، والوحي: هو العذاب، فيكون كقوله: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40]، ويجوز أن يكون الوحي يراد به الملك؛ فيكون التقدير في قوله تعالى: إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45]: أنذركم بإنذار الملك أو بإخباره. وقوله تعالى: إنّما أنت منذر من يخشاها [النازعات/ 45] مثل إنّما أنت معطي زيد، إذا أردت بالإضافة الانفصال، أي منذر من يخشى الساعة كما قال: وهم من السّاعة مشفقون [الأنبياء/ 49].
وقالوا: النذير والنّذر، كما قالوا: النكير والنكر، فجاء المصدر على فعيل وعلى فعل. وفي التنزيل: فكيف كان نكير، وفيه: فكيف كان عذابي ونذر. فأمّا قوله تعالى: نذيراً للبشر [المدثر/ 36] فقد قيل فيه قولان:
[الحجة للقراء السبعة: 1/254]
أحدهما: أن يكون حالا من (قم) المذكورة في أول السورة.
والآخر: أن يكون حالا من قوله: إنّها لإحدى الكبر [المدثر/ 35] فإذا جعل نذيرا حالا مما في قم، فإن النذير اسم فاعل بمعنى المنذر، كما أن السميع كالمسمع والأليم كالمؤلم.
وإن جعلته حالا من قوله: (لإحدى الكبر) فليس يخلو الحال من أن يكون من المضاف أو من المضاف إليه، فإن كان من المضاف كان العامل ما في إحدى من معنى التفرد.
وإن جعلت الحال من المضاف إليه كان العامل فيها ما في الكبر من معنى الفعل. وفي كلا الوجهين ينبغي أن يكون نذيرا مصدرا، لأنّ الأول المضاف مؤنث والمضاف إليه مؤنث مجموع، والمصدر قد يكون حالا من الجميع كما يكون حالا من المفرد. تقول: جاءوا ركضا، كما تقول: جاء ركضا.
وأما قوله تعالى: وجاءكم النّذير [فاطر/ 37] فمن قال: إن النذير النبي صلّى الله عليه وسلّم كان اسم فاعل كالمنذر، ومن قال: إنه الشيب كان الأولى أن يكون مصدرا كالإنذار.
وقال أبو زيد: نذر ينذر نذرا، ووفّى بنذره، وأوفى نذره.
وقال أبو الحسن: العرب تقول: نذر ينذر على نفسه نذرا، ونذرت مالي فأنا أنذره. أخبرنا بذلك يونس عن العرب. قال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/255]
وفي كتاب الله تعالى إنّي نذرت لك ما في بطني محرّراً [آل عمران/ 39] وقال الشاعر:
هم ينذرون دمي وأنـ ... ـذر إن لقيت بأن أشدّا
وقال عنترة:
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما... والناذرين إذا لم القهما دمي
ومثل الإنذار في أنّه ضرب من العلم قولهم: اليقين، فكل يقين علم، وليس كل علم يقينا، وذلك أنّ اليقين كأنّه علم يحصل بعد استدلال ونظر، لغموض المعلوم المنظور فيه، أو لإشكال ذلك على الناظر.
يقوي ذلك قوله عز وجل: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السّماوات والأرض وليكون من الموقنين [الأنعام/ 75] ثم ذكر بعد ما كان من نظره واستدلاله، ولذلك لم يجز أن يوصف القديم سبحانه به، فليس كل علم يقينا لأنّ من المعلومات ما يعلم من غير أن يعترض فيه توقف أو موضع نظر، نحو ما يعلم ببدائه العقول والحواس، ويؤكد ما ذكرنا من ذلك قول رؤبة:
[الحجة للقراء السبعة: 1/256]
يا دار عفراء ودار البخدن
أما جزاء العارف المستيقن
[عندك إلا حاجة التفكّن]
فوصفه العالم بالمستيقن يقوي أنّه غيره.
ومما يبين ذلك ما تراه في أشعارهم من توقفهم عند الوقوف في الديار لطول العهد وتعفي الرسوم ودروسها حتى يثبتوها بالتأمل لها والاستدلال عليها، كقوله:
وقفت بها من بعد عشرين حجة... فلأيا عرفت الدار بعد توهم
وقال:
توهّمت آيات لها فعرفتها
وقال:
أم هل عرفت الدار بعد توهّم
قال محمد بن السري قالوا في قوله بعد توهم: توهمت الشيء: أنكرته. وعند التباس الأمر وإشكاله يفزع إلى النظر،
[الحجة للقراء السبعة: 1/257]
ويرجع إلى الدليل، فكذلك قول رؤبة:
أما جزاء العارف المستيقن
أي: المتوقف المتبين لآثارك ورسومك إلى أن يثبتك، كقول عنترة في ذلك.
ومن ذلك الدراية، هي مثل ما تقدم في أنّها ضرب من العلم مخصوص، وكأنّه من التلطف والاحتيال في تفهم الشيء. أنشد أبو زيد:
فإنّ غزالك الذي كنت تدّري... إذا شئت ليث خادر بين أشبل
قال أبو زيد: تدّري: تختل. وقال آخر:
فإن كنت لا أدري الظباء فإنّني... أدسّ لها تحت التراب الدواهيا
وأنشد أحمد بن يحيى:
إما تريني أذّري وأدّري... غرّات جمل وتدرّى غرري
[الحجة للقراء السبعة: 1/258]
واختلفوا في الدّرية، وهو البعير الذي يستتر به الصائد من الوحش حتى يمكنه رميها.
فقال أبو زيد فيما حكى عنه: هي مهموزة لأنّها تدرأ نحو الوحش، أي تدفع، فأمّا من لم يهمز فإنّه يمكن أن يكون من الدرء الذي هو الدفع فخفف.
ويمكن أن يكون من الادّراء الذي هو الختل، لأنّ معنى الختل لها والاحتيال عليها في الاستتار به عنها حتى يرمي ظاهرا.
فأمّا الدريئة للحلقة التي يتعلّم عليها الطعان، فرواها السكري مهموزة فيما أنشده عن أبي زيد:
كأنّ دريئة لمّا التقينا... بنصل السيف مجتمع الصّداع
[بخط السكري: الدريئة: الحلقة يتعلم عليها الطعن،
[الحجة للقراء السبعة: 1/259]
ومجتمع الصداع: الرأس] [كذا رواها السكري في نوادر أبي زيد عن الرياشي. روى ابن دريد فكان دريئة] وكذلك قول الجهنية صاحبة المرثية أنشده [السكري عن أبي حاتم]:
أجعلت أسعد للرماح دريئة... هبلتك أمّك أيّ جرد ترقع
بخطه: الجرد: الثياب الخلقان [ضربه مثلا].
ويقال: دريت الشيء ودريت به قال سيبويه: وتعديه بحرف الجر أكثر في كلامهم، وأنشد أبو زيد:
أصبح من أسماء قيس كقابض... على الماء لا يدري بما هو قابض
فإذا قال: دريت الشيء، فكأنّ المعنى على ما عليه هذا الباب: تأتيت لفهمه وتلطفت، وهذا المعنى لا يجوز على العالم بنفسه. وقد أجاز أحد أهل النظر ذلك، واستشهد عليه بقول بعضهم:
لا همّ لا أدري وأنت الدّاري
[الحجة للقراء السبعة: 1/260]
وهذا لا ثبت فيه، لأنّه يجوز أن يكون من غلط الأعراب، فكأنّه سمع دريت وعلمت يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر كثيرا، فظنّ أنّهما في كل المواضع كذلك. ومثل هذا من جفاء الأعراب ما أنشده بعض البغداديين:
لا همّ إن كنت الذي بعهدي... ولم تغيّرك الأمور بعدي
وقول العجّاج:
فارتاح ربّي وأراد رحمتي
وقول الآخر:
يا فقعسيّ لم أكلته لمه... لو خافك الله عليه حرّمه
وقال أوس:
[الحجة للقراء السبعة: 1/261]
أبني لبينى لا أحبّكم... وجد الإله بكم كما أجد
وقالت امرأة من أسد:
أشار لها آمر فوقه... هلمّ فأمّ إلى ما أشارا
تعني الله سبحانه. فأمّا شعرت فمصدره شعرة بكسر الأول، كالفطنة والدرية. وقالوا: ليت شعري، فحذفوا التاء مع الإضافة للكثرة. وقد قالوا: ذهب بعذرتها، وهو أبو عذرها.
ويروى أنّ عليا، عليه السلام، لما قال له عديّ بن حاتم: ما الذي لا ينسى؟ قال: المرأة لا تنسى أبا عذرها، ولا قاتل واحدها. وكأنّ شعرت مأخوذ من الشعار، وهو ما يلي الجسد.
فكأنّ شعرت به علمته علم حسّ. وقال الفرزدق:
لبسن الفرند الخسروانيّ فوقه... مشاعر من خزّ العراق المفوّف
[الحجة للقراء السبعة: 1/262]
وفي الحديث: «أشعرنها إياه»، أي: اجعلنها الشعار الذي يلي الجسد، كما أن المعنى في البيت: لبسن الفرند الخسرواني مشاعر، فوقه المفوف من خزّ العراق، أي:
جعلنها الشعار.
فقولهم: شعرت ضرب من العلم مخصوص. فكل مشعور به معلوم، وليس كل معلوم مشعورا به. ولهذا لم يجز في وصف الله تعالى كما لم يجز في وصفه درى، وكان قول الله تعالى في وصف الكفار: ولكن لا يشعرون [البقرة/ 12] أبلغ في الذم للبعد عن الفهم من وصفهم بأنهم، لا يعلمون لأنّ البهيمة قد تشعر من حيث كانت تحسّ. فكأنّهم وصفوا بنهاية الذهاب عن الفهم.
وعلى هذا قال سبحانه: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون
[الحجة للقراء السبعة: 1/263]
[البقرة/ 154] فقال: (ولكن لا تشعرون) ولم يقل ولكن لا تعلمون، لأنّ المؤمنين إذا أخبرهم الله تعالى بأنّهم أحياء علموا أنّهم أحياء، فلا يجوز أن ينفي الله تعالى العلم عنهم بحياتهم، إذ كانوا قد علموا ذلك بإخباره إيّاهم وتيقّنوه، ولكن يجوز أن يقال: ولكن لا تشعرون، لأنّهم ليس كل ما علموه يشعرونه، كما أنه ليس كل ما علموه يحسّونه بحواسّهم، فلمّا كانوا لا يعلمون بحواسّهم حياتهم، وإن كانوا قد علموه بإخبار الله إيّاهم، وجب أن يقال: لا تشعرون، ولم يجز أن يقال: ولكن لا تعلمون على هذا الحدّ.
ومن ذلك النقه. قال أبو زيد: نقه عنّي القول نقها ونقوها: إذا فهم عنك القول، قال: وتقول: نقه الرجل من مرضه ينقه نقوها إذا برأ.. وهذا لا يجوز في وصف القديم كما أن الفهم الذي فسّر أبو زيد به النقه لا يجوز في وصفه.
[بسم الله]
الإعراب
قوله تعالى: سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر، ومثل ذلك قولهم: ما أبالي أشهدت أم غبت، وما أدري أأقبلت أم أدبرت. وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام وإن كان خبرا لأن فيه
[الحجة للقراء السبعة: 1/264]
التسوية التي في الاستفهام، ألا ترى إذا استفهمت فقلت:
أخرج زيد أم أقام؟ فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، كما أنّك إذا أخبرت فقلت: سواء عليّ أقعدت أم ذهبت، فقد سويت الأمرين عليك، فلمّا عمّتهما التسوية، جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام، لمشاركته له في الإبهام. فكلّ استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما.
ومثل التسوية- في هذا- الاختصاص في نحو: أنا أفعل كذا أيّها الرجل، واللهم اغفر لنا أيّتها العصابة، لمّا كنت مختصّا نفسك والعصابة في هذا الكلام جرى عليه لفظ النداء من حيث أردت الاختصاص الذي أردته في النداء، كما جرى الاستفهام على التسوية فمن ثمّ صار كل منادى مختصّا، وإن لم يكن كل مختص منادى.
ولا يجوز في هذا الموضع (أو) مكان (أم)، لأن المعنى: سواء عليّ هذان، ألا ترى أنك لو قلت: سواء عليّ القيام والقعود، لم يجز إلّا الواو.
وكذلك لو أظهرت المصدرين اللذين دلّ عليهما لفظ الفعلين المذكورين في قوله تعالى: اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم [الطور/ 16] لقلت: سواء عليكم الجزع والصبر، ولم تقله بأو، كما قال تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/265]
سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25] ولو قلت: سواء عليّ العاكف أو البادي، أو سواء عليّ الجزع أو الصبر، لكان المعنى سواء عليّ أحدهما، وسواء عليّ أحدهما كلام محال، لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين فصاعدا.
فإن قلت: فقد قال أبو عمرو: إن الأصمعي أنشدهم لرجل من هذيل:
وكان سيان ألّا يسرحوا نعما... أو يسرحوه بها واغبرّت السّوح
فأنشدهموه بأو، وسيّان مثل سواء، ألا ترى أنه لا يستقيم زيد أو عمرو سيان [كما لا يستقيم مع سواء ولا تكون أو بمنزلة الواو. فالقول في ذلك أن هذا على ظاهر الاستحالة التي ذكرنا، وإنما استجاز هذا الكلام بأو لأنّه يراه يقول: جالس الحسن أو ابن سيرين، فيجوز له أن يجالسهما ويسمع: ولا تطع منهم آثما أو كفورا [الإنسان/ 24] فلا يطيعهما، كما أنه إذا قيل له ذلك بالواو كان كذلك. فلما رآها
[الحجة للقراء السبعة: 1/266]
تجري مجرى الواو في نحو هذه المواضع أجراها مجراها مع سواء وسيّان. فهذا كلام حقيقته ما ذكرنا، والذي سوّغه عند قائله ما وصفنا. وكذلك قول المحدث:
سيّان كسر رغيفه... أو كسر عظم من عظامه
فأمّا قوله: مررت برجل سواء درهمه، وهذا درهم سواء، فمعناه تامّ فهذا يجوز الاقتصار به على اسم مفرد] وكذلك قوله تعالى: ولمّا بلغ أشدّه واستوى [القصص/ 14] أي: كمل وتمّ. فهذا الفعل مثل هذا الاسم، ولو كان من التسوية بين الشيئين لم يستغن بفاعل كما لم يستغن سواء عن اثنين في نحو: سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25].
فأمّا قوله تعالى: ذو مرّةٍ فاستوى وهو بالأفق الأعلى [النجم/ 6] فمعناه: استقام، كقوله: بلغ أشدّه واستوى [القصص/ 64]. ولا تكون المقتضية لفاعلين، لأن الضمير المرفوع لم يؤكد في الآية. فقوله: وهو بالأفق الأعلى جملة
[الحجة للقراء السبعة: 1/267]
في موضع الحال. ولم يثنّ سواء كما ثني سيّان، وإن كانوا قد كسّروه في قولهم: سواسية.
وحكى السكري عن أبي حاتم إجازة تثنية سواء، ولم يصب ابن السجستاني في ذلك، لأنّ أبا الحسن وأبا عمر زعما أن ذلك لا يثنى، كأنّهم استغنوا بتثنية سيّ عن تثنية سواء، كما استغنوا عن ودع بترك. وعلى ما قالا جاء التنزيل في قوله: سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25] وقوله: اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم [الطور/ 16] فسواء في الآية مرتفع بالابتداء، وما بعده مما دخل عليه حرف الاستفهام في موضع الخبر، وبالجملة في موضع رفع بأنّها خبر إنّ.
فأمّا قوله: (لا يؤمنون) فيستقيم أن يكون استئنافا، ويستقيم أن يكون حالا من الضمير المنصوب على حدّ: معه صقر صائدا به غدا وبالغ الكعبة [المائدة/ 95] ويستقيم أن تجعله خبر إنّ، فيكون في موضع رفع، ولا يكون لقوله: (سواء عليهم) وما بعده موضع من الإعراب، كما حكمنا على موضعه بالرفع فيما تقدم، لأنّه الآن يصير اعتراضا بين الخبر والاسم، ألا ترى أنه [مما] يؤكد امتناعهم من الإيمان. وهذه الآية ينبغي أن تكون خاصّة لقوم بعينهم، لأن كثيرا من الكفّار قد آمنوا.
فإن قلت: لم زعمتم أن (سواء) يرتفع بالابتداء على ما عليه التلاوة، وأنت إذا قدّرت هذا الكلام على ما عليه
[الحجة للقراء السبعة: 1/268]
المعنى فقلت: سواء عليهم الإنذار وتركه كان (سواء) خبر ابتداء مقدّما، فهلا قلت فيها ذلك أيضا قبل تقدير الكلام بالمعنى؟.
فالقول في هذا أن (سواء) يرتفع حيث ذكرنا بالابتداء، وإن كان في قوله: سواء عليهم الإنذار وتركه يرتفع بأنّه خبر مقدم. وذلك أنه لا يخلو في قولك: سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] من أن يرتفع بأنه مبتدأ أو خبر مبتدأ.
فإن رفعته بأنه خبر لم يجز، لأنّه ليس في الكلام مخبر عنه، فإذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبرا، لأنّ الخبر إنّما يكون عن مخبر عنه. فإذا فسد ذلك ثبت أنّه مبتدأ.
وأيضا فإنّه لا يجوز أن يكون خبرا، لأنّه قبل الاستفهام، وما قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيّز الاستفهام، فلا يجوز إذن أن يكون الخبر عمّا في الاستفهام متقدّما على الاستفهام.
فإن قلت: كيف جاز أن تكون الجملة التي ذكرتها من الاستفهام خبرا عن المبتدأ وليست هي هو ولا له ذكر فيها؟
فالقول في ذلك: أنّه كما جاز أن يحمل المبتدأ على المعنى فيجعل خبره ما لا يكون إيّاه في المعنى، ولا له فيه ذكر، كذلك جاز في الخبر لأنّ كلّ واحد منها يحتاج أن يكون صاحبه في المعنى. فما جاز في أحدهما من خلاف ذلك جاز في الآخر، وذلك قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/269]
تراه». ألا ترى أن خيرا خبر عن تسمع، وكما أخبر عنه كذلك عطف عليه في قولهم: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، والفعل لا يعطف عليه الاسم كما لا يخبر عنه، إلّا أنّ المعنى لمّا كان على الاسم استجيز فيه الإخبار عنه والعطف عليه، وجاز دخول لا على الاسم من غير تكرير، كما جاز في قولهم: هذان لا سواء، لأن الخبر لم يظهر في الموضعين جميعا.
ونظير ما في الآية من أن خبر المبتدأ ليس المبتدأ ولا له فيه ذكر ما أنشده أبو زيد:
فإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا... على شجوه إلّا بكيت على عمرو
فإن قلت: أيجوز أن توقع الجملة التي من الابتداء والخبر موقع التي من الفعل والفاعل في نحو: سواء عليّ أقمت أم قعدت، فتقول: سواء علي أدرهم مالك أم دينار، وما أبالي أقائم أنت أم قاعد؟
فالقول في ذلك أنّ أبا الحسن يزعم أنّ ذلك لا يحسن.
قال: وكذلك لو قلت: ما أبالي أتقوم أم تقعد؟ لم يحسن، لأنّه
[الحجة للقراء السبعة: 1/270]
ليس معه الحرف الذي يجزم.
ومما يدلّ على ما قال أن ما جاء في التنزيل من هذا النحو جاء مع المثال الماضي، كقوله تعالى: سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا [إبراهيم/ 21] وقوله: سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم [المنافقون/ 6] وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] وقال:
سواء عليك اليوم أنصاعت النّوى... بخرقاء أم أنحى لك السيف ذابح
وقال:
ما أبالي أنبّ بالحزن تيس... أم لحاني بظهر غيب لئيم
فهذا الكلام، وإن كان قد جرى عليه حرف الاستفهام
[الحجة للقراء السبعة: 1/271]
للتسوية فهو خبر، فلمّا كانوا قد حذفوا حرف الجزاء واستمرّ حذفه لطول الكلام حيث لو أظهر لم يمتنع- وذلك نحو لأضربنّه ذهب أو مكث- لزم حذف الحرف هنا لإغناء حرف الاستفهام عنه لمقاربة الشرط الاستفهام في اجتماعهما في أنّهما ليسا بخبر، وأنّهما يقتضيان الجواب، وبعض الحروف قد يغني عن بعض، ألا ترى أنّ أن لم تظهر في قولهم: ما كان زيد ليقوم، وأنّ أن قد أغنى عن اللام الجارة في نحو: أتيتك أن احتزّ مودة زيد، ونحو ذلك، وكذلك حروف العطف إذا نصب بها، فكذلك حروف المجازاة لمّا كانوا قد حذفوه في قولهم: لأضربنّه ذهب أو مكث، واستمرّ حذفه مع أنّه [لا حرف] يكون بدلا منه كان حذفه في باب: سواء وما أبالي، للزوم ما ذكرنا من الحرف له أولى.
ولم يجز أن يقع موقع التي من الفعل والفاعل التي من الابتداء والخبر، كما لم يجز ذلك في قوله: لأضربنّه ذهب أو مكث، وغير ذلك من المواضع التي يراد فيها الجزاء، ولم يقع إلّا التي من الفعل والفاعل، لتدلّ على الجزاء، كما لم تقع إلّا التي من الفعل والفاعل في نحو: عسى زيد أن يقوم، وكاد يذهب، وبابهما. ولم يستعملوا المصدر ليجري ذكر المثال الذي يدل على الزمان في الكلام لما أرادوا من تقريبه، وإن كان المصدر غير ممتنع استعماله هاهنا، كما قالوا:
[الحجة للقراء السبعة: 1/272]
«عسى الغوير أبؤسا»
فإذا كانوا قد امتنعوا من استعمال الاسم والمصدر هنا، مع أن المعنى في استعماله غير فاسد، فألّا يستعمل حيث معناه الجزاء ولا يصح المعنى في غير الفعل أجدر.
فأمّا قوله: سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون [الأعراف/ 193] فإنّما وقع أم أنتم صامتون في موضع: أم صمتّم: وجاز ذلك هنا لتقدم التي من الفعل والفاعل، فحسن لتقدّمها أن توقع بعدها التي من الفعل والفاعل، فحسن لتقدّمها أن توقع بعدها التي من الابتداء والخبر، كما جاز ذلك في الجزاء، لأنّها هنا بعد حرف، كما أنّه ثمّ بعد الفاء أو إذا. ولو لم يتقدم «أدعوتموهم» كما أنّه لو لم يتقدم الشرط في نحو: إن تأتني فلك درهم، أو: فعمرو مكرم، ونحو ذلك لم يجز وقوع التي من الابتداء والخبر موقع التي من الفعل والفاعل.
ومثل ذلك في وقوع التي من اسمين موقع الفعل والفاعل
[الحجة للقراء السبعة: 1/273]
قوله: هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ [الروم/ 28] فقوله: فأنتم فيه سواءٌ واقعة موقع التي من الفعل والفاعل، كأنّه قال: هل لكم مما ملكت أيمانكم شركاء فيساووكم، أي: فكما لا يساويكم مماليككم في أموالكم فيكونون فيها أمثالكم، كذلك لا تسوّوا ما اتخذتموه آلهة بمن يملكهم، وبمن خلقهم وبرأهم. وجاز ذلك لوقوعها بعد الحرف، وأنّ تقدم الاستفهام في قوله: «هل لكم» يضارع تقدم الشرط، فلذلك جاز هذا. وإذا كان الموضع موضع جزاء، ثبت أنّ وقوع المضارع لا يحسن في نحو: سواء عليّ أتقوم أم تذهب، كما لا يحسن في قوله: لأضربنه يمكث أو يذهب، على حدّ لأضربنه ذهب أو مكث.
وأمّا التقاء الهمزتين في: أأنذرتهم وتحقيقهما: فمن حجّة من حقّقهما أن يقول: إن الهمزة حرف من حروف الحلق، فكما اجتمع المثل مع مثله مع سائر حروف الحلق، نحو فهّ وفههت وكعّ وكععت، كذلك حكم الهمزة.
وممّا يجوّز ذلك ويسوّغه أن سيبويه زعم أن ابن أبي إسحاق كان يحقق الهمزتين وأناس معه. قال سيبويه: وقد تتكلم ببعضه العرب وهو رديء.
[الحجة للقراء السبعة: 1/274]
ومما يقوّي ذلك من استعمالهم له قولهم: رأّس وسآل وتذأّبت الريح ورأّيت الرجل. فكما جمع الجميع بينهما إذا كانتا عينين، كذلك يجوز الجمع بينهما في غير هذا الموضع.
وممّا يقوي ذلك أنّهم قد أبدلوا منها غيرها في نحو: يهريق وهيّاك، كما أبدلوها من غيرها في نحو رأيت رجلأ وهذه حبلأ في الوقف. فكما جرت مجرى سائر الحروف المعجمة في إبدالها من غيرها وإبدال غيرها منها، كذلك تكون سبيلها في اجتماعها مع مثلها، كما اجتمع سائر الحروف مع أمثالها.
والحجّة لمن قال: (أانذرتهم)، فلم يجمع بين الهمزتين وخفّف الثانية أن يقول: إن العرب قد رفضت جمعهما في مواضع من كلامهم. من ذلك أنّهم لمّا اجتمعتا في آدم وآدر
[الحجة للقراء السبعة: 1/275]
وآخر، ألزموا جميعا الثانية البدل، ولم يحقّقوا الثانية، ولما كسّروا وحقّروا جعلوا هذه المبدلة بمنزلة ما لا أصل له في الهمز فقالوا: أواخر وأويخر، فأبدلوا منها الواو، كما أبدلوها ممّا هو ألف لا يناسب الهمزة، نحو: ضوارب وضويرب. ففي هذا دلالة بيّنة على رفضهم اجتماعهما. ألا ترى أنهم لم يرجعوها في التحقير والتكسير كما رجعوا الواو في ميقات وميعاد والياء من موسر في قولهم: مواقيت ومياسير. ففي ذلك دلالة بيّنة على رفضهم لجمعهما.
ومن ذلك أنّا لم نجد كلمة عينها همزة ولامها كذلك، كما وجدنا ذلك في سائر أخوات الهمزة من الحلقية، كقولهم: مهاه وفهّ ويدعّ اليتيم ومحّ وألحّ وضغيغة ومخّ. فأن لم يجمعوا بين الهمزتين في الموضع الذي جمع فيه بين أخواتها، وكرّرت، دلالة على رفضهم لجمعهما. وإذا لم يتوال ذلك في بنات الثلاثة، فألّا يتوالى ذلك في بنات الأربعة أولى.
فأمّا نحو: نأنأ وطأطأ وبأبأ الصبيّ أباه، فقد حجز الحرف بينهما، وإنّما الذي ينكر تواليهما من غير أن يحجز بينهما شيء. ومن ثم قال أبو الحسن في بناء مثل قمطر من
[الحجة للقراء السبعة: 1/276]
قرأت: قرأي، فلم يكرّر الهمزة، كما تكرّر سائر اللامات، نحو جلبب وقعدد وعوطط. ومن ذلك أنهم ألزموا باب رزيئة وخطيئة عمّا يؤدي إلى اجتماع همزتين فيه، فقالوا: خطايا ورزايا. فلو كان لاجتماعهما عندهم مساغ ما رفضوا ذلك الأصل، كما أنّه لو كان لتحرك العينات في نحو: قال وباع مجاز ما ألزموهما القلب.
فإن قال: فقد حكي عن بعضهم: خطائىء، بتحقيق الهمزتين فذلك يجري مجرى الأصول المرفوضة، نحو:
.... ضننوا
..... والأظلل
[الحجة للقراء السبعة: 1/277]
ولو جاز الاعتداد بذلك وبما أشبهه لجاز أن يقال في تكسير مطية: مطائي لقول بعضهم سماء، فإذا كانوا قد رفضوا ذلك في حال السعة والاختيار- مع أنّه أسهل من اجتماع الهمزتين- فأن يرفض اجتماع الهمزتين أجدر.
ومن ذلك أنهم إذا بنوا اسم فاعل من ناء وساء وشاء وجاء قالوا: شاء وناء، فرفضوا الجمع بينهما في هذا الطرف- كما رفضوه أولا في آدم وآخر- إما بالإبدال وإما بالقلب كما يقوله الخليل، وأخذوا- على قول النحويين غير الخليل - بما رفضوه في غيره من توالي الإعلالين. فلولا أنّ اجتماعهما عندهم أبعد من توالي الإعلالين لم يأخذوا بتواليهما المرفوض من كلامهم في هذا الموضع، كما أن إخلاء الفعل من الفاعل لولا أنّه أبعد عندهم من الإضمار قبل الذكر لم يأخذوا بالإضمار قبل الذكر في مثل: نعم رجلا، وضربني وضربت زيدا لمّا كان يلزمهم في هذه المواضع إخلاء الفعل من الفاعل.
ومن ذلك أن من قال: هذا فرجّ وهو يجعلّ، فضاعف
[الحجة للقراء السبعة: 1/278]
في الوقف حرصا على البيان لم يضاعف نحو النبأ والرشإ، لكنه رفض هذا الضرب من الوقف وما كان يحرص عليه من البيان، لمّا كان يلزمه الأخذ بما تركوه، والاستعمال لما رفضوه: من اجتماع الهمزتين.
ومن ذلك أنّ الهمزة إذا كانت مفردة غير متكررة كرهها أهل التخفيف حتى قلبوها أو حذفوها، لئلا يلزمهم تحقيقها، وقد وافقهم في بعض ذلك أهل التحقيق، كموافقتهم لهم في يرى. فلمّا كرهوا ذلك في الإفراد وجب إذا تكررتا ألا يجوز إلا التغيير، ألا ترى أنّ الواو المفردة المضمومة لمّا كنت مخيّرا في تصحيحها وقلبها، ثم انضم إليها أخرى، لزم قلبها وامتنع تصحيحها الذي كان يجوز فيها قبل التكرر، فكذلك الهمزة إذا انضمت إليها أخرى، لزم رفضهما وامتنع جمعهما، كما كان ذلك في الواوين. فكما لم يجمع أحد بين هاتين الواوين كذلك يجب ألا يجمع بين الهمزتين.
ومن ذلك أنّ ناسا- إذا اجتمعتا من كلمتين- فصلوا بينهما بالألف في نحو:
أاأنت زيد الأرانب
كما فصلوا بين النونات في نحو اخشينانّ. فكما ألزموا الفصل بين النونات بالألف، كذلك يلزم في آأنت لئلا تجتمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/279]
الهمزتان. بل ذلك في الهمزتين ينبغي أن يكون ألزم، لما قدّمنا لرفضهم لهما وجمعهم في التضعيف بين أكثر من حرفين نحو ردّد وشدّد. فإذا كانوا قد ألزموا النون في اخشينان [الفصل] بين ما يجتمع مثله فأن يلزموها بين ما رفضوا الجمع بينهما أجدر.
فهذه الأشياء تدلّ على رفض اجتماع الهمزتين في كلامهم.
فأمّا جمعهما وتحقيقهما في (أأنذرتهم) فهو أقبح من تحقيقهما من كلمتين منفصلتين، نحو قرأ أبوك ورشأ أخيك، لأنّ الهمزة الأولى من (أأنذرتهم) تنزّل منزلة ما هو من الكلمة نفسها، لكونها على حرف مفرد، ألا ترى أنّهم قالوا: لهو وفهو، ولهو خير الرّازقين [الحج/ 58] ولهي، فخفّفوا ذلك كله، كما خفّفوا عضدا فقالوا: عضد، فكذلك الأولى في (أأنذرتهم) لمّا لم تنفصل من الكلمة صارت بمنزلة التي في آخر، كما نزّلت الحروف المفردة التي ذكرتها منزلة فاء الفعل في عضد وفخذ.
فأمّا إذا كانتا من كلمتين فاجتماعهما في القياس أحسن من هذا، ألا ترى أن المثلين إذا كانا في كلمة نحو: يردّ ويعضّ، لا يكون فيهما إلا الإدغام؟ ولو كانا منفصلين نحو: يد داود لكنت في الإدغام والبيان بالخيار. فعلى هذا تحقيق
[الحجة للقراء السبعة: 1/280]
الهمزتين في (أأنذرتهم) وما أشبهه أبعد منه في الكلمتين المنفصلتين.
وممّا يقوّي ترك الجمع بين الهمزتين أنّهم قد قالوا في جمع ذؤابة: ذوائب، فأبدلوا من الهمزة التي هي عين واوا في التكسير كراهة للهمزتين مع فصل حرف بينهما.
فإذا كرهوهما مع فصل حرف بينهما حتى أبدلوا الأولى منهما فأن يكرهوهما مجتمعتين غير مفصول بينهما بشيء أجدر. وإذا كان الجمع بينهما في: (أأنذرتهم) من البعد ما أريتك فالجمع بينهما في أئمة أبعد، لأنّ الهمزتين لا تفارقان الكلمة، وهمزة الاستفهام قد تسقط في الإخبار وغيره. فكلّما كانتا أشد لزوما للكلمة كان التحقيق منهما أبعد.
وممّا يدلّ على ضعف جمع الهمزتين وأن مذهب الجمهور من العرب رفضه عزّتها في باب أجأ وآءة وإنّما قلّ ذلك من حيث لم يستجيزوا اجتماع الهمزتين فأجروا نحو أجأ ذلك المجرى، لمّا كان الفصل بحرف واحد قد جرى في كلامهم مجرى غير الفصل. وذلك نحو قولهم هو ابن عمي دنيا وقنية وعلية وعليان، وهما من علوت. وكذلك رفضوا افعل من حيث رفضوا فعل، وإن كان الفصل في افعل قد وقع بالحرف، فلما لم يعتد بالحرف الفاصل وقلبت الكسرة الواو
[الحجة للقراء السبعة: 1/281]
ياء، كما قلبته في ثيرة وسياط، ولم يكن بالفصل اعتداد، كذلك لم يكن الفصل بالحرف في نحو أجأ فصلا، فرفض ذلك كما رفض التحقيق في جاء ونحوه.
فأمّا تحرك الجيم في أجأ وسكون الحرف في دنيا فإن الحركة في هذا النحو قد لا يعتدّ بها لقلّتها، ألا ترى استجازتهم لحذفها في الزحاف؟.
ومثل دنيا في أن الحرف الفاصل لم يعتدّ به قولهم:
معديّ في معدوّ، ومرضيّ ومسنيّة. ومثله: صيّم وقيّل. ونحو ذلك، ومثله: قائل وبائع، جعل الحرفان كأنّهما وقعا طرفا حيث كان الفاصل بينهما وبين الطرف حرفا. ومثله: أوليّاء أوقعت الألف التي آخرا قبل الآخر بحرف لمّا كان الفاصل بينه وبين الطرف حرفا واحدا. ومثله: أوائل وعيائل، ولو كان الفاصل حرفين كطواويس لم يعلّ. فكما أنّ الحرف المفرد في هذه المواضع لم يفصل، كذلك في باب أجأ لم يفصل، فقلّ ذلك لمّا كان الحرف المفرد في هذه المواضع غير معتدّ به. وإذا لم يعتدّ به صارت الهمزتان كأنّهما قد التقيا، والتقاؤهما ممّا قد رفضوه، فكذلك رفضوا ما كان في حكم التقائهما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/282]
فإن قلت: إن سيبويه قد ذهب في ألاءة وأشاءة ونحوهما إلى أن اللام يجوز أن تكون همزة، وقد جاء من ذلك حروف. قيل: لم يكن هذا مثل أجأ، للفصل بالزيادة، ألا ترى أنّ الفاصل الذي لم يعتدّ في أوائل لمّا انضم إليه حرف آخر في طواويس اعتدّ به فصلا، وإن كان زائدا فلم يعلّ الحرف، فكذلك الفصل هاهنا لمّا وقع بالزيادة لم يمتنع الحكم عنده بأن اللام همزة، كما امتنع حيث كان الفصل حرفا واحدا. وقد وجدت الزيادة تسوّغ في تألف الحروف ما لولا مكانها لم يسغ.
ألا ترى أنّه ليس مثل قنر بلا فاصل بين النون والراء وقد قالوا: شنّير وقالوا: الشّنار، وقالوا: سنّور وسنوّر فائتلف لفصل الزيادة ما لم يكن يأتلف لولا فصلها؟ فكذلك فصل الزيادة بين الهمزتين في ألاءة وأشاءة فيما ذهب إليه.
وجاء ذلك في طأطأ ونأنأ ودأدأ للفصل الواقع بينهما، ولأنّ ما يعرض في الثلاثة من كثرة التصرّف لا يعرض في هذا الباب.
[الحجة للقراء السبعة: 1/283]
واعلم أن قول سيبويه: ليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتحقّقا، وقوله في باب الإدغام: إن ابن أبي إسحاق وناسا معه يحقّقون الهمزتين وقد تكلّم ببعضه العرب وهو رديء، ليس على التدافع ولكن لأنّه لم يعتدّ بالرديء، أو يكون لم يعتد بالتقاء المحقّقتين لقلّة ذلك بالإضافة إلى ما خفّف إذا اجتمعا. وقد عمل ذلك في أشياء نحو انقحل فعلى هذا يحمل ذلك أيضا من قوله.
قالوا: فلمّا رأيناهم قد رفضوا اجتماع الهمزتين في هذه المواضع، لم نجمع بينهما وخفّفنا الثانية، لأنّ في تخفيفها تقريبا من الألف، ألا ترى أنّ الهمزة إذا كانت مبتدأة لم تخفف لأنّ في تخفيفها تقريبا من الساكن؟ فكما أن الساكن لا يبتدأ به كذلك ما قرب من الساكن. فكما جرت مجرى الساكن في تقريبهم إيّاها منه، كذلك تجرى مجراه إذا خففنا الثانية، فتصير بعد الأولى كالألف بعدها. فكما لم تكره الألف بعدها في نحو أادم وأاخر، كذلك المخفّفة بعدها في: (أانذرتهم) لا تكره بعدها، كما تكره إذا حقّقت لما أرينا، مما دلّ على رفض العرب الجمع بينهما محقّقتين.
وحجة من فصل بين الهمزتين بألف وخفّف الهمزة الثانية
[الحجة للقراء السبعة: 1/284]
مع الفصل بينهما بالألف. وهو الثّبت عن أبي عمرو عندنا، لأن سيبويه زعم أن ذلك هو الذي يختاره أبو عمرو.
وقد قال أحمد بن موسى: إن خلفا روى عن أبي زيد ذلك في اختلاف الهمزتين، نحو (آينّكم) و (آنزل) أنّه بألف بين الهمزتين وتليين الثانية ولم يفصل سيبويه في حكايته عن أبي عمرو بين المتفقتين والمختلفتين، ألا ترى أنّه قال: وأما أهل الحجاز فمنهم من يقول آئنك وآأنت [المائدة/ 116]، ثم قال: وهي التي يختار أبو عمرو، فلم يفصل بينهما. وسيبويه وأبو زيد أضبط لمثل هذا من غيرهما.
من حجّته أن يقول: إنّي أدخلت الألف بينهما وإن جعلت الثاني بين بين، لأنّها إذا كانت على هذه الصفة فهي في حكم المتحرك، وتخفيفي إياها بأن جعلتها بين الألف والهمزة ليس يخرجها عن أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف، ألا ترى أنّها إذا كانت مخفّفة في الوزن مثلها إذا كانت محققة؟ ولولا ذلك لم يتّزن قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/285]
أأن رأت رجلا أعشى
لأنّه كان يجتمع فيه ساكنان وكذلك قول الآخر:
كل غراء إذا ما برزت
ويدلّ على أنّ المخفّفة من الهمزتين في حكم المحقّقة عند العرب أنّهم أبدلوا الهمزة الثانية إبدالا في المواضع التي اجتمعت فيها همزتان في كلمة واحدة ولم يخفّفوا الثانية. وذلك نحو: آدم، وجاء، وخطايا. ألا ترى أن آدم لو كان قلبها فيه على حدّ القلب في رأس وفأس ورأي لكنت إذا كسّرته رددت الهمزة في التكسير، كما أنّك لو كسّرت فاسا وراسا ورايا لقلت: أرؤس وأرآء. فلو كنت في راي إذا خفّفت إنّما خففت على حد التخفيف في آدم لقلبت الهمزة في التكسير ياء أو واوا، فقلت: أرواء أو أرياء، ولكنت تقول إذا جمعت رايا على فعول رييّ فتقلبها ياء، كما قلبوها في أيمّة ياء لمّا تحركت
[الحجة للقراء السبعة: 1/286]
بالكسر، ألا ترى أنّك إذا قلبتها في ذئب وبئر ياء للكسرة التي قبلها، فكذلك تقلبها ياء في أيمّة للكسرة التي عليها. وقال أبو زيد في جمع رأي أرآء ورئيّ بتحقيق الهمز فيهما وأنشد غيره:
ولا يشارك في أرآئه أحدا
وقال الراعي في جمع نؤي:
وأنآء حيّ تحت عين مطيرة... عظام القباب ينزلون الروابيا
وكذلك الهمزة في رأيت جائيا لم تقلبها كما تقلبها في تخفيف المئر إذا قلت: مير، وإن اتفق اللفظتان كما اتفق اللفظ في بريّة وخطيّة، وإن كان بريّة قلبها للإبدال غير التخفيف، وقلب خطيّة للتخفيف، كما كان لفظها في رال وباس إذا خففت كلفظها في آدم، فكذلك قولك: رأيت جائيا وشائيا وسائيا ونائيا، لا يكون القلب فيه على حدّ مير وذيب. ولو كان كذلك لجعلتها بين بين إذا قلت مررت بجاء، كما أنّك لو قلت: مررت برجل جئز لجعلتها بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/287]
بين، وجعلتها كذلك في موضع الرفع إذا قلت: هذا جاء في قول سيبويه الذي زعم أنّه قول العرب، والخليل، وقلبتها ياء في قول أبي الحسن، فقلت: جائي، فتحرّك الياء بالضمّ ولا تحذفها. فلمّا لم يكن على واحد من هذين الأمرين علمت أنّهم قلبوها قلبا. فلمّا لم يخفّفوا الهمزة في هذه المواضع التي ألزمت القلب فيها لاجتماع الهمزتين، ولكن قلبوها قلبا، علمنا أن المخفّفة التخفيف القياسي في حكم المحقّقة عندهم إذ رفضوا المخفّفة التي بين بين في المواضع التي أرينا، مع المحقّقة، كما رفضوا المحقّقتين. فإذا رفضوها رفضها لم يجز أن يجتمعا، كما لم يجز أن يجتمع المحقّقتان، وإذا لم يجز اجتماعهما مخفّفة الآخر منهما كما لم يجز اجتماعهما محقّقتين في (أأنذرتهم) لزم ألّا يجمع بينهما، ولا سبيل إلى ترك الجمع بينهما إلّا بأن تحذف إحداهما أو تقلب أو يفصل بينهما بالحاجز الذي هو الألف.
فلما لم يجز الحذف في واحد منهما ولا القلب لأنّه ليس من المواضع التي تقلب فيها الهمزة، ثبت وجوب الفصل بينهما بالألف، ووجب إلزام الفصل بينهما بها، إذ كان الجميع قد ألزموا الفصل بها بين الأمثال في قولهم: اخشينانّ، مع أن هذه الأمثال قد جمعوا بينهن في ردّد وشدّد وقضّض، وما أشبه ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/288]
فإذا ألزموا الفصل بها بين الأمثال التي لم يرفضوا الجمع بينها في نحو: ما ذكرنا فأن يلزموا الفصل بها بين ما رفضوا الجمع بينه من الهمزتين والهمزات أولى. وإذا كان كذلك ثبت أن أولى هذه الوجوه وأصحّها في مقاييس العربية الفصل بينهما بالألف. وإذا لزم الفصل ففصل خفّف الثانية على لغة أهل الحجاز، كما خفّفوها في نحو: هباءة وقراءة، ألا ترى أن الألف التي للفصل بمنزلة التي في هباءة، وأنّهم خفّفوا الهمزة المفتوحة بعدها، كما خفّفوا المكسورة والمضمومة بعدها في نحو المسائل وهذا جزاء زيد؟ وما رواه أبو زيد وسيبويه والعباس بن الفضل عن أبي عمرو من إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين المختلفة حركتاهما، نحو: آأنزل وآألقى، كإلحاقه إياها بين الهمزتين المتّفقة حركتاهما؛ نحو (آأنذرتهم) أثبت في القياس من رواية من حكى عنه الفصل، ألا ترى أن هذه الألف إنما فصل بها كراهة لاجتماع الهمزتين، وأنّ الحركة الفاصلة بينهما، وهي حركة الهمزة الأولى سواء كان فتحة أو ضمة أو كسرة. فأمّا حركة الهمزة الثانية فبعد التقاء الهمزتين. فإذا كان كذلك فلا فصل بين (أأنذرتهم) وأ ألقي الذّكر [القمر/ 25] وأ إنّكم لتشهدون [الأنعام/ 19] من طريق القياس.
وإذا اختلفت الرواية وكان أحد الفريقين أضبط، وعضد الضبط والثبت القياس، وموافقة الأشباه، كان الأخذ بما جمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/289]
هذين الوصفين أولى وأرجح. وما روي عن أبي عمرو من قوله: (آأنذرتهم) إنّما هو عندنا على الاستئناف دون الدرج.
ولو أدرج القراءة فقال: (سواء عليهم أأنذرتهم) لوجب في قياس قول أبي عمرو الذي حكاه عنه سيبويه أن يحذف الهمزة الأولى من (أأنذرتهم) لسكون ما قبلها، ويلقي حركتها على الميم، فإذا فعل ذلك لزم أن يحذف الألف التي كانت مجتلبة للفصل، ويخفّف الثانية، كما كان خفّفها وقد فصل بينها وبين الأولى بالألف، فيجعلها بين بين فيقول: (عليهم أأنذرتهم).
وكذلك قياس قوله في: (أإنّكم لتشهدون) أن يقول:
قل أإنكم لتشهدون [الأنعام/ 19] ألا ترى أنّك لو حذفت النون الأولى من اخشينانّ فقلت: اخشينّ يا هذه أو اخشينّ يا هذا لحذفت الألف، لزوال ما أردت الفصل بها بين النونات؟
فإن قلت: فكيف يستقيم له أن يحذف حرفا قد كان أثبته، فإنّ ذلك لا يمتنع فيما يلزم من حكم الوصل والوقف، ألا ترى أنّك إذا وصلت قوله فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته قلت: (فليؤد الذيتمن أمانته)؟ وإن شئت همزت فحذفت الياء من الذي وهمزة الوصل، وقلبت الواو التي كانت في قولك:
[الحجة للقراء السبعة: 1/290]
اؤتمن ياء أو همزة فهذا أكثر في التغيّر مما ذكرت لك من حذف الألف المجتلبة للفصل ولا خلاف في ذلك بين الناس، فكذلك حكم حذف الألف المجتلبة للفصل بين النونات إذا وصلت الهمزة الأولى بما قبلها من الساكن). [الحجة للقراء السبعة: 1/291]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (من ذلك قراءة [أَنْذَرْتَهُم] بهمزة واحدة من غير مدٍّ.
قال أبو الفتح: هذا مما لَا بُدَّ فيه أن يكون تقديره: {أأَنْذَرْتَهُم}، ثم حذف همزة الاستفهام تخفيفًا؛ لكراهة الهمزتين، ولأن قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} لَا بُدَّ أن يكون التسوية فيه بين شيئين أو أكثر من ذلك، ولمجيء "أم" من بعد ذلك أيضًا، وقد حُذفت هذه الهمزة في غير موضع من هذا الضرب، قال:
فأصبحتُ فيهم آمنًا لا كمعشرٍ ... أتوني فقالوا: مِن ربيعة أم مضر؟
فيمن قال: أم؛ أي: أمن ربيعة أم مضر؟
ومن أبيات الكتاب:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيثُ ابن سهم أم شعيث ابن مِنْقَر
وقال الكميت:
طربتُ وما شوقًا إلى البِيض أطرب ... ولا لَعِبًا مني وذو الشيب يلعب؟
قيل: أراد: أوذو الشيب يلعب؟
وقالوا في قول الله سبحانه: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} أراد: أوتلك نعمة؟ وقال:
لعمرك ما أدري وإن كنتُ داريا ... بسبع رَمين الجمر أم بثمان؟
[المحتسب: 1/50]
يريد: أبسبع؟
وعلى كل حال فأخبرنا أبو علي قال: قال أبو بكر: حذف الحرف ليس بقياس؛ وذلك أن الحرف نائب عن الفعل وفاعله، ألا ترى أنك إذا قلت: ما قام زيد، فقد نابت "ما" عن "أَنفي"، كما نابت "إلا" عن "أَستثني"، وكما نابت الهمزة وهل عن أَستفهم، وكما نابت حروف العطف عن أَعطف، ونحو ذلك.
فلو ذهبتَ تحذف الحرف لكان ذلك اختصارًا، واختصار المختصر إجحاف به، إلا أنه إذا صح التوجه إليه جاز في بعض الأحوال حذفه؛ لقوة الدلالة عليه.
فإن قيل: فلعله حَذَف همزة [أَنْذَرْتَهُمْ] لمجيء همزة الاستفهام، فكان الحكم الطارئ على ما يشبه هذا من تعاقب ما لا يجمع بينه.
قيل: قد ثبت جواز حذف همزة الاستفهام على ما أرينا في غير هذا، فيجب أن يحمل هذا عليه أيضًا.
وأما همزة أفعل في الماضي، فما أبعد حذفها! فليكن العمل على ما تقدم بإذن الله). [المحتسب: 1/51]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
قرأ نافع وأبو عمرو آنذرتهم آنت يهمزان ثمّ يمدان بعد الهمزة وتقدير هذا أن تدخل بين ألف الاستفهام وبين الهمزة الّتي بعدها ألفا ليبعد المثل عن المثل ويزول الاجتماع فيخف اللّفظ والأصل {أأنذرتهم} ثمّ تلين الهمزة في أنذرتهم
وحجتهما في ذلك أن العرب تستثقل الهمزة الواحدة فتخففها في أخف أحوالها وهي ساكنة نحو كاس فإذا كانت تخفف وهي وحدها فإن تخفف ومعها مثلها أولى
وقرأ ابن كثير أنذرتهم بهمزة واحدة غير مطوّلة ومذهبه أن يحقّق الأولى ويخفف الثّانية وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة {أأنذرتهم} أأنت بهمزتين وحجتهم في ذلك أن الهمزة حرف من حروف المعجم كغيره من سائر الحروف صحا بالجمع بينهما نحو ما يجتمع في الكلمة حرفان مثلان فيؤتى بكل واحد منهما صحيحا على جهته من غير تغيير كقوله {أتمدونن بمال} و{لعلّكم تتفكرون} ونظائر ذلك فلا يستثقل اجتماعهما بل يؤتى بكل واحد منهما فجعل الهمزتين كغيرها من سائر الحروف
[حجة القراءات: 86]
قرأ أبو عمرو والكسائيّ وورش على ابصارهم وقنطار ودينار بإمالة الألف وحجتهم في ذلك أن انتقال اللّسان من الألف إلى الكسرة بمنزلة النّازل من علو إلى هبوط فقربوا الألف فإمالتهم إيّاها من الكسر ليكون عمل اللّسان من جهة واحدة وقرأ الباقون أبصارهم بغير إمالة وحجتهم في ذلك أن باب الألف هو الفتح دون غيره وأن ما قبل الألف لا يكون أبدا إلّا مفتوحًا لأنّه تابع لها فتركوها على بابها من غير تغيير). [حجة القراءات: 87]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (3- {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [آية/ 6].
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب ح- بهمزتين من غير مدٍّ؛ لأن الأولى همزة [التسوية] والثانية همزة أفعل فقد جاء على الأصل. وإن استثقل اجتماع الهمزتين فإن المثل قد جاء مع مثله في حروف الحلق نحو: فههت وكععت، وقد استعمل في الهمزة نفسها ذلك نحو: رأس وسأل وإن كان قليلًا.
ويحسن هذه القراءة أن الهمزة الأولى غير لازمة للكلمة؛ لأنها همزة [التسوية]، وما لا يلزم الكلمة فهو بمنزلة ما لا يعتد به.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو و- يس- عن يعقوب بهمزةٍ واحدةٍ ممدودة.
وذلك أنهم خففوا الهمزة الثانية لاجتماع الهمزتين؛ لأن اجتماعهما مرفوضٌ في كثير من كلام العرب، ألا ترى أن: آدم، وآخر، وألزموا الثانية منهما البدل ألبتة، وجعلوا الكلمة كأنها لا أًل لها في الهمزة حيث جمعوها
[الموضح: 241]
على: أواخر، وحقروها على: أويخر، ولم يعيدوها إلى الأصل في الجمع والتحقير، كما أعادوا فيهما غيرها إلى الأصل نحو: ميقات ومواقيت ومويقيت.
وفي ذلك دليلٌ على رفضهم اجتماع الهمزتين.
وفي تخفيف الهمزة الثانية تقريبٌ لها من الساكن؛ لأن المخففة هاهنا تجري مجرى الألف، فكام لا يُكره الألف بعد الهمزة في نحو: آدم فكذلك المخفف.
ابن مجاهد عن أبي عمرو، و- ش- عن نافع، بإدخال ألفٍ بين الهمزتين وإن خففت الثانية؛ لأن الهمزة وإن كانت مخففة فهي في حكم المتحركة؛ لأن تخفيفها هو جعلها بين الألف والهمزة وليس يخرجها ذلك من أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف، فكما أدخل الألف للفضل بين المثلين أو الأمثال نحو قوله:
4- هيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ = وبين النقا آأنت أم أمُّ سالم
[الموضح: 242]
وقولهم: اخشينا ونحوهما، فكذلك هاهنا بعد التخفيف). [الموضح: 243]

قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقول الله جلّ وعزّ: (وعلى أبصارهم غشاوةٌ)
اتفق القراء على "غشاوة" بالرفع، إلا ما روى الفضل عن عاصم (غشاوةً" نصبا.
قال أبو منصور: الرفع هي القراءة المختارة، ومن نصب فعلى إضمار فعل، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غشاوةً، كما قال الشاعر:
[معاني القراءات وعللها: 1/131]
يا ليت زوجك قد غدا... متقلّداً سيفاً ورمحا
أراد: متقلدا سيفا وحاملا رمحا.
وأنشد الفراء:
علفتها تبناً وماءً بارداً... حتى شتت همّالةً عيناها
أراد: وسقيتها ماء باردا، يعني: فرسه.
وأما قول الله جلّ وعزّ في سورة الجاثية: (وجعل على بصره غشاوةً)
فإن حمزة والكسائي قرآ (غشوةً) بغير ألف مع فتح الغين، وقرأ الباقون: (غشاوةً) بألف مع كسر الغين، وكل ذلك جائز، والمعنى واحد، وهو: ما يغشى البصر من الظلمة). [معاني القراءات وعللها: 1/132]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (5- وقوله تعالى: {وعلى أبصارهم غشاوة}
قرأ أبو عمرو: {وعلى أبصارهم} ممالة، ونحوه إذا كان في موضع الجر نحو القنطار والدينار والأبرار والفجار والنار؛ وذلك أن الكسرة في آخر الاسم منخفضة والألف مستعلية فأمال أول الكلمة ليكون كآخرها.
وقرأ الباقون بالفتح على أصل الكلمة.
وقد تابعه الكسائي في (الأشرار) و(الأبرار) وما تكررت فيه الراء.
فإن سأل سائل: لم أمال أبو عمرو {أصحاب النار} ولم يُمل
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/60]
{الجار الجنب} وألفهما منقلبتان من الواو ووزنهما سيان، والأصل فيهما نور، جور فقلبوا من الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها؟
فالجواب في ذلك أن النار كثر دورها في القرآن فأماله تخفيفًا، والجار لما قل دوره في القرآن تركه على أصله، والدليل على ذلك أن أبا عمرو يميل {الكافرين} في موضع الجر والنصب لكثرة دوره في القرآن ولا يميل {الجبرين} في موضع النصب؛ لأنه في القرآن في موضعين {إن فيها قوما جبارين} {وإذا بطشتم بطشتم جبارين}.

6- وقوله تعالى {غشاوة}.
قرأ عاصم في رواية المفضل {وعلى أبصارهم غشاوة} بالنصب وقرأ الباقون {غشاوة} بالرفع، فمن نصب أضمر فعلا، والتقدير: ختم الله على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، كما قال الله تعالى في (الجاثية): {وجعل على بصره غشاوة} والعرب تضمر الفعل إذا كان في الكلام دليل، قال الشاعر:
سقوا جارك الغيمان لما جفوته = وقلص عن برد الشراب مشافره
سنامًا ومحضا أنبتا اللحم فاكتست = عظام أمرئ ما كان يشبع طائره
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/61]
فالتقدير: سقوا جارك لبنًا وأطعموه سنامًا؛ لأن السنام لا يُسقى، وقال آخر:
ورأيت زوجك في الوغى = متقلدا سيفا ورمحا
معناه: حاملاً رمحًا؛ لأن الرمح لا يتقلد، قال الله تعالى: {يا جبال أوبي معه والطير} بالنصب كذلك قرأ الأعرج على تقدير: وسخرنا الطير.
ومن رفع {غشاوة} فجعله ابتداء و{على} خبره والتقدير: غشاوة على أبصارهم: كقولك: زيد في الدار، وعلى أبيك ثوب، وثوب على أبيك. والغشاوة: الغطاء قال الشاعر:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/62]
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة = فلما انجلت قطعت نفسي ألومها). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله
قوله تبارك وتعالى: غشاوةٌ في سورة البقرة. [الآية/ 7]
قرءوا كلهم رفعا، إلّا أنّ المفضل الضبيّ روى عن عاصم (وعلى أبصارهم غشاوة) بالنصب.
قال أبو علي: قالوا: ختم على كذا يختم، قال تعالى: فإن يشإ اللّه يختم على قلبك [الشورى/ 24] وقال: اليوم نختم على أفواههم [يس/ 65] والمصدر الختم. وقالوا طبع عليه بمعنى ختم عليه. وقد قالوا: طبعه فعدّي بلا حرف. ولا يمتنع ذلك في القياس في ختم، قال:
كأنّ قرادي زوره طبعتهما... بطين من الجولان كتّاب أعجما
وقد روي عن الحسن في قوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/291]
من رحيقٍ مختومٍ ختامه مسكٌ [المطففين/ 25]. أنّه قال مقطعه مسك.
وأظنّ أبا عبيدة اعتبر ما روي عن الحسن في تفسير الآية، لأنّه قال في قوله: يسقون من رحيقٍ مختومٍ: له ختام، أي: عاقبة ختامه مسك، أي: عاقبته، وأنشد لابن مقبل:
مما يفتّق في الحانوت ناطفها... بالفلفل الجون والرمان مختوم
فتأوّل الختام على العاقبة ليس على الختم الذي هو الطبع. وهذا قول الحسن: مقطعه مسك.
ولا يستقيم أن يتأوّل المختوم في الآية في صفة الرحيق على معنى الختم الذي هو الطبع لقوله: وأنهارٌ من خمرٍ لذّةٍ للشّاربين [محمد/ 15] وقال: يطوف عليهم ولدانٌ مخلّدون بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معينٍ [الواقعة/ 17] وقال: يطاف عليهم بكأسٍ من معينٍ بيضاء لذّةٍ للشّاربين [الصافات/ 46] فقوله: (بيضاء) مثل قوله: قواريرا قواريرا من فضة [الإنسان/ 15 - 16] أي: قوارير كأنّها في بياضها من
[الحجة للقراء السبعة: 1/292]
فضة. فهذا على التشبيه لا على أن القوارير من فضة قال:
حلبانة ركبانة صفوف... تخلط بين وبر وصوف
أي: كأن يديها في إسراعها في السير يدا خالطة وبرا بصوف، فالمعنى على التشبيه وإن لم يذكر حرفه.
وقال:
فهنّ إضاء صافيات الغلائل
ومثل قوله تعالى: ختامه مسكٌ [المطففين/ 26] قوله تعالى: كان مزاجها كافوراً [الإنسان/ 5] المعنى فيها أنّها في طيب الرائحة وسطوعها، وأرجها كأرج المسك والكافور.
[الحجة للقراء السبعة: 1/293]
فأمّا قوله: كان مزاجها زنجبيلًا [الإنسان/ 17] فإنّه يدلّ على لذاذة المطعم، لأنّ الزنجبيل يحذي اللسان.
وزعموا: أنّ ذلك من أجود الأوصاف للخمر عند العرب، قال الأعشى:
معتقة قهوة مزّة
ومثل تشبيهها بالزنجبيل في الآية للذاذة المطعم قوله:
كأن القرنفل والزنجبي... ل باتا بفيها وأريا مشورا
فهذا يريد به طيب الطعم، لذكره مع ما يطعم، ويدلّ على أنّهم يقصدون ما يحذي اللسان بالوصف بطيب الطعم قول ابن مقبل:
........ ناطفها... بالفلفل الجون والرّمان مختوم
فأمّا قوله تعالى: ولكن رسول اللّه وخاتم النّبيّين [الأحزاب/ 40] فخاتم اسم فاعل من ختمهم أي صار آخرهم.
والأحسن أن تجعله اسم فاعل ماض ليكون معرفة، لأن قبله
[الحجة للقراء السبعة: 1/294]
معرفة، وحكم المعطوف أن يكون مشاكلا للمعطوف عليه.
وقد يجوز أن ينوى بالانفصال، وإن كان ذلك فيما مضى، على أن يحكى الحال التي كان عليها، وإن كانت القصّة فيما مضى؛ كقوله تعالى: وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد [الكهف/ 18] فحكى ما كان. وروي أن الحسن قرأ:
(وخاتم النبيين) كأنّه جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي ختم به. فأمّا قول الشاعر:
إذا فضّت خواتمها وفكّت... يقال لها دم الودج الذبيح
فليس تخلو الخواتم من أحد أمرين، إما أن تكون جمع الخاتم الملبوس، أو تكون جمع المصدر. فإن كان جمع الملبوس فقد حذف المضاف من الكلام، والتقدير: إذا فض ختم خواتمها، وأضيفت الخواتم إليها لما كان من الختم عليها بها، ولحقت علامة التأنيث لأنّ القصد، وإن كان للختم في المعنى، فقد جرى في اللفظ على الخواتم، فلحقت العلامة لذلك.
وإن كان جمع المصدر فليس يخلو من أن يكون للختم أو للختام. فإن كان جمعا للختام كان بمنزلة قولهم للجزاء الجوازي، قال الحطيئة:
[الحجة للقراء السبعة: 1/295]
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقالوا في جمع اليعار: اليواعر قال:
لها بين جرس الراعيين يواعر
وفي جمع الدخان: الدواخن، فكذلك تكون الخواتم إذا كان جمع الختام. وإن كان جمع ختم فقد قالوا: حرّة وحرائر، وكنّة وكنائن. وقالوا: مشابه في جمع شبه، وملامح في جمع لمحة. فجمع ختم على خواتم أسهل، لأن فواعل إنما هو جمع فاعل، وفاعل قد جاء في المصادر، مثل العاقبة والعافية وما باليت به بالة، والفالج، وفي حروف أخر.
فإن كان الخواتم جمع المصدر كان الكلام على ظاهره، وكان المفضوض هو الخواتم أنفسها، من حيث كان جمع ختم، لا المضاف المحذوف.
[الحجة للقراء السبعة: 1/296]
فأمّا قوله:
يقال لها دم الودج الذبيح
فوصف الدم بالذبيح، فليس يريد بالذبيح المذبوح الذي تفرى أوداجه وينهر دمه، وإنما أراد بالذبيح: المذبوح، أي المشقوق، كما قال:
نام الخليّ وبتّ الليل مشتجرا... كأنّ عينيّ فيها الصّاب مذبوح
أي: مشقوق.
وكذلك قول الآخر:
فارة مسك ذبحت في سكّ
أي: شقّت وقالوا: أخذه الذّباح، وهو- فيما زعموا- تشقّق يكون في أظفار الأحداث أو أصابعهم. فالذبح: الشقّ.
وقيل لما يذكي الذبيحة: ذبح، لأنّه ضرب من الشقّ، فقالوا:
[الحجة للقراء السبعة: 1/297]
ذبحت الشاة. وذبحت البقرة. وقالوا في الإبل: نحرت، لمّا كانت توجأ في نحورها. فوصف الدم بأنّه ذبيح، والمعنى أن الدم مذبوح له، كما أن قوله: بدمٍ كذبٍ [يوسف/ 18] معناه: مكذوب فيه، وليل نائم أي: ينام فيه، وكذلك نهار صائم. فأمّا قول الفرزدق:
فبتن بجانبيّ مصرّعات... وبتّ أفض أغلاق الختام
فكأنه من المقلوب، أي: أفض ختام الأغلاق، ألا ترى أنّ الأغلاق والأقفال المختوم عليها إنّما يفضّ الختم الذي عليها، والفضّ إنّما هو تفريق أجزاء الختم، وتفريق غيره، وفي التنزيل: حتّى ينفضّوا [المنافقون/ 7] أي يتفرقوا فيبقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا أنصار ولا أتباع.
والختام في بيت الفرزدق لا يخلو من أن يكون واحدا أو جمعا. فأمّا الذي في الآية فقد تأوله أبو عبيدة على أنه واحد.
فإن قلت: إنه في البيت جمع ختم، لأن لكل غلق ختما فجمع الختم، فهو قول، لأن المصادر قد تجمع، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/298]
هل من حلوم لأقوام فتنذرهم
وتقول إن الختام الذي تأوله أبو عبيدة على أنه مفرد إنّما هو في خاتمة الشيء الذي هو آخره وخلاف فاتحته، والختم الذي يعني به الطبع معنى غيره، فليس يلزم إذا أفرد ذاك أن يفرد هذا أيضا. وقال الأعشى:
وتترك أموال عليها الخواتم هو على ضربين يجوز أن يكون عليها نقش الخواتم فحذف، ويمكن أن يكون جمع ختما على الخواتم، كما جمع الهجر على الهواجر وقال:
مقيم على قول الخنا والهواجر
[الحجة للقراء السبعة: 1/299]
وأما الغشاوة فلم أسمع منه فعلا مصرّفا بالواو. فإذا لم نعلم منه ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم: الغشيان. ومعناه ما غطّى الشيء وعلاه فغمره وستره، كقوله تعالى، فغشيهم من اليمّ ما غشيهم [طه/ 78] وإذ يغشّيكم النّعاس [الأنفال/ 11] وو استغشوا ثيابهم [نوح/ 7] والمؤتفكة أهوى، فغشّاها ما غشّى [النجم/ 53، 54]. وقال الأعشى:
وولّى عمير وهو كاب كأنّما... يطلّى بورس أو يغشّى بعظلم
فالغشاوة من الغشيان كالجباوة من جبيت في أنّ الواو كأنّها بدل من الياء، إذ لم يصرّف منه فعل، كما لم يصرّف من الجباوة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/300]
قال سيبويه قالوا: غشيته غشيانا كالحرمان. وإن شئت قلت: إن غشي يغشى مثل رضي يرضى، ولام الكلمة الواو بدلالة غشاوة وغشوة. ويكون الغشيان كعليان ودنيا ونحو ذلك.
وقوله تعالى: وعلى أبصارهم غشاوةٌ [البقرة/ 7] في المعنى مثل: صمٌّ بكمٌ عميٌ [البقرة/ 18] وكذلك قوله تعالى:
صمٌّ وبكمٌ في الظّلمات [الأنعام/ 39] لأنّ وصف البصر بالكون في الظلمات بمنزلة الوصف بالعمى. وكذلك، وصفه بكون الغشاوة عليه، لأنّه في هذه الأحوال كلّها لا يصحّ به إبصار. فقوله: في الظلمات متعلق بمحذوف.
وروي لنا عن الكسائي: غشاوة وغشاوة وغشاوة، وعن غيره.
ويذهب قوم من المتأوّلين إلى أنّ معنى: ختم اللّه على قلوبهم [البقرة/ 7] ختم عليها بأن طبع عليها ووسمها سمة تدل على أن فيها الكفر، ليعرفهم من يشاهدهم من الملائكة بهذه السمة، ويفرقوا بينهم وبين المؤمنين الذين في قلوبهم الشّرح والطمأنينة اللذان وصفوا بهما في قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام [الزمر/ 22]. وقوله: الّذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه [الرعد/ 28].
والختم والطبع واحد، وهما سمة وعلامة في قلب المطبوع على قلبه. وكما ختم على قلب الكافر وطبع فوسم بسمة تعرف بها الملائكة كفره كذلك وسم قلوب المؤمنين
[الحجة للقراء السبعة: 1/301]
بسمات تعرفهم الملائكة بها كما عرفوا بها الكافر. ومن ثمّ قال بعض المتأوّلين في قوله تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا [الكهف/ 28] أي: لم نسم قلبه بما نسم به قلوب الذاكرين لله، لأنّ الله تعالى وسم قلوب الذاكرين بسمات تبيّن لمن شاهدها من الملائكة أنّهم مؤمنون، كما قال: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان [المجادلة/ 22] أي علامته، فإذا لم يسمهم بهذه السّمة فقد أغفلهم.
ومثل ما تأولوا في هذا من أنّه علامة يعرف بها الكافر من المؤمن مناولة الكتاب باليمين وبالشّمال، في أنّ المناولة باليمين علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة،
والمناول بالشّمال من أهل النار. وقوله: بل طبع اللّه عليها بكفرهم [النساء/ 155] يحتمل أمرين أي طبع عليها وختم جزاء للكفر وعقوبة عليه، كقوله:
نزائع مقذوفا على سرواتها... بما لم تخالسها الغزاة وتركب
وكقولهم: «بما لا أخشى بالذئب» فيمكن أن يكون
[الحجة للقراء السبعة: 1/302]
قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم، أي طبع عليها بعلامة كفرهم، كما تقول: طبع عليه بالطين، وختم عليه بالشمع.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ [البقرة/ 7] وصفا للذي ذمّ بهذا الكلام بأن قلبه ضاق عن قبول الحكمة والإسلام والاستدلال على توحيد الله تعالى وقبول شرائع أنبيائه عليهم السلام فلم ينشرح له ولم يتّسع لقبوله، فهو خلاف من ذكر في قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربّه [الزمر/ 22].
ومثل ذلك قوله تعالى: أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها [محمد/ 24] ومثله: وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ ومن بيننا وبينك حجابٌ [فصلت/ 5] ومن ذلك قوله: وقالوا قلوبنا غلفٌ [البقرة/ 88] إنّما هو جمع أغلف، أي في غلاف كقوله: قلوبنا في أكنّةٍ، ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس لهم قلوبٌ [الأعراف/ 179] ويقوّي ذلك أن المطبوع على قلبه وصف بقلة الفهم بما يسمع من أجل الطبع، فقال: بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلّا قليلًا [النساء/ 155] وقال: وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [التوبة/ 87].
ومما يبيّن ذلك قوله تعالى: قل أرأيتم إن أخذ اللّه سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم [الأنعام/ 46] فعدل الختم على
[الحجة للقراء السبعة: 1/303]
القلوب بأخذه السمع والبصر، فدلّ هذا على أنّ الختم على القلب هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما يحتاج فيه إليه، كما لا ينتفع بالسمع والبصر مع أخذهما، وإنّما يكون ضيقه بألّا يتّسع لما يحتاج إليه من النظر والاستدلال الفاصل بين الحقّ والباطل. ومن ذلك قوله تعالى: ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السّماء [الأنعام/ 125] فهذا كلام كالمثل، أي: من يستحقّ الإضلال عن الثواب يجعل صدره ضيّقا في نهاية الضيق لما كان القلب محلا للعلوم والاعتقادات بدلالة قوله تعالى: لهم قلوبٌ لا يفقهون بها [الأعراف/ 179] [فوصفه] بالضيق وأنّه على خلاف الشرح والانفساح دلّ أنّه لا يعي علما ولا يستدلّ على ما أريد له ودعي إليه، كما وصف الجبان بأنّه لا قلب له، لمّا أريد به المبالغة في وصفه بالجبن، لأنّ الشجاعة محلها القلب، فإذا لم يكن القلب الذي يكون محلّ الشجاعة لو كانت فألّا تكون الشجاعة أولى.
ومن ثمّ قالوا في النعامة: جؤجؤه هواء، أي ذو هواء، فهو فارغ من القلب، فهذا كما وصفوها بالشّراد لجبنها فقال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/304]
وأشرد بالوقيط من النّعام وقال:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة... ربداء تجفل من صفير الصافر
وقال:
فالهبيت لا فؤاد له... والثّبيت ثبته فهمه
وأنشد أبو زيد:
لقد أعجبتموني من جسوم... وأسلحة ولكن لا فؤادا
[الحجة للقراء السبعة: 1/305]
وقال:
حار بن كعب ألا أحلام تزجركم... عنّا وأنتم من الجوف الجماخير
وأنشد أبو زيد:
ولا وقّافة والخيل تردي... ولا خال كأنبوب اليراع
وقال الراعي:
وغدوا بصكهم وأحدب أسأرت... منه السياط يراعة إجفيلا
[الحجة للقراء السبعة: 1/306]
فكما وصف الجبان بأنّه لا قلب له، وأنّه مجوّف وأنّه يراعة، لأنّه إذا كان كذلك بعد من الشجاعة، ومن الفهم لعدمه القلب، كذلك وصف من بعد عن قبول الإسلام بعد الدعاء إليه وإقامة الحجّة عليه بأنّه مطبوع على قلبه، وضيّق صدره، وقلبه في كنان، وفي غلاف.
قال أبو زيد: قالوا: رجل مفئود للجبان، وخلاف ما ذكره أبو زيد: رجل مشيّع للشجاع. فهذا إمّا أن يكون أريد:
يشيّع قلبه، أي: ليس بمصاب في فؤاده، وإمّا أن يكون معه من نفسه شيعة يثبّتونه.
وأمّا قوله تعالى: كأنّما يصّعّد في السّماء [الأنعام/ 125] فالمعنى: أن هذا الضيّق الصدر عن الإسلام نهاية الضيق إذا دعي إلى الإسلام، من ضيق صدره منه ونفوره عنه، وعن استماع الحكمة، كأنّه يراد على ما لا يقدر عليه من مصعد في السماء، أو حمل على ما يشبهه من الامتناع.
وروي عن ابن مسعود
أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل
[الحجة للقراء السبعة: 1/307]
ينشرح الصدر؟ قال: نعم، يدخل القلب النور. فقال ابن مسعود: وهل لذلك علامة؟ قال: نعم. التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل الموت»
فقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لابن مسعود: يدخله النور كما في الآية من قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربّه [الزمر/ 22].
وقد روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: اللّه نور السّماوات والأرض مثل نوره [النور/ 35] قال: مثل نوره الذي أعطاه المؤمن كمشكاة، والمشكاة كوّة فيها مصباح. وقوله: نورٌ على نورٍ [النور/ 35]
[الحجة للقراء السبعة: 1/308]
قال: مثل قلب المؤمن نور على نور يشرح صدره للإسلام.
وقال أبو الحسن: ختم اللّه على قلوبهم لأنّ ذلك كان لعصيانهم الله تعالى، فجاز ذلك اللفظ، كما يقال: أهلكته فلانة إذا أعجب بها وهي لا تفعل به شيئا، لأنّه هلك في
اتباعها، أو يكون ختم: حكم أنّها مختوم عليها. وكذلك فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10] على ذا التفسير والله أعلم.
الإعراب
حجّة من رفع فقال: وعلى أبصارهم غشاوة: أنّه رأى الغشاوة لم تحمل على (ختم) ألا ترى أنّه قد جاء في الأخرى:
وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً [الجاثية/ 23] فكما لم تحمل في هذه على (ختم) كذلك لا تحمل في هذه التي في مسألتنا. فإذا لم يحملها على (ختم) قطعها عنه، وإذا قطعها عن (ختم) كانت مرفوعة إمّا بالظرف، وإمّا بالابتداء.
وأمّا إذا نصب فلا يخلو في نصبها من أن يحملها على (ختم) هذا الظاهر، أو على فعل آخر غيره. فإن قال:
أحملها على الظاهر كأني قلت: وختم على قلبه غشاوة، أي بغشاوة، فلمّا حذف الحرف وصل الفعل، ومعنى: ختم عليه بغشاوة مثل: جعل على بصره غشاوة، ألا ترى أنّه إذا ختمها بالغشاوة فقد جعلها فيها. واستدلّ على جواز حمل غشاوة على (ختم) هذا الظاهر، بقوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/309]
أولئك الّذين طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم [النحل/ 108] فقال: طبع في المعنى كختم، وقد حملت الأبصار على (طبع) فكذلك تحمل على ختم.
قيل: لا يحسن ذلك، لأنّك تفصل بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا إنّما يجوز في الشعر، ولا يختلفون أنّ ذلك في المعطوف على المجرور قبيح، والمنصوب والمرفوع بمنزلته في القياس، ألا ترى أنّ حرف العطف في المجرور ليس هو الجارّ، إنّما هو يشرك فيه، وكذلك في المرفوع والمنصوب ليس هو الرافع ولا الناصب، إنّما يشرك فيهما. فإنّما قبح الفصل فيهما لأنّ ما يقوم مقامهما لا يتّسع فيه الاتساع الذي في الأصل، ألا ترى أنهم لم يتّسعوا في إنّ وأخواتها اتساعهم في الفعل، ولم يتّسع في الظروف، ولا في الأسماء المسمّى بها الأفعال اتساعهم في الفعل، ولا في الصفات المشبّهة بأسماء الفاعلين اتّساعهم في أسماء الفاعلين، ولا في عشرين اتّساعهم في ضاربين وحسنين، فكذلك لا يتّسع في حرف العطف الذي يشرك فيما يعطف عليه اتّساعهم في نفس المعطوف عليه.
وقد ذهب إلى التسوية بين الجارّ وبين الناصب والرافع في العطف الكسائيّ والفراء. وقد جاء هذا الفصل في الشعر، أنشد أبو زيد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/310]
أتعرف أم لا رسم دار معطّلا... من العام تغشاه ومن عام أوّلا
قطار وتارات خريق كأنّها... مضلّة بوّ في رعيل تعجّلا
وقال:
... وآونة أثالا فإن قال: لا أعطفه على هذا الفعل الظاهر الذي هو (ختم) ولكني أحمله على فعل أضمره، فأضمر: وجعل، ويكون ذلك بمنزلة الظاهر لدلالة ما تقدم عليه فإن هذا أيضا ليس بالسهل ألا ترى أن مثل:
متقلدا سيفا ورمحا
[الحجة للقراء السبعة: 1/311]
و: شرّاب ألبان وتمر وأقط و: علفتها تبنا وماء باردا لا تكاد تجده في حال سعة واختيار فإذا كان النصب تعترض فيه هذه الأشياء فلا نظر في أن الرفع أحسن والقراءة به أولى، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة). [الحجة للقراء السبعة: 1/312]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} {وعلى أبصارهم غشاوة}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (بما أنزل إليك) و(على أبصارهم) لا يمدون حرفا لحرف وهو أن تكون المدّة من كلمة والهمزة من أخرى وحجتهم في ذلك أنهم أرادوا الفرق بين ما المدّة فيه لازمة لا تزول بحال وبين ما هي فيه عارضة قد تزول في بعض الأحوال نحو بما أنزل إليك فإنّها تزول عند الوقف والّتي لا تزول نحو دعاء ونداء وبناء وسماء فجعلوا ذلك فرقا بينهما
وقرأ ابن عامر والكسائيّ مدا وسطا ومد حمزة وعاصم مدا
[حجة القراءات: 85]
مفرطا وحجتهم في ذلك أن المدّ إنّما وجب عند استقبال الهمزة سواء كانت الهمزة من نفس الكلمة أو من الأخرى إذا التقتا لأنّه لا فرق في اللّفظ بينهما). [حجة القراءات: 86] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (4- {غِشَاوَةً} [آية/ 7]:
اتفق القراء على الرفع من "غشاوة"، وروى المفضل الضبي عن عاصم بالنصب.
فالرفع على أن الكلمة مقطوعة عن الفعل المتقدم الذي هو: {خَتَمَ} ومرفوعة بالابتداء، وخبرُها ما تقدم عليها من الجار والمجرور وهو قوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ}، ويجوز أن يكون مرتفعًا بالجار والمجرور على مذهب الأخفش كأنه قال: وعلى أبصارهم استقرّ غشاوة.
وأما النصب فيه فيجوز أن يكون لكونه محمولًا على {خَتَمَ} مع تقدير حرف الجر كأنه قال: وختم على أبصارهم غشاوة أي بغشاوة، فحذف الجار وأوصل الفعل بنفسه، وهذا فيه قبحٌ؛ لأنك تفصل بين حرف العطف والمعطوف به، ويجوز أن يكون محمولًا على فعلٍ مضمرٍ يدلّ عليه الفعل
[الموضح: 243]
المتقدم وهو "خَتَمَ" فيكون تقديره: خَتَمَ الله على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، كما قال القائل:
5- يا ليت زوجك قد غدا = متقلدًا سيفًا ورُمحا
وقال آخر:
6- شراب ألبانٍ وتمر وأقط
وهذا فيه أيضًا ضعف؛ لقلته في حال السعة؛ ولأن أكثر ما يجيء من ذلك إنما هو في الشعر، فلهذا كان الرفع أقوى). [الموضح: 244]

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (7- قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله}.
قرأ حمزة والكسائي {من يقول} بإدغام النون في الياء من غير غنة.
والباقون يدغمون بغنة، وذلك أن النون الخفيفة الساكنة والتنوين تظهران عند ستة أحرف، ويدغمان عند ستة، ويخفيان عند باقي حروف المعجم. فالأحرف الستة اللواتي تظر «ن» عندهن هي حروف الحلق: الهمزة والهاء والعين والحاء والخاء والغين، واللواتي تدغمان عندهن الياء، وقد ذكرته واللام بغير غنة نحو: {هدى للمتقين} والراء بغير غنة نحو: {من ربهم} والواو بغير غنة في قراءة حمزة وحده، والباقون بغنة نحو {غشاوة ولهم} و{مالهم من دونه من وال} وعند الميم بغنة لا غير نحو {عم يتساءلون} وعند النون مثلها بغنة لاغ نحو: {خلقتين من نار} {فما له من نور} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]

قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله تعالى: (يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم)
لم يختلف القراء في الأولى إنه بألف.
واختلفوا في الثانية فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (ما يخادعون) بألف. وقرأ الباقون: (وما يخدعون) بغير ألف، مع فتح الياء.
قال أبو منصور: من قرأ: (وما يخادعون إلا أنفسهم) جعل الخداع من واحد وإن كان على (مفاعلة)، ومثله قولهم: (عاقبت اللص) و(عافاه الله) و(طارقت النغل) و(قاتله الله)، في حروف كثيرة جاءت للواحد.
ومن قرأ: (وما يخادعون) فلا سؤال فيه.
وقال شمر في قول الشاعر:
وخالف المجد أقوامٌ لهم ورقٌ... راح العضاة به والعرق مدخول
قال: معنى خادع المجد: تركه). [معاني القراءات وعللها: 1/133]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (8- وقوله تعالى: {وما يخدعون إلا أنفسهم}.
قرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو: {يخادعون} بالألف. وقرأ الباقون بغير الألف.
وحدثني أبو بكر بن الأعرابي قال: حدثنا المبرد رحمه الله قال: يخدعون
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]
ويخادعون المعنيان متقاربان، غير أن يخادعون بالألف الاختيار؛ لتُعطف لفظة على شكلها.
واختلف الناس في {يخادعون} فقال أبو عبيدة: يفاعلون وفاعلت فعل من اثنين. وربما جاء الواحد كقولهم: طارقت النعل وعافاك الله من ذاك، ومن ذلك: قاتلهم الله أي: قتلهم الله، ويخادعون بمعنى: يخدعون. وقال أكثر أهل النحو: فاعلت لا يكون إلا من اثنين، فمخادعة الله إياهم أن يجازيهم جزاء خدعهم كما قال: {نسوا الله فنسيهم}.
حدثني أبو بكر بن الأعرابي، عن المبرد رضي الله عنهما أن مؤرقا العجلي قرأ: {وما يخدعون إلا أنفسهم} وكان مورق أسد الناس.
حدثنا ابن عرفة قال: حدثني محمد بن يونس عن سعيد بن عامر قال: حدثنا موسى الخلقاني قال: كان مؤرق العجلي يجيء بالصرة إلى الرجل فيقول: إذا نفدت أمددناك، وكان يودع الصرة الإنسان ثم يجيء فقول: أنت في حل.
ويقال: خدعت العين: نامت، و«بين يدي الدجال سنون خداعة» أي: ناقصة النماء والزكاء. وخدع الريق: نقص وتغير، وذلك أنه إذا نقص خثر؛ أي: غلظ، وإذا خثر جف وتغير، وبذلك يخلف فم الصائم، قال سويد:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/64]
أبيض اللون لذيذًا طعمه = طيب الريح إذا الريق خدع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/65]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله
اختلفوا في ضم الياء وفتحها وإدخال الألف في قوله جلّ وعزّ: يخادعون [البقرة/ 9].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (يخادعون... وما يخادعون) بالألف فيهما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/312]
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ (يخادعون...
وما يخدعون) بفتح الياء بغير ألف.
قال أبو علي: قال أبو زيد: خدعت الرجل أخدعه خدعا، الخاء كسر، وخديعة. قال: وقالوا: «إنك لأخدع من ضبّ حرشته»..
وقال أبو زيد أيضا يقال: «لأنا أخدع من ضبّ حرشته»، وقد حرش الرجل الضبّ يحرشه حرشا: إذا مسح بيده على فم جحره يتسمّع الصوت، فربما أقبل وهو يرى أنّ ذلك حية، وربّما أروح ريح الإنسان، فخدع في جحره يخدع خدعا: إذا رجع في الجحر فذهب ولم يخرج.
وقال أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابيّ: الخادع: الفاسد من الطعام ومن كلّ شيء، وأنشد:
أبيض اللون لذيذ طعمه... طيّب الريق إذا الريق خدع
[الحجة للقراء السبعة: 1/313]
خدع: فسد وتغيّر.
وقال أبو عبيدة: يخادعون اللّه [البقرة/ 9] يخدعون، وأنشد أبو زيد:
وخادعت المنيّة عنك سرّا... فلا جزع الأوان ولا رواعا
وقال أبو عبيدة أيضا: يخادعون الله والذين آمنوا فيما يظهرون: مما يستخفون خلافه.
قال الله تعالى: وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة/ 9] إنما تقع الخديعة بهم والهلكة.
والعرب تقول: خادعت فلانا إذا كنت تخادعه، وخدعته إذا ظفرت به.
قال بعض المتأولين أظنّه الحسن قال: (يخادعون الله) وإن خادعوا نبيه لأن الله تعالى بعث نبيّه بدينه، فمن أطاعه فقد أطاع الله (تعالى) كما قال: من يطع الرّسول فقد أطاع اللّه [النساء/ 80]
[الحجة للقراء السبعة: 1/314]
وقال: إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه [الفتح/ 10] فعلى هذا من خادعه فقد خادع الله.
فقد ذهب هذا المتأوّل إلى أن معنى يخادعون الله:
يخادعون نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وفي تأويله تقوية لقول أبي عبيدة:
يخادعون: يخدعون، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك اللّه [الأنفال/ 62] فجاء المثال على يفعل.
ومثل قوله: (يخادعون اللّه) في إرادة مضاف محذوف على قول من ذكرناه قوله تعالى: إنّ الّذين يؤذون اللّه ورسوله [الأحزاب/ 57] التقدير يؤذون أولياء الله، لأنّ الأذى لا يصل إلى الله (سبحانه) كما أن الخداع لا يجوز عليه، فهي مثل قوله: والّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا [الأحزاب/ 58] وفيما أنشده أبو زيد دلالة على صحة تفسير أبي عبيدة أنّ يخادعون: يخدعون، ألا ترى أنّ المنية لا يكون منها خداع كما لا يكون من الله- سبحانه- ولا من رسوله؟ فكذلك قوله: وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة/ 9] يكون على لفظ فاعل وإن لم يكن الفعل إلا من واحد كما كان الأول كذلك. وإذا كانوا قد استجازوا لتشاكل الألفاظ وتشابهها أن يجروا
[الحجة للقراء السبعة: 1/315]
على الثاني طلبا للتشاكل ما لا يصح في المعنى على الحقيقة، فأن يلزم ذلك ويحافظ عليه فيما يصح في المعنى أجدر وأولى، وذلك نحو قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وفي التنزيل: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [البقرة/ 194] والثاني قصاص وليس بعدوان، وكذلك وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها [الشورى/ 40] وقوله:
فيسخرون منهم سخر اللّه منهم [التوبة/ 79] ونحو ذلك. فأن يلزم التشاكل في اللفظ مع صحة المعنى أولى.
ومما يؤكد ذلك قوله:
من العين الحير وقول أمّ تأبّط شرا: ليس بعلفوف تلفّه هوف.
وقد جاء هذا المثال للفاعل الواحد نحو: عاقبت اللص، وطارقت النعل، وعافاه الله.
[الحجة للقراء السبعة: 1/316]
وحجة من قرأ: (يخدعون) أن فاعل هنا بمعنى فعل فيما فسره أهل اللغة، فإذا كانا جميعا بمعنى، وكان فعل أولى بفعل الواحد من فاعل من حيث كان أخص به، كان الأولى أليق بالموضع من فاعل الذي هو في أكثر الأمر أن يكون لفاعلين إذ كانوا قد استعملوهما جميعا، ولم يكن خادع بمنزلة عاقبت اللص الذي لم يستعمل فيه إلا فاعل ورفض معه فعل.
ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى في الآية الأخرى في صفة المنافقين أيضا: يخادعون اللّه وهو خادعهم [النساء/ 142]، فكما وقع الاتفاق هنا على فاعل الجاري على فعل كذلك يكون في قوله تعالى: وما يخدعون إلّا أنفسهم.
ولمن قرأ (يخادعون) وجه آخر، وهو أن ينزل ما يخطر بباله ويهجس في نفسه من الخدع منزلة آخر يجازيه ذلك ويقاوضه إياه، فعلى هذا يكون الفعل كأنّه من اثنين، فيلزم أن يقول: فاعل، وهذا في كلامهم غير ضيق، ألا ترى الكميت أو غيره قال في ذكره حمارا أراد الورود:
تذكّر من أنّى ومن أين شربه... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل
[الحجة للقراء السبعة: 1/317]
فجعل ما يكون منه من وروده الماء أو ترك الورود والتمثيل بينهما بمنزلة نفسين.
وعلى هذا قوله:
وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل؟ وقولهم: أنا أفعل كذا وكذا أيها الرجل.
وعلى هذا المذهب قرأ من قرأ: قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ [البقرة/ 259]، فنزّل نفسه- عند الخاطر الذي يخطر له عند نظره- منزلة مناظر له غيره. وأنشد الطوسي عن ابن الأعرابي.
لم تدر ما لا ولست قائلها... عمرك ما عشت آخر الأبد
[الحجة للقراء السبعة: 1/318]
ولم تؤامر نفسيك ممتريا... فيها وفي أختها ولم تكد
وأنشد بعض البصريين لرجل من فزارة:
يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة... أيستربع الذوبان أم لا يطورها
قال: الذوبان: الأعداء.
وأنشد أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
وكنت كذات الطّنء لم تدر إذ بغت... تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني
فهذه في المعنى كقوله:
أنخت قلوصي واكتلأت بعينها... وآمرت نفسي أيّ أمريّ أفعل
إلّا أنّ من ثنّى النفس، جعل ما يهجس في نفسه من الشيء وخلافه نفسين، ونزّل الهاجس منزلة من يخاطبه وينازله في ذلك، فكذلك يكون قوله: (وما يخادعون) على هذا). [الحجة للقراء السبعة: 1/319]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي طالوت عبد السلام بن شداد، والجارود ابن أبي سبرة: [وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ] بضم الياء وفتح الدال.
قال أبو الفتح: هذا على قولك: خدعتُ زيدًا نفسَه؛ ومعناه عن نفسه، فإن شئت قلت على هذا: حُذف حرف الجر، فوصل الفعل؛ كقوله عز اسمه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} أي: من قومه، وقوله:
أمرتك الخيرَ
[المحتسب: 1/51]
أي: بالخير. وإن شئت قلت: حمله على المعنى فأضمر له ما ينصبه، وذلك أن قولك: خدعتُ زيدًا عن نفسه، يدخله معنى: انتقصتُه نفسَه، وملكتُ عليه نفسَه، وهذا من أَسَدِّ وأَدمث مذاهب العربية، وذلك أنه موضع يملك فيه المعنى عِنَان الكلام فيأخذه إليه، ويصرِّفه بحسب ما يؤثره عليه.
وجملته: أنه متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر، فكثيرًا ما يُجْرَى أحدهما مجرى صاحبه، فيُعْدَلُ في الاستعمال به إليه، ويُحتذى في تصرفه حذو صاحبه، وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه، ألا ترى إلى قوله الله جل اسمه: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ وأنت إنما تقول: هل لك في كذا؟ لكنه لما دخله معنى: أَجْذِبك إلى كذا وأدعوك إليه، قال: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ وعليه قول الفرزدق:
كيف تراني قاليا مِجَنِّي ... قد قتل الله زياداً عني
فاستعمل "عن" هاهنا لما دخله من معنى قد صرفه الله عني؛ لأنه إذا قتله فقد صُرف عنه.
وعليه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، وأنت لا تقول: رفثتُ إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها ومعها، لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عُدي بإلى كما يُعدَّى أفضيت بإلى، نحو قولك: أفضيت إلى المرأة، وهو باب واسع ومنقاد، وقد تقصيناه في كتابنا "الخصائص"، فكذلك قوله عز وجل: [وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ] جاء على خَدعْتُه نفسَه، لما كان معناه معنى: انتقصتُه نفسَه، أو تخوَّنتُه نفسَه.
ورأيتُ أبا علي -رحمه الله- يذهب إلى استحسان مذهب الكسائي في قوله:
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر ... لعمر الله أعجنبي رضاها
[المحتسب: 1/52]
لأنه قال: عدى رضيت بعلى، كما يُعدى نقيضها وهي سخطت به، وكان قياسه: رضيت عني، وإذا جاز أن يجري الشيء مجرى نقيضه فإجراؤه مجرى نظيره أسوغ.
فهذا مذهب الكسائي، وما أحسنه! وفيه غيره على سمت ما كنا بصدده، وذلك أنه إذا رضي عنه فقد أقبل عليه، فكأنه قال: إذا أقبلَتْ عليَّ بنو قشير، وهو غور من أنحاء العربية طريف ولطيف ومصون وبَطين). [المحتسب: 1/53]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وما يخدعون إلّا أنفسهم}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {وما يخدعون إلّا أنفسهم} بالألف واحتج أبو عمرو بأن قال إن الرجل يخادع نفسه ولا يخدعها قال الأصمعي ليس أحد يخدع نفسه إنّما يخادعها
وقرأ أهل الشّام والكوفة {وما يخدعون} بغير ألف وحجتهم في ذلك أن الله أخبر عن هؤلاء المنافقين أنهم يخادعون الله والّذين آمنوا بقولهم {آمنا باللّه وباليوم الآخر} فأثبت لهم مخادعتهم الله والمؤمنين ثمّ يخبر عنهم عقيب ذلك أنهم لا يخادعونه ولا يخادعون إلّا أنفسهم فيكون قد نفى عنهم في آخر الكلام ما أثبته لهم في أوله ولكنه أخبر أن المخادعة من فعلهم ثمّ إن الخدع إنّما يحيق بهم خاصّة دونه). [حجة القراءات: 87]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (1- قوله: {وما يخدعون} قرأ الكوفيون وابن عامر بفتح الياء وإسكان الخاء، من غير ألف، وقرأ الباقون بضم الياء، وبألف بعد الخاء، وكسر الدال.
2- وعلة من قرأه بغير ألف أن أهل اللغة حكوا: خادع وخدع بمعنى واحد، والمفاعلة قد تكون من واحد كقولهم: داويت العليل، وعاقبت اللص، فلما كان «خادع وخدع» بمعنى واحد اختار «خدع» فحمله على معنى الأول، لأنه بمعنى: «يخدعون»، ولم يحمله على اللفظ، فبين على أن الأول محمول على «يخدعون»، ولم يحمله على اللفظ، فبين على أن الأول محمول على «يخدعون»، وأيضًا فإن «فعل» أخص بالواحد من فاعل إذ فاعل أكثر ما يكون من اثنين، ويقوي هذا المعنى أن مخادعتهم، إنما كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ولم يكن من النبي والمؤمنين لهم مخادعة، فدل على أن الأول من واحد بمعنى «يخدعون»،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/224]
فجرى الثاني على معنى الأول، ويدل على ذلك قوله لنبيه عليه السلام: {وإن يريدوا أن يخدعوك} «الأنفال 62» فالخداع منهم خاصة كان، وقد أجمعوا على: {وهو خادعهم} «النساء 142» من «خدع»، وأيضًا فإن الإخبار جرى عنهم في صدر الآية بالمخادعة لله، فيبعد أن تنفي عنهم تلك المخادعة التي أوجها لهم، وأخبرنا عنهم بالمخادعة في صدر الآية، ومعنى «يخادعون الله» أي: أولياء الله وأنبياء الله، ومعنى الخداع إظهار خلاف ما في النفس، والنبي والمؤمنون لا يفعلون معهم هذا.
3- وعلة من قرأه بألف إنما لما كان «يخادعون ويخدعون» في اللغة بمعنى واحد أجرى الثاني على لفظ الأول إذ معناهما «يخدعون أولياء الله»، فذلك أحسن في المطابقة والمشاكلة بين الكلمتين أن تكونا بلفظ واحد، وأيضًا فإن المبرد قال: معناه «وما يخادعون بتلك المخادعة المذكورة أولا إلا أنفسهم، إذ وبالها راجع عليهم» فوجب ألا يختلف اللفظ، لأن الثاني هو الأول، وقد قال أبو عمرو: ليس أحد يخدع نفسه، وإنما يخادعها، فوجب أن يقرأ: {وما يخدعون إلا أنفسهم} إذ لا يخدعون أنفسهم إنما يخادعونها.
قال أبو محمد: وقراءة من قرأ بغير ألف أقوى في نفسي، لأن الخداع فعل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/225]
قد يقع وقد لا يقع، والخدع فعل وقع بلا شك، فإذا قرأت: {وما يخدعون} أخبرت عن فعل وقع بهم بلا شك، وكذلك هو إذا قرأت: «وما يخادعون» جاز أن يكون لم تقع بهم المخادعة، وأن تكون قد وقعت، فـ «يخدعون» أمكن في المعنى، وبغير ألف قرأ الحسن وأبو جعفر ومورق وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمي وطلحة وابن أبي ليلى وابن أبي إسحاق والجحدري والسختياني وعيسى بن عمر وابن إلياس وعمرو بن عبيد قال أبو
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/226]
حاتم: العامة عندنا على «وما يخدعون» وهي على قراءة يحيى بن وثاب والأعمش، وهي اختيار أبي عبيد وأبي طاهر وغيرهما.
قال أبو محمد: والقراءة الأخرى حسنة ويقويها اتفاق أهل المدينة ومكة عليها، وهي قراءة الأعرج وابن جندب وشيبة وابن أبي الزناد ومجاهد وابن محيصن وشبل.
قال أبو محمد: وحمل القراءتين على معنى واحد أحسن، وهو أن «خادع وخدع» بمعنى واحد في اللغة، فيكون «وما يخادعون وما يخدعون» بمعنى واحد من فاعل واحد). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/227]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (5- {وَمَا يُخْادَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [آية/ 9]:-
بالألف وضمٌ الياء، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمرو.
لأن (يُخادِعُونَ) هاهنا بمعنى: يخدعون، فإن فاعل قد جاء والفعل فيه
[الموضح: 244]
من واحد، كعاقبت اللص، وطارقت النعل، وإنما جاء هاهنا فاعل بمعنى فعل ليشاكل لفظه لفظ الأول وإن كان المعنى غير الأول طلبًا لمزاوجة اللفظ.
وقرأ الباقون "يخدعون" مفتوحة الياء من غير ألفٍ.
لأن فاعل في القراءة الأولى بمعنى فعل أيضًا، فإذا كان كذلك ففعل الذي هو الأصل أولى؛ لأنه أخصّ بفعل الواحد من فاعل الذي هو في غالب الأمر من اثنين، ويقوِّيه قوله تعالى في الآية الأخرى {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ). [الموضح: 245]

قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فزادهم اللّه مرضًا)
كسر حمزة الزاي من "فزادهم). وكذلك قرأ ابن عامر.
وفتح الباقون الزاي وما أشبهها.
غير أن نافعا يلفظ بها بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب.
[معاني القراءات وعللها: 1/133]
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه احتج لحمزة وكسرة الزاي لقولك: (زدت) فتكسر الزاي،
وقوله: (في قلوبهم مرضٌ).
اتفقوا كلهم على فتح الراء من (مرض).
وروى ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأ: (في قلوبهم مرضٌ) ساكنة الراء.
قال أبو منصور: ولا يعرج على رواية ابن دريد، فإنه غير ثقة والقراءة (مرض) لا غير.
قوله جلّ وعزّ: (بما كانوا يكذبون).
قرأ عاصم وحمزة والكسائي (يكذبون) خفيفا وقرأ الباقون: (يكذّبون) مشددا.
فمن قرأ: (يكذبون) فمعناه: بكذبهم.
ومن قرأ: (يكذّبون) فمعناه: بتكذيبهم الأنبياء، و(ما) في الفعلين (ما) المصدر، المعنى: بكذبهم، أو: بتكذيبهم). [معاني القراءات وعللها: 1/134]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (9- وقوله تعالى: {فزادهم الله مرضا}
قرأ حمزة وابن عامر برواية ابن ذكوان {فزادهم الله} بالإمالة، وكذلك شاء وجاء وفتح الباقي. وقرأ الباقون كلهم بفتح ذلك كله.
فمن كسر فحجته أن عين الفعل منها مكسورة، وإذا ردها المتكلم إلى نفسه كانت ألفًا مكسورة نحو: زاد وزدت، وطاب وطبت وشاء وشئت، فلهذه العلة قرأ حمزة {فلما زاغوا أزاغ الله قلوهم} بالإمالة {أزاغ الله} بالفتح، لأنك تقول زغت وأزغت، وكذلك {فأجآها المخاض} ولم يقرأ {فأجاها} بالإمالة؛ لأنك تقول: أجأت.
ومن فتح أوائلها فإنه أتى بالكلمة على أصلها، وأصل كل فعل إذا كان ثلاثيًا أن يكون أوله مفتوحًا.
ومن كسر بعضًا وفتح بعضًا فإنه أتى باللغتين ليعلم أن هذا جائز، وأن لا يخرج القارئ إذا قرأ بأحدهما أو بهما، كما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ملك يوم الدين} و{مالك يوم الدين}.

10- وقوله تعالى {بما كانوا يكذبون}.
قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير وابن عامر {يكذبون} مشددة.
وقرا الباقون {يكذبون}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/65]
قال أبو عبد الله رضي الله عنه سمعت ابن مجاهد يقول: معنى القراءتين متقارب؛ لأن من كذب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب غيره؛ لأن كذب فعل لازم يقال: كذب زيد في نفسه، وكذب وأكذب غيره، وفرق الكسائي بين كذب وأكذب فقال: يقال: أكذبت فلانًا إذا أخبرت أن الذي جاء به كذب وإن كان صادقًا في نفسه، وكان يقرأ: {فإنهم لا يكذبونك}.
وقال الآخرون: كذب زيد في نفسه وكذب غيره وأكذبه: إذا صادفه كاذبًا كما يقال: أحمقت زيدًا، أي صادفته أحمق، وكذلك أحمدته أي أصبته محمودًا، كما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم: «لقد سألناكم فما أبخلناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم» أي: ما صادفناكم بخلاء جبناء ممدودان. والصواب: أن عمرو بن معد يكرب قال لقوم من العرب هذا.
أخبرنا ابن دريد، عن أبي عثمان عن التوزي، عن أبي عبيدة أن عمرو بن معد يكرب أتى مجاشع بن مسعود بالبصرة يسأله الصلة فقال: اذكر حاجتك.
فقال: حاجتي صلة مثلي، فأعطاه عشرين ألفًا، وفرسًا من بنات الغمراء
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/66]
وسيفًا قياميًا، وغلامًا خبازًا. فلما خرج من عنده قال له أهل المجلس: كيف وجدت صاحبك؟
قال: لله در بني سليم ا أشد في الهيجاء قتالها، وأكرم في اللزبات عطاءها، وأثبت في المكرمات بناءها، والله لقد قاتلتها فما أجبنتها، وسألتها فما أبخلتها وهاجيتها فما أفحشتها. فأما قول الشاعر:
لست أبالي أن أكون محمقه
إذا رأيت خصية معلقه
فإنه يُقال: أحمقت المرأة: إذا ولدت الحمقى، فتقول هذه المرأة: لست أبالي إذا ولدت ذكرًا أن يكون أحمق). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/67]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله...
قوله، عزّ وجلّ: فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10].
قرأ حمزة فزادهم اللّه مرضاً بكسر الزاي. وكذلك شاء وجاء وطاب وخاف وضاق وضاقت، وفتح الزاي من:
زاغت الأبصار [الأحزاب/ 10] وكسر الزاي من قوله: فلمّا زاغوا [الصف/ 5] وفتح الزاي في أزاغ اللّه قلوبهم [الصف/ 5] وكسر الراء من: بل ران على قلوبهم [المطففين/ 14] وفتح الجيم من فأجاءها [مريم/ 23].
وكان ابن عامر يكسر من ذلك كلّه ثلاثة أحرف:
(فزادهم، وشاء وجاء).
وكان نافع يشمّ الزاي من (فزادهم) الإضجاع في رواية خلف عن إسحاق وابن جماز وإسماعيل بن جعفر عنه، وكذلك أخوات (فزادهم) لا مفتوح ولا مكسور.
قال ابن سعدان عن إسحاق: كل ذلك بالفتح.
قال ابن سعدان. وكان إسحق إذا لفظ «فزادهم» كأنه
[الحجة للقراء السبعة: 1/320]
يشير إلى الكسر قليلا، فإذا قلت له: إنك تشير إلى الكسر، قال: لا، ويأبى إلا الفتح.
وقال ابن جماز: كان نافع يضجع من ذلك كله قوله:
خاب [طه/ 61].
حدثنا ابن مجاهد قال: أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي موسى الهروي، عن عباس، عن خارجة، عن نافع، مكسورة يعني (خاب).
وقال خلف وابن سعدان عن إسحاق عن نافع: (بل ران)، الراء بين الفتح والكسر.
قال محمد بن إسحاق عن أبيه عن نافع: (بل ران) مفتوحة الراء.
وكان عاصم لا يميل شيئا من ذلك إلّا قوله: بل ران على قلوبهم في رواية أبي بكر عنه، وروى عنه حفص الفتح.
وكان الكسائي يقول في ذلك كلّه كقول عاصم ويميل (بل ران).
[الحجة للقراء السبعة: 1/321]
وروى أبو عبيد عن الكسائي في: شاء [البقرة/ 20] وجاء [النساء/ 43] بين الفتح والكسر.
وقال نصير بن يوسف وغيره عنه: إنّه فتحها.
وكان ابن كثير وأبو عمرو يفتحان ذلك كلّه.
قوله تعالى: في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10].
قالوا: زاد يزيد زيادة وزيدا، وفي التنزيل: للّذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ [يونس/ 26].
وقالوا: زيدا، أنشد أبو زيد:
كذلك زيد المرء ثم انتقاصه وزدت فعل يتعدى إلى مفعولين؛ قال: وزدناهم هدىً [الكهف/ 13] وقال: زدناهم عذاباً فوق العذاب [النحل/ 88]، وقال: وزاده بسطةً في العلم والجسم [البقرة/ 247].
وأما قوله: فزادهم إيماناً [آل عمران/ 173]
[الحجة للقراء السبعة: 1/322]
فالمعنى: زادهم قول الناس لهم إيمانا، أضمر المصدر في الفعل وأسند الفعل إليه، وكذلك قوله: فلمّا جاءهم نذيرٌ ما زادهم إلّا نفوراً [فاطر/ 42]، أي: ما زادهم مجيء النذير، وقال:
وصدق اللّه ورسوله وما زادهم إلّا إيماناً [الأحزاب/ 22] أي: ما زادهم نظرهم إليهم أو رؤيتهم لهم إلّا إيمانا.
ومثل ذلك من إضمار المصدر في الفعل لدلالة الفعل عليه قوله تعالى: والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلّا تفعلوه [الأنفال/ 73] أي: إلا تفعلوا هذه الموالاة.
ومثل ذلك كثير في التنزيل وغيره.
وقال: ولبثوا في كهفهم ثلاث مائةٍ سنين وازدادوا تسعاً [الكهف/ 25] أي: ازدادوا لبث تسع، فحذف المصدر وأقيم المضاف إليه مقامه، فانتصاب تسع على هذا انتصاب المفعول به لا انتصاب الظرف، كما أن المضاف لو ظهر وأضيف إلى التسع كان كذلك.
وأما المرض فقال أبو عبيدة في تأويله: شك ونفاق، كأنه جعل ما في قلوب المنافقين من ذلك خلاف ما في قلوب المؤمنين من اليقين والإيمان.
وقيل: إن قوله: فيطمع الّذي في قلبه مرضٌ [الأحزاب/ 32] أي فجور.
[الحجة للقراء السبعة: 1/323]
وقال سيبويه: أمرضته: جعلته مريضا، ومرّضته: قمت عليه ووليته.
وقال السدي: فزادهم الله مرضا، أي زادهم عداوة الله مرضا. وهذا في حذف المضاف كقول من قال في (يخادعون اللّه): إنّ المعنى يخادعون رسول الله، ومثله في حذف المضاف قوله: فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه [الزمر/ 22] المعنى من ترك ذكر الله، كما قال في صفة المنافقين: يراؤن النّاس ولا يذكرون اللّه إلّا قليلًا [النساء/ 142].
ويجوز أن يكون المعنى أنّهم إذا ذكر الله قست قلوبهم خلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم [الأنفال/ 2].
الإعراب
قال: زادهم، فلم ينقل حركة العين التي هي الكسرة التي نقلت فتحة العين من زاد إليها إلى الفاء كما نقلت في زدت، وشذ ذلك في الاستعمال والقياس، لما كان يؤدي إليه من التباس فعل بفعل، ولأنّ الألف إذا ثبتت في زاد وباع- والذي يوجب قلبها ألفا هو تقدير الحركة فيها- صارت الحركة بانقلاب الحرف إلى الألف بمنزلة الثابتة في الحرف، فلما كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/324]
كذلك، وكان الحرف الذي هو متحرك بها ثابتا غير محذوف لم ينقل عنه، ولذلك لم تنقل الحركة التي تجب للّام في مصطفون والأعلون ونحوهما إلى ما قبلها، كما نقل في قاضون وغازون ورامون. وعلى هذا لم يقدّر حذف الحركة من الألف فيمن روى:
كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا وقوله:
ولا ترضّاها ولا تملّق ونحو ذلك، كما قدرنا حذفها من قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي و: لم تهجو ولم تدع لأن الياء قد جاء متحركا في نحو:
غير ماضي
[الحجة للقراء السبعة: 1/325]
وليس الألف كذلك، لأنّه في ثباتها ألفا كأن الحركة ثابتة فيها، فلا يصح نقلها إلى غيرها من الحروف مع ثباتها في الموضع الذي هي ثابتة فيه. وليس كذلك: بعت وقلت وخفت، لأنّك في هذه المواضع قد حذفت الحروف، والحروف إذا حذفت قد تنقل حركاتها إلى ما قبلها. ألا ترى الخب في التخفيف، وضوا، ومولة، وجيل، ونحو ذلك.
وقد تنقل حركة الحرف المتحرك إلى ما قبله والحرف ثابت غير محذوف، نحو قول من قال: قتّل في اقتتل، فإذا حذف كان نقل حركته إلى ما قبله أولى ليدل على المحذوف كما أجمع على ذلك في حذف الهمز في التخفيف.
فأمّا وجه قول من أمال الألف في زاد، فهو أنّه أراد أن يدل بالإمالة على أن العين ياء، كما أميلت الألف في حبالى، ليعلم أن الواحد من هذا الجمع قد كانت الإمالة جائزة فيه،
[الحجة للقراء السبعة: 1/326]
وكما أبدلت الواو من الهمزة المنقلبة عن الحرف الزائد في هراءى وأداءى وعلاءى، ليعلم أن الواو كانت ظاهرة في الواحد، ورفضوا أن يبدلوا منها الياء كما أبدلت منها في خطايا ومطايا ليعلم أن الواو كانت ثابتة في آحاد هذه الجموع.
وكما صحّحوا الواو في مقاتوه ليعلموا أن الواو في واحده، وهو مقتوي، قد صحت.
وكذلك صحّحوا الواو في سواسوة فيما حكاه أبو عمر وأبو عثمان عن أبي عبيدة ليعلم أنّه من مضاعف الأربعة، فكما حافظوا على هذه الحروف في هذه المواضع فألزموها ما يدل عليها، كذلك أمال من أمال الألف ليحافظ على الحرف الذي هو الأصل.
ومما يقوّي قول من أمال (زاد) ونحوه ليدل بالإمالة على الياء أن الجميع أبدلوا من الضمة كسرة في بيض وعين وجيد جمع أبيض وأعين وجيداء لتصح الياء، ولا تنقلب إلى الواو.
فكما حوفظ على تصحيح الياء في هذه الأشياء كذلك حوفظ عليها بإمالة الألف نحوها، لتدلّ عليها. يدلك على ذلك أنّ الذين أمالوا نحو: «زاد، وباع، وناب، وعاب»، لم يميلوا نحو: عاذ، وعاد، ولا بابا، ومالا، ولا ما أشبه ذلك مما العين
[الحجة للقراء السبعة: 1/327]
منه واو حيث لم تكن في الكلمة ياء ولا كسرة فتنحى الألف بالإمالة نحوهما.
ومما يقوي الإمالة في زاد ونحوه: أنّه اجتمع فيه أمران كل واحد منهما يوجب الإمالة: وهو لحاق الكسرة أول فعلت، والآخر: أن تمال الألف ليعلم أنّها من الياء. فإذا كان كل واحدة من هاتين الخلتين على الانفراد توجب الإمالة في هذا النحو، فإذا اجتمعتا كان أجدر أن توجباها وتجلباها.
ومما يقوّي الإمالة في: زاد وباع وكال ونحو ذلك، أنّ الحروف المستعلية والراء إذا كانت مفتوحة تمنعان الإمالة، ألا ترى أنّ من أمال نحو: عالم، وسائل، لم يمل نحو ظالم، وغانم، وراشد، ولم يمل، رابيا في قوله:
فاحتمل السّيل زبداً رابياً [الرعد/ 17] لمكان المستعلي والراء المفتوحة، ولم يجعلوهما في هذا الموضع تمنعان الإمالة كما منعتا في غيره. فلولا تأكد الإمالة في ألفات هذه الأفعال لما أمالوها مع ما يمنع من الإمالة في غير هذا الموضع.
قال سيبويه: بلغنا عن ابن أبي إسحاق أنّه سمع كثير عزة يقول: صار مكان كذا. وإذا لم يمنع المستعلي أولا في
[الحجة للقراء السبعة: 1/328]
صار لم يمتنع آخرا في زاغ، وإذا لم يمنعها المستعلي لم تمنع الراء في نحو: بل ران على قلوبهم [المطففين/ 14].
بسم الله: اختلفوا في ضمّ الياء والتشديد وفتحها والتخفيف في قوله تعالى: بما كانوا يكذبون [البقرة/ 10].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: بما كانوا يكذبون، بضم الياء وتشديد الذال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: (يكذبون) بفتح الياء وتخفيف الذال.
قال أبو علي: كذب يكذب كذبا وكذابا. قال: أفترى على اللّه كذباً [سبأ/ 8].
وقال الأعشى:
والمرء ينفعه كذابه فالكذب كالضحك واللعب.
[الحجة للقراء السبعة: 1/329]
قال سيبويه: والكذاب كالكتاب والحجاب. وفي التنزيل: وكذّبوا بآياتنا كذّاباً [النبأ/ 28]، فالكذّاب على وزن الإكرام، ولم يجيء المصدر كمصادر دحرج وصعرر ليعلم أن الفعل ليس للإلحاق، كما لم يجيء أصمّ وأعدّ على وزن قردد وجلبب.
وحكى أبو زيد بيتا ذكر أنه لجريبة بن الأشيم، جاهلي وهو:
فإذا سمعت بأنّني قد بعته... بوصال غانية فقل كذّبذب
قال أبو زيد: كذّبذب: كاذب، وحكي عن أبي عمر في تفسيره: كذب.
فالكلمة على تفسير أبي زيد صفة وعلى ما حكي من تفسير أبي عمر اسم، فيكون المبتدأ المضمر: القائل ذلك كاذب، وعلى القول الآخر ما سمعت كذب.
وهذه الكلمة تحكى فيما شذ عن سيبويه من الأبنية.
[الحجة للقراء السبعة: 1/330]
ولولا ثقة أبي زيد وسكون النفس إلى ما يرويه لكان ردها مذهبا، لكونه على ما لا نظير له، ألا ترى أن العين إذا تكرر مع اللام في نحو صمحمح وجلعلع لا يكرر إلا مرتين، وقد تكررت في هذه ثلاث مرات. ومع ذلك فقد قالوا:
مرمريس، فتكررت الفاء مع العين فيها ولم تتكرر في غيرها، ولم يلزم من أجل ذلك أن يردّ ولا يقبل، فكذلك ما رواه أبو زيد من هذه الكلمة.
والكذب: ضرب من القول، وهو نطق، كما أن القول نطق.
فإذا جاز في القول الذي الكذب ضرب منه أن يتسع فيه فيجعل غير نطق في نحو:
قد قالت الأنساع للبطن الحق ونحو قوله في وصف الثور:
فكرّ ثم قال في التفكير
[الحجة للقراء السبعة: 1/331]
وجاز أن يجعل في هذه المواضع وغيرها غير نطق، فكذلك يجوز في الكذب أن يجعل غير نطق في نحو قوله:
... كذب القراطف والقروف فيكون في ذلك انتفاء لها، كما أنّه أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به كان انتفاء للصدق فيه. وكذلك قول الآخر:
إذا المعسيات كذبن الصّبو... ح خبّ جريّك بالمحصن
أي: إذا انتفى الصبوح منهن، فلم يوجد فيهن، أطعمت من مدّخر الطعام وغير ألبان هذه الإبل التي يظن أن فيهن الصبوح، فجعل كون الشيء على خلاف ما يظنّ كذبا وإن لم يكن قولا، فعلى هذا قالوا: «كذب القراطف»، أي: هو منتف
[الحجة للقراء السبعة: 1/332]
ليس له وجود، كما أن كذب في الخبر على ذلك، فكذلك كذب الصبوح، أي: ليس يوجد، وكذب القراطف أي فأوجدوها بالغارة، وكذلك كذب عليكم العسل، وحمل فلم يكذّب، [أي: لم يجعل الحملة في حكم غير الحملة، ولكنه أوجدها وأوقعها]، وقالوا: حمل عليه ثم أكذب، يعنون كذب، وعلى هذا قالوا: حملة صادقة، وصدق القوم القتال.
وقال:
فإن يك ظني صادقي وهو صادقي فكما وصفوه بالكذب وصفوه بخلافه الذي هو الصدق، وكذلك قوله: ليس لوقعتها كاذبةٌ [الواقعة/ 2] أي: هي الواقعة وغير منتف كونها.
والكاذبة يشبه أن يكون مصدرا، كالعاقبة والعافية ونحو ذلك. فالفعل الذي هو كذب في هذا النحو ينبغي أن يكون الفاعل مسندا إليه، وعليك: معلّقة به.
فأمّا ما روي من قول من نظر إلى بعير نضو فقال لصاحبه: «كذب، عليك البزر والنّوى» بنصب البزر، فإن عليك فيه لا يتعلق بكذب، ولكنه يكون اسم الفعل، وفيه ضمير
المخاطب، فأما كذب ففيه ضمير الفاعل كأنه قال: كذب السّمن، أي: انتفى من بعيرك فأوجده بالبزر والنّوى، وهما مفعولا عليك وأضمر السّمن لدلالة الحال عليه من مشاهدة عدمه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/333]
فأمّا قوله:
كذبت عليكم أوعدوني وعلّلوا... بي الأرض والأقوام قردان موظبا
فإنّ معنى (كذبت عليكم): لست لكم، وإذا لم أكن لكم ولم أعنكم كنت منابذا لكم ومنتفية نصرتي عنكم، ففي ذلك إغراء منه لهم به، فهو مثل: كذب القراطف.
وقال أبو زيد: قد كعّ الرجل عن الأمر فهو يكع، إذا أراد أمرا ثم كفّ عنه مكذّبا عند قتال أو غيره. قال: وتقول:
احرنجم الرجل فهو محرنجم، وهو الذي يريد الأمر ثم يكذّب فيرجع، فقد استعمل أبو زيد هذه اللفظة كما ترى في الموضع الذي ينتفي فيه ما كان أريد فلم يوقع، وكذلك قول أبي دواد:
قلت لمّا فصلا من قنّة... كذب العير وإن كان برح
يقول: لما فصل الفرس والحمار أخذ الحمار على يمين الفارس، وذاك أنّه يصعب الطعن من ناحية يمين الفارس،
[الحجة للقراء السبعة: 1/334]
فقال: كذب العير، فإنّه يطعن وإن برح، فجعل تقديره انتفاء الطعن عنه كذبا منه، فهذا الأصل في هذه الكلمة، وليس كما ذكر بعض رواة اللغة أنّ كذّب يجيء زيادة في الحديث.
فأمّا قول عنترة:
كذب العتيق وماء شن بارد... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
فإن شئت قلت فيه: إن المعنى في «كذب» أنّه لا وجود للعتيق الذي هو التمر، فاطلبيه، وإذا لم تجدي التمر فكيف تجدين الغبوق؟
وإن شئت قلت: إن الكلمة لما كثر استعمالها في الإغراء بالشيء والبعث على طلبه وإيجاده صار كأنّه قال بقوله لها:
عليك العتيق، أي: الزميه، ولا يريد بها نفيه، ولكن إضرابها عما عداه، فيكون العتيق في المعنى مفعولا به، وإن كان لفظه مرفوعا مثل: سلام عليك ونحوه مما يراد به الدعاء، واللفظ على الرفع.
وحكى محمد بن السريّ عن بعض أهل اللغة- في كذب العتيق- أنّ مضر تنصب به. وأن اليمن ترفع به، وقد تقدم ذكر وجه ذلك.
ومن الكذب الذي ليس في الإخبار كقوله: كذب
[الحجة للقراء السبعة: 1/335]
القراطف- قول ذي الرّمّة:
وللشول أتباع مقاحيم برّحت... به وامتحان المبرقات الكواذب
فالكواذب: النوق التي تظهر أنها قد لقحن وليس كذاك، فيردهن الفحل إلى الطّروقة. وقريب من ذلك قوله:
إذا قلت عاج أو تغنّيت أبرقت... بمثل الخوافي لاقحا أو تلقّح
فالمتلقّح: التي تري أن بها لقاحا، وليست كذلك، فهي مثل الكواذب في بيته الآخر.
[الحجة للقراء السبعة: 1/336]
ومما يبيّن أن الكذب في هذه الأشياء التي ليست من القول على ما تأولنا قول الأعشى:
إذا ما الآثمات ونين حطّت... على العلّات تجتزع الإكاما
قالوا: الآثمات: البطاء اللواتي لا يصدقن في السير، فهذا يدلك على صحة ما ذكرناه في قولهم: حمل فلم يكذّب، وكذب عليك الحجّ، وكذب عليكم العسل، ألا ترى أن الإثم كالكذب كما أن البر كالصدق؟
قال أبو علي: حجة من قال: يكذبون [البقرة/ 10]- بفتح الياء وتخفيف الذال، أن يقول: إن ذلك أشبه بما قبل الكلمة وبما بعدها، فالذي قبلها مما يدل على الكذب ويكذبون- قوله تعالى: ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين [البقرة/ 8].
فقولهم: آمنا بالله كذب منهم، فلهم عذاب أليم بكذبهم.
هذا الذي تقدم قولهم له وحكايته عنهم.
وما بعدها قوله تعالى: وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن [البقرة/ 14].
فقولهم- إذا خلوا إلى شياطينهم- إنا معكم دلالة على
[الحجة للقراء السبعة: 1/337]
كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم، وإذا كان أشبه بما قبله وما بعده كان أولى.
ومما يدل على ترجيح ذلك أن يقال: إن قوله: ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون لا يخلو من أن يراد به المنافقون أو المشركون أو الفريقان جميعا.
فإن كان المعنيّون بذلك المنافقين فقد قال الله فيهم:
واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون [المنافقون/ 1].
وإن كانوا المشركين فقد قال: وإنّهم لكاذبون ما اتّخذ اللّه من ولدٍ [المؤمنون/ 90، 91] وقال: وإنّهم لكاذبون. أصطفى البنات على البنين [الصافات/ 152، 153].
وإن كان الذين عنوا به الفريقين فقد أخبر عنهم جميعا بالكذب الذي يلزم أن يكون فعله يكذبون دون يكذّبون.
وحجة من قال: (يكذّبون) أن يقول: يدل على التثقيل قوله تعالى: ولقد كذّبت رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كذّبوا [الأنعام/ 34].
وقوله تعالى: بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه [يونس/ 39] وإن كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم
[الحجة للقراء السبعة: 1/338]
[يونس/ 41] وإن يكذّبوك فقد كذّبت رسلٌ من قبلك [فاطر/ 41] والّذين كفروا وكذّبوا [البقرة/ 39] ونحو ذلك من الآي.
فإن قلت: فكيف جاء: فإنهم لا يكذبونك، والمعنى لا يجدونك كاذبا، لأنّهم قد عرفوا أمانتك وصدقك، وعرفت بذلك فيهم. قال أبو طالب:
إنّ ابن آمنة الأمين محمّدا يؤكد ذلك قوله: ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون [الأنعام/ 33] أي بردّ آيات الله، أو إنكار آيات الله يجحدون، أي: يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك.
ومثل ذلك قوله تعالى: وآتينا ثمود النّاقة مبصرةً فظلموا بها [الاسراء/ 59]، أي: ظلموا بردها أو الكفر بها، فكما أن الجارّ في قوله:
(فظلموا بها) من صلة (ظلموا) كذلك يكون من صلة الظلم في قوله: ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون [الأنعام/ 33].
ويجحدون محذوف المفعول للدلالة عليه والتكذيب أكبر من الكذب، لأنّ كلّ من كذّب صادقا فقد كذب، وليس كلّ من كذب كان مكذّبا لغيره). [الحجة للقراء السبعة: 1/339]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو: [فِي قُلُوبِهِمْ مَرْضٌ] ساكنة.
قال أبو الفتح: لا يحوز أن يكون [مَرْض] مخففًا من مَرَض؛ لأن المفتوح لا يخفف؛ وإنما ذلك في المكسور والمضموم كإِبِل وفَخِذ، وطُنُب وعَضُد، وما جاء عنهم من ذلك في المفتوح فشاذ لا يقاس عليه، نحو قوله:
وما كل مبتاع ولو سَلْف صفقُه ... يراجع ما قد فاته برِداد
يريد: سَلَف، فأسكن مضطرًّا، وعلى أننا قد ذكرنا هذا في كتابنا الموسوم "بالمنصف"، وهو شرح تصريف أبي عثمان، وهذا ونحوه قد جاء في الضرورة، والقرآن يُتخير له ولا يتخير عليه.
[المحتسب: 1/53]
وينبغي أن يكون [مَرْض] هذا الساكن لغة في "مرَض" المتحرك؛ كالحلْب والحلَب، والطرْد والطرَد، والشل والشلل، والعيب والعاب، والذَّيم والذَّام. وقد دللنا في كتابنا الخصائص على تقاود الفتح والسكون، ولأنهما يكادان يجريان مجرى واحدًا في عدة أماكن.
منها أن كل واحد منهما قد يُفْزَع ويُسْتَروح إليه من الضمة والكسرة، ألا تراهم قالوا في غُرُفات ونحوها تارة: غُرَفَات بالفتح، وأخرى: غُرْفَات بالسكون، كما قالوا في سِدِرات تارة: سِدَرات بالفتح، وأخرى: سِدْرات بالسكون.
وأجرَوْا أيضًا الياء المفتوحة في اقتضائها الإمالة مجرى الياء الساكنة، فأمالوا نحو: السَّيَال والصِّيَاح، كما أمالوا نحو: شَيْبان وقيس عَيْلان، وقالوا: ضرب يدها، فأمالوا فتحة الدال للياء المفتوحة، وقالوا أيضًا في تكسير جواد: جياد، فأعلُّوا العين كما أعلوها في ثوب وثياب، فأجروا "واو" جواد مجرى "واو" ثوب، وقالوا: مرِض مَرْضًا فهو مارض، كما قالوا: حَرِد حَرْدًا فهو حارد، والفعل كالأصل في مصادر الثلاثية لا سيما في المتعدي منها، والمتعدي أكثر من غير المتعدي؛ فلذلك ساغ فيها فَعْل.
وإنما كان المتعدي أكثر من غيره من قِبَل أن الفعل قد يكون حديثًا عن المفعول به، نحو: ضُرب زيدٌ، كما يكون حديثًا عن الفاعل، نحو: قام زيد. فكما لَا بُدَّ للفعل من الفاعل، فكذلك كثر المتعدي؛ لأن في ذلك تسبُّبًا إلى أن يكون الفعل حديثًا عن المفعول). [المحتسب: 1/54]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}
[حجة القراءات: 87]
قرأ حمزة فزادهم الله بالإمالة وكذلك جاء وشاء وخاب وحاق وخاف وطاب وضاق وزاغ ودخل ابن عامر معه في جاء وشاء و{فزادهم الله} وحجتهما في ذلك أن فاء الفعل منها مكسورة إذا ردها المتكلّم إلى نفسه نحو زدت وجئت وطبت ولهذا قرأ حمزة {فلمّا زاغوا} بالإمالة أزاع الله بالفتح لأن فاء الفعل مفتوحة تقول أزغت وكذلك فأجاءها المخاض بغير إمالة لأنّك تقول أجأت وقرأ الباقون جميع ذلك بغير إمالة على أصل الكلمة وحجتهم في ذلك أن أصل كل فعل إذا كان ثلاثيا أن يكون أوله مفتوحًا
قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ {بما كانوا يكذبون} بالتّخفيف وقرأ الباقون بالتّشديد من كذب يكذب تكذيبًا أي إنّهم يكذبون النّبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وحجتهم ما روي عن ابن عبّاس قال إنّما عوتبوا على التّكذيب لا على الكذب وفي التّنزيل ما يدل
[حجة القراءات: 88]
على التثقيل {ولقد كذبت رسل من قبلك}
وحجّة أخرى أن وصفهم بالتكذيب أبلغ في الذّم من وصفهم بالكذب لأن كل مكذب كاذب وليس كل كاذب مكذبا
وحجّة التّخفيف أن ذلك أشبه ما قبل الكلمة وما بعدها فالّذي قبلها ممّا يدل على الكذب {ومن النّاس من يقول آمنا باللّه وباليوم الآخر} وقال الله {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} وما بعدها قوله {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم} فقوله {وإذا خلوا إلى شياطينهم} دلالة على كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم وإذا كان أشبه بما قبله وما بعده فهو أولى). [حجة القراءات: 89]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (4- قوله: {بما كانوا يكذبون} قرأه الكوفيون بفتح الياء مخففًا، وقرأه الباقون بضم الياء مشددًا.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/227]
5- وعلة من خفف أنه حمله على ما قبله؛ لأنه قال تعالى: {وما هم بمؤمنين} «8» فأخبرهم أنهم كاذبون في قوله: آمنا بالله وباليوم الآخر فقال: وما هم بمؤمنين، أي: ما هم بصادقين في قولهم، ثم قال: {ولهم عذابٌ أليم بما كانوا يكذبون} أي بكذبهم في قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وأيضًا فإن التخفيف محمول على ما بعده؛ لأنه قال تعالى ذكره بعد ذلك: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنما نحن مستهزئون} «14» فقولهم لشياطينهم إنا معكم، دليل على كذبهم في قولهم للمؤمنين: آمنا، فحسنت القراءة بالتخفيف، ليكون الكلام على نظام واحد، مطابق لما قبله ولما بعده، وأيضًا فلابد أن يراد بالآية المنافقون أو الكافرون، أو هما جميعًا، فإن أراد المنافقين فقد قال فيهم: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} «المنافقون 1» وإن أراد المشركين فقد قال فيهم: {وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد} «المؤمنون 90، 91» وإن أرادهما جميعًا فقد أخبرنا عنهم في هذين الموضعين بالكذب، فالكذب أولى بالآية، وبالتخفيف قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وطلحة، وابن أبي ليلى، والأعمش، وعيسى ابن عمر، وهو اختيار أبي عبيد وأبي طاهر وغيرهما.
6- وعلة من شدده أنه حمله أيضًا على ما قبله، وذلك أن الله جل ذكره قال عنهم: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا}، والمرض الشك، ومن شك في شيء فلم يتقينه، ولا أقر بصحته، ومن لا يقر بالشيء، ولا آمن بصحته، فقد كذب به وجحده، فهم مكذبون لا كاذبون، وأيضًا فإن التكذيب أعم من الكذب، وذلك أن كل من كذب صادقًا فقد كذب في فعله، وليس كل من كذب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/228]
مكذبًا لغيره، فحمل اللفظ، على ما يعم المعنيين، أولى من حمله على ما يخص أحد المعنيين، وقد قال أبو عمرو: إنما عوقبوا على التكذيب للنبي وما جاءوا به، لم يعاقبوا على الكذب، وروي نحوه عن ابن عباس، وبالتشديد قرأ الأعرج وأبو جعفر يزيد وشيبة ومجاهد وأبو رجاء وشبل، وهو اختيار أبي حاتم، وقال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا بالتشديد، قال: والتثقيل أحب إلي، مع ما أنها قراءة أهل المدينة ومكة، قال أبو محمد: والقراءتان متداخلتان ترجع إلى معنى واحد، لأن من كذب رسالة الرسل وحجة النبوة فهو كاذب على الله، ومن كذب على الله وجحد تنزيله فهو مكذب بما أنزل الله، قال أبو محمد: والتشديد أقوى في نفسي لأنه يتضمن معنى التخفيف، والتخفيف لا يتضمن معنى التشديد ولأنها قراءة أهل المدينة ومكة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/229]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (6- {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} [آية/ 10]:-
بإمالة الزاي، قرأها حمزة، وكذلك: جاء، وشاء، وطاب، وحاق، وخاف، وخاب، وضاقت.
لأنه أراد أن يدل بالإمالة على أن عين الكلمة ياءٌ، كما ألزموا في مُضارع فعل من هذا الباب يفعل بالكسر، ليدلّوا به على أن العين ياءٌ، ويقوي الإمالة في زاد ونحوه أنه اجتمع هاهنا شيآن كلاهما يجلب الإمالة، أحدهما: كسرة أول فعلت نحو: زدت وطبت، وعلى هذا إمالة خاف، والثاني: كون العين ياء، وكل واحدٍمن هذين السببين جالبٌ للإمالة على الانفراد، فإذا اجتمعا كان أولى بذلك.
[الموضح: 245]
ونافع يشم الإمالة في ذلك كلّه، إعلامًا بحُسن الإمالة فيه، وكون الفتح أصلًا.
وابن عامر يميل ثلاثة أحرف منها: جاء وشاء وزاد، ويفح الباقي؛ لأنه يريد الأخذ باللغتين من الإمالة والفتح، إذ الإمالة جائزة، والفتح هو الأصل، والتمسك بكل واحدٍ منهما حسن، ثم إنه يتبع في ذلك الأثر؛ إذ القراءة سنة.
وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب يفتحون جميع ذلك، ولا يميلون واحدًا منه؛ لأن الفتح هو الأصل، والإمالة داخلة عليه، وهي حكمٌ جائزٌ، وليس بحكم واجبٍ، وكثيرٌ من العرب لا يميلون شيئًا). [الموضح: 246]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (7- {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [آية/ 10]:-
بفتح الياء وتخفيف الذال، قرأها عاصمٌ وحمزة والكسائي.
و {ما} هاهنا مصدرية، وذاك أن تكون مع الفعل في معنى المصدر، والتقدير: يكذبهم، وهذه القراءة أشبه بما قبلها وهو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، لأن قولهم هذا كذب، وهي أليق بما بعدها أيضًا وهو {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}
[الموضح: 246]
فقولهم أيضًا كذبٌ، لقولهم لرؤسائهم {إنّا مَعَكُمْ}، ففي هاتين الآيتين دلالة على قوة قراءة من قرأ {يكذبون} بالتخفيف من الكذب.
وقرأ الباقون (يُكذِّبُونَ) بضم الياء وتشديد الذال، من التكذيب، وهو نسبةُ الغير إلى الكذب؛ لأن أولئك كانوا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم، إذ تركوا الإيمان به، كما قال تعالى: {الذين كفروا وكذبوا بآياتنا} فكثيرٌ من القرآن يتضمن ذكر التكذيب، ثم إن التكذيب أكثر من الكذب؛ إذ كل من كذب صادقًا فهو كاذب، وليس كل من كذب فهو مكذب، و{ما} أيضًا في هذه القراءة مصدريةٌ، والتقدير بكذيبهم). [الموضح: 247]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 09:42 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (11) إلى الآية (16) ]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (وإذا قيل لهم)
قرأ الكسائي ويعقوب: (قيل) و(غيض) و(سيء) و(سيئت) و(جيء)، بضم أوائل هذه الحروف حيث وقعت.
وعلتهما أن الأصل فيهن الضم، نحو: (قول) و(حول) و(سوق) و(غيض) و(سيئت).
وكان نافع يضم (سيء) و(سيئت)، ويكسر الباقي.
وكان ابن عامر يضم (سيء) و(سيئت) و(حيل) و(سيئ)، هذه الأربعة، ويكسر الباقي.
وروى هشام بن عمّار فيها عنه مثل قراءة الكسائي.
وروى شبل عن ابن كثير (سيء) و(سيئت)، وكذلك فعل نافع، وقرأ الباقون بكسر أوائل هذه الحروف كلها.
قال أبو منصور: من ضم فلأنها جاءت على وزن (فعل)، ومن
[معاني القراءات وعللها: 1/135]
كسر فلاستثقال الضمة مع كسرة الواو.
ومن ضم فإنه يشم ولا يشبع الضم -، والعربي الناشئ في البادية يطوع لسانه لضمة خفية يجفو عنها لسان الحضري المتكلف). [معاني القراءات وعللها: 1/136]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (11- وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم}
قرأ الكسائي: {وإذا قيل لهم} بإشمام القاف الضم، وكذلك
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/67]
{وسيق} و{جيئ} و{حيل} و{وسئ} و{وسيئت} و{غيض} وقرأ ابن عامر من ذلك أربعة أحرف بالضم وكسر الباقي {سيق} {وحيل} {وسيء} {وسيئت}.
وقرأ من ذلك حرفين نافع بالضم {وسيئ} {وسيئت}.
والباقون يكسرون أوائل ذلك كله فمن كسر يقول: هو فعل لم يُسم فاعله، والأصل قول مثل ضرب فاستقلوا الكسرة على الواو فنقلت إلى القاف بعد أن أزالوا حركة القاف، ثم قلبوا الواو ياء لانكسار ما قبلها كما قالوا: ميزان وميعاد وميقات والأصل: موزان وموعاد وموقات، فقلبوا الواو ياء لانكسار ما قبلها.
ومن ضم أولها قال: بقيت علامة ما لم يسم فاعله. وأما منكسر بعضًا وضم بعضًا، فقد قلت فيما تقدم: إنه جمع بين اللغتين. فأما قول الشاعر:
واستعجمت عجل وأم الرحال
وقول لا أهل لها ولا مال
فإن هذه لغة قوم يشبعون ضمة أول الحرف إذا لم يُسم فاعله، فتقلب
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/68]
الياء واوًا، وهي لا تدخل في القراءة بخلاف المصحف، ولأنها لغة رديئة شاذة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/69]

قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله: اختلفوا في ضم أوائل هذه الحروف وأخواتها وكسرها: فقرأ الكسائي: قيل [البقرة/ 11] وغيض [هود/ 44] وسيء [هود/ 77، والعنكبوت/ 33] وسيئت [الملك/ 27] وحيل [سبأ/ 54] وسيق [الزمر/ 71، 73] وجيء [الزمر/ 69، والفجر/ 23] بضم أول ذلك كله.
وكان نافع يضم من ذلك حرفين: (سيء)، و (سيئت)، ويكسر ما بقي.
وكان ابن عامر يضم أول: (سيق وسيء وسيئت وحيل)، ويكسر (غيض) و (قيل) و (جيء) في كل القرآن: الغين والجيم والقاف، هذه رواية ابن ذكوان عنه.
وقال الحلواني عن هشام بن عمار بإسناده عنه في
[الحجة للقراء السبعة: 1/340]
كلهن مثل الكسائي.
وروى عبيد بن عقيل عن شبل بن عبّاد عن ابن كثير: (سيء) و (سيئت) بضم السين مثل نافع.
وكان ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة يكسرون أوائل هذه الحروف كلّها.
وإذا قيل لهم لا تفسدوا... قالوا [البقرة/ 11] قال يقول قولا وقيلا، مثل ذكر يذكر ذكرا.
كأنّه متوّج روميّ... أو مقول توّج حميريّ
وقالوا: قيل، وهو فيعل مخفف كميت. يدلّك على
[الحجة للقراء السبعة: 1/341]
ذلك ظهور الياء فيه، والعين أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب.
والقياس في جمع قيل أقوال، مثل ميت وأموات.
وروي في الحديث: «إلى الأقيال العباهلة»،
والقياس الأقوال إذا كان جمع فيعل من القول.
ويجوز أن يكون الأقيال جمع قيّل الذي هو فيعل، من قولهم: تقيّل أباه إذا أشبهه، كأنّ كلّ ملك يشبه الآخر في ملكه، كما قيل له تبّع لمّا كان يتبع من قبله.
وقال أبو زيد: اقتل عليّ كذا، أي احتكم، وأنشد:
فلو أن ميتا يفتدى لفديته... بما اقتال من حكم عليّ طبيب
وقد اتسعوا في القول فاستعملوه في غير اللفظ. قال العجاج يصف ثورا:
فكرّ ثم قال في التفكير... إن الحياة اليوم في الكرور
[الحجة للقراء السبعة: 1/342]
وقد أجري القول أيضا مجرى الاعتقاد والمذهب في نحو: هذا قول أهل العدل، وهذا قول أبي حنيفة، يعنون بذلك رأيهم واعتقاداتهم، ليس اللفظ.
وعلى هذا قالوا: قيل في ذلك قول، فأسندوا إليه قيل.
ومعنى النهي فيما
روي: «إنّ الله ينهاكم عن قيل وقال»:
المجادلة بالباطل ليدحض به الحقّ، وليس على النهي عن الخوض في العربية وتعلّمها، لأنّ الحضّ على النظر فيها قد كثرت الرواية به عن السلف.
حدثنا إسماعيل بن محمد قال: حدثنا محمد بن عيسى العطار: قال حدثنا كثير بن هشام قال حدثنا عيسى بن إبراهيم عن الحكم بن عبد الله عن الزهري عن
[الحجة للقراء السبعة: 1/343]
سالم عن أبيه قال:
مرّ عمر بن الخطاب على قوم يرمون رشقا فقال: بئس ما رميتم.
قالوا: يا أمير المؤمنين: إنا قوم متعلمين.
فقال: والله لذنبكم في لحنكم أشدّ علي من ذنبكم في رميكم،
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «رحم الله رجلا أصلح من لسانه».
وقد أجروا أتقول مجرى أتظن، فقالوا: أتقول زيدا منطلقا؟ ولم يجر أكثر العرب حروف المضارعة الأخر مجرى التاء. قال لأنّ المخاطب لا يكاد يستفهم عن ظنّ غيره.
فمن ذلك قوله:
فما تقول بدالها (ما) نصب لكونها في موضع المفعول الأول، والجملة في موضع المفعول الثاني.
[الحجة للقراء السبعة: 1/344]
قال: وبنو سليم يجعلون جميع الأمثلة بمنزلة الظن.
والتّقوّل: تفعّل من القول، وقد غلب عليه الاستعمال فيما كان باطلا وغير صدق، كما أن الاختلاق كذلك، وفي التنزيل:
ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل [الأحقاف/ 44].
وزعم بعض المفسرين أنّها نزلت لمّا قالوا: لولا اجتبيتها من قوله تعالى: وإذا لم تأتهم بآيةٍ قالوا لولا اجتبيتها [الأعراف/ 203] وقال: إن هذا إلّا اختلاقٌ [ص/ 7].
فأمّا الإقالة في البيع فليس من هذا الباب، لأنّهم قد قالوا: قلته البيع وأقلته. حكاه سيبويه وأبو زيد، فدل قولهم:
قلته على أن العين ياء. ولكنّ الإقالة من قولهم: تقيّل أباه، إذا نزع إليه في الشبه، فكذلك الإقالة عود الملك بين المتقايلين إلى ما كان قبل عقد البيع، ألا ترى أنّه فسخ بين المتعاقدين وإن كانا بيعا آخر في حق الثالث.
حجة من قال: وإذا قيل لهم [النور/ 11] فأشمّ الضمة الكسرة وأمال بها نحوها:
أن ذلك أدلّ على فعل، ألا ترى أنّهم قد قالوا: كيد زيد يفعل، وما زيل يفعل، وهم يريدون فعل. فإذا حرّكوا الفاء هذه التحريكة أمن بها التباس الفعل المبنى للفاعل بالفعل المبني للمفعول، وانفصل بها، فدلّت عليه، وكان أشدّ إبانة للمعنى المراد.
ومن الحجة في ذلك أنهم قد أشمّوا نحو ردّ وعدّ وما
[الحجة للقراء السبعة: 1/345]
أشبه ذلك من التضعيف المبنى على فعل، مع أنّ الضمة الخالصة تلحق فاءه، فإذا كانوا قد تركوا الضمة الصحيحة إلى هذه في الموضع الذي تصح فيه الضمة فإلزامها حيث
يلزم الكسر فيه في أكثر اللغات أجدر. ودلّ استعمالهم هذه الحركة في ردّ ونحوه من التضعيف على تمكنها في قيل وبيع وكونها أمارة للفعل المبني للمفعول به، ولولا ذلك لم تترك الضمة المحضة إليها في قولهم: ردّ ونحوه.
ومن الحجة في ذلك أنّهم قالوا: أنت تغزين فألزموا الزاي إشمام الضمة و (زين) من تغزين بمنزلة قيل، فكما ألزم الإشمام هنا كذلك يلزم ذلك في قيل، ألا ترى من قال: قيل وبيع، قال: اختير وانقيد، فأشمّ ما بعد الخاء والنون لمّا كان بمنزلة قيل وبيع، فكما ألزم الإشمام نحو تغزين، لينفصل من باب ترمين، كذلك ألزم قيل وبيع الإشمام في الضمة، لينفصل من الفعل المبني للفاعل في كيد وزيل، وليكون أدلّ على فعل.
فإن قلت: فهلّا ألزم القاف في قيل ونحوه إشمام الضمة كما ألزم ذلك في تغزين؟
فالقول إنّ هذه الحركة لمّا لم تكن ضمة خالصة ولا كسرة محضة ضعفت في الابتداء لخروجها عمّا عليه الحركات اللاحقة أوائل الكلم المبتدأ بها، ألا ترى أنّ أبا عمرو أخذ بذلك في الإدراج فيما حكاه عنه سيبويه في قوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/346]
يا صالح ائتنا ولم يأخذ به في الاستئناف. فإن قلت: فهل يلزم أبا عمرو في قراءته: يا صالح ائتنا أن يقرأ: ومنهم من يقول ائذن لي [التوبة/ 49] فيشمّ الضمة نحو الكسرة.
فالقول: إن ذلك لا يلزم، لأنّ هذا الإشمام والإمالة بالضمة نحو الكسرة إنّما جاء فيما ليس بحركة إعراب، والضمة في يقول ضمة إعراب، والتي في يا صالح ائتنا وإن كانت مشابهة لحركة الإعراب فهي حركة بناء، فلا يلزم ذلك في قوله تعالى: ومنهم من يقول ائذن لي.
ومما يدلّك على أنّ هذه التحريكة قد صارت أمارة لبناء الفعل للمفعول به وأنّها مما يختصّ به الفعل أنّك لو سميت بمثل قيل وبيع شيئا وخلعت منه الضمير إن كان فيه لأخلصت الكسرة فقلت: قيل وبيع، فدلّ هذا من مذهب سيبويه على أن هذه الحركة أمسّ عنده بالفعل، وأشد لزوما له من الأمثلة التي تختص بالفعل، ولا تكون في الاسم نحو: ضرب وضورب وضرّب: ألا ترى أنّك لو سميت بشيء من ذلك مجردا من الضمير لم تغيره عن بنائه إلى ما يختص الاسم وقد رأى تغيير هذه الحركة وإخلاصها كسرة.
ومما يقوي قول من قال: قيل أن هذه الضمة المنحوّ بها نحو الكسرة قد جاءت في نحو قولهم: شربت من المنقر،
[الحجة للقراء السبعة: 1/347]
وهذا ابن عور وابن بور، فأمالوا هذه الضمات نحو الكسرة لتكون أشدّ مشاكلة لما بعدها وأشبه به وهو كسر الراء، فإذا أخذوا بهذا لتشاكل اللفظ، وحيث لا يميّز معنى من معنى آخر فأن يلزموا ذلك حيث يزيل اللبس ويخلّص معنى من معنى أجدر وأولى.
حجة من قال: (قيل)، فأخلص الكسرة، ولم يحرك بضمة ممالة نحو الكسرة
الحروف التي تنقل حركاتها إلى ما قبلها على ضربين:
أحدهما: أن يكون نقلا من حرف صحيح.
والآخر: أن يكون نقلا من حرف علة.
فحروف الصحة التي تنقل حركاتها إلى ما قبلها على ضربين:
أحدهما: أن يكون في تضعيف.
والآخر: أن يكون في غير تضعيف.
فأما التضعيف فنحو أعدّ، وأصمّ، واستعدّ، ومفرّ، ومردّ، فما قبل حرف التضعيف في هذه الأشياء إذا كان ساكنا ولم يك مدّة، ألقيت حركة المضاعف عليه، وإذا كان متحركا حذفت الحركة ولم تلق على شيء نحو: اعتدّ واشتدّ.
وأما غير التضعيف فعلى ضروب منها نقل الحركة من الهمزة إلى الحرف الذي قبلها إذا لم يكن الحرف للمدّ فقط.
[الحجة للقراء السبعة: 1/348]
ومنها نقل حركة افتعل ويفتعل نحو يهتدي ويقتدي.
ومنها الحركة في الوقف، وهي على ضربين:
أحدهما: أن يكون حركة إعراب كقوله:
إذ جدّ النّقر والآخر: أن يكون حركة البناء نحو اضربه وقده، فهذا نقل الحركة من حروف الصحّة.
وأمّا نقل الحركة من حروف العلة فنحو الفعل من القول والبيع، والفعل فيه على ضربين.
أحدهما: أن يكون فاعله ضميرا يتصل بالفعل، والآخر أن يكون ظاهرا لا يتصل به فإذا بني الفعل للفاعل الظاهر قيل:
قام زيد، وباع عمرو، فلا تنقل في هذا حركة العين عن موضعها.
وقد شذّ قولهم: كيد زيد يفعل، وما زيل، فلا تنقل الحركة من غير هذا إلى الفاء، كما تنقل إذا اتصلت بضمير المخاطب والمتكلم، نحو قمت، وبعت، فنقلت الحركة التي كانت للعين إلى الفاء.
فأما حجّة من قال: قيل- فحرك الفاء بالكسر- أنّهم يزعمون أنّ هذه اللغة هي الأصل، وما عداها داخل عليها، يدلّ على ذلك أنّ الأصل فعل، فنقلت حركة العين إلى الفاء، كما نقلت حركة العين إلى الفاء إذا بنيت الفعل للفاعل من
[الحجة للقراء السبعة: 1/349]
قلت، لأنّ حركة العين من فعلت الضمة في بناء الفعل للفاعل بعد نقل فعلت إلى فعلت، نقلت الضمة إلى الفاء، كما نقلت الحركة التي هي الكسرة إلى الفاء، إذا بنيت الفعل للمفعول، فلحق الإعلال العين بالقلب لاجتماع المقاربة كما يلحق اللام في: غزا، ورمى، لتوالي ذلك. ولو فصل السكون لصحّ كما صح نحو: غزو ورمي، وأتبع المضارع الماضي، ولحق الإعلال في قيل العين وما قبلها.
أمّا الإعلال في العين فيقلبها إلى الألف، وما قبلها اعتلّ بنقل حركة العين إليها وحذف حركتها، ولحق الإعلال في باب العين العين وما قبلها كما لحق اللام وما قبلها في باب غزا ورمى.
وإنما نقلت الحركة في قيل إلى الفاء ليعلم بذلك حركة العين، ألا ترى أنّك إذا سمعت الضمة في قلت، والكسرة في بعت علمت أن حركة العين في باع كسرة كما تعلم أنها في قلت ضمة، وإذا سمعت قيل وبيع علمت أن حركة العين الكسرة إذا بني الفعل للمفعول به على فعل، فجعلت حركة العين إذا كانت واوا الضمة وإذا كانت ياء الكسرة، لأن الضمة من جنس الواو، كما أن الكسرة من جنس الياء، فلهذه المجانسة فعل هذا ليس لأنّ الضمة تدل على أنّ العين واو، ولا الكسرة تدلّ على أنّ العين ياء، ألا ترى أنّهم قد جمعوا بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/350]
خفت وهبت في الكسرة وإحداهما من الياء، والأخرى من الواو وقد قلنا في ذلك في غير هذا الموضع.
بسم الله: قال: حمزة يقف على: (مستهزءون) بغير همز، وكأنّه يريد الهمز، ويشير إلى الزاي بالكسر كما كان يفعل في الوصل، وهذا لا يضبطه الكتاب. وكذلك كان يفعل بقوله: ليواطؤا [التوبة/ 37] ويستنبئونك [يونس/ 53] ومتّكؤن [يس/ 56]، وفمالؤن [الصافات/ 66] والخاطؤن [الحاقة/ 37] والصّابئين [البقرة/ 62، والحج/ 17] والصّابئون [المائدة/ 69] والباقون يصلون بالهمز ويقفون أيضا كما يصلون.
قال أبو زيد: هزئت به هزءا ومهزأة، وأنشد غيره:
ألا هزئت بنا قرشي... ية يهتز موكبها
وقالوا: هزئت منه. أنشدنا علي بن سليمان:
وهزئت من ذاك أم موأله
[الحجة للقراء السبعة: 1/351]
ومعنى يستهزءون يهزءون، كما أن قوله: وإذا رأوا آيةً يستسخرون [الصافات/ 14] يسخرون، ومثل هذا قرّ، واستقر، وقالوا: علا قرنه واستعلاه، وقال أبو زيد: استعلى عليه، وقال أوس:
ومستعجب ممّا يرى من أناتنا... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
وقد جاء استفعل في معنى أفعل، كما جاء في معنى فعل. قالوا: استجاب وأجاب، وأنشد أبو زيد.
فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي لم يجبه.
وقالوا: استخلف لأهله، وأخلف لأهله. قال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/352]
ومستخلفات من بلاد تنوفة... لمصفرّة الأشداق حمر الحواصل
وقال آخر:
...................... سقاها فروّاها من الماء مخلف
وقال: مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً [البقرة/ 17] وقال: كلّما أوقدوا ناراً للحرب [المائدة/ 64].
قال أبو زيد: وقالوا: رجل هزأة: يهزأ بالناس، وهزأة:
يهزأ به الناس.
اختلف النحويون في تخفيف الهمزة في: (يستهزءون).
فقال سيبويه: تجعلها إذا خففتها بين بين، فتقول:
(يستهزوون).
وزعم أن جعلها بين بين، قول العرب والخليل. وكذلك
[الحجة للقراء السبعة: 1/353]
قال في الهمزة المكسورة إذا كان ما قبلها مضموما نحو مرتع إبلك تجعلها بين بين.
ويذهب أبو الحسن في يستهزءون إلى أن يقلب الهمزة ياء قلبا صحيحا، ولا يجعلها بين بين كما ذهب إليه سيبويه والخليل.
فأمّا إذا كانت مكسورة وقبلها ضمة فإنّه لا يخلو من أن يكون في كلام متصل أو منفصل، فإن كان متصلا قلبها واوا مثل بأكموك، وإن كان منفصلا قلبها ياء مثل: عبد يخوتك وسنذكر قوله بعد ذكر ما احتج به لسيبويه.
قال أبو عثمان: سأل مروان بن سعيد المهلبيّ أبا عمر الجرمي في مجلس أبي الحسن الأخفش، فقال:
كيف تخفف همزة جؤن؟ فقال: جون، فجعلها واوا خالصة.
فقال له مروان: لم لا جعلتها بين بين، فنحوت بها نحو الألف؟
[الحجة للقراء السبعة: 1/354]
قال: فقال: من قبل أن الألف لا تقع بعد ضمة فكذلك ما قرب منها.
فقال: فكيف تخفف همزة مئر؟ فقال: مير، فجعلها ياء خالصة مثل الأولى في العلة.
فقال له مروان: فكيف تخفف همزة يستهزءون؟
فقال: أبو عمر يستهزوون، فجعلها بين بين، ونحا بها لانضمامها نحو الواو.
قال أبو عثمان: وهو قول سيبويه.
فقال له مروان: لم لا صيرتها ياء لأن الواو المضمومة لا تقع بعد كسرة.
قال أبو علي: يريد مروان أن الكسرة لا تقع بعدها الواو المضمومة فكذلك ينبغي ألا يقع بعدها ما قرب من الواو المضمومة بالتخفيف، كما أنّ الضمة والكسرة، لمّا لم تقع بعدهما الألف فكذلك لم يقع بعدهما ما قرب منهما بالتخفيف، فقلبت الهمزة بعدهما قلبا، فكذلك كان يلزم أن نبدل من الهمزة المضمومة بعد الكسرة ياء إذا لم تقع بعد الكسرة واو مضمومة في موضع، فكذلك ما قرب من الواو المضمومة من الهمز بالتخفيف ينبغي ألا تقع بعدها.
(رجع إلى كلام أبي عثمان):
[الحجة للقراء السبعة: 1/355]
قال أبو عثمان: فقال أبو عمر وأجاد عندي: هي وإن لم يكن مثلها في الكلام فأنا أقدر أن ألفظ بها، وتلك الأولى لا أقدر على أن ألفظ بها إذا نحوت بها نحو الألف وقبلها كسرة أو ضمة.
قال أبو عثمان: وهذا قولي، وحجتي فيه هذه.
وأما الأخفش فكان يقول: (يستهزيون) إذا خفف فيجعلها ياء خالصة من أجل الكسرة التي قبلها. انتهت حكاية أبي عثمان.
قال أبو علي: إن قال قائل: إذا لم يجعلها بين بين فلم قلبها ياء للكسرة التي قبلها، وهلّا قلبها واوا لتحركها بالضمة؟
قيل: إنّه إذا ترك أن يجعلها بين بين، فلا يخلو من أن يقلبها ياء أو واوا، فلا يجوز أن يقلبها واوا وقبلها كسرة، لخروجه إلى ما لا نظير له، ألا ترى أنّه ليس واو مضمومة قبلها كسرة؟
وإذا لم يجعلها بين بين كما جعلها غيره لكراهته تقريبها من واو مضمومة قبلها كسرة فأن يرفض قلبها إلى نفس الواو المضمومة المكسور ما قبلها أجدر، فإذا لم يجز قلبها واوا صارت نحو: شيوخ وفي بيوتٍ أذن اللّه [النور/ 36] على أنّ (يستهزيون) أسوغ في هذا لأن الضمة فيها إعراب فليست
[الحجة للقراء السبعة: 1/356]
بثابتة ثبات عين فعول، فهو مثل فخذ في الرفع ليس مثل فعل المرفوض من كلامهم.
ويقوي قلبها إلى الياء أنّها في جون ومير قد قلبت إلى الحرف المجانس لما قبلها من الحركة وهي متحركة، فكذلك في (يستهزيون) تقلب إلى الحرف المجانس لما قبلها من الحركة مع كونها متحركة.
فإن قال قائل: فهلا قلبها إلى الحرف الذي منه حركتها كما قلبها إلى الحرف الذي منه حركتها في أيمّة، ولم يقلبها إلى ما يجانس الحركة التي قبلها كما لم تقلبها في أئمة إلى ما يجانس الحركة التي قبلها، ألا ترى أنّك لم تقل أامّة ولكن قلبتها إلى الياء لما تحركت بالكسرة؟
قيل: لم يجز أن تقلب إلى ما ذكرت في يستهزءون لخروجها إلى ما لا مثل له في كلامهم.
وجاز في أئمة أن تقلب إلى الحرف الذي منه حركتها من حيث لزم إلقاء حركة المدغم فيه على ما قبله، ولولا ذلك لقلبتها على ما قبلها من الحركة كما قلبتها في إناء وآنية، ولكن لما لزم إلقاء حركة المدغم عليها كما لزم في أخلّة ونحوه وجب تحركها، ولما وجب تحركها، وجب قلبها إلى الياء لتحركها بالكسرة إذ لم يمكن قلبها إلى الحرف المجانس
[الحجة للقراء السبعة: 1/357]
للحركة التي قبلها، ولم يجز إسكانها وقلبها ألفا لأنها فاء كالفاء في أخلّة ونحوه، وليس في يستهزءون حركة لمدغم يلزم أن تلقيها عليها، فتقلبها إلى ما يجانس حركتها دون ما يجانس الحركة التي قبلها.
فإن قلت: كيف استجاز أن يقلب الهمزة ياء محضة في يستهزءون ويحركها بالضم، وليس ياء هي لام على هذا الوصف تتحرك بالضمة؟ فإن ذلك فيما أصله الهمزة لا يمتنع، وإن لم يجز فيما أصله غير الهمز، لأنّ الهمزة لما كانت منويّة كانت في تقدير الثبات، ألا ترى أنّه وإن خففها تخفيفا قياسيا لم يقلبها قلبا إلى الياء، وإذا كان كذلك لم يمتنع ثباتها وتحريكها، وإن لم يجز ذلك في الياءات التي ليس أصلها همزات، كما لم تمتنع الواو الساكنة من أن تقع قبل الياء مبيّنا غير مدغم إذا كان أصلها الهمزة نحو نؤي، ورؤيا وإن كان فيما يمتنع ذلك فيما أصله غير الهمز من الواوات.
ومما يدلك على صحة ذلك من قوله: إنّها في قولهم جميعا تثبت ساكنة في الجزم. فكما جاز أن يخالف الياءات التي هي لامات عند الجميع في السكون للجزم، كذلك جاز عنده أن يخالفهن في الحركة أيضا.
وقال أبو الحسن في كتابه في القرآن: من زعم أن الهمزة المضمومة لا تتبع الكسرة إذا خففت دخل عليه أن يقول: هذا قارو، وهؤلاء قاروون، ويستهزوون، قال: وليس
هذا من كلام من خفف من العرب.
[الحجة للقراء السبعة: 1/358]
قال أبو علي: وجه دخول هذا عليه ولزومه له عنده أن الهمزة إذا كانت مفتوحة وكان ما قبلها مفتوحا فخففت جاز تخفيفها، فكذلك إذا كانت مكسورة وما قبلها مفتوح، وكذلك إذا كانت مضمومة وما قبلها مفتوح، وذلك أنّها إذا كانت مفتوحة، وما قبلها مفتوح أو مضمومة أو مكسورة وما قبلها مفتوح، فإنّك في ذلك كله تقرب الهمزة من الحرف الذي منه حركتها، فتقرب المفتوحة من الألف، والمكسورة من الياء الساكنة، والمضمومة من الواو الساكنة، فكما أن الألف والواو والياء الساكنين يجوز أن يقع كل واحد منها بعد الفتحة نحو: دار وبيت، وثوب، كذلك جاز أن تخفّف الهمزة بعدها فتقربها بالتخفيف من هذه الحروف السواكن.
فإذا كانت الهمزة مفتوحة وقبلها ضمة أو كسرة خففتها بالقلب إلى الحروف التي حركتها منها بلا خلاف. وذلك نحو التّودة، وجون ومير، وذيب، وإنما قلبتها إليهما لأنك إذا خففت المفتوحة بعد الكسرة في مير قربتها من الألف، والألف لا تكون قبلها كسرة، وكذلك جون إذا خففتها قربتها من الألف، والألف لا تكون قبلها ضمة، فلما لم تكن بعد الكسرة ألف ولا بعد الضمة كذلك، لم يكن بعدهما ما قربته منه فقلبت قلبا لذلك إلى الواو أو إلى الياء.
فإن كانت مضمومة وقبلها كسرة فخففتها مثل يستهزءون، ومن عند أختك، فلا يخلو إذا خففتها من أن تنحو بها نحو
[الحجة للقراء السبعة: 1/359]
الحرف الذي منه حركتها.
فإن قلت: أقربها منه فأقول: يستهزوون، لم يستقم لأنّك تقربها من واو ساكنة والواو الساكنة لا تكون قبلها كسرة، فلا يجوز إذا أن تقربها من الواو الساكنة فتجعلها بين بين، كما لم يجز ذلك في جون ومير، ولزمك قلبها ياء على حسب الحركة التي قبلها كما قلبتها ياء أو واوا في جون، ومير، بحسب الحركة التي قبلها إذ لم يجز أن تكون بين بين لتقريبك إياها بالتخفيف من الواو الساكنة، والواو الساكنة لا تكون قبلها كسرة.
وإذا لم تكن قلبتها إلى الياء فقلت: يستهزءون حيث لم تكن بعد الكسرة واو ساكنة كما قلبتها بعد الكسرة أو الضمة إذا كانت مفتوحة إلى الياء أو إلى الواو حيث لم يجز أن يكون بعد الكسرة والضمة ألف فقد بان أن جعلها بين بين غير مستقيم للكسرة التي قبلها مع كونها مضمومة.
فإن قلت: لا أقلبها ياء ولا أتبعها الحركة التي قبلها ولكن أتبعها الحركة التي عليها وهي الضمة، فأقلبها واوا إذ لم يجز أن أتبعها الكسرة التي قبلها- لزمك أن تقول: هذا قارو، فتصحح الواو بعد الكسرة إذ لم يكن سبيل إلى أن تجعلها بين بين، وأنت قد قلت: لا أتبعها الكسرة التي قبلها فأقلبها إلى الياء فأقول: قاري، ويستهزيون، فبقي أن تقلبها واوا، فتجعلها من جنس الحركة التي تحركت بها فتقول: قارو، لتكون قد خففتها إذ
[الحجة للقراء السبعة: 1/360]
لا سبيل إلى أن تجعلها بين بين، ولا تنقلب ياء عندك، فهذا وجه لزوم قلبه إياها واوا وهذا ليس عليه أحد ممن يخفف الهمز، فإن لم يقلبها ياء خرجت بترك قلبها ياء عن قول العرب فيها إذا قلبتها واوا فقلت: قاروون ويستهزوون.
وكذلك إذا كانت الهمزة مكسورة وقبلها ضمة عكس قولك قارئ ويستهزءون فإنك تقلبها واوا، فتقول: مررت بأكموك، فقلبت الهمزة على الحركة التي قبلها كما أتبعتها في يستهزءون الحركة التي قبلها بأن قلبتها ياء كذلك في أكموك تتبعها الحركة التي قبلها، بأن تقلبها واوا فتجعلها من جنس الضمة التي قبلها، فتقول بأكموك، ولا يجوز بأكميك فتجعلها على حركتها كما لم يقولوا: قارو، فيجعلوها على حركتها، ولا يتبعوها ما قبلها.
ولا يجوز أن تجعل: بأكموك بين بين، لأنّك تقربها من الياء الساكنة، فكما لا تكون الياء الساكنة بعد الضمة كذلك لا تكون الهمزة المكسورة بعد الضمة بين بين على قياس
قولهم:
جون ومير، والاتفاق الواقع في ذلك.
فإن قلت: فإذا لم تجعلها بين بين لما قلت من أنّها تقرّب من الياء الساكنة، والياء الساكنة لا تكون بعد الضمة فهلّا قلبتها ياء ولم تقلبها واوا لأنّك قد تجد الياء المكسورة في كلامهم تقع بعد ضمة، ألا ترى أنّك لو قلت: صيد في هذا المكان لجاز كما يجوز عور، في هذا المكان؟ فما الذي جعل قلبها
[الحجة للقراء السبعة: 1/361]
إلى الواو عنده في أكموك من قلبها إلى الياء في أكميك لما أريناك من صيد.
فالقول: إن قلبها إلى الواو أولى، لأنّك قد وجدتهم في تخفيف الهمز يتبعون الهمزة حركة ما قبلها كثيرا، وقد وجدتهم قلبوا عكس هذا على ما قبلها، وذلك قولهم: (يستهزيون)، وقاري، فكما أتبعوا هذه الهمزة حركة ما قبلها كذلك يتبعون الهمزة في أكموك حركة ما قبلها ويقلبونها إليه، فيكون لذلك أولى وأقوى في القياس من قلبها إلى الياء على حركة نفسها.
ومما يدلّ على أن قلبها إلى الواو في المتصل أقوى من قلبها إلى الياء أن ما جاء فيه الواو من المتصل مصححة أكثر مما جاء فيه الياء، ألا تراهم قالوا: عور في هذا المكان، وحول فيه، واجتور، واعتون، واعتور، والياء إنّما جاء في صيد فيه وحيي به وعيي به فيمن بيّن ولم يدغم، ومع ذلك، فإنّ أبا الحسن قد جوّز على قياس أكميك في المنفصل فقال:
إلّا أن تكون المكسورة مفصولة فتكون على موضعها لأنّها قد بعدت، يريد بقوله على موضعها أنّها تقلب إلى جنس حركتها.
والواو قد تقلب إلى الياء مع هذا وذلك نحو غلام يخوانك، والمكر السيئ يلا [فاطر/ 43] فلما وجد لقلبها إلى الياء طريقا بدلالة صيد فيه كما وجد لقلبها إلى الواو طريقا ألزم الواو المتصل لتكون على ما قبلها مثل جون ومير وقاري. فإنّها قلبت على ما قبلها وجعل المنفصل بالياء وقال: لأنّ الواو تقلب إلى
[الحجة للقراء السبعة: 1/362]
الياء فأخذ بالأمرين، ورأى القلب إلى الواو في الاتصال أولى، وجعل المنفصل بالياء، لأنّ الضمة بالانفصال قد بعدت، فجعلها على حركة نفسها.
فإن قلت: أفليس قد أتبعوها حركة نفسها في المتصل في قولهم: أيمّة، ولم يتبعوها حركة ما قبلها فيقلبوها ألفا، ويقولوا: «أامة»، فهلا جاز في قولهم: بأكموك، أن يتبعوها حركة نفسها، فيقولوا: بأكميك كما فعل في (أيمة).
فالقول: إن هذا ليس كأيمة، وذلك أنّ التي في أيمة لزم إلقاء حركة المدغم عليها فلما لزم إلقاء حركة المدغم عليها لم يجد بدّا من تحريكها، ولما لم يجد بدّا من تحريكها كانت حركتها أولى أن تقلب إليها من أن تجعل على ما قبلها مع تراخي تلك عنها وقرب الكسرة منها، ألا ترى أنّها لو قلبت على ما قبلها من الفتحة فقلبت ألفا وحركة المدغم التي يلزم إلقاؤها عليها الكسرة لم يستقم، لأنّ الألف لا تحرّك فقلبت الهمزة في أيمّة على حركتها لذلك؟
فأمّا ما حكاه محمد بن السري في كتابه في القراءات عن أبي الحسن من أنّه قال: من زعم أن الهمزة المضمومة لا تتبع الكسرة إذا خففت. دخل عليه أن يقول: هذا قاري، وهؤلاء قاريون، ويستهزيون.
[الحجة للقراء السبعة: 1/363]
وقال: قال: يعني أبا الحسن: وليس هذا من كلام من خفف من العرب إنّما يقولون: يستهزيون- فخطأ في النقل، أتراه يلزم الخليل وسيبويه أن يقولوا هذا في المتصل، وقد رآهم قالوا ذلك في المنفصل نحو: من عند أختك؟ ويسمعهم يقولون: إنّه قول العرب، فيلزمهم قولهم؟ وما يقولون: إنّه قول العرب! هذا ما لا يظن.
وأبو الحسن قد فصل بين المتصل والمنفصل في أكموك وغلام يخوانك فقلب المتصل واوا، والمنفصل ياء. هذا الذي حكاه عنه غلط في النقل، وإنّما هو دخل عليه أن يقول: هذا قارو بالواو، كما حكيناه عنه، وكذلك رواه أبو عبد الله اليزيديّ عنه في كتابه في «المعاني»، ثم ما حكاه عن أبي الحسن من قولهم: إنّما يقولون يستهزيون على ماذا تحمله: على التحقيق أم على جعلها بين بين؟ [فإن حمله] على التحقيق لم يجز، لأنّ الكلام ليس فيه، إنّما الكلام على التخفيف [فإن حملته] على جعلها بين بين قد أثبتّ إذا ما أنكره وما لم يقله أحد من أهل التخفيف عنه، هذا خطأ عليه فاحش في النقل.
وأمّا ما ذكره محمد بن يزيد في هذه المسألة في كتابه المترجم بالشرح من قوله: والأخفش لا يقول إلا كما يقول النحويون: هذا عبد يبلك، ولكن يخالف في يستهزءون، فهذا
[الحجة للقراء السبعة: 1/364]
الإطلاق يوهم أنّه لا يفصل بين المتّصل والمنفصل، وقد فصل أبو الحسن بين أكموك وعبد يخوانك، فينبغي إذا كان كذلك ألّا ترسل الحكاية عنه حتى تقيّد، ويفصل بين المتصل والمنفصل كما فصل هو). [الحجة للقراء السبعة: 1/365]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض}
قرأ الكسائي {وإذا قيل لهم} بالإشمام وكذلك يفعل في غيض الماء وسيء وحيل وجيء وسيق وابن عامر دخل معه في حيل وشيء وسيق ونافع دخل معهما في سيء
[حجة القراءات: 89]
وقرأ الباقون جميع ذلك بالكسر وحجتهم في ذلك أن الأصل في ذلك قول وحول وسوئ وسوق وغيض وجيئ فاستثقلت الضمة على فاء الفعل وبعدها واو مكسورة وياء مكسورة فنقلت الكسرة منهما إلى فاء الفعل وقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فقيل في ذلك قيل وحيل وأخواتها
وحجّة الكسائي في ذلك أنه لما كان الأصل في كل ذلك فعل بضم الفاء الّتي يدل ضمها على ترك تسمية الفاعل أشار في أوائلهن إلى الضّم لتبقى بذلك دلالة على معنى ما لم يسم فاعله وأن القاف كانت مضمومة - صلّى اللّه عليه وسلّم-). [حجة القراءات: 90]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ):(7- قوله: «قيل» وأخواتها، قال أبو محمد: اختلف القراء في إشمام الضم في أوائل ستة أفعال قد اعتلت عيناتها، وقلبت حركتها على ما قبلها، فسكنت العينات، وقلبت ما فيه واو ياءات، لانكسار ما قبلها، وتلك الأفعال: «سيء، وسيق، وحيل، وجيء، وقيل، وغيض» فقرأ هشام والكسائي بإشمام الضم في أوائلها، وقرأ ابن ذكوان بالإشمام في أول «سيء، وسيئت، وسيق، وحيل» وقرأ نافع بالإشمام في «سيء، وسيئت» خاصة،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/229]
وبالكسر في باقيها، وقرأ الباقون بالكسر في أوائل جميعها.
8- وحجة من قرأ بالإشمام، في أوائل هذه الأفعال الستة، أصلها أن تكون مضمومة، لأنها أفعال لم يُسم فاعلها، منها أربعة، أصل الثاني منها واو، وهي «سيء، وسيق، وحيل، وقيل»، ومنها فعلان، أصل الثاني منها ياء وهما «غيض، وجيء»، وأصلها: «سوي، وقول، وحول، وسوق، وغيض، وجيء» ثم ألقيت حركة الثاني منها على الأول فانكسر، وحذفت ضمته، وسكن الثاني منها، ورجعت الواو إلى الياء، لانكسار ما قبلها وسكونها، فمن أشم أوائلها الضم أراد أن يبين، أن أصل أوائلها الضم، كما أن من أمال الألف، في «رمى، وقضى» ونحوه، أراد أن يبين، أن أصل الألف الياء، ومن شأن العرب في كثير من كلامها المحافظة على بقاء ما يدل على الأصول، وأيضًا فإنها أفعال بنيت للمفعول، فمن أشم أراد، أن يُبقى في الفعل ما يدل على أنه مبني للمفعول لا للفاعل.
9- وعلة من كسر أوائلها أنه أتى بها على، ما وجب لها من الاعتلال، كما أتى من لم يمل «رمى، وقضى» ونحوه، بالألف والفتح، على ما وجب لهما من الاعتلال.
10- فإن قيل: فلم أجمعت العرب على ترك الإشارة في «قل، وبع» وأصل حركة الأول فيها الفتح، والضم والكسر ليسا بأصل فيهما، وكذلك أجمعوا على ترك الإشارة إلى ضمة الواو، التي كانت في أصل «يقوم، ويقول»، وأصلهما الضم، فنقلت الضمة، التي على الواو، إلى ما قبلها، وسكنت الواو، وكذلك أجمعوا على ترك الإشارة إلى كسرة الياء في «يبيع، ويكيل» وأصلهما الكسرة، ثم نقلت الكسرة إلى الحرف الذي قبلهما، وسكنت الياء فيهما.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/230]
11- فالجواب أن الحركة، التي كانت على هذه الحروف، باقية في الكلمة لم تحذف، وهي ضمة القاف في «يقوم، ويقول» وكسرة الياء والكاف في «يبيع، ويكيل» فلما كانت الحركة باقية لم تحتج إلى الإشارة، إنما تقع الإشارة لتدل على الحركة المحذوفة من الكلام، فلما كانت ضمة أوائل الأفعال الستة محذوفة، أتى بالإشارة، لتدل على الحركة المحذوفة من الكلام، فأما من أتم الضم في بعضها وتركه في بعض، فإنه قرأ على ما نقل، وجمع بين اللغتين، إذ الإشارة وتركها لغتان فاشيتان مشهورتان.
12- فإن قيل: هل تُسمع هذه الإشارة أو لا تُسمع، وهل ترى أو لا ترى، وهل تحكم على الحرف الأول، الذي معه الإشارة، بالضم أو بالكسر؟
13- فالجواب أن الإشارة إلى الضم، في هذه الأفعال، تُسمع، وترى في نفس الحرف الأول، والحرف الأول مكسورة، ومع ذلك الكسر إشارة إلى الضم، تخالطه، كما أن الحرف المتحرك الممال؛ لإمالة فيه، تسمع وترى في نفس الحرف الممال، والممال مفتوح، ومع ذلك الفتح إشارة إلى الكسر تخالطه، لتقريب الألف، التي من أجلها وقعت الإمالة، إلى الياء، وكذلك تقريب الألف الممالة إلى الياء في حال الإمالة تُسمع وتُرى لأنها ليست بحركة، وليس الحرف الأول من هذه الأفعال بمضموم، إنما هو مكسور، يخالط كسرته شيء من ضم يسمع، كما أن الحرف، المفتوح الممال، حكمه الفتح، ويخالط فتحته شيء من كسرة، يسمع، فبالحرف الممال يشبه هذه الإشارة إلى الضم، في هذه الأفعال، سيبويه وغيره، ألا ترى أن أوائل هذه الأفعال، لو
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/231]
كانت مضمومة، أو الضم أغلب عليها، لانقلبت الياءات واوات، إذ ليس في كلام العرب ياء ساكنة قبلها ضمة، فلولا أن الحرف الأول مكسور ما ثبت لفظ الياء فيهن، ويدل على ذلك أن بع العرب يترك أوائل هذه الأفعال على ضمته، التي وجبت له، وهو فعل ما لم يُسم فاعله، فإذا فعل ذلك أتى بالواو في جميعها فقال: «قول، وحول، وسوق» ونحوه.
قال أبو محمد: والكسر أولاهما عندي، كما كان الفتح أولى من الإمالة، وقد قرأ بإشمام الضم فيها الحسن ويحيى بن يعمر والأعمش، وقرأ بالكسر الأعرج وأبو جعفر يزيد وشيبة وأيوب وعيسى وشبل وأهل مكة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وأبي طاهر، قال أبو طاهر: الكسر سنن العربية، وقال أبو حاتم: الكسر قراءة العامة في جميع ذلك، وهي في اللغات أفشى، وفي الآثار أكثر، وعلى الألسنة أخف، وفي قياس النحو أجود.
قال أبو محمد: فأما ما وقع من هذا من المصادر فلا يجوز فيه إشارة إلى ضم ألبتة، وذلك قوله: {وأقوم قيلا} «المزمل 6»، و{إلا قيلا سلاما} «الواقعة 26» و{قيله يا رب} «الزخرف 88» و{من أصدق من الله قيلا} «النساء 122»، وإنما وجب ذلك؛ لأنها مصادر، لا أصل لأوائلها في الضم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/232]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (8- {وإذا قيل} [آية/ 11]:-
بإشمام القاف الضم، وكذلك: {غِيضَ} و{سِيءَ} و{سِيئَتْ} و{حِيلَ} و{سِيقَ} و{جِيءَ}، قرأها الكسائي و- (يس)- عن يعقوب.
وإنما اختار إشمام الكسرة الضمة في هذه الأفعال التي لم يسم فاعلها ليكون دليلًا على أن الفعل على فُعِل فيؤمن بها التباس الفعل المبني للفاعل
[الموضح: 247]
بالفعلِ المبني للمفعول به؛ لأنّ أصلَ {قِيلَ} قُوِلَ، بضم القاف وكسر الواو، فنُقِلَت الكسرةُ إلى القافِ ليُدلّ على أنّ عينَ الفعلِ مكسورةٌ، فلمّا نُقِلَتْ إليها الكسرةُ زالتْ عنها الضمةُ التي كانتْ فيها؛ لأنّ الحرفَ الواحدَ لا تحلّهُ حركتان، فأشمّها الضمةَ مَنْ أَشَمَّ ليدل بذلك على الضمةِ المُزالةِ، وقد فعَلُوا مثل ذلك الإشمام في قولهم: أَنتِ تَغْزِينَ؛ ليدُلّوا بالإشمام على أنّ أصله: تَغْزُوِينَ.
ونافعٌ يُشمّ الضمَّ في {سيء} و{سِيئَتْ} فقط، ووافقَهُ ابنُ عامر فيهما، وزاج عليهما {حِيل} و{سيق} فصارا أربعة أحرفٍ.
وإنما قصرا هذا الحكم على البعض دون البعض أخذًا باللغتين، واتباعًا للسنة.
وأما الباقون و-ح- عن يعقوب فإنهم يكسرون أوائل هذه الأفعال كلها، ولا يشمونها؛ لأن ذلك هو الأصل، وما سواه داخل فيه؛ لأن الأصل فيه: فعل، فنقلت حركة العين إلى الفاء، ليعلم بذلك حركة العين، فلما فعل هذا النقل في فعل المبني للمفعول به اكتفي به فارقًا بينه وبين فعل المبني للفاعل، لكن من اختار القراءة الأولى أراد زيادة الفرق، وأن تقع المحافظة على الضمة الفاء بالإشمام، كما وقعت المحافظة على كسرة العين بالنقل إتمامًا للفرق بين الفعلين المبني للفاعل والمبني للمفعول به، على أن أكثر العرب على الكسر دون الإشمام إذ هو الأصل). [الموضح: 248]

قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله تعالى: (السّفهاء ألا)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (السّفهاء ألا) بهمز الأولى
[معاني القراءات وعللها: 1/136]
وطرح الثانية، وكذلك يفعلون بكل همزتين برزتا مختلفتين من كلمتين في جميع القرآن، فإذا وردتا متفقتين همزوا الثانية وتركوا الأولى، كقوله: (جا أمرنا) و(شا أنشره) ونحوهما.
وكان ابن كثير ونافع إذا أتت الهمزتان المتفقتان في موضع خفض حوّلا الأولى إلى الياء، فقرءا: (هؤلاي إن) و(على البغاي إن)، فإذا أتيا مضمومتين حوّلا الهمزة الأولى إلى الواو، كقولك: (أؤلياو أولئك)، وكان ابن كثير ونافع يهمزان الثانية في المكسورتين، ويعوضان من الأولى كسرة مختلسة، وفي المضمومتين يهمزان الثانية ويعوضان من الأولى ضمة مختلسة، وأما المفتوحتان فإن ابن كثير ونافعًا وأبا عمرو يهمزون الثانية ويطرحون الأولى، ولا يبدلون منها فتحة.
[معاني القراءات وعللها: 1/137]
وكان يعقوب يجمع بين الهمزتين المختلفتين في قوله: (السّفهاء ألا) ومذهبه في المتفقتين همز الثانية وتعويض من الأولى في المضمومتين واوا، وفي المفتوحتين ألفا، وفي المكسورتين ياء.
وقرأ الباقون كل هذا بهمزتين همزتين.
قال أبو منصور: قد أعلمتك أن هذه القراءات في باب الهمز لغات مأخوذة عن العرب، فبأي لغة قرأت فقد أصبت، إذا قرأ به قارئ يقرأ بالسنة). [معاني القراءات وعللها: 1/138]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ):(12- وقوله تعالى {السفهاء ألا}
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر بهمزتين على أصل الكلمة، همزة «ألا» وهي مفتوحة، وهمزة {السفهاء} وهي مضمومة.
وقرأ الباقون بهمزة واحدة، ولينوا الثانية كراهة لاجتماع همزتين، غير أنهم اختلفوا إذا كانت الهمزتان متفقتي الحركتين وهما: أن يكونا مضمومتين نحو: {أولياء أولئك} أو مكسورتين نحو: {هؤلاء إن كنتم صادقين} أو مفتوحتين نحو: {ءأنذرتهم} فقرأ ابن كثير وورش عن نافع بتليين الثانية وهمزة الأولى نحو: {هؤلاء إن كنتم} {ثم إذا شاء انشره} وهو اختيار الخليل رحمه الله شبهة بآزر وآدم، أعني في تليين الثانية.
وقال أبو عمرو بحذف الهمزة الأولى تخفيفًا {هؤلاء إن كنتم} {شاأنشره} و{أوليا ألئك}.
وقرا نافع بلفظة كالياء، أعني الهمزة الأولى إذا كانت مكسورة، وبلفظة كالواو إذا كانت مضمومة في رواية قالون والمسيبي نحو قوله عز وجل: {هؤلاء إن كنتم} {وأولياء ألئك} لأنه كما لين الهمزة جعلها شبه الواو والياء، وقرأ الباقون بهمزتين على أصل الكلمة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/69]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : (باب الهمزتين
باب الهمزتين تلتقيان من كلمتين وهما مختلفتا الإعراب وهما على ستّة أوجه وجه منها لم يجئ في القرآن وهي الهمزة المكسورة الّتي بعدها همزة مضمومة كقولك هؤلاء أمراء وباقيها موجودة في القرآن
1 - فأول ذلك المضمومة الّتي بعدها المفتوحة كقوله {السّفهاء ألا} تهمز الأولى وتخفف الثّانية وتنحو بها نحو الألف
2 - وبعد ذلك المضمومة الّتي بعدها مكسورة كقوله {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا} تهمز الأولى وتنحو بالثّانية نحو
[حجة القراءات: 90]
الياء من غير أن تكسرها
3 - والثّالثة المفتوحة الّتي بعدها مكسورة نحو قوله {أم كنتم شهداء إذ حضر}
4 - والرّابعة المفتوحة الّتي بعدها مضمومة كقوله {جاء أمة رسولها} تهمز الأولى وتنحو بالثّانية نحو الواو من غير ضم
5 - والخامسة المكسورة الّتي بعدها مفتوحة نحو قوله {أأمنتم من في السّماء أن يخسف} تهمز الأولى وتنحو بالثّانية نحو الألف فهذا مذهب نافع وابن كثير وأبي عمرو
وحجتهم أن العرب تستثقل الهمزة الواحدة فتخففها في أخف أحوالها وهي ساكنة نحو كاس فتقلب الهمزة ألفا فإذا كانت تخفف وهي وحدها فأن تخفف ومعها مثلها أولى
وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بهمزتين في جميع ذلك أرادوا التّحقيق وتوفية كل حرف حقه من حركته ونصيبه من الإعراب إذ كانت الهمزة حرفا من حروف المعجم يلزمها من الحركة ما يلزم سائر الحروف فجاؤوا بكل همزة من المجتمعتين على هيأتها إرادة التّبيين والنطق بكل حرف من كتاب الله على جهته من غير إبدال ولا تغيير فإذا التقتا متفقتي الإعراب وذلك أن تكونا مكسورتين كقوله {هؤلاء إن كنتم} أو تكونا مفتوحتين كقوله جاء أمرنا أو تكونا مضمومتين كقوله أولياء أولئك فقرأ ابن عامر وأهل الكوفة
[حجة القراءات: 91]
جميع ذلك بهمزتين وقد مر الكلام فيه
وورش عن نافع والقواس عن ابن كثير يهمزان الأولى ويلينان الثّانية ويشيران بالكسر إليها وفي المتفوحتين يشيران بالفتح إليها وفي المضمومتين يشيران بالضّمّ إليها وأما نافع والبزي عن ابن كثير فيلينان الأولى شبه الياء ويهمزان الثّانية وفي المضمومتين شبه الواو وهذا باب تحكمه المشافهة لا الكتابة وفي المفتوحتين يحذفون الأولى بلا عوض
وقرأ أبو عمرو جميع ذلك بهمزة واحدة حذف إحداهما واكتفى بالأخرى عنها وها هنا خلاف آلمحذوفة هي الأولى أم الثّانية
فمن حجّة من يقول الثّانية أنّها هي الّتي جلبت معظم الثّقل فكان الحذف فيها أوجب لأن الأولى لو انفردت لما وجب حذفها ولما جاز وحجّة من يقول الأولى هي المحذوفة هي أن الأولى وقعت في الكلمة آخرا والثّانية وقعت في كلمتها أولا والأواخر أحق بالإعلال من الأوائل ألا ترى أن هذه الهمزة إذا وقف الإنسان على جاء وعلى هؤلاء فإنّها تسقط عند الوقف فالأولى إذا أحق بالإسقاط من الثّانية). [حجة القراءات: 92]

قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (13- وقوله تعالى: {إنما نحن مستهزئون}
قرأ حمزة وحده: إذا وقف بترك الهمزة وإشمام الزاي الكسر وبجعل الهمزة بين الواو والياء، ولا يضبط ذلك الكتاب، إنما فعل ذلك لأنها كتبت في المصحف بغير ياء، والباقون يقفون كما يصلون). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/70]

قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) }
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (في طغيانهم).
كان الكسائي يميل الألف فيها، وفي قوله: (وفي آذانهم) و(فأحياكم) و(خطاياكم) و(مرضات الله) و(حق تقاته)
[معاني القراءات وعللها: 1/138]
و (وقد هدان) و(يسارعون) و(سارعوا) و(محياي) و(رؤياي) و(من عصاني) و(أخسن مثواي) و(ما أنسانيه) و(آتاني الكتاب)، و(أوصاني) و(آتاني الله).
و"كمشكاةٍ) و(دحيها) و(تليها) و(طحيها) و(سجى)، انفرد الكسائي بكسر هذه الحروف.
وفتحهن حمزة، وكان حمزة إذا تقدمت قبل (أحيا) واوٌ كسر الحرف، مثل قوله:
[معاني القراءات وعللها: 1/139]
(أمات وأحيا). وقد كسر حروفا من نظائر هذه الحروف، مثل قولهم: (منهم تقاةً) و(أكرمي مثواه) ولا يقاس على هذه الحروف التي ذكر عن الكسائي أنه كسرها وحده، ويفتح حمزة إياها.
واتفق حمزة والكسائي على إمالة (كلاهما) وعلى إمالة (فالق الحب والنوى)، وروى الدوري عن الكسائي أنه أمال (أول كافرٍ به)، ولم يقله أحد من القراء.
وكان ابن كثير وابن عامر وعاصم ويعقوب يفتحون هذه الحروف كلها إلا ما روي عن ابن عامر في "التوراة" و(ما أدراك) أنه كان يقرأهما بين الفتح والكسر.
وكان حمزة والكسائي يميلان كل ذوات الياء.
والإمالة لغة تميم، وعليها صيغة لسان من جاورهم من أهل العراق والبدو.
والعرب تقول: (هذا عابدٌ) و(عابدٌ)، و(عالمٌ) و(عالمٌ)
[معاني القراءات وعللها: 1/140]
فيكسرون الألف لانكسار ما بعدها إلا أن تدخل حروف الإطباق، وهي: الطاء والظاء والصاد والضاد، ولا يجوز في ذلك (ظالم)، ولا (طالب)، ولا (صابر)، ولا (ضابط).
وكذلك حروف الاستعلاء، وهي: الخاء والغين والقاف، لا يجوز في (غافل) (غافل) ولا في (خادم) خادم، ولا في (قاهر) (قاهر)، وباب الإمالة يطول شرحه إلا أن هذا في هذا الموضع هو القصد، وقدر الحاجة.
وأما إمالة مثل قوله: (سجى) و(قلى) وما أشبههما فالقياس أن ما كان منها من ذوات الياء مثل (قلى يقلي) و(سرى يسري) أميل.
وما كان في بنات الواو مثل (علا يعلو) و(سما يسمو) لم يمل، على أن الإمالة جائزة في جميعها إذا اتفقت رؤوس الآيات.
والراء إذا دخلت في أسماء على مثال (فاعل) سهلت الإمالة، وإن كان فيها حرف من حروف الإطباق مثل قولك: (هذا صارم) يميل الصاد، ولا تقول في (صالح)، وكذلك تقول: (مررت بضارب)، ولا تقول: (مررت بضابط)، وهذا الباب انفرد به البصريون، وهو - باب الإمالة). [معاني القراءات وعللها: 1/141]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (14- وقوله تعالى: {في طغيانهم يعمهون}. قرأ الكسائي وحده {في طغيانهم} بالإمالة وكذلك {في آذانهم}.
وقرأ الباقون بالفتح على أصل الكلمة، فحجة الكسائي في إمالة طغيانهم كسرة النون والياء، ولأن الطغيان والطغوى بمنزلة واحدة، قال الله تعالى: {كذبت ثمود بطغوايها} أراد: بطغيانها غير أنه قيل: الطغوى ليشاكل رءوس الآي في السورة، كما قال الله تعالى: {والكافرون هم الظالمون} وقال في موضع آخر: {أولئك هم الكفرة الفجرة} فجمع كافرًا على كفرة ليوافق رءوس الآي.
فأما إماله {آذانهم} فإن كان الكسائي أماله سماعًا فقد زال السؤال، وإن كان أماله قياسًا فقد أخطأ القياس؛ لأن ألف في «آذان» التي بعد الذال ألف الجمع، وألف الجمع لا تمال ويلزمه أن يميل {بأسمائهم} {ويطاف عليهم بآنية} فأما قوله تعالى: {من أخباركم} فإن الألف أميلت؛
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/70]
الفعل راء. وقد حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدثنا أبو الزعراء قال: حدثنا أبو عمر عن الكسائي قال: للعرب في إمالة ذوات الراء رغبة ليست لهم في غيرها حتى أمالوا: {افترى على الله} و{قد نرى} ولذلك فرق أبو عمرو بين ذوات الراء وغيرها فقرأ: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} فأمال ذوات الراء ولم يمل غيرها). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/71]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ):(اختلفوا في قوله (تعالى): في طغيانهم [البقرة/ 15] وفي آذانهم [البقرة/ 19].
قال أبو عمر الدّوري ونصير بن يوسف النحوي:
[الحجة للقراء السبعة: 1/365]
كان الكسائي يميل الألف في طغيانهم، وفي آذانهم، وقال غيرهما: كان يفتح.
وقال أبو الحارث الليث بن خالد وغيره: كان الكسائي لا يميل هذا وأشباهه. والباقون يفتحون.
قال أبو علي: الطغيان: مصدر طغى، كالكفران والعدوان والرضوان.
وحكى أبو الحسن: طغا يطغو، وقالوا: يطغى في المضارع، وفي التنزيل: ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم [طه/ 81] فألف طغا تكون منقلبة عن الياء، فيمن قال:
طغيت، وعن الواو فيمن قال: طغوت.
وقالوا: طغوت، وقالوا: تطغى، كما قالوا: صغوت تصغى، ومحوت تمحى، ففتحت العين في المضارع للحلقي.
وحكى بعضهم طغيت تطغى، فتطغى على هذا مثل يفرق، لا مثل يصغى، ويجوز على هذا أن تكسر حرف المضارعة منه فتقول: تطغى، وإن جعلته مضارع طغوت أو
[الحجة للقراء السبعة: 1/366]
طغيت لم يجز ذلك فيه.
فأمّا قوله تعالى: فأهلكوا بالطّاغية [الحاقة/ 5] فيحتمل ضربين:
أحدهما أن يكون مصدرا كالعافية والعاقبة، أي:
بطغيانهم.
والآخر أن يكون صفة، أي بالريح الطاغية.
وقوله: كذّبت ثمود بطغواها [الشمس/ 11] فالواو مبدلة من الياء: لأنّه اسم مثل التّقوى والرّعوى والبقوى، لأنّ لغة التنزيل الياء بدلالة الطغيان المذكور فيه في مواضع.
فأما لا تطغوا، فلا دلالة فيها على الياء ولا الواو. وإن جعلت طغوى من لغة من قال: طغوت، كان الواو فيها من نفس الكلمة كالدّعوى والعدوى.
وحجة من أمال الطغيان هي أنّ الألف قد اكتنفها شيئان:
كلّ واحد منهما يجلب الإمالة وهما الياء التي قبلها والكسرة التي بعدها، فإذا كان كلّ واحد منهما على انفراده يوجب الإمالة في نحو السّيال والضّياح. ومررت ببابه، وبداره، فإذا اجتمعا كانا أوجب للإمالة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/367]
فإن قلت: إنّ أول الكلمة حرف مستعل مضموم، فكلّ واحد من المستعلي والضم يمنع الإمالة، فهلا منعاها هنا أيضا.
فالقول: إن المستعلي لما جاءت الياء بعده، وتراخى عن الألف بحرفين لم يمنع الإمالة. ألا ترى أنّ قوما أمالوا نحو المناشيط لتراخي المستعلي عن الألف مع أن المستعلي بعد الألف، فإذا تراخى في طغيان عنها بحرفين مع أنّه قبل الألف، كان أجدر بالإمالة، ألا ترى أنّهم قد أمالوا نحو صفاف، وقباب، ولم يميلوا نحو مراض، وفراض، لمّا كان المستعلي متأخرا عن الألف. وقالوا: بطارد [هود/ 29] وبقادر [يس/ 81] لمّا تقدم المستعلي الألف، ولم يميلوا فارق وبارض؟ وأما في (آذانهم) فجازت فيها الإمالة كما جازت في مررت ببابه، لمكان كثرة الإعراب، وهي حسنة جائزة.
والإمالة في طغيانهم أحسن). [الحجة للقراء السبعة: 1/368] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (9- {فِي طُغْيَانِهِمْ} [آية/ 15]: و {آَذَانِهِمْ} [آية/ 19]:-
بالإمالة، قرأها الكسائي وحده.
وإنما أمال {طُغْيانِهِمْ}؛ لأن أَلِفَها قد اكتنفها شيئان، واحد منهما على الانفراد جالب للإمالة، وهما الياء قبلها والكسرة بعدها، فإذا أميلت الكلمة بواحدٍ منها لأن تمال باجتماعهما أولى.
وأما {فِي آذانِهِمْ آَذَانِهِمْ} فإنما أمالها لمكان كسرة الإعراب فيها، كمال يقال: مررت ببابه وداره، والإمالة في الأول أقوى). [الموضح: 249] (م)


قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (16- وقوله تعالى: {الضللة بالهدى} قرأ حمزة والكسائي بإمالة ذوات الياء نحو: الهدي والحمي والدنيا وغزى {إذا تولى سعى} وموسى وعيسى.
وقرأ نافع بين التفخيم والإمالة وهو إلى الفتح أقرب.
وقرأ أبو عمرو: ما كان من ذلك في رءوس الآي نحو آيات {طه} {والنجم إذا هوى} {والليل إذا يغشى} بين بين، أو كان الاسم على فعلى نحو: الدنيا أو على (فعلى) نحو: {شتى} أو على (فعلى) نحو (عيسى). وقرأ الباقون بالفتح، فمن فتح فعلى أصل الكلمة، ومن أضجع وأمال فلأن يعمل لسانه في موضع واحد؛ إذ كانت الإمالة تقرب من الياء. فأما حمزة فإنه فرق بين ذوات الياء والواو فقرأ: {والقمر إذا تلباها} بالفتح {والنهار إذا دجليهاد} بالإمالة، والعرب إذا اجتمع في أواخر الآي أو قربت ذوات الياء من الواو أتبعوا بعضها بعضًا. أخبرني بذلك ابن مجاهد، عن السمري، عن الفراء). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/71]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله اشتروا الضّلالة [البقرة/ 16]: قال أحمد بن موسى:
ضمّ الواو اتفاق.
[الحجة للقراء السبعة: 1/368]
قال أبو علي: الواو في (اشتروا) ساكنة، فإذا سقطت همزة الوصل للدرج التقت مع الساكن المبدل من لام المعرفة فالتقى ساكنان، فحركت الأوّل منهما لالتقاءيهما، ولا يخلو التحريك فيها من أن تكون بالضمّ أو بالكسر، فصار الضمّ أولى بها ليفصل بالضمّ بينها وبين واو أو ولو، فحركت بالضم دون الكسر لذلك.
ومما يدل على تقدم التحرك بالضم على الكسر لالتقاءيهما، أنّهم قد حرّكوا هذه الواو في غير هذا الموضع بالضم لالتقاء الساكنين، واتفق الجميع فيه على التحريك بالضم دون غيره، وذلك في قوله: لتبلونّ في أموالكم [آل عمران/ 186]، ولترونّ الجحيم [التكاثر/ 6] فدلّ اتفاقهم على تحريك هذه بالضمّ على أنها في (اشتروا الضلالة) محرّكة بالضمّ أيضا لالتقاء الساكنين، كما حرّكت في لتبلونّ ولترونّ الجحيم.
ويدلّ على تقدّم ذلك على الكسر ما جاء من ضمهم لها في: مصطفو الله، فكما حرّكوا هذه الواو بالضمّ كذلك ينبغي أن تحرّك بالضمّ في (اشتروا الضّلالة بالهدى)؛ لاتفاقهما في الدّلالة على الجمع.
ويدل على تقرر ذلك في هذه الواو أنّهم شبهوا بها الواو التي في أو، ولو، فحركوها بالضم تشبيها بقوله: (اشتروا الضّلالة). وكما شبهوا التي في أو بالتي تدل على الجمع،
[الحجة للقراء السبعة: 1/369]
كذلك شبهوا التي للجمع بها فأجازوا فيها الكسر، كما أجازوا في: لو استطعنا [التوبة/ 42] الضمّ تشبيها بالتي للجمع، وليس هذا بالوجه، كما أنّ الكسر في: لا تنسوا الفضل [البقرة/ 237] ليس بالوجه.
ومثل هذا في أن كل قبيل من الواوين شبّه بالآخر إجازتهم الجر: في الضارب الرجل، تشبيها بالحسن الوجه، وإجازتهم النصب في الحسن الوجه تشبيها بالضارب الرجل، والنصب في الضارب الرجل الوجه. والجرّ في الحسن الوجه الوجه، إلّا أنّ الكسر في: (ولا تنسوا الفضل) أقبح وأقل في الاستعمال من الحسن الوجه.
ويدلّ على تقدّم التحريك بالضمّ في هذه الواو لالتقاء الساكنين، أنّ قوما أبدلوا منها الهمزة، فقالوا: (اشترءوا الضّلالة) كما يبدلون من الواو المضمومة، فلو كان تحريكها بالكسر متعارفا لكان جديرا ألا يهمزوا، لأنّها كانت تشبه حركة الإعراب لتعاقب الحركتين عليها، كما تتعاقب حركة الإعراب على المعرب.
ألا ترى أن حركة غير الإعراب لمّا تعاقبت على ما كان مضاعفا أدغم في قول عامة العرب غير أهل الحجاز، كما أن حركات الإعراب لمّا تعاقبت على المعرب أدغم، فتحريك من حرّكها بالضمّ دلالة على أنّه جعلها بمنزلة سائر الواوات
[الحجة للقراء السبعة: 1/370]
المضمومة التي تبدل الهمزة منها، ولا يدخلها غير الضمّ، نحو التي في الغئور والنّئور وأسؤق وأنؤر.
وليس إبدال هذه الواو همزة، وإن كان فيه ما استدللنا به من تمكن تحركها بالضم في هذا الموضع بالقياس، لأنّ تحريكها بالضمّ إنّما هو لالتقاء الساكنين، والتحريك لالتقاء الساكنين في تقدير السكون لما تقدّم من الدّلالة على ذلك.
فإذا كان كذلك فكأنّه قد أبدل الهمزة من واو ساكنة، والهمزة لا تبدل من الواو الساكنة.
ولو استقام أن تبدل من هذه الواو الهمزة إذا تحركت بهذه الحركة، لاستقام أن تبدل منها إذا تحركت بحركة الإعراب، لأنّها مثلها في أنّها ليست بلازمة، إلّا أنّ إبدال الحركة لالتقاء الساكنين همزة أوجه لموافقتها نحو أدؤر في أنّ الحركتين فيهما حركتا بناء لا حركتا إعراب.
وقد شبهوا غير اللازم باللازم في مواضع، نحو ادغامهم الواو في رويا وروية وما أشبه ذلك، وليس قول من قال-: إنّ هذه الواو إنّما حركت بالضمّ لالتقاء الساكنين، لأنّه فاعل في المعنى فجعلت حركة التقاء الساكنين فيه كحركة الإعراب- بمستقيم. ألا ترى أنّ الياء في: أخشي القوم يا مرأة، فاعلة في المعنى، واتفقوا على تحريكها بالكسر! وقد كسر ناس الواو
[الحجة للقراء السبعة: 1/371]
في: (اشتروا الضّلالة)، (ولا تنسوا الفضل بينكم) فلو كان كما ذهب إليه من ذكرنا قوله، لم يجز اختلاف الحركات فيه كما لم يجز ذلك في حركة الإعراب إذا كان معربا وأمّا ما حكاه أحمد بن يحيى عن الفراء في أن قوله: (اشتروا الضّلالة) إنما حرّكها بالحركة التي كانت تجب للام الفعل من الضمة، فإنّه ذهب في ذلك إلى أن الحركة فيها ليست لالتقاء الساكنين، كما يذهب إليه سيبويه وأصحابه.
وهذا الذي ذهب إليه الفراء لا يستقيم من غير جهة:
منها أن اشترى واصطفى وما أشبه ذلك إنما انقلبت اللام فيه ألفا لتقدير الحركة فيها، ولولا تقديرها لم تنقلب، كما لم تنقلبا في: لو، وكي، فإذا انقلبا لذلك لم يستقم أن يقدّر نقل الحركة عنها، لأن ثباتها ألفا بمنزلة كون الحركة معها، فكيف يقدر نقلها إلى موضع وهي في حكم الثبات في الحرف المتحرك بها؟
ومن ثم لم ينقلوا الحركة في قال، وباع، وهاب، وخاف، إلى الفاء، كما نقلوا في قلت، وطلت، وبعت، وخفت، وهبت، ألا ترى أنّها في تقدير الثبات مع الألف؟
ويمتنع ذلك من وجه آخر: وهو أنّا رأينا الحركات إنّما تلقى على الحروف التي تكون قبل الحروف التي تنقل منها، ولا تنقل إلى ما بعد الحروف المنقولة منها الحركة، ألا ترى أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/372]
بعت، وقلت، وخفت، وهبت، ومست وظلت، فيمن نقل حركة عينيهما وأحست كذلك، وكذلك أقام، وأقال، وأصمّ، وأيلّ، وأعدّ، وأمدّ، وأخلة، وأيمّة، وكذلك نقل حركات الهمز في التخفيف نحو جيل، وحوبة والمرة، والجية، والخب والعب. وكذلك يمدّ، ويعفّ، ويشمّ، وكذلك من نقل في خطّف، وقتّل ويهدّي، إنما ينقل إلى الحرف الذي قبل الحرف المنقولة منه الحركة. وكذلك قولهم:
قاضون وغازون، ومشترون ونحو ذلك. فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ولم نجد في هذه الأصول شيئا على ما ادّعاه- ثبت فساد ما ذهب إليه لدفع الأصول له وتعرّيه من دلالة تدلّ عليه.
ووجه آخر، وهو أن الحركة في: اشتروا الضلالة، ومصطفو القوم، واخشي القوم يا هذه- لا تخلو من أن تكون منقولة، من اللام كما قاله، أو حركة لالتقاء الساكنين كما ذهب إليه غيره.
[الحجة للقراء السبعة: 1/373]
فلو كانت حركة نقل كما قال لوجب أن يتحرك الحرف الذي نقلت إليه بها، التقى مع الساكن، أو لم يلتق، ألا ترى أن سائر ما نقلت الحركة إليه نحو ما ذكرنا قبل يتحرك بالحركة المنقولة إليه وفي أن هذه الحروف: الواو في اشتروا وفي مصطفو القوم، والياء في اخشي الله يا هذه، لا تتحرك حتى تلتقي مع ساكن منفصل منها دلالة على أنّها تحركت من حيث تحركت الحروف الساكنة الملتقية مع سواكن أخر منفصلة منها نحو: عذابٍ اركض [ص/ 41، 42] وأحدن، الله [الصمد/ 2، 3] أو انقص [المزمل/ 3] واذهب اذهب، وما أشبه ذلك مما تحرك لالتقاء الساكنين، فأما تحريكها بالضمّ، وتحريك هذه الحروف التي ذكرناها بغيره من الحركات فمسألة أخرى. ولو لم يكن في ذلك إلّا أن الياء التي هي مثل الألف في اللين نقل حركتها إلى ما قبلها فى: قاضون وفأولئك هم العادون [المؤمنون/ 7] لكان كافيا، فعلم منه أن حركة اللام المنقلبة ألفا لا تنقل إلى ما بعدها كما لم تنقل في «العادون» إلى ما بعده.
اختلفوا في قوله تعالى: بالهدى [البقرة/ 16] وما أشبه ذلك فكان نافع لا يفتح ذوات الياء ولا يكسر مثل قوله: (الهدى، والهوى والعمى، واستوى وأعطى، وأكدى)
[الحجة للقراء السبعة: 1/374]
وما أشبه ذلك، كانت قراءته وسطا في ذلك كله، وكذلك (يحيى، وموسى، وعيسى، والأنثى، واليسرى، والعسرى، ورأى، ونأى).
وقال المسيّبي: كان نافع يفتح ذلك كلّه، والأول قول قالون وورش عن نافع.
وكان ابن كثير يفتح ذلك كلّه.
وأما أبو عمرو فكان يقرأ من ذلك ما كان من رءوس الآي بين الفتح والكسر مثل آيات سورة طه، والنجم و (عبس وتولى، والضحى، والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، ودحاها وطحاها)، فإذا لم يكن رأس آية فتح، مثل: قضى أجلًا [الأنعام/ 2] والهدى، واستوى إلى السّماء [البقرة/ 29] و (أزكى) و (فسواهن)، و (أحيا) فإنّه بالفتح كلّه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/375]
فإذا كان الاسم مؤنثا على فعلى أو فعلى أو فعلى مثل (ذكرى) وضيزى [النجم/ 22] وأنثى وشتّى وما أشبه ذلك فهو بين الفتح والكسر، وإذا كانت راء بعدها همزة وبعد الهمزة ياء كسر الهمزة وفتح الراء مثل رأى كوكباً [الأنعام/ 76] ورأى أيديهم [هود/ 70] وإذا جاءت راء بعدها ياء كسر الراء مثل قوله: هل ترى، ويرى والنصارى وأرى. فإذا سقطت الياء في الوصل لساكن لقيها لم يمل الراء كقوله تعالى: حتّى نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55] والنّصارى المسيح [التوبة/ 30] وترى الّذين [الزمر/ 60]، لأنّ الإمالة إنّما كانت من أجل الياء فلما زالت الياء زالت الإمالة.
وروى عبد الوارث وعباس بن الفضل عن أبي
[الحجة للقراء السبعة: 1/376]
عمرو إمالة ذلك كلّه، استقبله ساكن أو لم يستقبله.
والمعروف عن أبي عمرو ترك الإمالة في مثل: نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55].
وكان عاصم يفتح في رواية أبي بكر ذلك كلّه إلّا: (رأى، ورمى ورآه)، و (نأى) في سورة بني إسرائيل [الآية/ 83] وفتح التي في السجدة [فصلت/ 51] وأعمى [الإسراء/ 72] فإذا سقطت الياء لساكن لقيها في الوصل أمال الراء وفتح الهمزة مثل: رأى القمر [الأنعام/ 77].
وروى خلف عن يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم أنّه كان يميل الراء والهمزة من قوله تعالى: رأى الشمس [الأنعام/ 78] ورأى القمر [الأنعام/ 77] ورأى
[الحجة للقراء السبعة: 1/377]
الذين ظلموا [النحل/ 85] وما كان مثله.
وكان غير خلف يروي عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم في ذلك بفتح الهمزة بعد كسر الراء، مثل حمزة.
وأما حفص فروى عن عاصم ذلك كلّه بالفتح، إلّا قوله:
مجراها [هود/ 41] فإنه أمالها.
وكان حمزة يميل ذوات الياء، مثل: (أعطى واتقى) و (استوى). وما أشبه ذلك، وأمات وأحيا [النجم/ 44] ويحيى من حيّ [الأنفال/ 42] ولا يميل (أحياكم) و (أحيا) إلّا إذا كان قبل الفعل واو. ويميل موسى، وعيسى، ويحيى، ولا يميل ذوات الواو مثل قوله: واللّيل إذا سجى [الضحى/ 2] و (دحاها)، و (طحاها)، و (تلاها)، ويميل ذلك أزكى لهم [النور/ 30] والأعلى [الأعلى/ 1] وكلّ فعل من ذوات الواو زيدت في أوله ألف فإنه يميله.
وكان الكسائي يميل ذلك كلّه، ويميل، (فأحياكم) و (أمات وأحيا)، ويميل ذوات الواو إذا كنّ مع ذوات الياء مثل:
(وضحاها) و (الضحى)، لا يفتح شيئا من ذلك، وكذلك (دحاها).
واتفقا في ترك الإمالة في قوله تعالى: ثمّ دنا [النجم/ 8] وما زكا منكم [النور/ 21] ودعا [آل عمران/ 38] وعفا [البقرة/ 187]، وما أشبه ذلك.
وابن عامر يفتح ذلك كلّه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/378]
أبو عمرو يميل الكاف من (الكافرين) في موضع الخفض والنصب إذا كان جمعا، وإذا كان واحدا، كقوله تعالى: أوّل كافرٍ به [البقرة/ 41] أو جمعا في موضع رفع مثل قوله: قل يا أيّها الكافرون [الكافرون/ 1] لم يمل.
وكذلك روى أبو عمر الدّوري، ونصير بن يوسف النحوي جميعا عن الكسائي ولم يرو ذلك عن الكسائي إلا أبو عمر ونصير والباقون لا يميلون.
قال أبو علي: أما إمالة نافع (الهدى، والهوى، والعمى، واستوى، وأعطى، وأكدى، ويحيى، وموسى، وعيسى، والأنثى، واليسرى، والعسرى، ورأى، ونأى) فحسنة، لأنّها ألفات منقلبة عن الياء، أو في حكم المنقلب عنها.
فأمالوها ليدلوا على أن أصلها الياء، أو في حكم ذاك. وإذا كانوا قد أمالوا شيئا من الأسماء التي على ثلاثة أحرف نحو:
العشا والكبا والمكا مع أنها منقلبة عن الواو، فلا نظر في حسن إمالة ما كان انقلابه من هذه الألفات عن الياء، أو كان في حكم ذلك لتدل الإمالة والانتحاء بالألف نحو
الياء على الياء.
ومثل ذلك في إلزام الكلمة ما يدل على الحرف الذي وقع الانقلاب عنه إبدالهم من الهمزة المعترضة في الجمع الواو
[الحجة للقراء السبعة: 1/379]
ونحو هراوى وأداوى، ليدل ذلك على الواو التي كانت اللام في إداوة وهراوة.
ومثله أيضا قول من قال: قيل فانتحى بالكسرة نحو الضمة ليدل على أن الأصل فعل.
ومثل ذلك قولهم: أنت تغزين يا هذه. فأشموا الزاي الضمة لتدل على الواو المحذوفة التي هي لام الفعل، فكذلك إمالة الألف نحو الياء لتدل على أنّ انقلابها عن الياء دون الواو.
ومما يؤكد ذلك أنّ قوما قالوا هذا ماشّ وهذا جادّ، فأمالوا ليدلوا على الكسرة التي تكون في إظهار المثلين وفي عين الفعل في الدّرج.
وأما قصده في الإمالة بها نحو الياء وتوسطه في ذلك فلأنّه كره أن يبالغ في الانتحاء نحو الياء، فيصير كأنّه عائد إلى الياء التي كرهوها حتى أبدلوا منها الألف، وهكذا ينبغي أن تكون الألف في الإمالة.
قال وكان ابن كثير يفتح ذلك كلّه. وحكي عن ابن عامر أنّه كان يفتح ذلك كلّه.
قال أبو علي، الحجة له أنّه كره الإمالة في نحو:
هدى، وعمى، واستوى، لأنّه كره أن ينحو نحو الياء، وقد كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/380]
كرهها وفرّ منها حتى قلبها ألفا، فكره أن يعود إلى مقاربة ما كان رفضه، وهو قول الأكثر فيما زعم سيبويه، أعني ألا يميل ما كان انقلابه من الألفات عن الياء كما أن الأكثر من يقول ردّ، فيصحح الضمة ولا ينحو بها نحو الكسرة، لأنّه قد كان كرهها حتى أذهبها بالإدغام.
ومما يؤكد ترك الإمالة في هذا الضرب، لأنّ فيها انتحاء نحو ما كان كرهه، تركهم الإمالة في جادّ ومجادّ ونحوه من المضاعف لأنّه فربّما تحقّق فيه الكسرة التي كانت تقع بعد الألف لو لم تدغم فلم يعد إلى ما يدل عليها من الإمالة بعد رفضه لها، ولم يميلوا في الجر فقالوا: مررت برجل جادّ.
فأمّا من أمال ذلك في الجر فكما أمال: مررت بماله، لا على ما يمال من نحو: عابد وعالم، وهذا قول الأكثر.
قال سيبويه: وكثير من العرب وأهل الحجاز لا يميلون هذه الألف.
قال: وأما أبو عمرو فكان يقرأ من ذلك ما كان من رءوس الآي بين الكسر والفتح، مثل آيات سورة طه، والنجم، وعبس وتولى، والضحى والليل، والشمس وضحاها، ودحاها، وطحاها، فإذا لم تكن رأس آية فتح.
قال أبو علي: إنّما أمال الألفات في رءوس الآي، لأنّ الفواصل بمنزلة القوافي في أنّها مواضع وقوف، كما أنّ أواخر
[الحجة للقراء السبعة: 1/381]
البيوت كذلك، وقد فصلوا بين الوصل والوقف، فأمالوا إذا وقفوا، ولم يميلوا إذا وصلوا، وذلك قولهم في الوقف: يريد أن يضربها ومنّا، ومنها وبنا، ونحو ذلك.
فإذا وصلوا نصبوا فقالوا: يريد أن يضربها زيد، وأن يضربا زيدا، ومنا زيد. وإنّما حملهم على هذا الفصل بين الوقف والوصل أنّهم أرادوا في الوقف تبيين الألف، فكما بيّنوها بأن قلبوا من الألف الياء في نحو هذه أفعى، كذلك بينوها بأن نحوا بها نحو الياء. فإذا وصل ترك الإمالة كما يترك إبدال الياء منها فيقول: هذه أفعى فاعلم، لأنّ
الألف في الوصل أبين منها في الوقف، فعلى هذا فصل أبو عمرو بين رءوس الآي وغيرها.
وأما تسويته بين ضحاها، وطحاها، فليشاكل بينها في اللّفظ، لأنّ الفواصل كالقوافي، فاستحب الملاءمة بين بعض الفواصل وبعض، كما استحبوا ذلك في القوافي، وأمال طحاها ونحوها لذلك ولأنّ الامالة في نحو: طحا وغزا سائغة.
وأما إمالة ما كان آخره ألف التأنيث نحو ذكرى وأنثى وشتى، فلأن هذه الألفات تبدل منها الياء ولا تبدل منها الواو أبدا، فصارت بمنزلة ما أصلها الياء، فأمالها بذلك. وإمالتها وترك إمالتها جميعا كثيران.
قال: فإذا كانت الراء بعدها همزة وبعد الهمزة ياء كسر الهمزة وفتح الراء، يريد بالياء الألف، ولعله سمّاها ياء لأنّ الكتّاب يكتبونها ياء، وذلك نحو: رأى أيديهم [هود/ 70]
[الحجة للقراء السبعة: 1/382]
فأمال الفتحة التي على الهمزة من رأى نحو الياء، لتميل الألف بإمالة الفتحة نحو الياء، وترك الراء مفتوحة لأنّها لم تل الألف، فتركها على فتحتها ولم يغيرها.
قال فإذا جاءت راء بعدها ياء كسر الراء مثل قوله:
(ترى، ونرى، والنصارى، وأرى).
قوله: بعدها ياء، يريد بها الألف الممالة أيضا.
فإن قلت: فهلّا لم يمل الألف هنا لأنّ الراء مفتوحة، والراء إذا كانت مفتوحة منعت الإمالة كما تمنعها الحروف المستعلية. فالقول إن فتح الراء هنا لا يمنع الإمالة كما أن المستعلية أنفسها لم تمنع منها في نحو: سقى وصفا، وكذلك الراء في (النصارى).
قال: فإذا سقطت الياء في الوصل لساكن لقيها لم يمل الراء، كقوله تعالى: حتّى نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55] والنّصارى المسيح [التوبة/ 30]، ويرى الّذين [سبأ/ 6].
قال أبو علي: هذا الذي ذهب إليه أبو عمرو مذهب، وللعرب في هذا مذهبان:
أحدهما ألّا يميلوا بالفتحة نحو الكسرة، لأنّ إمالتها إنّما كانت لتميل الألف نحو الياء، فلما سقطت الألف لالتقاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/383]
الساكنين صحح الفتحة ولم يملها لسقوط الألف التي كانت الفتحة تمال لتميلها.
قال سيبويه: قالوا: لم يضربها الذي تعلم، فلم يميلوا، لأنّ الألف قد ذهبت.
والآخر أن يميل الفتحة نحو الكسرة وإن كانت الألف قد سقطت، لأنّ الألف لمّا كان حذفها لالتقاء الساكنين- والتقاء الساكنين غير لازم- صارت الألف كأنّها في اللفظ.
وقد روى أحمد بن موسى هذا الوجه الثاني أيضا عن أبي عمرو، فقال: روى عبد الوارث، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو إمالة ذلك كلّه، استقبله ساكن أو لم يستقبله.
قال أحمد: والمعروف عن أبي عمرو ترك الإمالة في مثل نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55].
وقد حكى هذا الوجه أبو الحسن، وحكى الأول الذي حكيناه عن سيبويه فقال: إن شئت تركت الإمالة على حالها.
قال: وذلك نحو فلمّا رأى القمر [الأنعام/ 77] وفي القتلى الحرّ [البقرة/ 178] وهدىً للمتّقين [البقرة/ 2].
قال: وكان عاصم يفتح في رواية أبي بكر ذلك كلّه، إلّا رأى ورمى ورآه ونأى في سورة بني إسرائيل، وفتح التي في السجدة [فصلت/ 51] وأعمى [الاسراء/ 72]، فإذا سقطت الياء لساكن لقيها في الوصل أمال الراء وفتح الهمز مثل (رأى القمر).
[الحجة للقراء السبعة: 1/384]
قال: وكان غير خلف يروي عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم في ذلك كلّه بفتح الهمزة بعد كسرة الراء مثل حمزة.
وأمّا حفص فروى عن عاصم ذلك كلّه بالفتح إلّا قوله:
(مجراها)، فإنّه أمالها.
قال: أبو علي: الفتح في ذلك هو الأصل، وأمّا الإمالة في رأى ورآه ونأى فإنّه أمال فتحة الهمزة لتميل الألف المنقلبة عن الياء في رأيت ونأيت نحو الياء، فلمّا أمال فتحة الهمزة لما ذكرناه أمال فتحة الراء لإمالة فتحة الهمزة، وكما أمالوا الألف لإمالة الألف في نحو رأيت عمادا، كذلك أمالوا الفتحة في راء: رأى لإمالة فتحة الهمزة، ألا تراهم أمالوا الفتحة في الراء من نحو: من الضرر، لكسرة الراء، والفتحة في الطاء من نحو: رأيت خبط الريف لكسرة الراء، فكذلك أمالوا الفتحة للفتحة الممالة، لأنّ الفتحة الممالة منتحى بها نحو الكسرة، كما أنّ الألف الممالة منتحى بها نحو الياء، فكما أمالوا الألف الآخرة في رأيت عمادا لإمالة الألف الأولى التي أميلت للكسرة، كذلك أميلت الفتحة في راء رأى لإمالة الفتحة من همزتها.
فأمّا فتحه الهمزة إذا سقطت الألف لساكن لقيها وتبقيته الإمالة في الراء مع فتحة الهمزة، فكان القياس أن يخلص فتحة
[الحجة للقراء السبعة: 1/385]
الراء ولا يميلها لزوال ما كانت أميلت له كما حكاه سيبويه في قولهم: لم يضربها الذي تعلم.
ولما فعله عاصم من إمالة فتحة الراء مع تفخيمه فتحة الهمزة وجه ظاهر، وقياس صحيح، وذلك أنهم قد قالوا:
رحمه الله، فكسروا الراء لكسرة حرف الحلق الذي هو العين، ثم أسكنوا الحاء فبقيت الراء على كسرتها ولم يردوها إلى الفتحة التي كانت الأصل في فعل، فكذلك بقّى في رأى إمالة فتحة الراء مع زوال الإمالة عن فتحة الهمزة، ومما يثبت ذلك قوله:
وإن شهد أجدى فضله وجداوله وممّا يقوي ذلك قولهم: صعق ثم نسبوا إليه فقالوا:
صعقي، فقرروا كسرة الصاد وإن كانت كسرة العين التي لها كسرت الصاد قد زالت.
فأمّا إمالة فتحة الراء من قوله تعالى: ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17] فإنّ إمالة الراء في رأى، أحسن من إمالة الراء في رمى، لأنّ الراء في رأى ونأى بعدهما همزة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/386]
والكسر [في الفاء إذا كانت بعدها همزة] أو غيرها من حروف الحلق قد كثر.
قال أبو الحسن: وقد ذكروا أنّها لغة، ووجهه ما تقدم من أنّه لمّا أمال الميم أمال الراء لإمالتها.
وليس اختلاف رواية الرواة في هذه الحروف عنه بتدافع، لأنّه إذا كان لكل قراءة من ذلك وجه فقد يجوز أن يكون رأى أن يقرأ بكل واحد منها، ويجوز أن يكون رأى القراءة ببعض ذلك ثم انتقل عنه إلى وجه آخر.
ويقوي الوجه الأول ما رواه أبو بكر عنه من إمالة «نأى» في سورة بني إسرائيل، وفتح التي في السجدة.
وأمّا إمالة حمزة مثل: (أعطى، واتّقى، واستوى، وأمات، وأحيا) إلّا إذا كان قبل الفعل واو فيمكن أن يكون لمّا رأى الإمالة وتركها سائغين جائزين أخذ بهما جميعا فقرأ بعض ذلك ممالا، وبعضا غير ممال على نحو ما روي عن عاصم.
وإمالته موسى وعيسى ويحيى قد تقدّم القول في ذكر وجهه.
وترك إمالته ذوات الواو مثل: (والليل إذا سجا)، و (طحاها)، و (تلاها) حسن جميل، لأنّه لا ياء هنا ينحو بالألف نحوها: لتدلّ عليها فلم يمل الألف المنقلبة عن الواو إذ
[الحجة للقراء السبعة: 1/387]
كانت الإمالة في الألف المنقلبة عن الياء قد تترك، وفتح الألف في نحو رمى. فإذا جاء التفخيم في بنات الياء فبنات الواو أجدر.
والذين أمالوا نحو: طحا، أمالوا لأن اللام قد تنقلب ياء، والعدّة على ما هي عليه نحو: غزًّى [آل عمران/ 156].
وأمّا إمالته ذلكم أزكى لكم [البقرة/ 232] و (الأعلى) وكلّ فعل من ذوات الواو زيدت في أوله همزة، فحسنة، لأنّ الألف في هذه العدّة قد صارت في حكم المنقلب عن الياء لموافقتها لها في التثنية وغيرها، ألا ترى أنّك تقول:
الأزكيان، والأعليان، وتقول: أعليت زيدا، وزكيّته، فلما صار في حكم المنقلب عن الياء أمالها كما يميل ما انقلب عن الياء.
وموافقة الكسائي له في ذلك، واختصاص الكسائي بإمالة (وأحيا) في ذلك حسن، لأنّ الواو إذا لحقت أولا في هذا النحو فلا شيء فيه يمنع الإمالة، كما لا شيء فيه يمنع منها إذا لم تلحق في قياس العربية. ولعل حمزة اتبع في ذلك أثرا، لأنّ القراءة ليست موقوفة على مقاييس العربية دون اتباع الأثر فيها، أو أحبّ أن يجمع بين الأمرين الجائزين.
وأمّا اختصاص الكسائي من دون حمزة بإمالته ذوات
[الحجة للقراء السبعة: 1/388]
الواو إذا كنّ مع ذوات الياء في مثل (والشّمس وضحاها)، و (الضّحى)، و (دحاها)، وأنّه لا يفتح من ذلك شيئا، بل يسوي بين ذوات الياء وذوات الواو في هذه الفواصل- فهو في ذلك موافق لأبي عمرو، وقد تقدّم ذكر وجه ذلك عند ذكرنا لقول أبي عمرو.
قال: واتفقا في ترك الإمالة في قوله: ثمّ دنا [النجم/ 8]، وما زكا منكم [النور/ 21]، ودعا، وعفا، وقد تقدّم ذكر وجه ذلك.
قال: أبو عمرو يميل الكاف من الكافرين فى موضع الخفض والنصب إذا كان جمعا، وإذا كان واحدا مثل: أوّل كافرٍ به [البقرة/ 41]، أو جمعا مرفوعا مثل قل يا أيّها الكافرون [الكافرون/ 1] لم يمل، وكذلك رواه بعضهم عن الكسائي.
قال أبو علي: إمالته الكافرين في موضع النصب والخفض إنّما هي للزوم الكسرة الراء بعد الفاء المكسورة، والراء لما فيها من التكرير تجري مجرى الحرفين المكسورين، وكلّما كثرت الكسرات غلبت الإمالة وحسنت. فلمّا كانت الراء في الكافرين قد لزمتها الكسرة، والفاء قبلها مكسورة أيضا- حسنت الإمالة.
فأمّا الواحد المجرور نحو: أوّل كافرٍ به [البقرة/ 41]
[الحجة للقراء السبعة: 1/389]
فإنّما لم يمله كما أمال الجميع، لأنّ كسرة الإعراب غير لازمة فيه لزوم الكسرة للراء في الكافرين، فلم يلزم أن يميل الواحد من حيث أمال الجميع، ومع ذلك فإنّ الراء لما كانت مشبّهة بالمستعلي للتكرير الذي فيها، ولم يمل قوم كافرا في الرفع والنصب، كما لم يميلوا نافقا وشاحطا- لم يميلوها في الجر أيضا، وأتبعوا الجرّ الرفع والنصب، فتركوا الإمالة فيه كما تركوها فيهما.
وأمّا تركه إمالة الألف في الرفع نحو: قل يا أيّها الكافرون فللزوم الراء فيه الضمة، والراء تمنع الإمالة إذا انضمت أو انفتحت كما تجلبها إذا انكسرت). [الحجة للقراء السبعة: 1/390]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى بن يَعْمَر وابن أبي إسحاق وأبي السَّمال: [اشتروِا الضَّلالة].
قال أبو الفتح: في هذه الواو ثلاث لغات: الضم، والكسر، وحكى أبو الحسن فيها الفتح: {اشتروَا الضَّلالة}، ورويناه أيضًا عن قطرب، والحركة في جميعها لسكون الواو وما بعدها، والضم أفشى، ثم الكسر، ثم الفتح.
[المحتسب: 1/54]
وإنما كان الضم أقوى لأنها واو جمع، فأرادوا الفرق بينها وبين واو "أو" و"لو"؛ لأن تلك مكسورة، نحو قول الله سبحانه: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ}، ومنهم مَن يضمها، فيقول: [لوُ اطلعت]، كما كسر أبو السَّمَّال وغيره من العرب واو الجمع تشبيهًا لها بواو "لو".
وأما الفتح فأقلها، والعذر فيه خفة الفتحة مع ثقل الواو، وأيضًا فإن الغرض في ذلك إنما هو التبلغ بالحركة لاضطرار الساكنين إليها، فإذا وقعت من أي أجناسها كانت أقنعت في ذلك، كما روينا عن قطرب من قراءة بعضهم: [قُمَ اللَّيْل] بالفتح، و[قُلَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ]، وبِعَ الثوب. قال: وقيس تقول: [اشْتَرَءوا الضَّلالَةَ]. قال: وقال بعض العرب: عصئوا الله مهموزة.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ذلك على إجراء غير اللازم مجرى اللازم، وقد كتبنا في هذا بابًا كاملًا في الخصائص، وذلك أنه شبه حركة التقاء الساكنين -وليست بلازمة- بالضمة اللازمة في [أُقتت] وأدؤر وأُجُوه، إلا أن همز نحو {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ} من ضعيف ذلك.
ولو وقفتَ مستذكرًا وقد ضمت الواو؛ لقلت: اشتروُوا، ففصلت ضمة الواو، فأَنشأت بعدها واوا، كأنك تستذكر {الضَّلالَة} أو نحوها، فتمد الصوت إلى أن تذكر الحرف. ولو استذكرت وقد كسرت لقلت: اشتروِي، فأنشأت بعد الكسرة ياء. ولو استذكرت وقد فتحت الوو لقلت: اشتروَا، كما أنك لو استذكرت بعد مِن، وأنت تريد الرجل ونحوه لقلت: مِنا؛ لأنك أشبعت فتحة من الغلام، وفي منذ: منذو، وفي هؤلاء: هؤلائي. وحَكى صاحب الكتاب: أن بعضهم قال في الوقف: قالا، وهو يريد قال.

1. وحَكى أيضًا: هذا سَيْفُنِي، كأنه استذكر بعد التنوين، فاضطر إلى حركته فكسره، فأحدث بعده ياء. ولو استذكرت مع الهمز لقلت: اشترءوا، فالواو بعد الهمزة واو مَطْل الضمة، وليست كواو قولك: اجترءُوا، وأنت تريد: افتعلوا من الجرأة). [المحتسب: 1/55]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 11:28 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (17) إلى الآية (20) ]

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}

قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن وإبي السَّمَّال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلْمَاتٍ} ساكنة اللام.
قال أبو الفتح: لك في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: إتباع الضم الضم، والكسر الكسر، ومَن استثقل اجتماع الثقيلين فتارة يعدل إلى الفتح في الثاني يقول: ظُلَمَات وكِسَرات، وأخرى يسكن فيقول: ظُلْمَات وكِسْرَات، وكل جائز حسن.
فأما فَعْلة بالفتح فلَا بُدَّ فيه من التثقيل إتباعًا، فتقول: ثَمَرَة وثَمَرَات، قال:
ولما رأونا باديًا رُكَبَاتُنا ... على موطن لا نخلط الجِد بالهزل
وقال النابغة:
وَمَقْعَدُ أيسار على رُكَبَاتهم ... ومربطُ أفراس وناد وملعب
وعليه قراءة أبي جعفر: [من وراء الْحُجَرات].
وقال بشر:
حتى سقيناهم بكأس مرة ... مكروهة حُسَواتها كالعلقم
وقد أسكنوا المفتوح، وهو ضروة، قال لبيد:
رُحلن لشقة ونُصبن نصبا ... لوغْرات الهواجرِ والسَّمُوم
وقال ذو الرمة:
أَبت ذكرٌ عَوَّدْنَ أحشاء قلبه ... خُفُوفًا ورفْضَاتُ الهوى في المفاصل
روينا ذلك كله، وروينا أيضًا أن بعض قيس قال: ثلاث ظَبْيَات، فأسكن موضع العين، وروينا عن أبي زيد أيضًا عنهم: شَرْيَة وشَرْيات وهو الحنظل، والتسكين عندي في هذا أسوغ منه في نحو رفْضات ووغْرات، من قِبَل أن قبل الألف ياء محركة مفتوحًا ما قبلها، وهذا شرط اعتلالها بانقلابها ألفًا، وتحتاج أن تعتذر من ذلك بأن تقول:
لو قلبت ألفًا لوجب حذفها لسكونها وسكون الألف بعدها، وليس في نحو: رفضات ما يوجب الاعتذار من الحركة، وكان رفضات أقرب مأخذًا من ثمرات من قِبَل أن رفضة حدث ومصدر،
[المحتسب: 1/56]
والمصدر قوي الشبه باسم الفاعل الذي هو صفة، والصفة لا تحرَّك في نحو هذا، نحو: صَعْبة وصَعْبات، وخَدْلة وخَدْلات، ويدلك على قوة شبه المصدر بالصفة وقوع كل واحد منهما موقع صاحبه، وذلك نحو قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} أي: غائرًا، وقولهم: قم قائمًا؛ أي: قيامًا، وعليه قول الفرزدق:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رِتاج قائمًا ومقام
على حَلْفَة لا أشتُمُ الدهر مسلمًا ... ولا خارجًا من فيَّ زُورُ كلام
أي: ولا يخرج خروجًا. وعليه أيضًا كسروا المصدر، وهو فَعْلٌ عى ما يكسر عليه فاعل في الوصف وهو فواعل. أنشدنا أبو علي:
وإنك يا عم ابن فارس قُرْزُل ... معيدٌ على قيل الخنا والهواجر
يريد جمع هُجْر، فكأنه كسَّر هاجرًا على هواجر.
وأنشدنا أيضًا:
فليتك حال البحر دونك كله ... وكنت لقى تجري عليه السوائل
يريد السيول جمع سيل، وهو كثير جدًّا، فكذلك سَهُل شيئًا إسكان نحو: رَفْضة ووَغْرة؛ لكونهما حدثين ومصدرين لشبههما بالصفة. ويزيد في أُنْسك تسكن عين ما لامه حرف علة لما تُعقبُ من الاعتذار من تحريك عينه، امتناعهم من تحريك العين في فَعْلَة إذا كانت حرف علة، وذلك نحو: جَوْزَات ولَوْزَات وبَيْضَات، ألا ترى أنه لو حرك فقال: جَوَزَات وبَيَضَات؛ لوجب أن يعتذر من صحة العين مع حركتها وانفتاح ما قبلها بأن يقول: لو أعللتُ لوجب القلب، فأقول: جازات وباضات؛ فيلتبس ذلك بما عينه في الواحد ألف منقلبة نحو: قارة وقارات، وجارة
[المحتسب: 1/57]
وجارات.
وإذا جاز إسكان العين الصحيحة، نحو: تَمْرات وشَعْرات؛ صار المعتل أحرى بالضمة. نعم، وربما جاء الفتح في العين إذا كانت واوًا أو ياء كما قال الهذلي:
أبو بَيَضَات رائحٌ متأَوِّبٌ ... رفيقٌ بمسع الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
وعذره في ذلك: أن هذه الحركة إنما وجبت في الجمع، وقد سبق العلم بكونها في الواحد ساكنة، فصارت الحركة في الجمع عارضة فلم تُحفل، وفي هذا بعد هذا ضعف، ألا ترى أن هذه الألف والتاء تبنى الكلمة عليهما، وليستا في حكم المنفصل؟ يدلك على ذلك صحة الواو في خُطُوات وكُسُوات، ولو كانت الألف والتاء في ذلك في حكم المنفصل لوجب إعلال الواو؛ لأنها لام وقبلها ضمة، كما أنك لو بنيت فُعُلَة على التذكير من غزوت لأعللت اللام فقلت: غُزُية، حتى كأنك نطقت بفُعِل منه فقلت: غُزٍ.
ولو بنيتها على التأنيث لصحت اللام فقلت: غُزُوَة، فعليه قلت: خُطُوات؛ لأنه مبني على التأنيث، ولو كان على التذكير قلت: خُطِيات، كما قلت: غُزٍ في فُعُل من الغزو.
قال أبو علي: يدلك على أن الكلمة مبنية على الألف والتاء اطِّراد إتباع الكسر للكسر في سِدِرات وكِسِرات مع عزة فِعِل في الواحد، وإنما حكى سيبويه منه: إبل لا غير، وهو كما ذَكر، إلا أن مما يؤنس بكون حركة العين غير ملازمة ما رويناه عن قطرب فيما حكاه عن يونس من قوله في جِرْوة: إذا قلت جِرِوات فصحة الواو وهي لام بعد الكسرة تدلك على قلة الاعتداد بها، وعلى ذلك أن يقال: إن هذا شاذ، يدل على شذوذه امتناعهم أن يحركوا عين كُلْية ومُدْية، وأن يقولوا: كُلُيات ومُدُيات؛ لما كان يعقب ذلك من وجوب قلب الياء إلى الواو، فدلنا ذلك على أن نحو جِرِوات شاذ.
وبإزاء هذا أن يقال: هلا قلبوا فقالوا: كُلُوات ومُدُوَات، كما أنهم لو بنوا مثل فُعُلة من قضيت ورميت على التأنيث قلبوا فقالوا: رُمُوَة وقُضُوَة، فهذه أشياء تراها متكافئة أو كذلك، وعلى كل حال فالاختيار خُطْوات بالإسكان، ألا ترى أن الألف والتاء وإن بني الاسم عليهما فإن الجمع على كل حال خارج من الواحد الذي هو الأصل، فمعنى الفرعية موجود في الجمع
[المحتسب: 1/58]
بتلفُّته إلى الواحد، وليست فُعُلَة إذا بنيت على التأنيث مما خرج عن تذكيره فيراعى فيه حكمه، كما رُوعي في الألف والتاء حكم الواحد، فاعرفه فصلًا). [المحتسب: 1/59]

قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}

قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)}

قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (21- وقوله {والله محيط بالكافرين}.
قرأ أبو عمرو والكسائي في رواية عمر {الكافرين} بالإمالة في موضع الجر والنصب.
وقرأ الباقون بالتفخيم. فمن فتح فعلى أصل الكلمة، ومن أمال قال: إنما أملت الألف لاجتماع أربع كسرات، كسرة الفاء والراء، والياء تنوب عن كسرتين، فلما اجتمعت في الكلمة أربع كسرات جذبن الألف إليهن بقوتهن فأملنها.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه: فإن سأل سائل فقال: هلا أمال {الشاكرين} وقد اجتمعت فيه أربع كسرات؟
فالجواب في ذلك أنهم تركوا إمالة {الشاكرين} لثلاث علل:
إحداهن: أن اللام مدغمة في الشين فكرهوا الإمالة مع التشديد:
والعلة الثانية: أنه قليل الدَّور في القرآن ولم يكثر ككثرة الكافرين.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/75]
فإن سأل سائل عن الكافرين فقال: الإمالة في ألف أو الكاف؟
فالجواب في ذلك: أن الإمالة لا تكون إلا في الألف، وإنما يشم الكاف الكسر لتصح الإمالة، وقد قال قومٌ: إنهما ممالان وذلك خطأ.
والعلة الثالثة: أن الشين والجيم والياء يخرجن من وسط اللسان بينه وبين الحنك، فلما كانت مجاورة الياء كرهوا الإمالة في الشين كما كرهوا في الياء). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/76]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله (تعالى): في طغيانهم [البقرة/ 15] وفي آذانهم [البقرة/ 19].
قال أبو عمر الدّوري ونصير بن يوسف النحوي:
[الحجة للقراء السبعة: 1/365]
كان الكسائي يميل الألف في طغيانهم، وفي آذانهم، وقال غيرهما: كان يفتح.
وقال أبو الحارث الليث بن خالد وغيره: كان الكسائي لا يميل هذا وأشباهه. والباقون يفتحون.
قال أبو علي: الطغيان: مصدر طغى، كالكفران والعدوان والرضوان.
وحكى أبو الحسن: طغا يطغو، وقالوا: يطغى في المضارع، وفي التنزيل: ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم [طه/ 81] فألف طغا تكون منقلبة عن الياء، فيمن قال:
طغيت، وعن الواو فيمن قال: طغوت.
وقالوا: طغوت، وقالوا: تطغى، كما قالوا: صغوت تصغى، ومحوت تمحى، ففتحت العين في المضارع للحلقي.
وحكى بعضهم طغيت تطغى، فتطغى على هذا مثل يفرق، لا مثل يصغى، ويجوز على هذا أن تكسر حرف المضارعة منه فتقول: تطغى، وإن جعلته مضارع طغوت أو
[الحجة للقراء السبعة: 1/366]
طغيت لم يجز ذلك فيه.
فأمّا قوله تعالى: فأهلكوا بالطّاغية [الحاقة/ 5] فيحتمل ضربين:
أحدهما أن يكون مصدرا كالعافية والعاقبة، أي:
بطغيانهم.
والآخر أن يكون صفة، أي بالريح الطاغية.
وقوله: كذّبت ثمود بطغواها [الشمس/ 11] فالواو مبدلة من الياء: لأنّه اسم مثل التّقوى والرّعوى والبقوى، لأنّ لغة التنزيل الياء بدلالة الطغيان المذكور فيه في مواضع.
فأما لا تطغوا، فلا دلالة فيها على الياء ولا الواو. وإن جعلت طغوى من لغة من قال: طغوت، كان الواو فيها من نفس الكلمة كالدّعوى والعدوى.
وحجة من أمال الطغيان هي أنّ الألف قد اكتنفها شيئان:
كلّ واحد منهما يجلب الإمالة وهما الياء التي قبلها والكسرة التي بعدها، فإذا كان كلّ واحد منهما على انفراده يوجب الإمالة في نحو السّيال والضّياح. ومررت ببابه، وبداره، فإذا اجتمعا كانا أوجب للإمالة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/367]
فإن قلت: إنّ أول الكلمة حرف مستعل مضموم، فكلّ واحد من المستعلي والضم يمنع الإمالة، فهلا منعاها هنا أيضا.
فالقول: إن المستعلي لما جاءت الياء بعده، وتراخى عن الألف بحرفين لم يمنع الإمالة. ألا ترى أنّ قوما أمالوا نحو المناشيط لتراخي المستعلي عن الألف مع أن المستعلي بعد الألف، فإذا تراخى في طغيان عنها بحرفين مع أنّه قبل الألف، كان أجدر بالإمالة، ألا ترى أنّهم قد أمالوا نحو صفاف، وقباب، ولم يميلوا نحو مراض، وفراض، لمّا كان المستعلي متأخرا عن الألف. وقالوا: بطارد [هود/ 29] وبقادر [يس/ 81] لمّا تقدم المستعلي الألف، ولم يميلوا فارق وبارض؟ وأما في (آذانهم) فجازت فيها الإمالة كما جازت في مررت ببابه، لمكان كثرة الإعراب، وهي حسنة جائزة.
والإمالة في طغيانهم أحسن). [الحجة للقراء السبعة: 1/368] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (9- {فِي طُغْيَانِهِمْ} [آية/ 15]:
و {آَذَانِهِمْ} [آية/ 19]:-
بالإمالة، قرأها الكسائي وحده.
وإنما أمال {طُغْيانِهِمْ}؛ لأن أَلِفَها قد اكتنفها شيئان، واحد منهما على الانفراد جالب للإمالة، وهما الياء قبلها والكسرة بعدها، فإذا أميلت الكلمة بواحدٍ منها لأن تمال باجتماعهما أولى.
وأما {فِي آذانِهِمْ آَذَانِهِمْ} فإنما أمالها لمكان كسرة الإعراب فيها، كمال يقال: مررت ببابه وداره، والإمالة في الأول أقوى). [الموضح: 249] (م)

قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (يكاد البرق يخطف أبصارهم).
[معاني القراءات وعللها: 1/141]
اتفق القراء على تخفيف "يخطف)، واختلفوا في سورة الحج، فقرأ نافع: (فتخطفه الطير) - بفتح الخاء وتشديد الطاء - وقرأ الباقون: (فتخطفه) - بالتخفيف وسكون الخاء -.
قال أبو منصور: من قرأ (يخطف " و(فتخطفه) فهو من خطف يخطف خطفًا، وهي لغة العالية التي عليها أكثر القراء.
ومن قرأ (فتخطّفه) - بفتح الخاء وتشديد الطاء - فأصل فيه (فتختطفه)، يقال: خطفت الشيء " واختطفته، إذا اجتذبته بسرعة.
وعلة هذه القراءة إدغام التاء في الطاء، وإلقاء فتحة الطاء على الخاء، وإتباع فتحة الخاء فتحة في الطاء.
وفيها لغة أخرى لم يقرأ بها هؤلاء القراء، وهي: (يخطّف " "فتخطّفه الطير"
روى ذلك عن الحسن أنه قرأ: (يخطّف) - بكسر الخاء والطاء -.
[معاني القراءات وعللها: 1/142]
ومن العرب من يقول: (يخطّف) - بفتح الياء والخاء، وكسر الطاء - ومنهم من يقول: (يخطّف) - بكسر الياء والخاء والطاء -.
وأجودها: (يخطّف)، وبعده: (يخطّف)، فمن قال: (يخطّف) فالأصل (يختطف)، فأدغمت التاء في الطاء، وألقيت على الخاء فتحة التاء.
ومن قال: (يخطّف) كسر الخاء لسكونها وسكون الطاء. وهذا قول الخليل، وزعم الفراء أن الكسر لالتقاء الساكنين ها هنا خطأ، وأنه يلزم من قال هذا أن يقول في "يعضّ ": "يعضّ)، وفي "يمدّ " "يمدّ).
وقال من احتج للخليل: هذا الذي قاله القراء غلط غير لازم، لأنه لو كسر "يعضّ" و"يمدّ" لالتبس ما أصله "يفعل " و"يفعل" بما أصله (يفعل).
وأما: (يختطف) فليس أصله غير هذا، ولا يكون مرة على (يفتعل) ومرة على غير (يفتعل)، فكسر لالتقاء الساكنين في موضع غير ملتبس، وامتنع في الملتبس من الكسر لالتقاء الساكنين، وألزمه حركة الحرف الذي أدغمه لتدل الحركة عليه). [معاني القراءات وعللها: 1/143]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (17- وقوله تعالى: {كلما أضاء لهم مشوا فيه}
قرأ ابن كثير وحده {فيهى} بياء بعد الهاء، وكذلك ما شاكل ذلك نحو عليهى، والباقون باختلاس الحركة في غير ياء، فقراءة ابن كثير الأصل؛ لأن الهاء حرف خفي، فقووها بحركة وحرف، فإذا انفتح ما قبل الهاء أتبعوها ضمةً وواوًا كقوله: {فقدر هو * ثم السبيل يسرهو} فإن سكن ما قبلها فابن كثير يُبقي الواو نحو: {منهو آيات محكمات} {واجتبهوا وهداهو} على أصل الكلمة. ومن حذف الواو والياء قال: كرهت الجمع بين ساكنين وليس بينهما حاجزٌ إلا الهاء، وهي حرف خفي ضعيف، والأصل في الهاء الضم، وإنما تكسر إذا تقدمتها كسرة أو ياء.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه: وجدت في القرآن خمسة أحرف، قد ضمت الهاء فيها على الأصل من ذلك: قراءة حمزة {لأهله امكثوا} وقرأ حفص: {بما عاهد عليه الله} {وما أنسنيه إلا الشيطان} وروي أبو قرة عن نافع: {به انظر كيف نصرف الآيات}.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/72]
وأما غير السبعة فمنهم من يضم كل هاء في القرآن، منهم مسلم بن جندب قرأ {لا ريب فيه هدى للمتقين} وقرأ شيبة: {فخسفنا به وبداره الأرض}، فمن ضم فهو الأصل، ومن كسر فلمجاورة كسرة أو ياء، وفي الهاء لغة أخرى، وهو حذف الواو إذا انفتح ما قبلها، ولم يقرأ به أحد، غير أن الشاعر قال:
له زجل كأنه صوت حاد = إذا سمع الوسيقة أو زمير
الوسيقة: الطريدة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/73]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (18- وقوله تعالى: {إن الله على كل شيء قدير}
قرأ حمزة وحده بإشباع الفتحة طلبًا للألف، لأن حمزة يعتبر قراءته بحرف عبد الله، وفي مصحف عبد الله (شاي) ويسكت على الياء أعني حمزة سكتة خفيفة قبل الهمزة، وكذلك يفعل بالأرض والأسماء. وقرأ الباقون: {شيء} على وزن شيع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/73]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (حدثنا أحمد بن موسى: قال: اتفقوا على يخطف [البقرة/ 20] أنّ طاءه مفتوحة.
واختلفوا في: فتخطفه [الحج/ 31] فقرأ نافع: فتخطفه الطير بفتح التاء والخاء والطاء مشددة.
قال أبو علي: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن السري أنّ خطف يخطف أعلى من خطف يخطف.
وقال أبو الحسن: زعم يونس أن خطف يخطف أكثر في كلام العرب، وأنّها قراءة أبي عمرو، قال: وكذلك كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/390]
يقرأ: إلّا من خطف الخطفة [الصافات/ 10].
قال: والقراء لم يقرءوا إلا يخطف، وخطف مثل علم قال ولا نعلم أحدا قرأ الأخرى.
فأما قوله تعالى: «فتخطفه الطير» فنذكره في موضعه إن شاء الله.
قوله تعالى: على كلّ شيءٍ قديرٌ [البقرة/ 20].
كان حمزة يسكت على الياء من (شيء) قبل الهمزة سكتة خفيفة، ثم يهمز فيقول: شيء قدير، وكذلك يسكت على اللام من الآخرة [البقرة/ 94] والأرض [البقرة/ 22] والأسماء [البقرة/ 31] وما أشبه ذلك.
وغيره من هؤلاء القراء يصل الياء من (شيء) بالهمز واللام من (الأرض) وأخواتها بالهمز بلا سكتة.
قال أبو علي: الحجة لحمزة في ذلك أنّه أراد بهذه الوقيفة التي وقفها تحقيق الهمزة وتبيينها، فجعل الهمزة بهذه الوقيفة التي وقفها قبلها على صورة لا يجوز فيها معها إلّا التحقيق، لأنّ الهمزة قد صارت بالوقيفة مضارعة للمبتدإ بها، والمبتدأ بها لا يجوز تخفيفها، ألا ترى أنّ أهل التخفيف لا يخفّفونها مبتدأة، فكذلك هذه الوقيفة آذنت بتخفيفها لموافقتها بها صورة ما لا يخفّف من الهمزات.
وقد زادوا مدّ الألف إذا وقعت قبل الهمزة نحو:
[الحجة للقراء السبعة: 1/391]
أنزل من السّماء ماءً [الحج/ 63] ألا ترى أن المدّ الذي في الألف قبل الهمزة أزيد من المدّ الذي في الألف في نحو قوله تعالى:
وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه [النحل/ 53] ليكون ذلك أبين للهمزة، فكذلك وقف حمزة هذه الوقيفة الخفيفة ليكون أبين للهمزة كما مدوا جميعا الألف زيادة مدّ ليكون أبين للهمزة.
روى ورش عن نافع أنّه كان يلقي حركة الهمزة على اللام التي قبلها مثل: (الأرض) و (الآخرة) و (الأسماء) ويسقط الهمزة، وكذلك إذا كان الساكن. آخر كلمة والهمزة أول الأخرى ألقى حركتها على الساكن وأسقطها مثل: (قد افلح)، و (من اله)، ونحو ذلك، إلا أن يكون الساكن الأول واوا قبلها ضمة مثل: قالوا أنصتوا [الأحقاف/ 29]، أو ياء قبلها كسرة مثل: في أنفسكم [البقرة/ 235] فإنّه لم يكن يلقي حركة الهمزة عليها، فإذا انفتح ما قبل الواو والياء وهي ساكنة ولقيتها همزة ألقى عليها حركة الهمزة. وأسقط الهمزة مثل: خلوا إلى شياطينهم [البقرة/ 14] ونبأ ابني آدم [المائدة/ 27] وما كان مثله.
قال أبو علي: أما إلقاء نافع حركة الهمزة المتحركة على لام المعرفة في نحو: الأرض، والآخرة، والأسماء، وحذف الهمزة، فذلك قياس مستمر في الهمزة المتحركة إذا خففت،
[الحجة للقراء السبعة: 1/392]
وقبلها ساكن غير الألف، وسواء كان ذلك في كلمة واحدة، كقوله: الخب في السموات [النمل/ 25] أو في كلمتين منفصلتين مثل: (قد افلح)، و (من اله)، فإذا خفّفت الهمزة فحذفت وألقيت حركتها على لام المعرفة الساكنة كان فيها لغتان:
منهم من يحذف همزة الوصل فيقول: لحمر.
ومنهم من لا يحذفها وإن تحرك ما بعدها فيقول: الحمر.
فأما وجه حذف هذه الهمزة في التخفيف، فإنها إذا أريد تخفيفها لم تخل من أن تحذف، أو تجعل بين بين، فلو جعلتها بين بين وقبلها ساكن لم يستقم، كما لا يستقيم أن يجتمع ساكنان، ألا ترى أنهم لم يخففوا الهمزة مبتدأة، وأنهم رفضوا تخفيفها على هذه الحال، كما رفضوا الابتداء بالحرف الساكن؟
فكما كانت في حكم الساكن في الابتداء، كذلك إذا جعلتها بين بين بعد الساكن.
ومما يبين وجوب حذفها أن الحركة في التقدير كأنّها تلي الحرف المتحرك بها والحرف قبلها. يدلّك على ذلك أنّها لا تخلو من أن تكون قبله أو بعده، فلا يجوز أن تكون قبله، لأنّها لو كانت كذلك لكانت الياء من اليسار لا تنقلب واوا، والواو من الوعد لا تنقلب ياء في ميعاد أو موسر، ألا ترى أنّ الميم لا تقلب هذين الحرفين؟ فلما انقلبا علمت أن الموجب لقلبهما ملازمتهما الياء أو الواو.
[الحجة للقراء السبعة: 1/393]
فإذا خففت الهمزة قبل ساكن لم تحذف نحو: رأيته، لأنّ الحركة قد فصلت- وإن أضعف الصوت بها- بين الهمزة المخففة والساكن.
فأمّا ترك نافع أن يلقي حركة الهمزة في التخفيف على الواو إذا انضمّ ما قبلها نحو: قالوا أنصتوا [الأحقاف/ 29] وعلى الياء إذا انكسر ما قبلها نحو: في أنفسكم [البقرة/ 235] فإنّ ذلك لا يمتنع في قياس العربية. وقد قال أهل التخفيف في: اتبعوا أمره: اتبعوا مره، وفي: اتبعي أمره:
اتبعي مره، فلم يفصلوا بين هذا الحرف اللين إذا كانت حركة ما قبله منه، وبينه إذا لم تكن حركة ما قبله منه.
وقد فصل نافع بينهما فخفّف بعد ما لم تكن حركتها منها، نحو: خلو الى [البقرة/ 14] نبأ ابني آدم [المائدة/ 27] فألقى حركة الهمزة من إلى على الواو من (خلوا)، وحركة الهمزة من (نبأ ابني آدم) على ياء التثنية من ابني، وليست حركة ما قبل كل واحد منهما منه، فيجوز أن يكون أراد الأخذ بالأمرين: بالتخفيف، والتحقيق، إلّا أنّه حقق الهمزة بعد الواو والياء إذا كانت حركة ما قبلهما منهما، لأنّه لو خفف ولم يحقق في قوله: (قالوا أنصتوا) لاختل بالتخفيف زيادة المدّ التي في الواو إذا ألقي عليها حركة الهمزة، فأحب أن يسلم المدّ ولا يخلّ به.
[الحجة للقراء السبعة: 1/394]
وخفّف في: (خلوا إلى) و (ابني آدم)، لأنّه لمّا لم تكن حركة ما قبلهما منهما أمن اختلال المدّ بالتخفيف.
فأمّا إلقاء حركة الهمزة على ياء (في) من قوله: في أنفسكم [البقرة/ 235] فلا يمتنع في القياس، وذلك أنّها ليست كالتي في خطيئة، لأنّها من نفس الكلمة، فهو مثل:
يرمي خاه.
فإن قلت: فهل يجوز أن تدغم في المنفصل كما جاز إدغامها في المتصل نحو: فيّ خير فتجيز: فيّدها سوار؟ فالقول أن إدغامها في المنفصل لا ينبغي أن يجوز من حيث جاز في المتصل، ألا ترى أنّك تقول: هذا قاضيّ، ووضعته في فيّ، فتدغم فيما هو غير منفصل، ولا يجوز أن تدغم هذا قاضي ياسر، ولا يغزو واقد، لما يختل من المدّ؟
وعلى هذا لم يجيزوا الإدغام في ظلموا واقدا، واظلمي ياسرا، وكان الإدغام في هذا أبعد لمعاقبة الألف الواو إذا قلت ظلما، فصار بمنزلة ساير وسوير، ولا يكون تخفيف الهمزة بعد في، كما قال أبو عثمان في ميئل: إنه يلزم أن تكون الهمزة فيها بعد الياء على قياس قول الخليل بين بين، وذلك أن الخليل لم يدغم أووم فلما لم يدغمه صار عنده بمنزلة سوير وقوول، والياء في ميئل هي التي لم يدغمها في مثلها ولا في
[الحجة للقراء السبعة: 1/395]
مقاربها، فصار بمنزلة الألف التي لم تدغم في شيء، ولم ينبغ أن تلقى عليها حركة الهمزة كما لم تلق على الألف، فلزم أن تجعل الهمزة بعدها بين بين كما كانت بعد الألف كذلك.
وهذه الياء التي في (في) وإن لم تدغم في المنفصل، كما لم يدغموا: هو يرمي ياسرا، فقد أدغمت في المتصل كما أدغم قاضيّ، فلا يمتنع أن تخفّف الهمزة بعدها. وتلقى حركتها عليها، كما ألقيت على الياء من يقضي وما أشبهه.
وأما تخفيف الهمزة في قوله: شيء، فإنّه يكون بحذفها وإلقاء حركتها على الياء، كما كان في ضوء وسوأة.
ضو وسوة فكذلك تقول: شي.
وقد قال قوم في تخفيف الهمزة في المنفصل نحو: أبو أيوب: أبويّوب فأبدلوا من الهمزة الواو لمّا كان قبلها، وفعلوا ذلك في المنفصل لأمنهم الالتباس بباب قوّة وجوّ. وشبه قوم به المتصل فقالوا: ضوّ وسوّة، وهو ذوّنسه في ذو أنسه.
وقد حكي أن قوما قالوا في الياء: أنا أرميّ باك، في أنا أرمى أباك، فقياس هؤلاء أن يقولوا في تخفيف شيء شيّ، كما قالوا في ضوء: ضوّ، وسوّة، وموّلة.
وقد قال: إن من قال: سوّة قال: سيّ، يريد في نحو
[الحجة للقراء السبعة: 1/396]
قوله: سيء بهم [هود/ 77].
فأمّا ما قاله من نحو: مسوّ فينبغي أن يكون أبدل من الهمزة الواو، وأدغم الواو التي هي عين فيها، لأن المبقّى عنده عين الفعل، وواو مفعول محذوفة.
وقياس قول أبي الحسن في مسوء بالتخفيف القياسيّ:
مسوّ، كما يقول في مقروءة: مقروّة، وفي قول سيبويه مسو، ومقرو، لأنّ الواو العين وليست المدة التي في مثل الهدوء، فتقول في تخفيفه الهدوّ. وإنّما مسوّ الذي ذكره على قوله سوّة كما قالوا في المنفصل: أوّنت فهذا التخفيف على القولين جميعا.
فأمّا القياس فعلى ما أعلمتك في القولين.
فأمّا قولهم: الكمأة والمرأة، فقياسهما الكمة والمرة، وقد قالوا: الكماة والمراة. والقول في وجه ذلك أنّ الذي قال:
الكماة، قدر أن حركة الكاف على الميم، كما أنّ الذي قال:
مؤسى، قدرها على الواو، فلذلك استجاز همزها، فإذا قدرها عليها صارت الميم في تقدير الحركة، والهمزة بعدها مفتوحة، فكان ينبغي أن يجعلها بين بين ولا يقلبها ألفا، إلّا أنّه استجاز
[الحجة للقراء السبعة: 1/397]
القلب لأنّهم قد قالوا في الكلام: منساة فقلبوا.
وجاء في الشعر:
لا هناك المرتع ونحوه، وإن شئت قلت: إنّه قدر الحركة التي على الهمزة على العين، فلمّا انفتحت العين صارت الهمزة في تقدير السكون، فلمّا خففتها قلبتها ألفا كالتي في راس وفاس. والوجه الأول أقيس، لأنّ الحركة التي بعد الكاف في الكمأة أقرب إلى الميم من التي على الهمزة، ألا ترى أن الهمزة تحجز بينها وبين الميم، فحركة الكاف أقرب إليها.
وهذا الوجه أيضا لا يمتنع، لأنّ الحركة والحرف كأنّهما معا لقرب ما بينهما، وإن كان في الحقيقة أحدهما يلي الآخر بلا كبير فصل.
ذكر اختلافهم في إمالة الألف التي تليها الراء
قال أحمد بن موسى: كان نافع لا يميل الألف التي تأتي
[الحجة للقراء السبعة: 1/398]
بعدها راء مكسورة، مثل: من النّار ومن قرارٍ والأبرار والأشرار ودار البوار والأبصار، وبقنطارٍ وبدينارٍ وديارهم وعلى آثارهم بل كان في ذلك كلّه بين الفتح والكسر وهو إلى الفتح أقرب.
وكان ابن كثير وابن عامر وعاصم يفتحون ذلك كلّه.
قال أبو علي: قد تقدم ذكر وجه قولهم في ترك الإمالة.
وقول أحمد في حكايته عن نافع: لا يميل الألف التي تأتي بعدها راء مكسورة، يريد به - إن شاء الله- لا يميل الفتحة نحو الكسرة إمالة شديدة فتميل الألف نحو الياء كثيرا، ولكن لا يشبع إمالة الفتحة نحو الكسرة فيخف لذلك إجناح الألف وإضجاعها، لأنّ أحمد قد قال بعد: كان في ذلك كلّه بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب، وإذا زال عن الفتح الخالص فهو إمالة، وإن كان بعض الإمالة أزيد من بعض.
ووجه حسن إمالة الألف إذا كان بعدها راء مكسورة. أنّ الراء حرف فيه تكرير، وذلك يتبين فيها إذا وقف عليها، فكأنّ الكسر متكرر وإذا تكرر الكسر ازدادت الإمالة حسنا، ليتجانس الصوت، فكما أنّها إذا انضمت أو انفتحت منعت الإمالة، لأنّ كلّ واحد من الحرفين المضموم والمفتوح كأنّه
[الحجة للقراء السبعة: 1/399]
متكرر، والفتح والضمّ يمنعان الإمالة، كذلك إذا تكرر الكسر جلبها، كما أنّه إذا انضمّ أو انفتح منعها كما يمنعها الحرف المستعلي في نحو: طالب، وظالم، وناقد، ونافق.
قال أحمد: وأمّا الكسائي فروى عنه أبو الحارث أنّه لم يمل من ذلك شيئا، إلّا إذا تكررت الراء في موضع الخفض مثل: (الأشرار)، و (الأبرار)، و (من قرار).
وكان أبو عمر الدّوري يروي عنه أنّه كان يميل كل ألف بعدها راء مكسورة.
قال أبو علي: ما رواه عن الكسائي في إمالة مثل الأبرار والأشرار ونحو ذلك مما تكرر فيه الراء مستقيم في قياس العربية ظاهر الوجه، وذلك أنّ الراء المكسورة إذا غلبت المستعلي في نحو: قارب وطارد، فجازت الإمالة مع المستعلي لمكانها، فأن تغلب الراء المفتوحة في نحو: من الأشرار، أولى، لأنّ الرّاء لا استعلاء فيها.
ورواية أبي عمر الدّوري أنّه كان يميل كلّ ألف بعدها راء مكسورة أقيس، لأنّ الإمالة إنّما يجلبها ويحسنها التكرر الذي كأنّه في الراء، فإذا كان كذلك فسواء كانت قبل الألف التي تميلها الراء راء أو غيرها.
قال أحمد: وأمّا حمزة فكان لا يميل من ذلك شيئا إلّا قوله: (الأشرار) و (القرار) و (ذات قرار) و (القهار)
[الحجة للقراء السبعة: 1/400]
و (البوار). وكل ذلك بين الكسر والتفخيم. ذكر ذلك خلف وأبو هشام عن سليم عنه في هذين الحرفين.
قال أبو علي: ما رواه من تخصيص حمزة بإمالة الأشرار والقرار والحروف الأخر دون ما عداها من الكلم مما كان في قياسها وعلى صورتها- فالقياس في ذلك وفي غيرها واحد، ولعله تبع في ذلك أثرا ترك القياس إليه، أو أحبّ أن يأخذ بالوجهين، وكره أن يرفض أحدهما، ويستعمل الآخر مع أن كل واحد مثل الآخر في الحسن والكثرة.
قال أحمد: وكان أبو عمرو يميل كل ألف بعدها راء في موضع اللام من الفعل وهي مكسورة والكلمة في موضع خفض إلا في أحرف يسيرة، مثل قوله تعالى: والجار ذي القربى [النساء/ 36] و (جبارين)؛ فإنّه كان لا يميل في هذين الحرفين إلا ما رواه عنه عبيد الله بن معاذ بن معاذ عن أبيه عن أبي عمرو (والجار ذي القربى والجار) ممالة.
فإذا كانت الراء في موضع العين كعين فاعل لم يمل ألف
[الحجة للقراء السبعة: 1/401]
فاعل كقوله: باردٌ وشرابٌ [ص/ 42] والبارئ المصوّر [الحشر/ 24] وبارئكم [البقرة/ 54] ومن كلّ شيطانٍ ماردٍ [الصافات/ 7] وما كان مثل ذلك.
وروى عنه محبوب بن الحسن وعباس والأصمعي بخارجين [البقرة/ 167] ممالة ولم يروها غيرهم، وهذا خلاف ما عليه العامة من أصحابه مع فتح الإمالة لاستعلاء الخاء.
على أنّه قد روى اليزيدي عنه: كالفخّار [الرحمن/ 14] ممالة، وقرأ بقنطارٍ [آل عمران/ 75].
قال أبو علي: أما ما روي عن أبي عمرو من إمالته كل ألف بعدها راء في موضع اللام فقد تقدم القول في حسن الإمالة في ذلك.
وأمّا ما روي عنه من أنّه إذا كانت الراء في موضع العين كعين فاعل لم يمل ألف فاعل كقوله: باردٌ وشرابٌ والبارئ المصوّر، وبارئكم، ومن كلّ شيطانٍ ماردٍ، ونحوه، فلعله تبع في ذلك أثرا، وذلك أن الإمالة في ألف فاعل إذا كانت الراء عينا أقوى من الإمالة في الألف إذا كانت الراء لاما، لأنّ الكسرة في العين لازمة غير مفارقة، وكسرة اللام قد تنتقل عنها للرفع والنصب، وبحسب لزوم ما يوجب الإمالة تحسن الإمالة، ولا يكون غير اللازم كاللازم، ألا ترى أنّه قد يكون من الأشياء أشياء لا تلزم فلا يعتد بها لانتفاء لزومها.
[الحجة للقراء السبعة: 1/402]
وأمّا ما رواه عنه محبوب وعباس والأصمعي في قوله: (بخارجين من النّار) فإمالته حسنة لمكان كسرة الراء. فأمّا الحرف المستعلي في قوله: (بخارجين) فلا يمنع الإمالة، وإمالته أقوى في قياس العربية من إمالة (بقنطار) لما أعلمتك من لزوم الراء الكسرة، وليست في قوله بقنطار، ولا قوله (كالفخّار) كذلك.
قال سيبويه: مما تغلب فيه الراء قولك: قارب، وغارم، وطارد، وكذلك جميع المستعلية إذا كانت الراء مكسورة بعد الألف التي تليها وذلك أنّ الراء لما كانت تقوى على كسر الألف في فعال في الجر، وفعال لما ذكرنا من التضعيف قويت على هذه الإمالة.
وإنّما قويت عليها لأنّك تضع لسانك في موضع استعلاء ثم ينحدر فصارت المستعلية هاهنا وجواز الإمالة فيها بمنزلتها في صفاف وقفاف.
ولو قلت: ناقة فارق، وإبل مفاريق، لم تمل الألف هاهنا مع المستعلي لأنّه عكس ما تقدّم، ألا ترى أنّك لو أملت فارقا لانحدرت بالإمالة ثم أصعدت بالمستعلي؟ فالإصعاد بعد الانحدار يثقل ولا يثقل الانحدار بعد الاستعلاء، فلذلك
[الحجة للقراء السبعة: 1/403]
أملت طاردا، وقاربا، وغارما، ولم تمل فارقا، والذين يميلون قاربا يفخمون الألف في قادر، لأن الراء بعدت.
وزعم أنّ قوما يقولون: مررت بقادر فيميلون للراء. قال:
وسمعنا من نثق به من العرب يقول:
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر قال: وكان عبد الله بن كثير وابن عامر وعاصم يفتحون الياء في هذا الباب كلّه: فأحياكم [البقرة/ 28]، وأحيا [النجم/ 44] ونموت ونحيا، ويحيى من حيّ عن بيّنةٍ [الأنفال/ 42]، فأحيا به الأرض بعد موتها [النحل/ 65]، وهو الّذي أحياكم [الحج/ 66]، وما كان مثله.
قال أبو علي: قد مضى ذكر الحجة لمن لم يمل هذه الألفات.
قال: وكان نافع يقرأ ذلك كلّه بين الإمالة والتفخيم.
قال أبو علي: قد مضى ذكر الحجة في ذلك.
قال: وكان أبو عمرو لا يميل من ذلك إلا ما كان في رءوس الآي إذا كانت السورة أواخر آياتها الياء، مثل: أمات وأحيا فإنّه كان يلفظ بهذه الحروف في هذه المواضع بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/404]
الإمالة والتفخيم، ويفتح سائر ذلك.
قال أبو علي: قد تقدّم ذكر الحجة لذلك، وهو أن أواخر الآي موضع وقوف، والوقف رأيناه قد أوجب إعلالا في الموقوف عليه، وتغييرا عمّا عليه في الوصل. ألا ترى أنّهم قد أبدلوا من النون الساكنة الألف في الاسم والفعل، وأبدلوا من التاء الهاء في نحو: رحمة، ومن الألف الياء أو الواو في نحو: أفعى وأفعو، وزادوا فيه في نحو: هذا فرجّ وهو يجعلّ، ونقصوا منه في نحو:
............... وبعـ ..... ـض القوم يخلق ثمّ لا يفر
فكما غيّر موضع الوقف بهذا النحو من التغيير، كذلك غيرت الألف بأن نحي بها نحو الياء، وكان ذلك حسنا إذ أبدلوا من الألف الياء في الوقف في نحو قوله: أفعى، فكذلك قربوا الألف منها، فليست الإمالة هاهنا لتدل على انقلاب الألف عن الياء، ولكن لتقرب من الياء التي أبدلت من الألف للوقف، ولهذا أمال قوم من العرب نحو: لم يضربها، فإذا أدرج قال: لم يضربها زيد.
[الحجة للقراء السبعة: 1/405]
قال: وكان حمزة لا يميل من ذلك إلّا الفعل الذي في أوله الواو، مثل: نموت ونحيا وأمات وأحيا ويحيى من حيّ ولا يحيى. كان يميل هذه الحروف أشد من إمالة أبي عمرو ونافع.
قال أبو علي: يشبه أن يكون بالغ في إجناح الألف ليقربها من الياء، إذ كانوا قد أبدلوا من الألف الياء في نحو أفعى في الوقف، فبالغ في الإجناح، ليقربها من الياء التي أبدلوها من الألف في الوقف.
قال: وكان الكسائي يميل ذلك كلّه، كان قبل الفعل واو أو فاء، أو لم يكن قبله ذلك، مثل: أحياكم وما أشبهه.
قال أبو علي: قد مضى ذكر الحجة لذلك، وما ذهب إليه الكسائي من ترك الفصل بين الفعل الذي قبله واو أو فاء، وبين ما ليس قبله من ذلك شيء- هو الوجه في قياس العربية.
اختلفوا في الهاء من قوله تعالى: (فهو) (وهي)
إذا كان قبلها لام، أو واو، أو ثم، أو فاء. فقرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: وهو، وفهو، ولهو، وثم هو، فهي، وهي. يثقّل ذلك كلّه في جميع القرآن.
وقرأ الكسائي بتخفيف ذلك كلّه وتسكين الهاء.
وكان أبو عمرو يضم الهاء في قوله: ثمّ هو في سورة
[الحجة للقراء السبعة: 1/406]
القصص [آية/ 61] ويسكنها في كل القرآن.
واختلف عن نافع، فروي عنه التثقيل، وروي عنه التخفيف.
قال أبو علي: من قال: وهو، فهو، ولهو، وثم هو- فوجهه ظاهر، وذلك أن الهاء كانت متحركة قبل دخول هذه الحروف عليها، فدخلت هذه الحروف، ولم تتغير عما كانت عليه من قبل، كما لم تتغير سائر الحروف سوى ألف الوصل عما كان عليه في الابتداء به والاستئناف له.
ومثل الهاء في هو وهي في تغييره في الوصل عما كان عليه في الابتداء به- لام الأمر في نحو: وليطّوّفوا [الحج/ 29].
وأما تسكين أبي عمرو هذه الهاء مع الواو، والفاء، واللام، فلأن هذه الكلم لمّا كنّ على حرف واحد أشبهت في حال دخولها الكلمة ما كان من نفسها، وذلك لأنّها لم تنفصل منها لكونها على حرف واحد كما لم تنفصل الباء من سبع وغيره منه- خفّف الهاء منها كما خفّفت العينات من سبع وعضد ونحوهما، ولم يستقم عنده أن يجعل ثمّ
بمنزلة الفاء وما كان على حرف، لأنّه قد يجوز أن تنفصل منها وتنفرد عنها، وليست الواو والفاء ونحوهما كذلك، فمن ثم قال: ثمّ هو.
وقد جعلوا في غير هذا ما كان من الحروف على حرف
[الحجة للقراء السبعة: 1/407]
واحد إذا اتصل بكلمة بمنزلة ما هو منها، فاستجازوا في ذلك ما استجازوا في الحرف الذي هو منها، وذلك قولهم: لعمري، ورعملي، فقلبوه كما قلبوا مسائية وقسيّا، ونحو ذلك. وكذلك قول من قال: كائن أبدل الألف من الياء كما أبدلها من طائي ونحو ذلك.
وقرأ الكسائي بتخفيف ذلك كلّه، ولم يفصل كما فصل أبو عمرو، كأنّه جعل الميم المتحركة من ثم هو بمنزلة الواو، فخفف الهاء معها كما خففها مع الواو.
ومثل تخفيف فهو ولهو لتنزيلهم ذلك منزلة ما ذكرناه قولهم: «أراك منتفخا» لما كان «تفخا» مثل كتف خفف، فكذلك فهو.
ومثله قول العجاج:
فبات منتصبا وما تكردسا فيمن رواه هكذا.
ومثل ذلك قول من قرأ: ويخش اللّه ويتّقه [النور/ 52]
[الحجة للقراء السبعة: 1/408]
لمّا كان (تقه) مثل كتف.
ومثل ذلك ما حكاه الخليل من قولهم: انطلق، لما كان (طلق) من انطلق مثل: كتف، أسكن ثم حرّك لالتقاء الساكنين.
ومثل ذلك ما أنشده الخليل:
ألا ربّ مولود وليس له أب... وذي ولد لم يلده أبوان
فهذه الأشياء متصلة، وقوله: وهو، وفهو، ولهو، في حكمها، وليس كذلك (ثم هو)، ألا ترى أن ثم منفصل من هو لإمكان الوقوف عليها وإفرادها مما بعدها، وليست الكلم التي على حرف واحد كذلك، وقد يستخف في المنفصلة أشياء لا تستخف في المتصلة وما في حكمها، فكذلك يحتمل (ثم هو) للانفصال، ولا يكون وهو وفهو ونحو ذلك مثلها، لكونها في حكم الاتصال.
وللكسائي أن يقول: إن ثم مثل الفاء، والواو، واللام، في أنهن لسن من الكلمة كما أن ثم ليس منها، وقد جعلوا المنفصل بمنزلة المتصل في أشياء. ألا ترى أنّهم أدغموا نحو:
يد داود، وجعل لك، كما أدغموا: ردّ وغلّ.
[الحجة للقراء السبعة: 1/409]
وقالوا: لم يضربها ملق، فامتنعوا من الإمالة لمكان المستعلي وإن كان منفصلا، كما امتنعوا من إمالة نافق ونحوه من المتصلة.
ومما يقوي قوله في ذلك أنّه قد جاء من هذا النحو في المنفصل أشياء أجريت مجرى المتصل مثل قوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب ف «رب غ» مثل: سبع، وقد أسكن.
وأنشد أبو زيد:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا وقول أبي عمرو أرجح عندنا.
فإن قلت: فلم لا تجعل قوله «اشتر لنا سويقا» على أنّه أجرى الوصل مجرى الوقف، كما فعلوا ذلك في: سبسبّا وعيهلّا ونحو ذلك مما قد أجري الوصل فيه مجرى الوقف؟
فالقول إنّ ذلك، وإن أمكن أن يقال، فما ذكرناه أولى، لأنّا رأيناهم قد أجروا المنفصل مجرى المتصل في الكلام كقولهم: «عبشمس»، فأجروه وإن كان منفصلا مجرى المتصل، فكذلك يحمل قوله: «اشتر لنا سويقا» على ذلك، لا على
[الحجة للقراء السبعة: 1/410]
مذهب الضرورة إذا أمكن توجيهه على غيرها). [الحجة للقراء السبعة: 1/411]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما حكاه الفراء عن بعض القراء فيما ذكر ابن مجاهد [يَخَطَّف] بنصب الياء والخاء والتشديد. قال ابن مجاهد: ولم يُرْوَ لنا عن أحد.
قال أبو الفتح: أصله يَخْتَطف، فآثر إدغام التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، ولأن التاء مهموسة والطاء مجهورة، والمجهور أقوى صوتًا من المهموس، ومتى كان الإدغام يُقوِّي الحرف المدغم حسن ذلك؛ وعلته أن الحرف إذا أدغم خفي فضعف، فإذا أدغم في حرف أقوى منه استحال لفظ المدغم إلى لفظ المدغم فيه فقوي لقوته، فكان في ذلك تدارك وتلاف لما جُني علي الحرف المدغم؛ فأَسكن التاءَ لإدغامها والخاءُ قبلها ساكنة، فنقلت الحركة إليها، وقلبت التاء طاء وأدغمت في الطاء؛ فصارت [يَخَطَّف].
ومنهم من إذا أسكن التاء ليدغمها كسر الخاء لالتقاء الساكنين، فاستغنى بحركتها عن نقل الحركة إليها، فيقول: يَخِطِّف.
ومنهم من يكسر حرف المضارعة إتباعًا لكسرة فاء الفعل ما بعده فيقول: يِخِطِّف، وأنا إِخِطِّف، وأنشدو لأبي النجم:
تدافُعَ الشِّيبِ ولم تِقِتِّل
أراد تقتتل، فأسكن التاء الأولى للإدغام، وحرك القاف لالتقاء الساكنين بالكسر فصار تَقتِّل، ثم أتبع أول الحرف ثانيه فصار تِقِتِّل.
وعلى هذا قالوا في ماضيه: خِطَّف، وأصلها اختطف، فأسكن التاء للإدغام فانكسرت الخاء لسكونها وسكون التاء، فحذف همزة الوصل لتحرك الخاء بعدها، وأُدغمت التاء في الطاء فصار [خِطَّف].
[المحتسب: 1/59]
ومنهم من يتبع الطاء كسرة الخاء فيقول: خِطِّف، وأنشدونا:
لا حِطِّب القومَ ولا القومَ سقى
أراد: احتطب على ما مضى.
وحكى أبو الحسن عنهم: فِتِّحوا الأبواب؛ أي: افتتحوا، على ما تقدم.
وكذلك الكلم في قوله: يَهَدِّي ويَهِدِّي ويِهِدِّي، وجاء المعذِّورن والْمُعِذِّرون والْمُعُذِّورن، ومُرَدِّفين ومُرِدِّفين ومُرُدِّفين، تُتْبِع الضم الضم، كما أتبعت الكسر الكسر. وأصله كله: المعتذرون ومرتدفون، وهو باب منقاد، وهذه طريقه.
ومن بعد فيسأل فيقال: ما مثال [يَخَطِّف]؟
قيل: إن أردت الأصل فيفتعِل؛ أي: يختطف، وإن أردت اللفظ ففيه الصنعة وعليه المسألة، فوزنه: يَفَطْعِل، وذلك أن التاء في يفتعل زائدة، فكما أنها لو ظهرت لكانت زائدة فكذلك إذا أَبدلت فالبدل منها زائد؛ لأن البدل من الزائد زائد، ألا ترى أن الطاء من "اصطبر" بدل من التاء في "اصتبر" الذي هو افتعل؟ فكما أن التاء زائدة فكذلك ما هو بدل منها -وهو
[المحتسب: 1/60]
الطاء- زائد، فوزن اصطبر على أصله: افتعل، وعلى لفظه: افطعل، فكذلك وزن [يَخَطِّف] من الفعل على لفظه: يَفَطْعِل، فإذا ثبت ذلك -وقد ثبت بحمد الله- فوزن خِطِّف: فِطْعِل، ووزن تِقِتِّل: تِفِعْتِل، ووزن مُرُدِّفين: مُفُدْعِلِين؛ لأن الدال فيه بدل من التاء الزائدة، فهي زائدة من هذا الوجه، كما كانت الطاء في خِطِّف زائدة من هذا الوجه.
وكذلك لو قائل: ما مثل "ازَّيَّنَتْ" على أصله؟
قلت: تفعَّلت؛ أي: تزينت، وعلى لفظه: ازْفَعَّلَت.
وكذلك قالوا: {اطَّيَّرْنَا} ووزنه: اطْفَعَّلْنا، وكذلك قول العجلي:
من عبس الصيف قرون الإِجَّل
يريد الإِيَّل، فإن اعتقدت أنه فِعْوَل أو فِعْيَل في الأصل فوزنه بعد البدل: فِعْجَل؛ لأن الجيم على هذا بدل من واو فِعْوَل أو ياء فِعْيَل، وهما زائدتان، فهي زائدة، فاعرف ذلك وقسه.
قال ابن مجاهد: وحكى الفراء أن بعض أهل المدينة يسكن الخاء والطاء ويشدد فيجمع بين ساكنين.
قال ابن مجاهد: ولا نعلم أن هذه القراءة رُويت عن أهل المدينة.
قال أبو الفتح: هذا الذي يجيزه الفراء من اجتماع ساكنين في نحو هذا لا يثبته أصحابنا؛
[المحتسب: 1/61]
وإنما هو اختلاس وإخفاء عليهم فيرون أنه إدغام، وإنما هو إخفاء للحركة وإضعاف للصوت، وهذا كما يُروى في قوله:
ومَسحِه مُرُّ عُقاب كاسِرِ
أن الحاء مدغمة في الهاء، ويا ليت شعري كيف يجوز لذي نظر أو من يُخْلِد ألى أدني تفكير أن يدَّعِي أن هنا إدغامًا، أو أن تجمع بين ساكنين، وقد قابل به جزء التفعيل، وإذا وقع التحاكم إلى بديهة الحس؛ فقد سقطت كلفة إتعاب النفس، ألا ترى أن وزن قوله: "ومسحهِي" مفاعلن، فالحاء مقابَل بها عين "علن"، والعين أول الوتد، وهي كما ترى وتعلم محركة، أفيقابَل في الوزن الساكن بالمتحريك؟ وإذا أفضى الأمر في السفور إلى هاهنا حَسَر شبهة اللبس والعناء، وقد قلنا في كتابنا الموسوم "بسر الصناعة" في هذا ما فيه كفاية وغناء.
قال ابن مجاهد: وقد رُوي عن مجاهد والحسن [يَخْطِف]، ولم يبلغنا أن أحدًا قرأ [خَطَف] بفتح الطاء، فيُقرأ هذا الحرف يَخْطِف، وأحسب أن هذا غلط ممن رواه.
قال أبو الفتح: قد قلنا في كتابنا الموسوم "بالمنصف" وهو شرح تصريف عثمان في نحو هذا من قوله:
وما كل مبتاع ولو سَلْفَ صَفْقُه ... يراجع ما قد فاته بِرِداد
فإذا تأملته أغنى عن إعادته إن شاء الله، وجملته: أن يكون استُغني بِخَطِف عن خَطَف في الماضي، وجاء المضارع عليه كما أن قوله: "سَلْف" يكون مُسَكَّنًا من "سَلِف" وإن لم يستعمل؛ استغناء بسلَف عنه، وقد شرحناه هناك فتركناه هنا). [المحتسب: 1/62]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (10- {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آية/ 20]:-
كان حمزة يسكت على الياء من «شيء» سكتةً خفيفةً، ثم يتلفظ بالهمزة، وكذلك يفعل في كل همزة قبلها ساكن، سواء كانا من كلمةٍ واحدةٍ أو كلمتين، كان يسكت على الساكن قليلاً ثم يهمز نحو «الأرض» «الآخرة» {قَدْ أَفْلَحَ} {هَلْ أتى} {سُورَةٌ أَنْزَلْناهَا}.
وإنما أراد بهذه السكتة تحقيق الهمزة وتبيينها؛ لأنه إذا وقف عليها وقيفة صارت الهمزة بحيث لا يكون فيها إلا التحقيق؛ لأنها تصير كالمبتدإ بها، والهمزة إذا ابتدئ بها لا يجوز فيها إلا التحقيق؛ لأن تخفيف الهمزة تقريب لها من الساكن، وإذا لم يجز الابتداء بالساكن لم يجز الابتداء بما يقرب من الساكن.
وروى ش- عن نافع أنه كان يلقي حركة الهمزة على الساكن الذي
[الموضح: 261]
قبلها، ويسقط الهمزة نحو: ألرض، ألاخرة.
وكذلك إذا كان الساكن آخر كلمةٍ، والهمزة أول كلمةٍ أخرى نحو {قَدَ فْلَح} و{مَن لهُ} إلا أن يكون الساكن واوًا قبلها ضمةٌ أو ياءً قبلها كسرة نحو: {قَالوُا أَنْصِتُوا} و{في أَنْفُسِكُمْ}.
القياس في تخفيف الهمزة المتحركة إذا كان قبلها ساكن غير الألف أن تحول حركتها على الساكن قبلها فتسقط الهمزة نحو: {يُخْرِجُ الخَبَ}.
ولا يختلف الحكم بأن يكون ذلك من كلمةٍ واحدةٍ أو كلمتين نحو {قَدَ افْلَحَ}.
وإنما لم يجز ش- هذا الحكم عليها إذا كان الساكن الذي قبلها واوًا قبلها ضمة، أو ياء قبلها كسرة؛ لأنه لو نقل حركة الهمزة إليهما لاختل المد الذي فيهما، فأراد أن يسلم المد ولا يلحقه اختلال.
ومما يدل على قصده لذلك أنه نقل حركة الهمزة إلى الواو في قوله تعالى {خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} لما لم يكن مد، وكذلك قوله {نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ}.
وإذا فعل هذا النقل الذي ذكرنا، ثم ابتدأ بالكلمة التي فيها لام التعريف، ففيها مذهبان:-
أحدهما: أن يحذف ألف الوصل فيقول لحمر، لرض، لاخرة؛ لأن ألف الوصل إنما جيء بها ليتوصل بها إلى النطق بالساكن الذي هو لام المعرفة،
[الموضح: 262]
فإذا تحركت فأية حاجة إلى ألف الوصل؟.
والثاني: أن لا يحذف ألف الوصل، فيقال: ألحمر، ألرض، ألاخرة؛ لأن حركة لام المعرفة منقولة إليها عن الهمزة المحذوفة، والهمزة في حكم الثبات، فكذلك اللام في حكم السكون، فحركتها إذن غير لازمة، وما لا يلزم لا يعتد به). [الموضح: 263]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 10:59 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (21) إلى الآية (22) ]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}


قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}

قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (19- وقوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء} و{بناء} ونحوهما كان حمزة وحده يقف {بنا} {ما} لأنها في المصحف مكتوبة بألف واحدة.
والباقون يقفون {بنآءا} من السماء ماءا} {فلما ترءا} {أنشأناهن إنشاءا} قال الشاعر:
لا تدخلن حلقك شيئا ترى = حتى تجئ خلفه الماءا
جئت من البدو أبا خالد = كيف تركت الإبل والشاءا
قال وأنشدنا ابن دريد رحمه الله لنفسه:
أبقيت لي سقما يمازج مهجتي = من ذا يلذ مع السقام بقاءا
فأما الكسائي فإنه كان يقف على قوله: {فلما ترآءى) بالياء بعد الهمزة مثل «تداعى» «وتقاضى» فمن وقف بألفين أعني على قوله: {بناءا} {وماءا} فلأنه ثلاث ألفات. والأصل في ماء: موه فقلبوا من الواو ألفًا ومن الهاء ألفا أخرى والثالثة عوض من التنوين في الوقف، وأما «بناء» فألفه الأولى مجهولة، والثانية: سنخية والثالثة: عوض من التنوين، وزنه (فعال) و«ماء» وزنه (فَعَلٌ) ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/74]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:00 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (23) إلى الآية (25) ]
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}


قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}

قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف ومجاهد وطلحة بن مصرِّف وعيسى الهمداني: [وُقُودُهَا النَّاسُ].
قال أبو الفتح: هذا عندنا على حذف المضاف؛ أي: ذو وُقودِها، أو أصحاب وقودها الناس؛ وذلك أن الوُقود بالضم هو المصدر، والمصدر ليس بالناس؛ لكن قد جاء عنهم الوَقود بالفتح في المصدر؛ لقولهم: وَقَدَت النارُ وَقودًا، ومثله: أُولِعْتُ به وَلُوعًا، وهو حسن القبول منك، كله شاذ، والباب هو الضم.
وكان أبو بكر يقول في قولهم: توضأت وَضوءًا: إن هذا المفتوح ليس مصدرًا؛ وإنما هو صفة مصدر محذوف، قال: وتقديره: توضأت وُضوءًا وَضُوءًا؛ لقولك: توضأت وُضوءًا حسنًا؛ لأن الوَضوء عنده صفة من الوضاءة.
وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد: رجل ساكوت بَيِّن الساكوتة، فقال: قياس مذهب أبي بكر في الوَضوء أن يكون هذا على أنه أراد رجل ساكوت بَيِّن السكتة الساكوتة.
وعليه قولهم فيما حكاه الأصمعي: رجل بَيِّنُ الضارورة؛ أي: بين الضَّرة، أو المضرة الضارورة.
وأما قولهم: لص بين اللَّصوصية، وحُرٌّ بين الحروية، وخصصته بالشيء خَصوصِيَّة، فإن شئت قلت: هو على مذهب أبي بكر لص بين اللَّصة اللَّصوصية، والْخَصَّة الْخَصوصية، والْحُرِّية الْحَرورية.
وإن شئت قلت غير هذا؛ وذلك أن ما لا يجيء من الأمثلة بنفسه قد يجيء إذا اتصلت ياء الإضافة به، وذلك كقول الأعشى:
وما أَيْبُلِيٌّ على هيكل ... بناه وصلَّب فيه وصارا
[المحتسب: 1/63]
فأيبلي كما ترى فَيْعُلِيّ، ولولا ياء الإضافة لم يجز ذلك، ألا ترى أنه لم يأتِ عنهم فَيْعُل؟ وكذلك قولهم في الإضافة إلى تحبة: تَحَوِيّ، ومثاله: تَفَلِيّ. وليس في كلامهم اسم على تفل، فكذلك جاز خَصوصية وأختاها، هذا مع ما حُكي عنهم من القَبول والوَضوء والوَلُوع والوَقود، فإذا جاء هذا المثال في المصدر من غير أن تصحبه ياء الإضافة فهو بأن يأتي معهما أجدر). [المحتسب: 1/64]

قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:02 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (26) إلى الآية (29) ]

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (20- وقوله تعالى {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا}.
قرأ ابن كثير في إحدى الروايات {لا يستحي} بياء واحدة كأنه كره الجمع بينهما فألقى كسرة الأولى على الحاء وحذف الياء الأولى لسكونها وسكون الثانية، والعرب تقول: استحييت واستحيت.
وقرأ الباقون وابن كثير معهم في سائر الروايات {يستحيي} بياءين، وشاهده: {يستحيون نساءكم} وإن كان الأولى في الحياء، والثانية في الحياة والاستبقاء). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/75]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة رؤبة: [مَثَلا مَا بَعُوضَةٌ] بالرفع.
قال ابن مجاهد: حكاه أبو حاتم عن أبي عبيدة عن رؤبة.
وقال أبو الفتح: وجه ذلك: أن "ما" هاهنا اسم بمنزلة الذي؛ أي: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلًا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ.
ومثله قراءة بعضهم: [تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ] أي: على الذي هو أحسن.
وحكى صاحب الكتاب عن الخليل: ما أنا بالذي قائل لك شيئًا؛ أي: الذي هو قائل لك شيئًا.
وعليه قوله:
لم أرَ مثل الفتيان في غِيَر الـ ... أيام ينسَوْن ما عواقبُها
أي: ينسون الذي هو عواقبها، وحَذْفُ الضمير من هنا ضعيف؛ لأنه ليس فضلة كالهاء في نحو قولك: ضربت الذي كلمت؛ أي: كلمته.
وإن شئت كان تقديره: ينسون أيُّ شيء عواقبها؟ فتكون ما استفهامًا، وعواقبها خبرًا عنها، والجملة في موضع نصب بينسون، وجاز فيها التعليق؛ لأنها ضد يذكرون ويعلمون، فيجري مجرى قولك: لا تنسَ أيُّنا أحق بكذا، وأَتذكُرُ أَزيدٌ أفضل أم عمرو؟). [المحتسب: 1/64]

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}

قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (22- وقوله تعالى: {فأحياكم ثم يميتكم}.
قرأ الكسائي وحده: {فأحياكم} بالإمالة و{لا يموت فيها ولا يحييى} و{أمات وأحيا}.
وقرأ الباقون بالفتح، إلا حمزة فإنه كان يُميل إذا تقدمتها واو، ولا يميل إذا تقدمتها فاء.
فمن فتح فعلى أصل الكلمة.
ومن أمال فلأجل الياء.
فأما حمزة فإنه فرق بين الفاء والواو؛ لأن الفاء متصلة بالكلمة خطًا، والواو منفصلة، وكره الإمالة مع الفاء استثقالاً للزائد، كما قرأ: {شا أنشره} بالإمالة، وقرأ {إنشاء} بالتفخيم ولم يحفل بالواو إذ لم تكن منفصلة وليست هذه العلة بالمرضية؛ لأن الإمالة والتفخيم في اللفظ لا في الخط، والنطق بالواو والفاء سيان، فمن أمال مع الفاء وجب أن يميل مع الواو، ومن فخم مع هذا وجب أن يفخم مع هذه). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/76]

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ (29).
قرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بجزم الهاء "وهو)، وحركها الباقون في كل القرآن.
قال أبو منصور: هما لغتان معروفتان، إذا اتصلت الهاء من (هو) و(هي) بواوٍ أو فاءٍ أو لام فإن كثيرا من العرب من يسكن الهاء لكثرة الحركات، ومنهم من يتركها على أصل حركتها، وكل جائز حسن.
وقاس الكسائي على الباب قوله: (ثمّ هو يوم القيامة)، وحركها الباقون). [معاني القراءات وعللها: 1/144]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (23- وقوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم}.
قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الهاء، وكذلك {فهو} {ولهو}، {ثم هو}، وكذلك {فهي كالحجارة} {وهي} {لهي}، كل ذلك بالتثقيل.
وقرأ الكسائي بتخفيف ذلك كله.
وقرأ أبو عمرو كذلك إلا مع ثم، وكذلك نافع في رواية قالون، والمسيبي مثل أبي عمرو، وفي رواية ورش مثل ابن كثير، فمن ضم الهاء وثقلها فعلى أصل الكلمة؛ لأن الأصل هو قبل أن يتصل بها حرف.
ومن خففها قال: لما اتصلت الحروف بالهاء أسكنوا الهاء تخفيفًا، كما قال الله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} بكسر اللام على الأصل و{ثم ليقضوا تفثهم} بإسكان اللام تخفيفًا {وليوفوا نذورهم}.
فأما نافع وأبو عمرو فإنهما أسكنا مع الفاء والواو لاتصالهما بالهاء، ولم يسكنا مع «ثم»؛ لأنها كلمة منفصلة قائمة بنفسها، وهذا مما يؤيد قراءة حمزة؛ لأن «ثم» هو بمنزلة الواو إذا كانا منفصلين من الكلمة خطًا لا لفظًا، وفي «هو» لغة أخرى، وليست تدخل في القراءة، غير أن الشاعر قال:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/77]
وإن لساني شهدة إن حبستها = وهو على من صبه الله علقم
ومثل هذا «لو» وأنت تريد «لو» وينشد:
* إن ليتا وإن لوا عناء *
وقال آخر:
فهي أحوى من الربعي حاذله = والعين بالإثمد الحاري مكحول). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/78]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وهو بكل شيء عليم}
وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية إسماعيل وقالون والكسائيّ وهو بكل لهو فهي ساكنة الياء
وحجتهم أن الفاء مع هي وهو قد جعلت الكلمة بمنزلة فخذ وفخذ فاستثقلوا الكسرة والضمة فحذفوها للتّخفيف
وقرأ الباقون فهو فهي بالتثقيل على أصل الكلمة وذلك أن الهاء كانت متحركة قبل دخول هذه الحروف عليها فلمّا دخلت هذه الحروف لم تتغيّر عمّا كانت عليه من قبل). [حجة القراءات: 93]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (17- قوله: «وهي: وهو، وفهي، ولهي، وثم هو» قرأ ذلك أبو عمرو والكسائي وقالون بإسكان الهاء، حيث وقع إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام أو ثم، وقرأ الباقون بضم الهاء من «هو» وكسرها من «هي» غير أن أبا عمرو ضم الهاء في «ثم هو» كالباقين.
وعلة من أسكن الهاء أنها، لما اتصلت بما قبلها من واو أو فاء أو لام، وكانت لا تنفصل منها، صارت كلمة واحدة، فخفف الكلمة، فأسكن الوسط وشبهها بتخفيف العرب لعضد وعجز، فهو كلفظ «عضد» فخفف كما يخفف «عضد» وهي لغة مشهورة مستعملة، يقولن: عضد وعجزن فيسكنون استخفافًا، وأيضًا فإن الهاء لما توسطت مضمومة بين واوين، وبين واو وياء، ثقل ذلك، وصار كأنه ثلاث ضمات في «وهو» وكسرتان وضمة في هي، فأسكن الهاء لذلك استخفافًا.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/234]
18- وعلة من حرك الهاء أنه أبقاها على أصلها قبل دخول الحرف عليها لأنه عارض لا يلزمها في كل موضع، وأيضًا فإن الهاء في تقدير الابتداء بها، لأن الحرف الذي قبلها زاد، والابتداء فيها لا يجوز إلا مع حركتها، فحملها على حكم الابتداء بها وحكم لها، مع هذه الحروف على حالها، عند عدمهن، فأما اختصاص أبي عمرو بالضم مع «ثم هو» وبالإسكان مع الواو والفاء واللام، فإنه لما رأى الواو والفاء واللام لا يوقف عليهن، ولا ينفصلن من الهاء، أجرى الهاء مجرى الضاد من «عضد» إذ لا ينفصل من العين فأسكن، ولما رأى «ثم» تنفصل ويوقف عليها، ويبتدأ بها، أجرى الهاء مجراها في الابتداء فضمها، فأما من أسكن مع «ثم» فإنه لما كانت كلها حروف عطف، حملها محملًا واحدًا، والاختيار في ذلك حركة الهاء في جميعها لأنه الأصل، ولان ما قبل الهاء زائد، ولأن الهاء في نية الابتداء بها، ولأن عليه جماعة القراء، والإسكان لغة مشهورة حسنة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/235] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (11- {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [آية/ 29]:-
وكذلك ما في القرآن من: {وَهُوَ} و{فَهُو} و{لَهُوَ} و{لَهِيَ} و{وَهِيَ} و{ثُمّ هُوَ}.
قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة ويعقوب ويل- و-ش- عن نافع بتحريك الهاء في ذلك كله.
ووجهه واضح، وهو أنه هو الأصل؛ لأن هذه الهاءات قبل دخول هذه الحروف عليها متحركة، فبقيت بعد دخولها عليها على حركتها لم تتغير كما لا تتغير باتصال غيرها من الكلم بها.
وقرأ الكسائي و-ن- عن نافع بإسكان هذه الهاءات كلها مع هذه الحروف المذكورة، وكذلك أبو عمرو إلا {ثُمّ هُوَ} في القصص.
[الموضح: 263]
ووجه الإسكان أن هذه الضمائر لما كانت على حرفٍ واحدٍ، لزمها ما دخل عليها من الواو والفاء وما كان على حرف واحد، فصار معها كحروف أنفسها، وجرى مجرى ما لم ينفصل عنها، فخففت الهاءات لذلك مع هذه الحروف فقيل: «وَهْو» و«فهو» كما قيل: سبع، و«فهي» و«لهي» كفخذ وكتف.
وأجرى الكسائي و-ن- عن نافع «ثم» مجرى الواو والفاء وما كان على حرف واحد، فخففا الهاء مع «ثم» كما يخففانها مع هذه الحروف، وجعلا المنفصل بمنزلة المتصل؛ لأن الواو والفاء واللام وإن جرت مجرى ما اتصل بالكلمة فإنها ليست من الكلمة فهي مثل ثم في ذلك.
وأما أبو عمرو فإنه فرق بين ثم وبين ما كان على حرفٍ واحدٍ كالواو والفاء؛ لأن ثم تنفرد عن الكلمة ويوقف عليها، وليست الواو والفاء كذلك، والعرب تنزل ما كان على حرفٍ واحدٍ إذا اتصل بكلمةٍ منزلة ما هو منها، ألا ترى أنهم قالوا: لعمري، فأدخلوا اللام، ثم نزلوا اللام منزلة حرف الكلمة، فقلبوا فقالوا: رعملي، كما قالوا: قسي حين قلبوه من قووس، وهذا مذهب أبي عمرو، وهو أقوى). [الموضح: 264]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:04 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

تفسير سورة البقرة

[من الآية (30) إلى الآية (32) ]

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله عزّ وجلّ: (إنّي أعلم ما لا تعلمون (30)
و: (إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض).
[معاني القراءات وعللها: 1/144]
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياءين، وأرسلهما الباقون.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: إذا كان قبل ياء الإضافة متحرك يجوز أن تسكن الياء وتحرك، وإن كان ما قبلها ساكناً حركته لا غير.
قال: فإذا استقبلها ألف ولام كقوله: (اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم) حركت الياء لئلا تسقط.
وقال الفراء في نصب الياء من (نعمتي) كل ياء كانت من المتكلم فمعها لغتان الإرسال والفتح، فإذا لقيتها ألف ولام اختارت العرب التحريك، وكرهت السكون؛ لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمت التي) فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين.
قال: وقد يجوز إسكانها
[معاني القراءات وعللها: 1/145]
عند الألف واللام، قال الله جلّ وعزّ: (يا عبادي الّذين أسرفوا) فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم يكن فيه الياء لم تنصب.
وأما قوله: (فبشّر عباد (17) الّذين يستمعون)، فإن هذا بغير ياء، فلا تنصب ياؤها.
على هذا يقاس كل ما في القرآن). [معاني القراءات وعللها: 1/146] (م)
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (24- وقوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون}
قرأ نافع بفتح ياء الإضافة المكسورة ما قبلها كقوله {إني أعلم} و{إن أجري إلا} و{إني أريد}.
وقرأ أبو عمرو كذلك إلا عند الألف المضمومة.
فأما ابن كثير فإنه أسكن الياء مع المكسور والمضموم وفتحها مع
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/78]
المفتوح إلا في موضعين {آبائي إبراهيم} وفي نوح {دعائي إلا} فإنه فتحهما.
وأسكن الباقون كل ذلك، أعني: عاصمًا وابن عامر وحمزة والكسائي إلا في أحرف ستمر بك إن شاء الله.
فمن فتح الياء فعلى أصل الكلمة؛ وذلك أن الياء اسم المتكلم، والاسم لا يخلو من أن يكون مكنيًا أو ظاهرًا، فإذا كان ظاهرًا أعرب، وإذا كان مكنيًا بني على حركة، كالكاف في ضربك، والتاء في قمت، وكذلك الياء وجب أن تكون مبنية على حركة، والدليل على ذلك في قوله تعالى: {وما أدراك ما هيه} و{حسابيه} لأن الهاء إنما أتي بها للسكت ليتبين بها حركة ما قبلها.
وفي ياء الإضافة أربع لغات؛ فتح الياء على أصل الكلمة وإسكانها تخفيفًا. وإثبات الهاء بعد الياء، والحذف اختصارًا تقول العرب: هذا غلامي، وغلامي، وغلاميه، وغلام.
قال الشاعر:
فطرت بمنصلي في يعملات = دوامي الأيد يخبطن السريحا
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/79]
أراد: الأيدي فحذف الياء اختصارًا، وليست بياء الإضافة وقال الشاعر في حذف ياء الإضافة -:
ومن كاشح ظاهر غمزه = إذا ما انتسبت له أنكرن
وقال الله تعالى: {وإياي فارهبون} و{فاتقون}، {وإذا مرضت فهو يشفين}، {ويطعمني ويسقين} بحذف الياء في ذلك كله.
فأما ابن كثير فإنه فتح الياء إذا استقبلها ألف مفتوحة، ولم يفتحها مع المضموم والمكسور استثقالاً لهما.
وأما أبو عمرو فإنه كان يفتح عند المكسور والمفتوح، ويسكن الياء مع المضموم نحو قوله: {فإني أعذبه عذابا} فقال بعض من احتج لأبي عمرو: إنما سكن؛ لأنه كره أن يخرج من كسر إلى ضم، وذلك غلط عنده؛ لأن ما قبل الياء مكسور، وليست الياء الساكنة بحاجز قوي، ولكنها إذا تحركت
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/80]
قويت فكانت حاجزًا فهو إذا أسكن فقد خرج من كسر إلى ضم، وإذا فتح لم يخرج. ونظيره قول البصريين: أُدخل، والأصل إدخل بكسر الألف، فلما كرهوا الخروج من كسر إلى ضم ضموا الألف لتتبع الضمة الضمة إذ كان الساكن بينهما ليس حاجزًا قويًا.
والحجة لأبي عمرو أنه إنما يسكن مع المضموم؛ لأن الضمة أثقل الحركات، والسكون أخف من الحركة، فأسكن الياء مع المضموم لتخف الكلمة. وما أعلم أحدًا تكلم فيه.
فأما فتح الياء في قراءة حفص في نحو: {ولي نعجة} وقراءة ابن كثير: {ولي دين}، فلأن الاسم الياء واتصلت بحرف واحد ففتحت تكثيرًا للكلمة، وكذلك تفعل العرب في نحو ولَّي ألفان لئلا تسقط الياء الالتقاء الساكنين لقلة حروف الكلمة. فأما قراءة حفص: {معي عدوا} ونحوه فإن حروف الصفات ما كان على حرفين نحو: «من» و«عن»، و«مع»، إذا أضفتهن إلى ما بعدهن أسكنت النون [في] نحو: «من«، «عن» وفتحت العين في «مع»، فقلت: من زيد، وعن زيد، ومع زيد؛ لأن العين من حروف الحلق، وحروف الحلق تفتح في الموضع الذي يسكن فيه غيرها، فلما انفتحت العين فتحوا الياء لمجاورتها العين). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/81]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في تحريك الياء التي تكون اسما للمتكلم إذا انكسر ما قبلها، مثل قوله: إنّي أعلم [البقرة/ 30] وعهدي الظّالمين [البقرة/ 124]، وربّي اللّه [غافر/ 28].
فكان أبو عمرو يفتح ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الألف المهموزة المفتوحة والمكسورة إذا كانت متصلة باسم أو بفعل ما لم يطل الحرف.
فالخفيف إنّي أرى [الأنفال/ 48] وأجري إلّا على اللّه [يونس/ 72، وهود/ 29].
والثقيل مثل: ولا تفتنّي ألا [التوبة/ 49] ومن أنصاري إلى اللّه، وذروني أقتل موسى [غافر/ 26]، فأنظرني إلى [الحجر/ 36]، فاذكروني أذكركم [البقرة/ 152] سبيلي أدعوا [يوسف/ 108] وبين إخوتي إنّ ربّي [يوسف/ 100] وأرني أنظر [الأعراف/ 143] ويصدّقني إنّي [القصص/ 34] وما كان مثله.
قال أبو بكر، أحمد: وقد بينت آخر كل سورة ما يحرك منها ليقرب مأخذه.
قال: ولا يحرّك الياء التي ذكرت لك عند الألف
[الحجة للقراء السبعة: 1/411]
المضمومة كقوله: عذابي أصيب [الأعراف/ 156] فإنّي أعذّبه [المائدة/ 115]، إنّي أريد [المائدة/ 29] وما كان مثله.
فإذا استقبلت ياء الإضافة ألف وصل حركها، طالت الكلمة التي الياء متصلة بها أو لم تطل مثل: يا ليتني اتّخذت [الفرقان/ 27]، وما كان مثله.
وكان ابن كثير لا يستمر على قياس واحد كما فعل أبو عمرو.
قال أبو بكر، أحمد: فجعلت ما حرّك من الياءات مذكورا في آخر كل سورة.
وكان نافع يحرك ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الألف المكسورة والمفتوحة والمضمومة وألف الوصل إلا حروفا قد ذكرتها لك.
فمما لم يحرّك ياءه عند ألف الوصل ثلاثة أحرف في الأعراف: إنّي اصطفيتك [الآية/ 144] وفي طه: أخي اشدد [الآية/ 30، 31] وفي الفرقان: يا ليتني اتّخذت [الآية/ 27].
وروى أبو خليد عن نافع يا ليتني اتخذت محركة.
ومما ترك تحريك يائه عند الألف المقطوعة المتصلة بالفعل
[الحجة للقراء السبعة: 1/412]
المجزوم قوله فاذكروني أذكركم وأنظرني إلى، في الأعراف، والحجر [36]، وص [79] وفي مريم: فاتّبعني أهدك [43]، وفي النمل [19] والأحقاف [15]: أوزعني أن، وفي المؤمن [26]: ذروني أقتل، وادعوني أستجب [غافر/ 60]، ولا تفتنّي ألا [التوبة/ 49] وترحمني أكن [هود/ 47]، وأرني أنظر [الأعراف/ 143] يصدّقني إنّي [القصص/ 34]، آتوني أفرغ [الكهف/ 96].
وقد اختلف في بعض هذه الحروف عنه.
ومما لم يحرك ياءه عند الألف المقطوعة وهو مع فعل غير مجزوم فيما ذكر أحمد بن جماز وإسماعيل بن جعفر قوله: بعهدي أوف [البقرة/ 40] وأنّي أوفي الكيل [يوسف/ 59]، وفي ذرّيّتي إنّي [الأحقاف/ 15]،
[الحجة للقراء السبعة: 1/413]
وتدعونني إلى النّار [غافر/ 41] وأنّما تدعونني إليه [غافر/ 43].
قال أبو علي: حجة من فتح هذه الياء إذا تحرك ما قبلها أن أصل هذه الياء الحركة، لأنّها بإزاء الكاف للمخاطب فكما فتحت الكاف كذلك تفتح الياء.
فإن قلت: إنّ الحركة في حروف اللين مكروهة. قيل:
الفتحة من بينها لا تكره فيها، وإن كرهت الحركتان الأخريان، ألا ترى أن القاضي ونحوه، يحرّك بالفتح كما تحرك سائر الحروف التي لا لين فيها، أو لا ترى أنّ الياء في غواشٍ [الأعراف/ 41] ونحوها تثبت في النصب ولا تحذف كما تحذف في الوجهين الآخرين، فتجري في النصب مجرى مساجد ونحوها من الصحيح، فكذلك الياء. وإن تحرك ما قبلها يلزم أن تحرك بالفتح كما حركت الكاف بها، لأنّها قد جرت مجراها. ومجرى الحروف الصحيحة إذا تحركت بالفتح.
ومما يدل على استحقاقها التحرك بالفتح أنّها إذا سكن ما قبلها اتفقوا على تحريكها بالفتح، نحو: هذا بشراي، وغلاماي، وهذا قاضيّ، ورأيت غلاميّ، فاجتماعهم على تحريكها بالفتح في هذا النحو يدل على أن ذلك أصلها إذا تحرك ما قبلها.
ويدل على لزوم تحركها بالفتح تحريكهم النون في
[الحجة للقراء السبعة: 1/414]
فعلن، ويفعلن، وهو حرف ضمير كالياء، فكما اتفقوا على تحريك النون- وهي اسم كذلك- يلزم أن تحرّك الياء.
فإن قلت: ما تنكر أن تكون النون في فعلن إنّما حركت لالتقاء الساكنين في فعلن ويفعلن؟ ألا ترى أن ما قبلها لا يكون إلا ساكنا؟ فلما كان إسكانها يؤدي إلى التقاء الساكنين حركت لذلك، وحركة التقاء الساكنين غير معتد بها.
قيل: الذي يدلّ على أن تحريكها من حيث كانت اسما أنّها نظير الكاف، وقد حركوا تاء المخاطب والمتكلم أيضا.
فأمّا الألف في قاما، ويقومان، والواو في فعلوا، ويفعلون، فإنّما أسكنتا، لأنّ الألف إذا حركت انقلبت، والواو إذا انضم ما قبلها كره أكثر الحركات فيها، ومع ذلك فإنها جعلت في السكون مثل الألف، كما جعلت الكسرة في مسلمات بمنزلة الياء في مسلمين، ومع ذلك فما فيهما من المد قد صار عوضا فيهما من الحركة.
وحجة من أسكن أن الفتحة مع الياء قد كرهت في الكلام، كما كرهت الحركتان الأخريان فيها. ألا ترى أنّهم قد أسكنوها في الكلام في حال السعة إذا لزم تحريكها بالفتحة، كما أسكنوها إذا لزم تحريكها بالحركتين الأخريين؟ وذلك قولهم: قالي قلا، وبادي بدا، ومعد يكرب، وحيري دهر، فالياء في هذه المواضع في موضع الفتحة التي في آخر
[الحجة للقراء السبعة: 1/415]
أول الاسمين، نحو حضر موت، وبعلبكّ، وقد أسكنت كما أسكنت في الجر والرفع.
ومما يؤكد الإسكان فيها أنّها مشابهة للألف، والألف تسكن، في الأحوال الثلاث، فكما أسكنت الألف فيها كذلك تسكن الياء. والدليل على شبه الياء الألف قربها منها في المخرج، وإبدالهم إياها منها في نحو: طائيّ وحاريّ في النسب إلى: طيئ والحيرة، وقولهم: حاحيت وعاعيت.
و: لنضربن بسيفنا قفيكا فكما تسكن الألف في الأحوال الثلاث كذلك تسكن الياء فيها.
والدليل على صحة هذه الطريقة أن العرب قد فعلت ذلك بها في الكلام وحال السعة فيما أريناكه.
وأسكنوها أيضا في الشعر في موضع النصب لهذه
[الحجة للقراء السبعة: 1/416]
المشابهة، وكثر ذلك في الشعر حتى ذهب بعضهم إلى استجازته في الكلام.
فأمّا حجة أبي عمرو في فتحه الياء مما رآه خفيفا مع الهمزة، فهي أن الهمزة قد فتح لها ما لم يكن يفتح لو لم يجاور الهمزة، نحو: يقرأ، ويبرأ ولولا الهمزة لم يفتح شيء من ذلك.
فإذا فتح لها ما لا يفتح إذا لم يجاور الهمزة فأن يفتح لها ما قد يفتح مع غيرها أحرى.
والمفتوحة والمكسورة سيان في إتباع الياء لها في التحريك بالفتح، ألا ترى أنّهم قد غيروا للهمزة المكسورة الحرف الذي قبلها، فقالوا: الضئين، وصأى صئيّا، ورجل جئز، وشهد، ولم يفعلوا ذلك في رءوف، فكذلك لم تفتح الياء قبل الهمزة المضمومة في نحو عذابي أصيب، كما فتحت قبل المفتوحة والمكسورة في نحو: سبيلي أدعوا [يوسف/ 108] وإخوتي إنّ ربّي [يوسف/ 100].
فإن قلت: إن ما ذكرته من التغيير للهمزة المفتوحة
[الحجة للقراء السبعة: 1/417]
والمكسورة إنّما جاء في المتصل، نحو: يقرأ، ويبرأ، والضئين والصئي، وجئز، وما فعله أبو عمرو من فتح الياء مع المفتوحة والمكسورة منفصل.
قيل: يشبّه المنفصل بالمتصل هنا، كما شبهه به في: يا يا صالح يتنا [الأعراف/ 7] لما فعلته العرب من تشبيه المنفصل بالمتصل في مواضع كثيرة، قد ذكرنا منها أشياء في هذا الكتاب.
ومن قال إنّه إنّما فتح الياء مع الهمزة لتتبين الياء معها لأنّها خفية، كما بينوا النون مع حروف الحلق وأخفوها مع غيرها، فإنّا لا نرى أنّ أبا عمرو اعتبر هذا الذي سلكه هذا القائل، ولو كان كذلك لحرّك الياء مع الهمزة إذا كانت مضمومة، لأنّ النون تبيّن مع الهمزة، مضمومة كانت، أو مكسورة، أو مفتوحة، ومع ذلك فإنّ النون تبيّن مع سائر حروف الحلق، ولسنا نعلم أبا عمرو يفتح الياء مع سائر حروف الحلق). [الحجة للقراء السبعة: 1/418]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله الرّحمن الرّحيم
استعنت بالله
فإن قلت: فإنّ الهمزة قد تفتح لها ما قبلها وإن كانت مضمومة نحو: يقرأ في موضع الرفع، فهلّا فتح الياء في عذابي أصيب [الأعراف/ 156] كما فتح قبل المفتوحة والمكسورة في نحو: سبيلي أدعوا [يوسف/ 108] وإخوتي إنّ ربّي [يوسف/ 100] فأقول: إنّ هذه الضمة إن كانت للإعراب، لم تكن في حكم الضمة عندهم، ألا ترى أنّهم قد قالوا نمرّ، وكتف ونحو ذلك في الرفع ورفضوا الضمة بعد الكسرة في كلامهم، فلم يجيء فيه فعل، فإذا كان كذلك، لم يلزمه أن يفتح الياء قبل الهمزة المضمومة لما ذكرت، لأنّها عندهم لمّا لم تثبت، لم تكن في حكم الضم، وأما ما رواه من ذلك غير مستخفّ، فأسكن الياء فيه، فهو حسن، وذلك أنّ هذه الياء، إذا لم تحرك، إذا كانت مع ما يستخفّ فلأن يكره حركتها مع ما لا يستخف أجدر وقد كرهوا الحركة
[الحجة للقراء السبعة: 2/5]
فيما تتوالى فيه الحركات وإن كانت للإعراب، فزعم أبو الحسن: أنّ بعضهم قال: رسلهم [إبراهيم/ 10].
ونحو هذا ما أنشده سيبويه من قوله:
إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ونحوه قول جرير:
سيروا بني العمّ فالأهواز منزلكم... ونهر تيرى ولا تعرفكم العرب
فأمّا حدّ المستخفّ، والمستثقل، فإن جعل ما زاد على الثلاثة غير مستخفّ، كان مذهبا وإن جعل المستثقل ما توالى فيه أربع حركات كان مذهبا، لأنّك قد علمت استثقالهم له برفضهم إيّاه في الشّعر، إلّا في موضع الزّحاف، وإذا لم يستخفّ الأربعة فالخمسة أجدر بأن لا تستخفّ). [الحجة للقراء السبعة: 2/6]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو إنّي أعلم بفتح الياء وقرأ الباقون بإسكان الياء فأما من فتح الياء فعلى أصل الكلمة وذلك أن الياء اسم المتكلّم والاسم لا يخلو من أن يكون مضمرا أو مظهرا فإذا كان ظاهرا أعرب وإذا كان مضمرا بني على حركة كالكاف في ضربتك والتّاء في قمت وكذلك الياء وجب أن تكون مبنيّة على حركة لأنّها علامة إضمار وهي خلف من المعربة والدّليل على ذلك قوله وما أدراك ماهيه حسابيه لأن الهاء إنّما أتي بها للسكت لتبين بها حركة ما قبلها وأما من سكن الياء فإنّه عدل بها عن أصلها استثقالا للحركة عليها لأن الياء حرف ثقيل فإذا حرك ازداد ثقلا إلى ثقله
[حجة القراءات: 93]
وفي ياء الإضافة أربع لغات فتح الياء على أصل الكلمة وإسكانها تخفيفًا وإثبات الهاء بعد الياء والحذف تقول هذا غلامي قد جاء وغلامي وغلاميه وغلام). [حجة القراءات: 94]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (12- {إِنِّي أَعْلَمُ} [آية/ 30]:-
بفتح الياء، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمر.
أما ابن كثير فهكذا يفتح كل ياء إضافةٍ مكسورٍ ما قبلها عند الهمزة المفتوحة.
وأما نافع فإنه يفتحها عند كل همزةٍ، مفتوحةً كانت أم مكسورةً أم مضمومةً.
وأما أبو عمرو فانه يفتحها عند الهمزة المفتوحة والمكسورة، ولا يفتحها عند المضمومة ولا إذا طالت الكلمة، لكنه يفتحها مع كل ألف وصل.
اعلم أن أصل هذه الياء أن تكون مفتوحة؛ لأنها بإزاء كاف المخاطب، فكما أن الكاف مفتوحة، فكذلك حق هذه الياء الفتح، يدل على ذلك أنك تفتحها ألبتة إذا سكن ما قبلها نحو: غلاماي، وبشراي.
وأما فتح هذه الياء مع الهمزة، فإن الهمزة يفتح ما قبلها لمجاورتها ولا ينظر إلى حركتها أهي فتحة أم غيرها نحو: يقرأ ويبرأ، ولولا هذه الهمزة لجاءت على يفعل أو يفعل، فإذا فتح لمجاورة الهمزة ما لا يفتح إذا لم يجاورها، فلأن يفتح معها ما حقه الفتحة وإن لم يجاورها أولى، وهذا يقوي قراءة نافع.
[الموضح: 265]
وأما ابن كثير فإنه اختار فتح الياء إذا انفتحت الهمزة؛ لأنه إذا حسن انفتاح ما قبل الهمزة لأجل الهمزة المطلقة، فلأن يحسن للهمزة المفتوحة أولى.
وأما وجه قراءة أبي عمرو فهو أن الهمزة المكسورة مثل المفتوحة في أنهم غيروا الحرف الذي قبلها لأجلها نحو: صأى صئيًا ورجل جئز، فكسروا ما قبل الهمزة لحركة الهمزة، وإن كان أصله غير الكسرة، وليست كذلك الهمزة المضمومة؛ لأن الضمة في الهمزة ليست كالفتحة والكسرة في تغيير ما قبلها لأجلها، ألا ترى أنهم قالوا: رؤوف، فلم يغيروا حركة الراء المجاورة للهمزة المضمومة، كما غيروا مع الهمزة المكسورة.
فأما: يقرأ ونحوه، فإن ضمة الهمزة فيه ضمة إعراب، فهي غير لازمة فليس كرؤوف. وأما فتحة الياء مع ألف الوصل فلأنه احتاج إلى تحريك الياء لالتقاء الساكنين فرأى تحريكه بحركة الأصل وهي الفتحة أولى.
وأما تسكينه للياء إذا طالت الكلمة فهو منقاس، وذلك أنه إذا جاز أن تسكن هذه الياء في المستخف وهو ما كان على ثلاثة أحرف، فلأن تسكن في المستثقل وهو ما زاد على الثلاثة أولى.
وقرأ الباقون بإسكان الياء.
ووجهه أن الحركة على الياء تستثقل على الجملة، وإن كانت فتحة؛ لأنها وإن خفت فهي حركة في الجملة، والسكون أخف منها، ألا ترى أنهم أسكنوها حيث لزم تحريكها بالفتحة نحو: معدي كرب وقالي قلا؛ لأن
[الموضح: 266]
الفتحة تلزم في آخر الاسم الأول من الاسمين اللذين جعلا اسمًا واحدًا، كما لزمت في آخر الاسم المؤنث قبل هاء التأنيث، فلما أزيلت هذه الفتحة عن الياء وإن كانت لازمة علمنا أن الحركة وإن كانت فتحة تستثقل على حروف العلة). [الموضح: 267]

قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يزيد البربري: [وَعُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا].
[المحتسب: 1/64]
قال أبو الفتح: ينبغي أن يُعلم ما أذكره هنا؛ وذلك أن أصل وضع المفعول أن يكون فضلة وبعد الفاعل؛ كضرب زيد عمرًا، فإذا عناهم ذكر المفعول قدَّموه على الفاعل، فقالوا: ضرب عمرًا زيد، فإن ازدادت عنايتهم به قدموه على الفعل الناصبِه، فقالوا: عمرًا ضرب زيد، فإن تظاهرت العناية به عقدوه على أنه رَبُّ الجملة، وتجاوزوا به حد كونه فضلة، فقالوا: عمرو ضربه زيد، فجاءوا به مجيئًا ينافي كونه فضلة، ثم زادوه على هذه الرتبة فقالوا: عمرو ضرب زيد، فحذفوا ضميره ونَوَوه ولم ينصبوه على ظاهر أمره؛ رغبة به عن صورة الفضلة، وتحاميًا لنصبه الدال على كون غيره صاحب الجملة، ثم إنهم لم يرضوا له بهذه المنزلة حتى صاغوا الفعل له، وبنوه على أنه مخصوص به، وألغَوْا ذكر الفاعل مظهرًا أو مضمرًا، فقالوا: ضُرب عمرو، فاطُّرح ذكر الفاعل ألبتة. نعم، وأسندوا بعض الأفعال إلى المفعول دون الفاعل ألبتة، وهو قولهم: أُولعت بالشيء، ولا يقولون: أولعني له كذا، وقالوا: ثُلِجَ فؤاد الرجل، ولم يقولوا: ثَلَجَهُ كذا، وامتُقع لونه، ولم يقولوا: امتقعه كذا، ولهذا نظائر، فرفضُ الفاعل هنا ألبتة واعتماد المفعول به ألبتة دليل على ما قلناه، فاعرفه.
وأظنني سمعت: أولعني به كذا، فإن كان كذلك فما أقله أيضا!
وهذا كله يدل على شدة عنايتهم بالفضلة؛ وإنما كانت كذلك لأنها تجلو الجملة، وتجعلها تابعة المعنى لها، ألا ترى أنك إذا قلت: رغبت في زيد، أُفيد منه إيثارك له، وعنايتك به، وإذا قلت: رغبت عن زيد، أُفيد منه اطراحك له، وإعراضك عنه، ورغبت في الموضعين بلفظ واحد، والمعنى ما تراه من استحالة معنى رغبت إلى معنى زهدت، وهذا الذي دعاهم إلى تقديم الفضلات في نحو قول الله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، وإنما موضع اللام التأخير؛ ولذلك قال سيبويه: إن الجفاة ممن لا يعلم كيف هي في المصحف يقرؤها: [وَلَمْ يَكُنْ كُفُوًا له أَحَدٌ].
فإن قلت: فقد قالوا: زيدًا ضربته فنصبوه، وإن كانوا قد أعادوا عليه ضميرًا يشغل الفعل
[المحتسب: 1/65]
بعده عنه حتى أضمروا له فعلًا ينصبه، ومع هذا فالرفع فيه أقوى وأعرب، وهذا ضد ما ذكرته من جعلهم إياه ربَّ الجملة ومبتدأها في قولهم: زيد ضربته.
قيل: هذا وإن كان على ما ذكرتَه فإن فيه غرضًا من موضع آخر؛ وذلك أنه إذا نصب على ما ذكرت فإنه لا يعدم دليل العناية به، وهو تقديمه في اللفظ منصوبًا، وهذه صورة انتصاب الفضلة مقدمة لتدل على قوة العناية به، لا سيما والفعل الناصب له لا يظهر أبدًا مع تفسيره، فصار كأن هذا الفعل الظاهر هو الذي نصبه، وكذلك يقول الكوفيون أيضًا.
فإذا ثبت بهذا كله قوة عنايتهم بالفضلة حتى ألغوا حديث الفاعل معها، وبنَوا الفعل لمفعوله فقالوا: ضُرب زيد -حَسُن.
قوله تعالى: [وَعُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا] لما كان الغرض فيه أنه قد عَرَفَها وعَلِمَها، وآنس أيضًا علم المخاطبين بأن الله سبحانه هو الذي علمه إياها بقراءة مَن قرأ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}، وقوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، هذا مع قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق}، وقال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، وقال تبارك اسمه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}.
فقد عُلم أن الغرض بذلك في جميعه أن الإنسان مخلوق ومضعوف، وكذلك قولهم: ضُرب زيد، إنما الغرض منه أن يُعلم أنه منضرب، وليس الغرض أن يُعلم مَن الذي ضربه، فإن أُريد ذلك ولم يدل دليل عليه فلَا بُدَّ أن يذكر الفاعل فيقال: ضرب فلان زيدًا، فإن لم يفعل ذلك كلف علم الغيب). [المحتسب: 1/66]

قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (26- وقوله تعالى: {يا آدم أنبئهم}
قرأ ابن عامر وحده في إحدى الروايتين {أنبئهم} وهذا غلط؛ لأن الهاء إنما تكسر إذا تقدمتها كسرة أو ياء وقرأ الباقون {أنبئهم} وهو الصواب). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/82]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:05 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

تفسير سورة البقرة
[من الآية (33) إلى الآية (34) ]


{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}

قوله تعالى: {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله عزّ وجلّ: (إنّي أعلم ما لا تعلمون (30)
و: (إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض).
[معاني القراءات وعللها: 1/144]
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياءين، وأرسلهما الباقون.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: إذا كان قبل ياء الإضافة متحرك يجوز أن تسكن الياء وتحرك، وإن كان ما قبلها ساكناً حركته لا غير.
قال: فإذا استقبلها ألف ولام كقوله: (اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم) حركت الياء لئلا تسقط.
وقال الفراء في نصب الياء من (نعمتي) كل ياء كانت من المتكلم فمعها لغتان الإرسال والفتح، فإذا لقيتها ألف ولام اختارت العرب التحريك، وكرهت السكون؛ لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمت التي) فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين.
قال: وقد يجوز إسكانها
[معاني القراءات وعللها: 1/145]
عند الألف واللام، قال الله جلّ وعزّ: (يا عبادي الّذين أسرفوا) فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم يكن فيه الياء لم تنصب.
وأما قوله: (فبشّر عباد (17) الّذين يستمعون)، فإن هذا بغير ياء، فلا تنصب ياؤها.
على هذا يقاس كل ما في القرآن). [معاني القراءات وعللها: 1/146] (م)
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (أنبئهم)
اتفق القراء كلهم على ضم الهاء مع الهمزة.
قال أبو منصور: وإنما اتفقوا على ذلك ولم يشبهوه بـ (عليهم) و(إليهم) لأن الهمزة إذا سكنت فهي كالحرف الصحيح، والياء أخت الكسرة في (عليهم)، فأتبعوا الكسرة الكسرة.
[معاني القراءات وعللها: 1/146]
وقد روي عن ابن عامر أنه قرأ: (أنبئهم) بكسر الهاء.
وهذا غير جائز عند أهل العربية، ولكن لو قرئ: (أئبيهم) بحذف الهمزة كان جائزا في العربية، ولا يجوز في القراءة لأنه لم يقرأ به أحد). [معاني القراءات وعللها: 1/147]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله: كلّهم قرأ: أنبئهم [البقرة/ 33] بالهمز وكذلك) روى بعض رواة المكيين عن ابن كثير أنبئهم
[الحجة للقراء السبعة: 2/6]
بكسر الهاء والهمز، قال أحمد: وهذا خطأ لا يجوز.
قال أبو علي: النبأ: الخبر، عن النّبإ العظيم [النبأ/ 2] أي: الخبر، وقالوا منه: نبأته وأنبأته. ونبّئهم عن ضيف إبراهيم [الحجر/ 51] أي: أخبرهم عن ضيفه. وضمّ الهاء، إلا ما رواه عن ابن عامر أنبئهم بكسر الهاء مع الهمز، وينبّؤا الإنسان يومئذٍ بما قدّم وأخّر [القيامة/ 13] أي يخبر به، فهذا كقوله تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [النور/ 24] وقال: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا، قالوا أنطقنا اللّه الّذي أنطق كلّ شيءٍ [فصلت/ 21] وهذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ [الجاثية/ 29] ومن ثم قرأ من قرأ: هنالك تبلوا كلّ نفسٍ ما أسلفت [يونس/ 30] بالتاء، فهذه الآي في معنى إخبار الإنسان بأعماله، وتوقيفه عليها. وأنبئوني بأسماء هؤلاء [البقرة/ 31]. أخبروني بها، ويا آدم أنبئهم بأسمائهم [البقرة/ 33] أخبرهم، فلما كان النبأ مثل الخبر، كان أنبأته عن كذا، بمنزلة: أخبرته عنه. ونبأته عنه، مثل: خبّرته.
ونبّأته به، مثل: خبّرته به. وهذا مما يصحح ما ذهب إليه سيبويه، من أن معنى نبّئت زيدا: نبّئت عن زيد، فحذف حرف الجر، لأن نبّأت قد ثبت أن أصله خبّرت بالآي التي تلوناها، فلما حذف حرف الجرّ، وصل الفعل إلى المفعول الثاني،
[الحجة للقراء السبعة: 2/7]
فنبّأت يتعدّى إلى مفعولين، أحدهما يصل إليه بحرف جر، كما أن أخبرته عن زيد كذلك.
فأمّا المتعدي إلى ثلاثة مفعولين، نحو: نبّأت زيدا عمرا أبا فلان، فهو هذا في الأصل، إلّا أنّه حمل على المعنى، فعدّي إلى ثلاثة مفعولين وذلك أنّ الإنباء الذي هو إخبار: إعلام، فلما كان إياه في المعنى، عدّي إلى ثلاثة مفعولين، كما عدّي الإعلام إليهم، ودخول هذا المعنى فيه، وحصول مشابهته للإعلام، لم يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار، وعن أن يتعدى إلى مفعولين، أحدهما يتعدى إليه بالباء، أو بعن، نحو:
نبّئهم عن ضيف إبراهيم [الحجر/ 51] ونحو قوله: فلمّا نبّأت به [التحريم/ 3] كما أن دخول معنى أخبرني في «أرأيت» لم يخرجه عن أن يتعدى إلى مفعولين، كما كان يتعدّى إليهما، إذا لم يدخله معنى أخبرني به، إلّا أنّه امتنع من أجل ذلك أن يرفع المفعول به بعده على الحمل على المعنى، من أجل دخوله في حيّز الاستفهام، فلم يجز: «أرأيتك
زيد أبو من هو؟» كما جاز: «علمت زيد أبو من هو؟». و «رأيت زيد أبو من هو؟» حيث كان المعنى: علمت أبو من زيد فكذلك دخول معنى الإعلام في الإنباء، والتنبيء لم يخرجهما عن أصلهما وتعدّيهما إلى مفعولين، أحدهما: يصل إليه الفعل بحرف الجر، ثم يتّسع فيحذف الحرف، ويصل الفعل إلى الثاني.
[الحجة للقراء السبعة: 2/8]
فأمّا من قال: إنّ الأصل في نبّئت على خلاف ما ذكرنا، فإنّه لم يأت على ما ادعاه بحجة ولا شبهة. فأمّا قوله: نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرّحيم [الحجر/ 49] فيحتمل ضربين أحدهما: أن يكون (نبّئ) بمنزلة أعلم، ويكون أنّي أنا الغفور الرّحيم قد سدّ مسدّ المفعولين، كما أنّه في قولك:
علمت أنّ زيدا منطلق، قد سدّ مسدّهما، فتكون (نبّئ) هذه المتعدية إلى ثلاثة مفعولين. ويجوز أن يكون (نبّئ) بمنزلة:
(خبّر) عبادي بأنّي، فحذف الحرف، ف (أنّ) في قول الخليل على هذا: في موضع جر، وعلى قول غيره: في موضع نصب.
فأمّا قوله: قل أأنبّئكم بخيرٍ من ذلكم للّذين اتّقوا عند ربّهم جنّاتٌ [آل عمران/ 15] فإن جعلت اللّام متعلقة (بأؤنبّئكم)، جاز الجرّ في جنات على البدل من خير، وإن جعلته صفة لخير، لأنه نكرة جاز الجرّ في جنات أيضا.
وإن جعلتها متعلقة بمحذوف، لم يجز الجرّ في جنات، وصار مرتفعا بالابتداء أو بالظرف. ولم يجز غير ذلك، لأن اللام حينئذ لا بد لها من شيء يكون خبرا عنه. فأما قوله: قد نبّأنا اللّه من أخباركم [التوبة/ 94] فلا يجوز أن تكون (من) فيه زيادة على ما يتأوّله أبو الحسن من زيادة (من) في الواجب، لأنه يحتاج إلى مفعول ثالث، ألا ترى أنه لا خلاف في أنه إذا تعدى إلى الثاني، وجب تعديه إلى المفعول الثالث، وإن قدرت تعديته إلى مفعول محذوف، كما تؤوّل قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/9]
يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها [البقرة/ 61]- أي شيئا- لزم تعديته إلى آخر. فإن جعلت (من) زيادة، أمكن أن تضمر مفعولا ثالثا، كأنّه: نبأنا الله أخباركم مشروحة. ويجوز أن تجعل (من) ظرفا غير مستقر، وتضمر المفعول الثاني، والثالث كأنه: نبأنا الله من أخباركم ما كنتم تسرونه تنبيئا، كما أضمرت في قوله: أين شركائي الّذين كنتم تزعمون [القصص/ 62] أما قوله: ويستنبئونك أحقٌّ هو [يونس/ 53] فيكون يستنبئونك: يستخبرونك، فيقولون: أحقّ هو؟ ويكون:
يستنبئونك: يستعلمونك، والاستفهام قد سدّ مسدّ المفعولين.
ومما يتّجه على معنى الإخبار دون الإعلام، قوله:
وقال الّذين كفروا هل ندلّكم على رجلٍ ينبّئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّقٍ [سبأ/ 7] فالمعنى: يخبركم، فيقول لكم: إذا مزّقتم، وليس على الإعلام، ألا ترى أنهم قالوا: أفترى على اللّه كذباً أم به جنّةٌ [سبأ/ 8] قال أبو علي: فأما قوله: (أنبئهم) فحجة من قرأ بضم الهاء ظاهرة، وذلك أن أصل هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه، ألا ترى أنك تقول: ضربهم وأنبأهم، وهذا لهم. وإنما تكسر الهاء إذا وليتها كسرة أو ياء، نحو: بهم وعليهم. وهذا أيضا يضمه قوم، فلا يجانسون بكسرتها الكسرة التي قبلها، ولا الياء، ولكن يضمّونها على الأصل، نحو: بهم، وبهو، وبدارهو، وعليهم، وقد تقدم ذكر
[الحجة للقراء السبعة: 2/10]
ذلك في أول الكتاب.
فأما وجه قراءة من قرأ: «أنبئهم» فكسر الهاء، والذي قبلها همزة مخففة، فإنّ لكسره الهاء وجهين من القياس على ما سمع منهم. أحدهما: أنه أتبع كسر الهاء الكسرة التي قبلها، والحركة للإتباع قد جاء مع حجز السكون وفصله بين المتحركين، ألا ترى أنّ أبا عثمان قد حكى عن عيسى عن ابن أبي إسحاق: هذا المرء، ورأيت المرء، ومررت بالمرء. فأتبعوا مع هذا الفصل، كما أتبعوا في اللغة الأخرى: هذا امرؤ، ورأيت امرأ، وبامرئ. وكذلك: أخوك، وأخاك، وأخيك. فكذلك يكون قوله: (أنبئهم) أتبعت كسرة الهاء الكسرة التي على الباء.
ومما يثبت ذلك، أن أبا زيد قال: قال رجل من بكر بن وائل: أخذت هذا منه يا فتى، ومنهما، ومنهمي. بكسر الاسم المضمر في الإدراج والوقف. قال: وقال عنه، وقال:
لم أعرفه، ولم أضربه. بكسر كل هذا. قال أبو زيد: وقال: لم أضربهما بكسر الهاء مع الباء. ففي ما حكاه أبو زيد: ما يعلم منه أنّ الإتباع مع حجز الساكن بين الحركتين، مثله إذا توالت الحركتان، فلم يحجز بينهما شيء. ألا ترى أنه قال: منه- ومنهما- ومنهمي، فأتبع الكسر الكسر مع حجز السكون بينهما، كما أتبع في: لم أضربه، ولم أضربهما، ولم أعرفه،
[الحجة للقراء السبعة: 2/11]
وإن لم يحجز بينهما شيء؟ فكذلك قوله: (أنبئهم) أتبع الكسرة في الهاء الكسرة التي قبلها.
والوجه الآخر: أنه لم يتعدّ بالحاجز الذي بين الكسرة والهاء لسكونها، فكأن الكسرة وليت الهاء، والكسرة إذا وليت الهاء كسرت نحو: به. ويكون تركهم الاعتداد- في «أنبئهم» - بالسكون كتركهم الاعتداد به في قولهم: هو ابن عمّي دنيا، وقنية، ألا ترى أنه من الدنوّ، وقالوا: قنوة. فكما قلبت الواو ياء في عارية ومحنية، لانكسار ما قبلهما، كذلك قلبوها مع حجز الساكن في دنيا. فإذا رأيتهم لم يعتدّوا بالحاجز إذا كان ساكنا، كذلك يجوز أن لا يعتدّ به حاجزا في قراءة ابن عامر، وما روي عن ابن كثير.
ولو ترك تارك الهمز في: (أنبئهم) فقال: (أنبيهم) لكان لكسر الهاء وجهان.
أحدهما: أنه لما خفف الهمزة لسكونها وانكسار ما قبلها فقلبها ياء كذيب وميرة أشبهت الياء التي هي غير منقلبة عن الهمزة، فكسر الهاء بعدها، كما تكسر «هم» بعد:
(ترميهم) و (يهديهم). ويقوي ذلك أن منهم من أدغم الواو الساكنة
[الحجة للقراء السبعة: 2/12]
المنقلبة عن الهمزة في الياء، كما تدغم الواو التي ليست منقلبة، وذلك في قولهم: ريّا، وريّة.
ويقوّي ذلك إيقاعهم الألف المنقلبة عن الهمزة ردفا، كإيقاعهم المنقلبة عن الياء أو الواو، وذلك قوله:
على رال كما تقول: على بال. والوجه أن لا تكسر الهاء على هذا المذهب، كما أن الوجه أن لا تدغم.
والوجه الآخر: أن تقلب الهمزة إلى الياء قلبا. وهذا وإن كان سيبويه لا يجيزه إلا في الشعر، فإن أبا زيد يرويه عن قوم من العرب. وإذا اتّجهت له هذه الوجوه لم ينبغ أن
يخطّأ، وإن أمكن أن يقال إن غيره أبين وجها منه وأظهر.
فأما آدم: فقال بعض أهل اللغة: إن الآدم من الإبل
[الحجة للقراء السبعة: 2/13]
والظباء: الأبيض، وما سوى ذلك، فالآدم الذي ليس بأبيض على ما يتكلم به الناس فيقولون: رجل آدم للذي ليس بأبيض، ورجل أسمر، وهو أصفى من الآدم. قال: ولا تقول العرب للرجل: أبيض، من اللون، إنما يقولون: أحمر،
قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت إلى الأسود والأحمر»
وإنما الأبيض: البعيد من الدّنس النقي، قال: ويقال: ظبي آدم- وظبية أدماء- وبعير آدم- وناقة أدماء- للأبيضين.
قال أبو الحسن: (أنبئهم بأسمائهم) الهاء مضمومة إذا همزت، وبها نقرأ، لأن الهاء لا يكسرها إلا ياء، أو كسرة، ومن العرب من يهمز ويكسر، وهي قراءة، وهي رديئة في القياس فإذا خفّفت الهمزة فكسر الهاء أمثل شيئا لشبهها بالياء). [الحجة للقراء السبعة: 2/14]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن رحمه الله: [أَنْبِهِمْ] بوزن أَعْطِهِم، ورُوي عنه: [أَنبيهُمُ] بلا همز، ورُوي عن ابن عامر: [أَنْبِئْهِم] بهمز وكسر الهاء. قال ابن مجاهد: وهذا لا يحوز.
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن: [أَنْبِهِمْ] كأعطهم، فعلى إبدال الهمزة ياء على أنه يقول: أَنْبَيْتُ كأَعْطَيْتُ، وهذا ضعيف في اللغة؛ لأنه بدل لا تخفيف، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.
[المحتسب: 1/66]
وحدثنا أبو علي قال: لقي أبو زيد سيبويه فقال: سمعت العرب تقول: قَرَيْتُ وتوضيت، فقال له سيبويه: فكيف تقول في المضارع؟ قال: أَقرأُ. هذا آخر الحكاية عن أبي علي.
وزاد أبو العباس محمد بن يزيد فيها: فقال له سيبويه: فقد تركت إذن مذهبك.
ونحوه قراءة: [أن تَبَوَّيَا].
ويجوز على هذه القراءة [أَنْبِهُم] على أصل حركة الهاء وهو الضم؛ كقراءة مَن قرأ: [فخسفنا بِهُو وبدارِهُو الأرض].
وأما قراءته على الرواية الأخرى: [أَنبيهُم] فهو على قياس التخفيف الصريح، ولك في هذه الهاء على هذه القراءة الضم والكسر.
أما الضم فمن وجهين:
أحدهما: وهو الأظهر؛ إخراجها على الأصل فيه.
والآخر: وفيه الصنعة؛ وهو أن هذه الياء ليست بلازمة؛ وإنما اجتلبها تخفيف الهمزة؛ وذلك أن الهمزة إذا سكنت مكسورًا ما قبلها فتخفيفها القياسي أن تخلصها في اللفظ ياء، وذلك قولك في ذئب: ذيب، وفي بئر: بير، فقوله: [أَنبِيهم] بياء ساكنة ينبغي أن يكون على التخفيف القياسي، لا على أنه أبدل الهمزة ياء إبدالًا مستكرهًا على حد قولهم في البدل: قريب كأعطيت، فإنما كان ذلك كذلك من قِبَل أنه لو أَبدل لكان قد أَخرج الهمزة على أصلها إلى ذوات الياء، ولو كان فعل ذلك لوجب حذفه كما تحذف لام: أَعطيت وأَغزيت للوقف والجزم، كما حذفها في القراءة الأخرى لما أبدل فقال: [أَنْبِهِمْ]، ولو اعتقد أنه قد أبدل ألبتة لما جاز إثبات الياء في موضع الوقف، كما لا يجوز: أَعطيهم ولا أَغزيهم، إلا أن يحمل ذلك على الضرورة، وإثبات الياء في موضع الجزم والوقف؛ كقوله:
ألم يأْتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبونُ بني زياد
[المحتسب: 1/67]
فإن فعل ذلك ففيه على هذا ضرورتان:
إحداهما: الإبدال، ولا ضرورة إليه.
والآخر: إثبات حرف العلة في موضع الوقف، وذلك ضرورة أفحش من الأولى؛ لكثرة الإبدال على قبحه، وقلة إثبات حرف اللين في موضع الوقف؛ لكن إذا اعتقد أنه خُفف لم يكن في هذه القراءة ضرورة ألبتة، وفي هذا كافٍ.
وإذا كان [أَنبيهِم] إنما هو على التخفيف القياسي، فكأن الهمزة حاضرة لأنها هي الأصل؛ إذ كان التخفيف له أحكام التحقيق، ألا ترى إلى صحة الواو والياء في تخفيف ضوء وفيء؛ وذلك قولك: هذا ضَوٌ وفَيٌ ونَوٌ وشَيٌ، بضمة الواو والياء مع تحركهما وانفتاح ما قبلهما، وترك قبلهما ألفين لذلك يدل على أن الواو والياء لما تحركتا بحركة الهمزة المحذوفة للتخفيف كانتا لذلك في حكم الساكنين، فكما تصحان هنا سكانتين في ضوء ونوء وفيء وشيء، كذلك صحتا متحركتين في ضَوٍ ونَوٍ وشَيٍ، وعلى ذلك صحت الواو والياء أيضًا في تخفيف نحو: جَيْئَل وحَوْءَب إذا خَففت فقلت: جَيَل وحَوَب، فكما تكون الياء مضمومة مع التحقيق في قوله: {أَنْبِئْهُم}، فكذلك تكون مضمومة مع التخفيف في قولك: [أَنبيهُم]؛ لما بيناه من أن حكم الهمزة المخففة حكم المحققة.
وسألت أبا علي -رحمه الله- فقلت: من أجرى غير اللازم مجرى اللازم فقال: في تخفيف الأحمر: لَحْمر، أيجوز له على هذا أن يقلب الواو والياء في حَوَب وجَيَل ألفًا، فيقول: حاب وجال؟ فقال: لا، وأومأ إلى أن حكم القلب أقوى من حكم الاعتداد بالحركة في لَحمر؛ أي: فلا يبلغ في الجواز ذلك لشناعته، وهو كما ذكر.
وقد يجوز عندي في قراءة الحسن -رحمه الله- هذه أن يكون أراد [أَنبهم] كقراءته في الأخرى، إلا أنه أشبع الكسرة فأنشأ عنها ياء، فقال: [أَنْبِيهم]، كما قد يجوز ذلك في قوله: [أَلَم يَأْتِيَك]؛ فإنه أشبع الكسرة فمطها، فبلغت ياء، وعليه الرواية
[المحتسب: 1/68]
الأخرى التي ذكرها أبو الحسن وهي قوله: [أَلَمْ يَأْتِك]، وعليه أيضًا ما وجه بعضهم قوله:
كأن لم ترا قبلي أسيرًا يمانيا
قال: أراد لم ترَ، ثم أشبع الفتحة فأنشا عنها ألفًا.
فإذا جاز ذلك ساغ الضم في الهاء أيضًا على أصل ضمتها.
فإن قلت: فهل يجوز أن تقول: إنه لم يعتدد بالياء لما كانت زائدة مجتلبة للإشباع، فجرت لذلك مجرى ما ليس موجودًا، كما أن من مد "أوائل" إتباعًا كما ترى، على حد قوله:
نفي الدنانير تنقادُ الصياريف
قال على هذا: أَوائيل، أقر الهمزة بحالها بدلًا من واو أواول؛ لبعدها من الطرف بالياء الحاجزة؛ لأن هذه الياء لَحَقٌ ونَيِّفٌ مجتلبة للإشباع، وليست لها عصمة ولا مُسكة، فجرت مجرى المنفردة ألبتة، كما يهمز فيقول: أوائل، فكذلك يهمز، فتقول: أوائيل، ولا يحفل بالياء حاجزًا لما ذكرنا، ولا يجرى عندي مجرى ياء طواويس ونواويس؛ إذ كانت الياء هناك ثابتة القدم؛ لكونها بدلًا من واو ناووس وطاووس الثانية؟
فالجواب: أنه إن ذهب إلى هذا على ما رمته كسر الهاء أيضًا؛ وذلك أن أقصى ما في
[المحتسب: 1/69]
هذا أن تكون الياء في [أنبيهم] مدة إشباعًا لا حكم لها، فكأنها ليست هناك، وإذا لم تكن هناك كسرة الياء -وهي تدعو إلى كسر الهاء- فعلى أي الوجهين حملته، فكسر الهاء هو الكلام.
وأما حديث كسرها من القسمة الأولى -وأنت تنوي بأنبيهم التخفيف القياسي- فهو على معاملة اللفظ؛ وذلك أن الملفوظ به الآن وإن كان تخفيفًا إنما هو الياء ألبتة، فعومل لفظها معاملة نحوه ونظيره، فكُسِرَت الهاء مع هذه الياء كما تكسر في نحو: عليهم وإليهم، كما أن قول الله عز وجل: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ} أصله: لكن أنا، فخففت الهمزة وألقيت حركتها على النون فانفتحت، فصارت في التقدير: [لكنَنَا]، فلما التقى الحرفان المثلان متحركين كُره ذلك، وإن كانت حركة النون الأولى غير لازمة من حيث كانت من أعراض التخفيف، وأجريت مجرى اللازمة، فأُسكنت الأولى وأدغمت في الثانية؛ حملًا على حاضر الحال وإجراء غير اللازم مجرى اللازم.
وقد كتبنا في الخصائص بابًا مفردًا في إجراء العرب غير اللازم مجرى اللازم، وإجراء اللازم مجرى غير اللازم، فاكتفينا به عن إعادته؛ لئلا يطول هذا الكتاب.
نعم، وإذا كانت العرب قد أجرت الحرف الصحيح في نحو هذا مجرى ما لا يعتد به حتى لم يحفلوا بلفظ، نحو قولهم: منهِم واضربهِم، فأن يجروا الياء الساكنة مجرى ذلك لخفائها، ولأن لفظها نفسها داعٍ إلى الكسر -أجدر.
وأما الرواية عن ابن عامر: [أَنبئهِم] بالهمز وكسر الهاء، فطريقه أن هذه الهمزة ساكنة، والساكن ليس بحاجز حصين عندهم، فكأنه لا همزة هناك أصلًا، وكأن كسرة الباء على هذا مجاورة للهاء، فلذلك كسرت فكأنه على هذا قال: [أَنبهِم].
ويدل على ما ذكرناه من ضعف الساكن أن يكون حاجزًا حصينًا قولهم: قِنْيَة، وهي وهي من قَنَوْت، وصِبْيَة وهي من صَبَوْت، وعِلْية وهي من عَلَوْت، وعِذْي وهو من قولهم: أَرَضُون عَذَوات، وبِلْيُ سفر لقولهم في معناه: بِلْوُ، وهو من بلوت، ومنه ناقة عِلْيَان وهي من علوت، ودَبَّة مهيار وهو من تهور، وفلان قِدْيَة في هذا الأمر وهو من القِدْوة، وأصله
[المحتسب: 1/70]
كله: قِنْوُ، وصِبْوة، وعِلْوة، وعِذْوُ، وبِلْو سفر، وناقة عِلْوان، ودَبة مِهْوَار، فقلبت الواو في ذلك كله للكسرة قبلها، ولم يعتدد الساكن بينهما حاجزًا لضعفه، فكأن الكسرة تباشر الواو فتقلبها لذلك ياء، كما تقلبها لو لم تجد بينهما حاجزًا، فكذلك الهمزة في [أَنْبِئهِم] لا تحجز على هذا النحو الذي ذكرناه.
وروينا عن أبي زيد فيما أخذناه عن أبي علي، وعن غير أبي زيد: منهِم ومنهِ ومنكِم وبِكِم، وأجرى كاف المضمر مجرى هائه، وسترى هذا فيما بعد إن شاء الله.
فقد علمت بذلك أن قول ابن مجاهد: هذا لا يجوز لأوجه له؛ لما شرحناه من حاله.
ورحم الله أبا بكر؛ فإنه لم يأْلُ فيما علمه نصحًا، ولا يلزمه أن يُرِي غيره ما لم يُره الله تعالى إياه، وسبحان قاسم الأرزاق بين عباده، وإياه نسأل عصمة وتوفيقًا وسدادًا بفضله). [المحتسب: 1/71]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (13- {أَنْبِئْهُمْ} [آية/ 33]:-
بالهمز وضم الهاء، اتفق القراء عليه كلهم إلا ابن عامر فانه قرأ «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء.
أما وجه قراءة الجمهور، فهو أن أصل هذه الهاء الضم كما قدمناه قبل، وإنما تكسر لكسرة أو ياءٍ تقع قبلها، وليس قبلها هنا كسرة ولا ياء، فلا نظر في وجوب ضمة الهاء.
وأما وجه قراءة ابن عامر بكسر الهاء مع تحقيق الهمزة قبلها فهو أنه أتبع كسرة الهاء كسرة الباء في «أنبئهم»، وإن حجز الهمز الساكن بينهما؛ لأن حركة الإتباع قد جاءت مع حجز السكون بين الحركتين، نحو ما روي من قولهم: المرء والمرء والمرء، بإتباع حركة الميم حركة الإعراب، وما روى أبو زيد عن العرب: أخذت هذا منه، بكسر الهاء إتباعًا لكسرة الميم،
[الموضح: 267]
ويجوز أن يكون أجرى هذه الهاء مجرى ما تليه الكسرة نحو: بهم، ولم يعتد بالحاجز لسكونه، كما قلبوا الواو ياءً في قولهم: ابن عمي دنيا، لكسرة الدال ولم يعتدوا بالنون حاجزًا لسكونه، فكأن الكسرة تلي الواو؛ لأن الأصل: دنوًا). [الموضح: 268]

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: [لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا].
قال أبو الفتح: هذا ضعيف عندنا جدًّا؛ وذلك أن "الملائكة" في موضع جر، فالتاء إذن مكسورة، ويجب أن تسقط ضمة الهمزة من "اسجدوا" لسقوط الهمزة أصلًا إذا كانت وصلًا، وهذا إنما يجوز ونحوه إذا كان ما قبل الهمزة حرف ساكن صحيح، نحو قوله عز وجل: [وَقَالَتُ اخْرُج]، وادخلُ ادخلُ، فضُم لالتقاء الساكنين لتخرج من ضمة إلى ضمة، كما كنت تخرج منها إليها في قولك: اخرج.
فأما ما قبل همزته هذه متحرك -ولا سيما حركة إعراب- فلا وجه لأن تحذف حركته ويحرك بالضم، ألا تراك لا تقول: قل للرجلُ ادخُل، ولا: قل للمراةُ ادخُلي؛ لأن حركة الإعراب لا تُستهلك لحركة الإتباع إلا على لغة ضعيفة، وهي قراءة بعض البادية: [الْحَمْدِ لِلَّه] بكسر الدال، ونحو منه ما حكاه لي أبو علي: أن أبا عبيدة حكاه من قول بعضهم: دعه في حِرُمِّه، فحذف كسرة راء "حر"، وألقى عليها ضمة همزة أمه، وهذا عندنا على شذوذه أعذر من قوله: [لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا]؛ وذلك أنه خفف همزة تثبت في الوصل وهو قولك: في هنِ أمه، فإذا كانت تثبت في الوصل جاز تخفيفها فيه؛ بل لا يكون التخفيف بإلقاء الهمزة ونقل الحركة إلا في الوصل، وليس فيه إلا شيء واحد؛ وهو حذفه حركة الإعراب لحركة غير ملازمة؛ وإنما هي للهمزة.
[المحتسب: 1/71]
وأما قوله: [لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا] فإن همزة "اسجدوا" يحذفها في الواصل ألبتة، وإذا كانت محذوفة ألبتة لم يكن إلى تخفيفها سبيل؛ لأن الوصل يستهلكها أصلًا، فحركة ماذا -يا ليت شعري! - تنقل وقد حُذف المتحرك بحركته أصلًا فلم يبقَ إلا الإتباع، وحركة الإتباع لا تبلغ مبلغ حركة تخفيف الهمز؛ من حيث كانت حركة الهمزة موجودة فيها في الابتداء والوصل جميعًا، فعلمت بذلك قوتها، وحركة الإتباع تجري مجرى الصدى الذي لا اعتداد به، ولا هو عندهم مما يعقد على مثله، فإذا ضعفت الحركة القوية فما ظنك بالحركة الضعيفة؟
ونحو من هذه الحكاية عن أبي عبيدة: مارواه أحمد بن يحيى: قال: كنا عند سعيد بن سَلْم أنا وابن الأعرابي فخرجا لصلاة العصر، وتأخَّرت لتجديد الطهر بعدهما، فلما خرجتُ قال لي ابن الأعرابي: أين أنت؟ ألا تسمع لهذا؟ قلت: ما هو؟ وإذا أبو سَرَّار الغنوي يتحدث، قال:
كنت أحضر العراق فإذا أردت أهلي وقد اشتريت منها وتبتَّتُّ أجتاز بامرأة عجوز لها بنيَّات، فإذا نزلت عليها بَهَشْن إلَيَّ وأَطَفْن بِي، فأَفرز لهن مما اشتريت شيئًا أدفعه إليهن، فغبرت زمانًا، ثم جئت العجوز فوجدتها غائبة عن بيتها، وإذا أولئك الجواري قد صرن نساء، فبهشن إليَّ على عادتهن، وجاءت العجوز فوجدَتني خاليًا معهن، فقالت: ما هذا؟ أفي السَّوَتَنْتُنَّه؟ أفي السوتنتنه؟ فقلت: وما في هذا؟ أردات: أفي السوءة أنتنه؟ فحذفت الهمزة من السوءة تخفيفًا، وألقت حركتها على الواو فانفتحت الواو، وألقت حركة الهمزة في أنتنه على كسرة التاء من السوءة فانفتحت، وحذفت همزة أنتنه فصارت: أفي السوتنتنه؟
هكذا قال أحمد بن يحيى على كسرة التاء، وله وجه، إلا أنه مع هذا ضعيف؛ وذلك أن هذه الهمزة إذا خففت فحذفت، وألقيت حركتها على ما قبلها، لم يكن ذلك الذي قبلها إلا ساكنًا، نحو قوله تعالى في قراءة ورش عن نافع: [قَدَ افْلَحَ الْمُومِنُونَ]، [وَالَارْض].
وحكى أبو زيد في خُبَأَة: انه سمع بعضهم يقرأ: [ويمسك السماء أن تقع عَلَّرضِ]، يريد: على
[المحتسب: 1/72]
الأرض، فحُذفت همزة أرض تخفيفًا، وأُلقي حركتها على اللام وهي ساكنة كما ترى، فصارت عَلَلَرض، فكره اجتماع اللامين متحركتين، فأسكن اللام الأولى وأدغمها في الثانية فصارت [علَّرض]، كما أسكن أبو عمرو: [لَكنَ نَا] حتى صار لذلك "لكنَّا"، فهذا التحفيف مع النقل إنما يكون إذا كان الأول الملقي عليه ساكنًا، فأما إذا كان متحركًا فقد حَمَتْه حركته أن يَقبل حركة أخرى غيرها.
والتاء من السوءة محركة، فكيف يمكن إلقاء الحركة عليها مع وجود حركتها فيها؟ وعليه قراءة الكسائي فيما حدثنا به أبو علي سنة إحدى وأربعين: [بما أُنزلَّيك] قياسًا -فيما قال أبو علي- على لكنَّا.
قال أبو علي ما نحن عليه ونعى هذه القراءة، وقال لحركة لام أُنزل: فإذا قبح ذلك مع أن حركة اللام بناء، فما الظن بما حركته إعراب، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فالجناية إذن عليها فوقها عليها.
وقول أحمد بن يحيى: إنه ألقى فتحة أَنْتُنه على كسرة الهاء، طريقه: أنه لما نقل فتحة همزة أنتن إلى ما قبلها صادفت كسرة السوءة على شناعة النقل مع ذلك، فهجمت الفتحة على الكسرة فابتزَّتها موضعَها، وكلا القولين خبيث وضعيف، وعلى أننا قد أفردنا في كتاب الخصائص بابًا لهجوم الحركات على الحركات، مختلفات كن أو متفقات؛ لكنه ليس على هذا الذي كرهناه واستضعفناه.
فهذا كله يشهد بضعف قوله: [قُلْنَا لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا]. وفيه أكثر من هذا، ولولا تحامي الإملال لجئنا به، وفيما أوردناه كافٍ مما حذفناه). [المحتسب: 1/73]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:31 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (35) إلى الآية (39) ]

{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}


قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال عباس: سألت أبا عمرو عن [الشِّجَرة] فكرهها، وقال: يقرأ بها برابر مكة وسودانها.
[المحتسب: 1/73]
وقال هارون الأعور عن بعض العرب: تقول الشِّجرة، وقال ابن أبي إسحاق: لغة بني سُليم الشِّجرة.
قال أبو الفتح: حكى أبو الفضل الرياشي قال: كنا عند أبي زيد وعندنا أعرابي فقلت له: إنه يقول الشِّيَرَة، فسأله فقالها، فقالت له: سله عن تصغيرها، فسأله فقال: شُيَيْرَة.
وأنشد الأصمعي لبعض الرجاز في أرجوزة طويلة:
تحسبه بين الإكام شِيَرة
وإذا كانت الياء فاشية في هذا الحرف -كما ترى- فيجب أن تجعل أصلًا يساوق الجيم، ولا تُجعل بدلًا من الجيم، كما تجعل الجيم بدلًا من الياء في قولهم: رجل فُقَيْمِج؛ أي: فُقَيْمِي، وعَربَانِج؛ أي: عَرَبَانِيّ، وقوله:
حتى إذا ما أمسجت وأمسجا
يريد أمست وأمسى. قال أبو علي: هذا يدلك على أن ما حذف لالتقاء الساكنين في حكم الحاضر الملفوظ به. قال: ألا ترى أنه أبدل من لام أمسيت بعد أن قدرها ملفوظًا بها، ولو كان الحذف ثابتًا هنا لما جاز أن يبدل من اللام شيء؛ لأن البدل إنما هو من ملفوظ به، كما أن البدل ملفوظ به.
قال: وليست كذلك لام عَشِيَّة إذا حقرتها فقلت: عُشيَّة؛ لأن الياء الثانية من عُشَيِّية لم تحذف لالتقاء الساكنين؛ لأنه لا ساكنين هناك، وإنما حذفت حذفًا للتخفيف؛ فلذلك سقط
[المحتسب: 1/74]
قول أبي العباس في تحقير العرب عَشِيَّة على عُشَيْشِيَة؛ لأن الياء لم تثبت هنا فتبدل منها.
وقال أبو الحسن: إن قومًا يقولون في تحقير فَعلية من الياء: إن المحذوف منها الياء الثانية، فعلى هذا قال أبو علي ما قال.
ومما أبدلت فيه الجيم من الياء قوله -ورويناه عن غير وجه:
خالي عُوَيف وأبو عَلِجِّ ... المطعمان اللحمَ بالعَشجِّ
وبالغدواة فلق البَرْنِجِّ ... يُقْلَع بالوَد وبالصِّيصِجِّ
وروينا أيضًا قوله:
يا رب إن كنتَ قلبت حِجَّتِج ... فلا يزال شاحج يأتيك بِج
[المحتسب: 1/75]
قال أبو النجم:
كأن في أذنابهن الشُّوَّلِ ... من عبس الصيف قرون الإجَّل
يريد: الإيَّل.
فقد يجوز أن تكون الجيم في شِجرَة بدلًا من الياء في شيرة لفشو شيرة، وقلة شِجرة). [المحتسب: 1/76]

قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فأزلّهما الشّيطان)
قرأ حمزة وحده: (فأزالهما) بألف مع التخفيف.
وسائر القراء قرأوا: (فأزلّهما) بالتشديد بغير ألف.
قال أبو منصور: من قرأ: (فأزالهما) فهو من زال يزول، ومعناه: فنحّاهما.
ومن قرأ: (فأزلّهما) فهو من زللت أزلّ، وأزلني غيري، ولزللت وجهان: يصلح أن يكون الخطيئة، فأزلهما الشيطان، أي: كسبهما الزلة.
ويصلح أن يكون (فأزلّهما) أي: نحاهما.
وكلتا القراءتين جيدة حسنة، قال ذلك أبو إسحاق الزجاج، والله أعلم بما أراد). [معاني القراءات وعللها: 1/147]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (25- وقوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها}
قرأ حمزة وحده: {فأزالهما}.
وقرأ الباقون: {فأزلهما} فحجة من قرأ {فأزلهما} أنه جعل من الزلل في
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/81]
الدين، ومن ذلك قولهم: «زلة العالم»، ومن قرأ {فأزالهما} أي: أزالهما عن مكانهما من الجنة، ومعنى قوله {فأزلهما الشيطان} أي: زلاهما بقبولهما من الشيطان، كما تقول: تعلم زيد من عمرو كلمة أهلكته، وإنما معناه: هلك هو بقبولها منه.
فأما رواية أبي عبيد عن حمزة {فأزالهما} بالإمالة فإنه غلط على حمزة؛ لأن من شرط حمزة أن يميل من نحو هذا ما كانت فاء الفعل مكسورة إذا ردها المتكلم إلى نفسه نحو: خاف وخفت، وضاق وضقت، وزال وزلت، {وأما فأزالهما} فإنك تقول: أزلت، فالزاي مفتوحة كما قرأ: {فلما زاغوا} بالإمالة {أزاغ الله} بالفتح). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/82]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: فأزلّهما الشّيطان عنها [البقرة/ 36].
فقرأ حمزة وحده: فأزالهما بألف خفيفة، وقرأ الباقون: فأزلّهما مشدّدا بغير ألف.
قال أبو بكر أحمد: وروى أبو عبيد: أنّ حمزة قرأ:
فأزالهما بالإمالة، وهذا غلط.
بسم الله: حجة حمزة في قراءته (فأزالهما الشيطان
[الحجة للقراء السبعة: 2/14]
عنها) أن قوله: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها [البقرة/ 35] تأويله: أثبتا فثبتا، فأزالهما الشيطان، فقابل الثبات بالزوال، الذي هو خلافه. ومثل ذلك قوله تعالى:
فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق [الشعراء/ 63] تأويله: فضرب فانفلق، ومثله: فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ [البقرة/ 196] أي:
فحلق، فعليه فدية. ونسب الفعل إلى الشيطان، لأن زوالهما عنها إنما كان بتزيينه ووسوسته، وتسويله، فلما كان ذلك منه سبب زوالهما عنها أسند الفعل إليه. ومثل هذا قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17] فالرمي
كان للنبي صلّى الله عليه وسلم حيث رمى فقال: «شاهت الوجوه»
إلا أنه لما كان بقوة الله وإرادته نسب إليه. ومما يقوي قراءته قوله تعالى:
فأخرجهما ممّا كانا فيه [البقرة/ 36] فقوله: فأخرجهما في المعنى قريب من أزالهما، ألا ترى أن إخراجه إياهما منها، إزالة منه لهما عما كانا فيه. فإن قال قائل: ما ننكر أن يكون فاعل أخرجهما، لا يكون ضمير الشيطان ولكن المصدر الذي ذكر فعله كقولهم: من كذب كان شرّا له، فالدّلالة على أن فاعله ضمير الشيطان، قوله في الأخرى: يا بني آدم لا يفتننّكم الشّيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة [الأعراف/ 27].
[الحجة للقراء السبعة: 2/15]
ففاعل أخرجهما: الشيطان، كما بيّن ذلك في هذه.
ويقوي قراءته أيضا تأويل من تأوّل أن: فأزلّهما من زلّ، الذي هو عثر، ألا ترى أن ذلك قريب من الإزالة في المعنى.
فإن قال قائل: فإنه إذا قرأ: فأزالهما كان قوله بعد:
فأخرجهما تكريرا، فالقراءة الأخرى أرجح، لأنها لا تكون على التكرير، قيل: إن قوله: أخرجهما، ليس بتكرير لا فائدة فيه، ألا ترى أنه قد يجوز أن يزيلهما عن مواضعهما، ولا يخرجهما مما كانا فيه من الدعة والرفاهية، وإذا كان كذلك لم يكن تكريرا غير مفيد. وعلى أن التكرير في مثل هذا الموضع لتفخيم القصّة وتعظيمها بألفاظ مختلفة ليس بمكروه ولا مجتنب، بل هو مستحبّ مستعمل، كقول القائل: أزلت نعمته، وأخرجته من ملكه، وغلّظت عقوبته. وقالوا: زال عن موضعه وأزلته، وفي التنزيل: إنّ اللّه يمسك السّماوات والأرض أن تزولا [فاطر/ 41]. وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال [إبراهيم/ 46] وقال الهذليّ:
فأزال خالصها بأبيض ناصح... من ماء ألهاب بهنّ التّألب
[الحجة للقراء السبعة: 2/16]
فهذا على ضربين أحدهما: أن يريد: أزال خلوص خالصها بماء أبيض شاب هذه العسل به، فحذف المضاف. أو يكون وضع خالصها موضع خلوصها، كقولهم: العاقبة والعافية، وقوله:
ولا خارجا من فيّ زور كلام في قول من جعل «لا أشتم» جوابا للقسم. والخالص من الماء: الأبيض الصافي، فاستعاره للعسل، لأنهم يصفونها بالبياض في نحو:
وما ضرب بيضاء يأوي مليكها وأنشد السّكّريّ للعجاج:
من خالص الماء وما قد طحلبا حجة من قرأ فأزلّهما الشّيطان [البقرة/ 36] أن أزلّهما يحتمل تأويلين، أحدهما: كسبهما الزّلّة. والآخر: أن يكون أزلّ من زلّ الذي يراد به: عثر. فالدّلالة على الوجه الأول ما جاء في التنزيل من تزيينه لهما تناول ما حظر عليهما جنسه،
[الحجة للقراء السبعة: 2/17]
بقوله: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشّجرة [الأعراف/ 20] إلى قوله: لمن النّاصحين وقوله: فوسوس لهما الشّيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما [الأعراف/ 20].
وقد نسب كسب الإنسان الزلّة إلى الشيطان في قوله تعالى:
إنّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا [آل عمران/ 55] واستزلّ وأزلّ كقولهم: استجاب وأجاب، واستخلف لأهله وأخلف، فكما أنّ استزلّهم من الزّلّة، والمعنى فيه كسبهم الشيطان الزّلّة، كذلك قوله تعالى: فأزلّهما الشّيطان والوجه الآخر أن يكون فأزلّهما من: زل عن المكان، إذا عثر فلم يثبت عليه، ويدل على هذا قوله تعالى:
فأخرجهما ممّا كانا فيه [البقرة/ 36] فكما أن خروجه عن الموضع الذي هو فيه انتقال منه إلى غيره، كذلك عثاره فيه وزليله.
فأما قوله تعالى: فإن زللتم من بعدما جاءتكم البيّنات فاعلموا [البقرة/ 209] فيحتمل وجهين، أحدهما: زللتم من الزّلة، كأن المعنى: فإن صرتم ذوي زلّة، ويجوز أن يراد به العثار، فشبّه المعنى بالعين، فاستعمل الذي هو العثار، والمراد به: الخطأ، وخلاف الصواب.
ومن هذا الباب قول ابن مقبل:
[الحجة للقراء السبعة: 2/18]
يكاد ينشقّ عنه سلخ كاهله... زلّ العثار وثبت الوعث والغدر
السّلخ: مصدر سلخته سلخا، إلا أنه أريد به في هذا المكان المسلوخ، ألا ترى أن المنشقّ إنما يكون الإهاب دون الحدث. وقوله: زلّ العثار، أي: زلّ عند العثار، يريد أنه لفطنته يزل عن الموضع الذي يعثر فيه فلا يعثر، ويكون المصدر في هذا الموضع يراد به المفعول كأنه: المكان المعثور فيه، ومثل ذلك قوله:
على حتّ البراية...
أي: عند البراية.
وقول النابغة:
رابي المجسّة...
أي: عند المجسّة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/19]
ومثله: بضّة المتجرّد أي: عند المتجرّد، أي: التجريد.
ومثله للبيد:
صائب الجذمة أي: صائب عند الجذمة، يقول: هو قاصد عند القطع، ومثله قول أوس:
كشف اللّقاء أي: عنده.
فأما قوله: زلّ، فإنه صفة، ككهل، وغيل، وفسل، مما يدلّك على ذلك مقابلته بثبت الذي هو خلافه.
والغدر فيما فسّر عن أبي عمرو في أكثر ظني: مكان متعاد.
والوعث: السهل الذي تسوخ فيه أخفاف الإبل، والمعنى في:
ثبت الوعث، أي: ثبت عند الوعث كما كان في المعنى في:
زلّ العثار، أي: زلّ عند العثار، وإذا كان الغدر هذا الذي فسر،
[الحجة للقراء السبعة: 2/20]
فما أنشده أبو زيد:
يخبطن بالأيدي مكانا ذا غدر تقديره: مكانا غدرا. وتأويل إدخال قوله: «ذا» فيه أنه يوصف بهذا، كأنه قال: مكانا صاحب هذا الوصف. ومن هذا الباب قولهم: «من أزلّت إليه نعمة فليشكرها» كأنه زلّت النعمة إليه، أي: تعدّت. وأزللتها أنا إليه، عدّيتها، كما أنّ قوله:
قام إلى منزعة زلخ فزل معناه: تعدّى من مكانه إلى مكان آخر. وكذلك قوله:
وإنّي وإن صدّت لمثن وقائل... عليها بما كانت إلينا أزلّت
تقديره: أزلّته، ليعود الضمير إلى الموصول.
[الحجة للقراء السبعة: 2/21]
وأما الشيطان فهو فيعال من شطن مثل البيطار، والغيداق.
وليس بفعلان من قوله:
وقد يشيط على أرماحنا البطل ألا ترى أن سيبويه حكى: شيطنته فتشيطن، فلو كان من يشيط لكان شيطنته فعلنته، وفي أنّا لا نعلم هذا الوزن جاء في كلامهم ما يدلك أنه: فيعلته، مثل بيطرته، ومثل هينم، وفي قول أمية أيضا دلالة عليه، وهو قوله:
أيّما شاطن عصاه عكاه... ثم يلقى في السّجن والأكبال
فكما أنّ شاطن فاعل، والنون لام، كذلك شيطان فيعال.
ولا يكون فعلان من يشيط. فإن قلت: فقد أنشد الكسائيّ أو غيره:
[الحجة للقراء السبعة: 2/22]
وقد منّت الخذواء منّا عليهم... وشيطان إذ يدعوهم ويثوّب
ففي ترك صرف شيطان دلالة على أنه مثل: سعدان وحمدان. قيل: لا دلالة في ترك صرف شيطان على ما ذكرت، ألا ترى أنه يجوز أن يكون قبيلة، ويجوز أن يكون اسم مؤنّث؟
فلا يلزم صرفها لذلك، لا لأنّ النون زائدة). [الحجة للقراء السبعة: 2/23]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فأزلهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه}
قرأ حمزة (فأزالهما الشّيطان عنها) بالألف أي نحاهما عن الحال الّتي كانا عليها من قول القائل أزال فلان فلانا عن موضعه إذا نحاه عنه وزال هو وحجته قوله {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة} أي اثبتا فثبتا فأزالهما الشّيطان فقابل الثّبات بالزوال الّذي هو خلافه وممّا يقوي قراءته قوله {فأخرجهما ممّا كانا فيه} فإخراجهما في المعنى قريب من إزالتهما
وقرأ الباقون فأزلهما من زللت وأزلني غيري أي أوقعهما في الزلل وهو أن يزل الإنسان عن الصّواب إلى الخطأ والزلة وحجتهم قوله إنّما استزلهم الشّيطان ونسب الفعل إلى الشّيطان لأنّهما زلا بإغواء الشّيطان إيّاهما فصار كأنّه أزلهما). [حجة القراءات: 94]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (19- قوله: {فأزلهما} قرأ حمزة بألف مخففة، وقرأه الباقون بغير ألف مشددًا.
وعلة من قرأ بالألف أنه جعله من الزوال، وهو التنحية، واتبع في ذلك مطابقة معنى ما قبله على الضد، وذلك أنه قال تعالى ذكره لآدم: {اسكن أنت وزوجك الجنة} «35» فأمرها بالثبات في الجنة، وضد الثبات الزوال، فسعى
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/235]
إبليس اللعين فأزالهما بالمعصية عن المكان الذي أمرهما الله بالثبات فيه مع الطاعة، فكان الزوال به أليق، لما ذكرنا، وأيضًا فإنه مطابق لما بعده في المعنى لأن بعده {فأخرجهما مما كانا فيه} والخروج عن المكان هو الزوال عنه، فلفظ الخروج عن الجنة يدل على الزوال عنها، وبذلك قرأ الحسن والأعرج وطلحة.
20- وعلة من قرأ بغير ألف الإجماع في قولهم: {إنما استزلهم الشيطان} «آل عمران 155»، أي: أكسبهم الزلة، فليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان، إنما قدرته على إدخال الإنسان في الزلل، فيكون ذلك سببًا إلى زواله من مكان إلى مكان بذنبه، ويقوي ذلك أنه قال في موضع آخر: {فوسوس لهما الشيطان} «الأعراف 20»، والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليست الوسوسة بإزالة منه لهما من مكان إلى مكان، إنما هي تزين فعل المعصية، وهي الزلة لا الزوال، وايضًا فإنه قد يحتمل أن يكون معنى «فأزلهما» من: زل عن المكان، إذا تنحى عنه، فيكون في المعنى كقراءة من قرأ بألف من الزوال، والاختيار القراءة بغير ألف، لما ذكرنا من العلة، ولأنه قد يكون بمعنى «فأزالهما» فيتفق معنى القراءتين، ولأنه إجماع من القراء غير حمزة، ولأنه مروي عن ابن عباس، وبه قرأ أبو جعفر يزيد وشيبة، وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة ومجاهد وابن أبي إسحاق، وهي قراءة أهل المدينة، وأهل مكة، وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، قال أبو عبيد من قرأ بغير ألف ذهب إلى الزلل في الدين كقوله: {فتزل قدم بعد ثبوتها} «النحل 94» ومن خفف أراد إزالتهما عن موضعهما). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/236]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (14- {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [آية/ 36]:-
بالألف، قرأها حمزة وحده.
ووجه قراءته هذه أنه عز وجل قال أمام ذلك {يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ}، وتأويل ذلك: أثبتا في الجنة فثبتا فأزالهما الشيطان، فحصل في ذلك مقابلة الثبات بالزوال الذي هو خلافه؛ لأن الثبات في المكان استقرار فيه، والزوال مفارقة عنه، ويقوي ذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}؛ لأن الإخراج قريب المعنى من الإزالة.
وقرأ الباقون {فَاَزَلَّهمَا} مشددة اللام من غير ألف.
فيجوز أن يكون المراد كسبهما الزلة، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، وأزل واستزل واحد، كأجاب
[الموضح: 268]
واستجاب.
ويجوز أن يكون {أَزَلَّهما} من قولهم: زل عن المكان إذا عثر عنه فلم يثبت عليه، فيكون حينئذٍ قريبًا في المعنى من أزالهما وأخرجهما؛ لأن الزلول عن الموضع انتقال عنه كالخروج). [الموضح: 269]

قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ).
اتفق القراء على هذه القراءة، إلا ما روي عن ابن كثير أنه قرأ: (فتلقّى آدم من ربّه كلماتٌ).
[معاني القراءات وعللها: 1/147]
قال أبو منصور: والقراءة برفع (آدم) ونصب (كلمات)؛ لأن آدم تعلم الكلمات من ربه، فقيل: تلقى الكلمات.
والعرب تقول: تلقيت هذا من فلان.
معناه: أن فهمي قبله من لفظه.
والذي قرأ به ابن كثير جائز في العربية، لأن ما تلقيته فقد تلقاك.
والقراءة الجيدة ما عليه العامة). [معاني القراءات وعللها: 1/148]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (27- وقوله تعالى: {فتلقى ءادم من ربه كلمات}.
قرأ ابن كثير، {فتلقى ءادم} بالنصب {كلمت} بالرفع، جعل الفعل للكلمات.
وقرأ الباقون {ءادم من ربه كلمات} بالنصب وإنما كسرت التاء، لأنها غير الأصلية، فمن جعل الفعل لآدم فحجته أن الله تعالى علم آدم الكلمات وأمره بهن فقبلها آدم وتلقاها.
وأخبرنا ابن دريد رحمه الله عليه قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/82]
قال: تلا أبو مهدي يوما آية فقال: تلقيتها عن عمرو، تلقاها عن أبيه تلقاها عن أبي هريرة، تلقاها عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، أي: أخذها وقبلها.
فأما ابن كثير فإنه جعل الفعل للكلمات؛ لأن كل من لقيته فقد لقيك، وكل من استقبلته فقد استقبلك، وفي ذلك قراءة ابن مسعود: {لا ينال عهدي الظالمون}، لأن العهد لما نال الظالمين، نال الظالمون العهد، وينشد:
قد سالم الحيات منه القدما
الأفعوان والشجاع الشجعما
لأن القدم لما سالمت الحيات سالمت الحيات القدم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/83]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37].
في رفع الاسم ونصب الكلمات، ونصب الاسم ورفع الكلمات. فقرأ ابن كثير وحده: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ بنصب الاسم ورفع الكلمات. وقرأ الباقون: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ برفع الاسم ونصب الكلمات.
قال أبو علي: قالوا: لقي زيد خيرا، فتعدى الفعل إلى مفعول واحد، وفي التنزيل: فإذا لقيتم الّذين كفروا [الأنفال/ 15] وفيه إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا اللّه [الأنفال/ 45] ولقد لقينا من سفرنا هذا نصباً [الكهف/ 62] فإذا ضعّفت العين منه، تعدى إلى مفعولين،
[الحجة للقراء السبعة: 2/23]
فقلت: لقّيت زيدا خيرا، فيصير الاسم الذي كان الفاعل المفعول الأول، قال: ولقّاهم نضرةً وسروراً [الدهر/ 11] وليس تضعيف العين هنا، على حدّ فرّح وأفرحته، وخرّج وخرّجته وأخرجته، ألا ترى أنك إذا قلت: ألقيت كذا، فليس بمنقول من لقيته، كأشربته من شربته يدل على أنه ليس بمنقول منه، أنه لو كان كذلك لتعدى إلى مفعولين، كما تعدى لقّيت، فلما لم يتعدّ إلى الثاني إلا بحرف الجر نحو ألقيت بعض متاعك بعضه على بعض، علمت أنه استئناف بناء على حدة، وليست الهمزة همزة نقل كالتي في قولك:
ضربت زيدا، أو: أضربته إياه، وشربت الماء وأشربته الماء، فجعلوا ألقيته بمنزلة طرحته، في تعدّيه إلى مفعول واحد. فأما مصدر لقيت، فقال أبو زيد: لقيته لقية واحدة في التلاقي والقتال، ولقيته لقاء ولقيانا ولقاة.
فأمّا قوله: إنّ الّذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدّنيا [يونس/ 7] أي: بدلا من الآخرة كما قال: أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة [التوبة/ 38] ومعنى من الآخرة أي:
بدلا منها، كما قال: ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض يخلفون [الزخرف/ 60] أي: بدلا منكم، ومثل هذا قوله: إن يشأ يذهبكم أيّها النّاس ويأت بآخرين
[الحجة للقراء السبعة: 2/24]
[النساء/ 133] وقوله: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرّيّة قومٍ آخرين [الأنعام/ 134].
وقال الراعي:
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة... ظلما ويكتب للأمير أفيلا
وقال آخر:
كسوناها من الرّيط اليماني... ملاء في بنائقها فضول
أي: بدلا من الريط.
ويكون قوله: لا يرجون لقاءنا [يونس/ 7]. أي: لا يخافون ذلك، لأنهم لا يؤمنون بها، فلا يوجلون منها كما يوجل المؤمنون المصدقون بها، المعنيون بقوله: إنّما أنت منذر من يخشاها [النازعات/ 45] وقال: وهم من السّاعة مشفقون [الأنبياء/ 49] فيكون الرجاء هنا الخوف كما قال:
... لا ترجون للّه وقاراً [نوح/ 13] وكما قال:
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها
[الحجة للقراء السبعة: 2/25]
وقد يكون لا يرجون الرجاء الذي خلافه اليأس، كما قال: قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفّار من أصحاب القبور [الممتحنة/ 13] أي: من الآخرة، فحذف من الآخرة لتقدم ذكرها كما قال: يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات [إبراهيم/ 48] فحذف المتأخّر لدلالة ما تقدم عليه، ويجوز أن تكون: كما يئس الكفار من حشر أصحاب القبور.
ومن ذلك قوله: وقال الّذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا [الفرقان/ 21] وقال: قد خسر الّذين كذّبوا بلقاء اللّه [الأنعام/ 31] فالمعنى والله أعلم:
بالبعث، كما قال: بل كانوا لا يرجون نشوراً [الفرقان/ 40] ويقوي ذلك حتّى إذا جاءتهم السّاعة بغتةً [الأنعام/ 31] وعلى هذا قوله: بل هم بلقاء ربّهم كافرون [السجدة/ 10].
فأما قوله: تحيّتهم يوم يلقونه سلامٌ [الأحزاب/ 44] فالمعنى: يوم يلقون ثوابه، فهم خلاف من وصف بقوله:
فسوف يلقون غيًّا [مريم/ 59] وقوله: واتّقوا اللّه واعلموا أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] أي: ملاقون جزاءه، إن ثوابا وإن عقابا. وقوله: الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] أي ملاقو ثواب ربّهم، خلاف من وصف بقوله: لا يقدرون على شيءٍ ممّا كسبوا [البقرة/ 264] وقوله: حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً [النور/ 39]
[الحجة للقراء السبعة: 2/26]
ونحو ذلك مما يدل على إحباط الثّواب وأنهم إليه راجعون، أي: يصدّقون بالبعث ولا يكذبون به، كما حكي عن المنكرين له في نحو: أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أإنّا لمبعوثون [الواقعة/ 47] ونحو قولهم فيه: إن هذا إلّا أساطير الأوّلين [الأنعام/ 25].
والظنّ هاهنا العلم، وكذلك قول المؤمن: إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه [الحاقة/ 20] فأما الآية الأولى التي هي قوله:
الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] أي: ثوابه، فقد يجوز أن لا يكون منهم القطع على ذلك والحتم به، بدلالة قول إبراهيم: والّذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين [الشعراء/ 82] فأما قوله: إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه [الحاقة/ 20] فلا يكون إلا على العلم والتيقّن، لأن صحة الإيمان إنما يكون بالقطع على ذلك والتّيقّن به والشاكّ فيه لا إيمان له.
ويقال: لقيته ولاقيته، فمن لاقيت قوله: واعلموا أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] والّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] وقال: تحيّتهم يوم يلقونه سلامٌ [الأحزاب/ 44] ولو كان يلاقونه كقوله: أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] كان حسنا، وقال: وإذا لقوا الّذين آمنوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/27]
[البقرة/ 14] وقال:
يا نفس صبرا كلّ حيّ لاق كأنه: لاق منيّته وأجله.
وقال آخر:
فلاقى ابن أنثى يبتغي مثل ما ابتغى... من القوم مسقيّ السّمام حدائده
وقال:
وكان وإيّاها كحرّان لم يفق... عن الماء إذ لاقاه حتّى تقدّدا
وأما قوله: ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مريةٍ من لقائه [السجدة/ 23] فيكون على إضافة المصدر إلى المفعول، مثل: بسؤال نعجتك [ص/ 24] وهم من بعد غلبهم
[الحجة للقراء السبعة: 2/28]
[الروم/ 3] لأن الضمير للرّوم وهم المغلوبون كأنه: لمّا قيل:
فخذها بقوّةٍ [الأعراف/ 145] أي بجد واجتهاد، أعلمنا أنه أخذ بما أمر به، وتلقاه بالقبول، فالمعنى: من لقاء موسى الكتاب، فأضيف المصدر إلى ضمير الكتاب، وفي ذلك مدح له على امتثاله ما أمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل كقوله: اتّبع ما أوحي إليك من ربّك [الأنعام/ 106] وفإذا قرأناه فاتّبع قرآنه [القيامة/ 18] ويجوز أن يكون الضمير لموسى، والمفعول به محذوف، كقوله: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم [فاطر/ 14] فالدعاء مضاف إلى الفاعل، والمفعولون محذوفون. ومثل ذلك في إضافة المصدر إلى الفاعل، وحذف المفعول به قوله: لمقت اللّه أكبر من مقتكم أنفسكم [المؤمن/ 10] وهذا على قياس من قرأ: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ لأن موسى هو اللاقي، كما أن آدم هو المتلقّي.
ويجوز أن يكون الضمير لموسى في قوله: من لقائه ويكون الفاعل محذوفا، والمعنى من لقائك موسى، ويكون ذلك في الحشر والاجتماع للبعث، أو في الجنة، فيكون كقوله: فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها [طه/ 16] فأما قوله: لينذر يوم التّلاق [المؤمن/ 15] فإنه يكون يوم تلاقي الظالم والمظلوم، والجائر والعادل، وتلاقي الأمم مع شهدائها كقوله: ونزعنا من كلّ أمّةٍ شهيداً [القصص/ 75] ومثل يوم التلاقي قوله: يوم يجمعكم ليوم الجمع [التغابن/ 9] وقوله: ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [النساء/ 87]. ونحو ذلك من الآي.
وقوله: ويوم تقوم السّاعة يومئذٍ يتفرّقون [الروم/ 14]، فإن
[الحجة للقراء السبعة: 2/29]
هذا التفرق بعد الاجتماع والتلاقي الذي أضيف اليوم إليهما، وذلك بعد الأخذ للمظلوم من الظالم، وقد بيّن هذا بقوله:
فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السّعير [الشورى/ 7] فأما قوله:
يوم يفرّ المرء من أخيه، وأمّه وأبيه [عبس/ 34، 35] وقد قال: يوم الجمع ويوم التّلاق، فليس يراد بالفرار المضاف إليه اليوم الشّراد ولا النّفار، وأنت قد تقول لمن تكلّم: فررت مما لزمك، لا تريد بذلك بعادا في المحل.
وتقدير يوم يفرّ المرء من أخيه: يوم يفر المرء من موالاة أخيه، أو من نصرته. كما كانوا، أو من مساءلة أخيه لاهتمامه بشأنه، فالفرار من موالاته يدل عليه قوله: إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا [البقرة/ 166] وأما الفرار من نصرته على حد ما كانوا يتناصرون في الدنيا، فيدل عليه قوله:
يوم لا يغني مولًى عن مولًى شيئاً ولا هم ينصرون إلّا من رحم اللّه [الدخان/ 41، 42] والمسألة يدل عليها قوله: ولا يسئل حميمٌ حميماً [المعارج/ 10].
وقد روي أنّ بعضهم قرأ: يوم التّناد [المؤمن/ 32] وكأنه اعتبر يوم يفرّ المرء من أخيه، فجعل التنادّ تفاعلا من ندّ البعير: إذا شرد ونفر، وليس ذلك بالوجه، ألا ترى أنه ليس يسهل أن تقول: نددت من ما لزمك، ولا ناددت منه، كما تقول: فررت منه؟ ونرى سيبويه يستعمل في هذا المعنى فرّ كثيرا، ولا يستعمل ندّ، فليس هذا الاعتبار إذا بالوجه. وأما
[الحجة للقراء السبعة: 2/30]
التنادي الذي عليه الكثرة والجمهور، فإنه يدل عليه قوله: يوم يدع الدّاع إلى شيءٍ نكرٍ [القمر/ 6] وقوله: يوم ندعوا كلّ أناسٍ بإمامهم [الإسراء/ 71] ويوم يدعوكم فتستجيبون بحمده [الاسراء/ 52]. فالتنادي أشبه بهذه الآي. ألا ترى أن الدعاء والنداء يتقاربان به، إذ نادى ربّه نداءً خفيًّا [مريم/ 3] فنادته الملائكة [آل عمران/ 39] وقال: فدعا ربّه أنّي مغلوبٌ [القمر/ 10] فقد استعمل كلّ واحد من النداء والدعاء في موضع الآخر، وليس التنادّ والفرار كذلك.
وأما قوله: (كلمات) فالكلمات: جمع كلمة، والكلمة:
اسم الجنس، لوقوعها على الكثير من ذلك والقليل، قالوا:
قال امرؤ القيس في كلمته، يعنون قصيدته، وقال قسّ في كلمته، يعنون خطبته. وقال ابن الأعرابي: يقال: لفلان كلمة شاعرة، أي: قصيدة. وقد قيل لكل واحد من الكلم الثلاث:
كلمة، فالكلمة كأنها اسم الجنس، لتناولها الكثير والقليل.
كما أن الليل لما كان كذلك وقع على الكثير منه أو القليل، فالكثير نحو قوله: وجعلنا اللّيل لباساً [النبأ/ 10] ومن رحمته جعل لكم اللّيل والنّهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [القصص/ 73] ومن ثمّ جعله سيبويه في جواب كم، إذا قيل: سير عليه الليل والنهار.
وأما وقوعه على القليل وما هو دون ليلة فنحو قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/31]
وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين وباللّيل [الصافات/ 137 - 138].
فكذلك الكلمة قد وقعت على القليل والكثير. فأما وقوعها على الكثير فنحو ما قدمناه، وأما وقوعها على القليل، فإنّ سيبويه قد أوقعها على الاسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد. فأما الكلام: فإن سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلّفا من هذه الكلم، فقال: لو قلت: إن يضرب يأتينا، لم يكن كلاما، وقال أيضا: إنما يحكى: فقلت ونحوه، ما كان كلاما، لا قولا. فأوقع الكلام على المتألّف، وعلى هذا الذي استعمله جاء التنزيل، قال تعالى: سيقول المخلّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتّبعكم يريدون أن يبدّلوا كلام اللّه قل لن تتّبعونا [الفتح/ 15] فالكلام المذكور هنا والله أعلم يعنى به قوله: فإن رجعك اللّه إلى طائفةٍ منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوًّا [التوبة/ 83] ألا ترى قوله: كذلكم قال اللّه من قبل [الفتح/ 15]. والكلمات المذكورة في قوله: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37] فيما فسّر هي قولهما: ربّنا ظلمنا أنفسنا الآية [الأعراف/ 22]. وسئل بعض سلف المسلمين عما يقوله المذنب، فقال: يقول ما قال أبوه:
ظلمنا أنفسنا وما قاله موسى: قال ربّ إنّي ظلمت نفسي [القصص/ 16] وما قاله يونس: لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين [الأنبياء/ 87]
[الحجة للقراء السبعة: 2/32]
وما قالته الملكة: إنّي ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان [النمل/ 44] وأما الكلمات في قوله تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ [البقرة/ 124] فالمراد بها انقياده لأشياء امتحن بها وأخذت عليه، منها: الكوكب، والشمس، والقمر، والهجرة، في قوله: إنّي مهاجرٌ إلى ربّي [العنكبوت/ 26] والختان، وعزمه على ذبح ابنه، فالمعنى: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بإقامة كلمات [أو بتوفية كلمات، والتقدير ذوي كلمات] أي: يعبّر بها عن هذه الأشياء المسمّيات وعلى هذا وصف في قوله: وإبراهيم الّذي وفّى [النجم/ 37].
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون الكلم المتكلّم به، كما أنّ الصيد هو المصيد، والضرب المضروب، والنسخ المنسوخ؟ فالقول: إنّ هذا إنما جاء في المصادر، وليس قولهم الكلم بمصدر. فإن قلت: فقد أجرى قوم من العلماء ما كان من بناء المصدر مجرى المصدر، واستشهدوا على ذلك بأشياء، منها قولهم:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا
[الحجة للقراء السبعة: 2/33]
فالقول: إنا لم نعلم لهم نصّا على ذلك. ومما ينبغي أن يحمل فيه الكلمات على الشرع كقوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ قوله: وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه [التحريم/ 12] فالكلمات والله أعلم تكون: الشرائع التي شرعت لها دون القول، لأن ذلك قد استغرقه قوله تعالى: وكتبه فكأن المعنى صدّقت بالشرائع فأخذت بها وصدّقت بالكتب فلم تكذّب بها. ومما يحمل من الكلم على أنّه قول، قوله تعالى: إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم [النساء/ 171] فهذا- والله أعلم- يعني به.
قوله: خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون [آل عمران/ 59] أي: قال من أجل خلقه: كن، فيكون، فسمّي كلمة لحدوثه عند قول ذلك.
وقوله: وتمّت كلمت ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [الأعراف/ 137] هي- والله أعلم- قوله: ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً الآية [القصص/ 5] وقوله: وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلًا لا مبدّل لكلماته [الأنعام/ 115] وهو كقوله: ما يبدّل القول لديّ [ق/ 29] أي: لا خلف فيه ولا تبديل له، والكلمات تقديرها: ذوي الكلمات أي ما عبر عنه بها من وعد ووعيد، وثواب وعقاب. وقوله: وألزمهم كلمة التّقوى
[الحجة للقراء السبعة: 2/34]
[الفتح/ 26] [حدثنا يوسف بن يعقوب الأزرق بإسناده] عن مجاهد، قال: لا إله إلا الله. وقد يجوز أن تكون كلمة التقوى: شرائعه، التي أمروا بالأخذ لها والتمسك بها. وأما قوله: واللّه أعلم بأعدائكم وكفى باللّه وليًّا وكفى باللّه نصيراً من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه [النساء/ 45 - 46].
فسألني أحد شيوخنا عنه، فأجبت بأنّ التقدير: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، فقوله: من الّذين هادوا متعلق بالنّصرة، كقوله: فمن ينصرنا من بأس اللّه إن جاءنا [المؤمن/ 29] أي: من يمنعنا؟ فيكون: يحرّفون الكلم- على هذا- حالا من الذين هادوا، تقديره: وكفى بالله مانعا لهم منكم محرّفين الكلم. وأكثر الناس فيما علمت يذهبون إلى أن المعنى: من الذين هادوا يحرّفون الكلم، أي: فريق يحرفون الكلم، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، كقوله: ومن آياته يريكم البرق [الروم/ 24] أي:
أنه يريكم فيها البرق، أو يريكموها البرق، وهذا أشبه لقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/35]
ومن الّذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقومٍ آخرين لم يأتوك، يحرّفون الكلم [المائدة/ 41] فكما أن يحرفون في هذه الآية صفة لقوله: سمّاعون كأنه قال: ومن الذين هادوا فريق سمّاعون للكذب، أي: يسمعون ليكذبوا فيما يسمعونه منه، ويحرّفونه عنه، سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم.
فكما أن يحرفون هنا، صفة لقوله: سمّاعون، كذلك يكون في الآية الأخرى. فإن قلت: فلم لا يكون حالا من الضمير الذي في قوله: لم يأتوك؟ فإن ذلك ليس بالسهل في المعنى، ألا ترى أن المعنى: ومن الذين هادوا فريق يسمعون من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ليكذبوا فيما يسمعونه، ويحرفون بكذبهم فيه، فإذا كان كذلك لم يكن حالا من الضمير الذي في: لم يأتوك، لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا فيحرفوا، فإذا كان كذلك، كان وصفا ولم يكن حالا، وتكون، يحرفون: على قياس ما قلناه، في قوله: وكفى باللّه نصيراً، من الّذين هادوا يحرّفون [النساء/ 45 - 46] حالا من الضمير الذي في اسم الفاعل، كأنه: سمّاعون محرفين للكلم، أي: مقدرين تحريفه، كقوله: معه صقر صائدا به غدا. وهدياً بالغ الكعبة [المائدة/ 95] وقد يجوز أن يكون التحريف المعنيّ بقوله:
من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه [النساء/ 46] ما كانوا يقصدونه في قولهم: راعنا [البقرة/ 104] من السّب، وخلاف ما يقصده المسلمون، إذا خاطبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من المراعاة. قال أبو زيد: «قال الصّقيل: ما كلّمت فلانا إلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/36]
مشاورة، تقول: أشرت إليه وأشار إليّ» فهذا على أمرين:
أحدهما: أن يكون استثناء منقطعا، والآخر على: كلامك المشاورة، كقولك: عتابك السيف. فأما النطق والمنطق فكان القياس في المنطق فتح العين، لأنه من نطق، لكنه قد جاء على الكسر كما قال: إليّ مرجعكم [آل عمران/ 55، لقمان/ 15] وقال: ويسئلونك عن المحيض [البقرة/ 222] وقد استعمل رؤبة الكلام في موضع النطق فقال:
لو أنني أوتيت علم الحكل... علم سليمان كلام النمل
فهذا إنما أراد به قوله: وورث سليمان داود وقال يا أيّها النّاس علّمنا منطق الطّير [النمل/ 16] فعبّر بالكلام بما عبّر عنه بالمنطق. وقول أوس:
ففاءوا ولو أسطو على أمّ بعضهم... أصاخ فلم ينطق ولم يتكلّم
على هذا تكرير وقال: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [الأنبياء/ 65] لأنها جماد لا كلام لها. وقال: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون
[الحجة للقراء السبعة: 2/37]
[النور/ 24] والشهادة: كلام وقول. وقال: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا اللّه الّذي أنطق كلّ شيءٍ [فصلت/ 21].
ومن ذلك قوله: يومئذٍ يودّ الّذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثاً [النساء/ 42] لأن ما ذكر من جوارحهم تشهد عليهم، فقيل: لا يكتمون، لمّا كان إظهار ذلك وإبداؤه بجوارحهم.
والقول، والكلام، والمنطق، يستعمل كل واحد من ذلك في موضع الآخر ويعبر بكل واحد منها كما عبر بالآخر، قال:
وأنّهم يقولون ما لا يفعلون [الشعراء/ 226] وقال: علّمنا منطق الطّير [النمل/ 16] وقال عن الهدهد: فقال أحطت بما لم تحط به [النمل/ 22] فأما قوله: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ [الجاثية/ 28] فهو في المعنى: كقوله: مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلّا أحصاها [الكهف/ 49] وقوله: وكلّ شيءٍ أحصيناه كتاباً [النبأ/ 29] أي: كل شيء من أعمالهم، كما قال: وكلّ شيءٍ فعلوه في الزّبر، وكلّ صغيرٍ وكبيرٍ مستطرٌ [القمر/ 52 - 53] وقال: أحصاه اللّه ونسوه [المجادلة/ 6] وقال: وكلّ إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً [الإسراء/ 13] وقال: هنالك تبلوا كلّ نفسٍ ما أسلفت [يونس/ 30].
وأنشد أبو الحسن:
[الحجة للقراء السبعة: 2/38]
صدّها منطق الدّجاج عن القص*- د وصوت الناقوس فاجتنبتنا وأنشد:
فصبّحت والطير لم تكلّم خابية طمّت بسيل مفعم وقال:
فلم ينطق الديك حتى ملأ... ت كوب الرّباب له فاستدارا
فوضع كلّ واحد من الكلام والنطق موضع الصوت في قوله:
لمّا تذكّرت بالدّيرين أرّقني... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
وإنما يعني: انتظاره صوت الديكة. ولم نر النطق مسندا إلى القديم. كما أضيف إليه الكلام في قوله: حتّى يسمع كلام اللّه [التوبة/ 6] وقد جاءت هذه الكلمة في اللغة فيما يطيف بالشيء ويحيط به كقوله: النّطاق والمنطقة. وقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/39]
من خمر ذي نطف أغنّ منطّق... وافى بها لدراهم الأسجاد
فإذا كان كذلك لم يكن قول أوس: «لم ينطق ولم يتكلّم» تكريرا، وكان كلّ واحد منهما لمعنى غير الآخر.
وأنشد بعض البغداذيين:
فإن تنطق الهجراء أو تشر في الخنا... فإنّ البغاث الأطحل اللّون ينطق
فأسند إلى البغاث النطق.
الإعراب
الأفعال المتعدية إلى المفعول به على ثلاثة أضرب:
منها ما يجوز فيه أن يكون الفاعل له مفعولا به. ومنها: ما يجوز أن يكون المفعول به فاعلا له، نحو: أكرم بشر بكرا، وشتم زيد عمرا وضرب عبد الله زيدا.
ومنها: ما لا يكون فيه المفعول به فاعلا له نحو: دققت
[الحجة للقراء السبعة: 2/40]
الثوب، وأكلت الخبز، وسرقت درهما وأعطيت دينارا، وأمكنني الغوص.
ومنها: ما يكون إسناده إلى الفاعل في المعنى، كإسناده إلى المفعول به، وذلك نحو: أصبت، ونلت، وتلقّيت، تقول: نالني خير، ونلت خيرا، وأصابني خير، وأصبت خيرا، ولقيني زيد، ولقيت زيدا، وتلقاني، وتلقيته، قال:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا... أصبت حليما أو أصابك جاهل
وقال: وقد بلغني الكبر [آل عمران/ 40] وقد بلغت من الكبر عتيًّا [مريم/ 8]. وكذلك: أفضيت إليه، وأفضى إليّ، وقال: وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ [النساء/ 21]. وإذا كانت معاني هذه الأفعال على ما ذكرنا، فنصب ابن كثير لآدم ورفعه الكلمات في المعنى، كقول من رفع آدم ونصب الكلمات.
ومن حجّة من رفع: أنّ عليه الأكثر، ومما يشهد للرفع قوله: إذ تلقّونه بألسنتكم [النور/ 15] فأسند الفعل إلى المخاطبين والمفعول به كلام يتلقّى، كما أنّ الذي تلقّاه آدم كلام متلقّى. فكما أسند الفعل إلى المخاطبين، فجعل التلقّي
[الحجة للقراء السبعة: 2/41]
لهم، كذلك يلزم أن يسند الفعل إلى آدم، فيجعل التّلقّي له دون الكلمات. ومن ذلك قول القائل: في آيات تلقّيتها عن عمّي، تلقّاها عن أبي هريرة. فجعل الكلام مفعولا به، وأسند الفعل إلى الآخذ له دون الكلام، فكذلك ينبغي أن يكون في الآية.
ومما يقوّي الرفع في آدم أنّ أبا عبيدة قال في تأويل قوله: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37] أي: قبلها.
فإذا كان آدم القابل، فالكلمات مقبولة. ومثل هذه الآية في إسناد الفعل فيها مرّة إلى الكلمات ومرة إلى آدم قوله: لا ينال عهدي الظّالمين [البقرة/ 124] وفي حرف عبد الله فيما قيل:
(لا ينال عهدي الظالمون) فلمن رفع أن يقول: ولا ينالون من عدوٍّ نيلًا [التوبة/ 120] فأسند الفعل إليهم، ولم يقل: ولا ينالهم من عدو نيل، والنّيل: يكون مصدرا كالبيع. ويكون الشيء الذي ينال، مثل الخلق، والصّيد، وضرب الأمير. وقوله:
تفرجة القلب قليل النيل.
يجوز أن يكون المعنى: قليل ما ينال، كما يقال: قليل الكسب، ويكون قليل النيل: قليل ما ينيل، وكلاهما ذمّ.
وقال: لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون [آل عمران/ 92].
[الحجة للقراء السبعة: 2/42]
وحجّة من قرأ بالنصب قوله: لا ينالهم اللّه برحمةٍ [الأعراف/ 49] ولم يقل لا ينالون الله برحمة كما قال: ولكن يناله التّقوى منكم [الحج/ 37] فكما أسند الفعل إلى التقوى دون اسم الله سبحانه، كذلك كان يمكن لا ينالون الله برحمة أي: مرحوما به، يرحمون عباده به، وكأنّ المعنى في: لن ينال اللّه لحومها [الحج/ 37] لن ينال قربة الله أو ثواب الله قربة لحومها ودمائها، أو ثوابهما، لأن ذلك ليس بقربة على حدّ ما يتقرّبون به، ويتنسّكون فلا يقبله، ولا يثيب عليه، من حيث كان معصية، ولكن يقبل من ذلك ما كان عن تقوى الله وطاعته دون ما كان من المعاصي التي قد كرهها ونهى عنها. وكأنّ المراد بينال: معنى القبول. كما قال: ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات [التوبة/ 104] فمعنى قبوله التوبة أن يبطل به ما كان يستحقّ من العقوبات التي تكفّرها التوبة، وأخذ الصّدقات هو الجزاء عليها والإثابة من أجلها). [الحجة للقراء السبعة: 2/43]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فتلقى آدم من ربه كلمات} 37
قرأ ابن كثير فتلقى آدم نصب كلمات رفع جعل الفعل للكلمات لأنّها تلقت آدم عليه السّلام وحجته أن العرب تقول تلقيت زيدا وتلقاني زيد والمعنى واحد لأن من لقيته فقد لقيك وما نالك فقد نلته
[حجة القراءات: 94]
وقرأ الباقون {فتلقى آدم من ربه كلمات} آدم رفع بفعله لأنّه تلقى من ربه الكلمات أي أخذها منه وحفظها وفهمها والعرب تقول تلقيت هذا من فلان المعنى إن فهمي قبلها منه وحجتهم ما روي في التّفسير في تأويل قوله {فتلقى آدم من ربه كلمات} أي قبلها فإذا كان آدم القابل فالكلمات مقبولة). [حجة القراءات: 95]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (21- قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات} قرأه ابن كثير بنصب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/236]
«آدم» ورفع «كلمات» وقرأه الباقون برفع آدم، ونصب «الكلمات» والتاء مكسورة في حال النصب، على سنن العربية.
وعلة من نصب «آدم» ورفع «الكلمات» أنه جعل الكلمات استنقذت «آدم» بتوفيق الله له، لقوله إياها، والدعاء بها، فتاب الله عليه، وأيضًا فإنه لما كان الله، جل ذكره، من أجل الكلمات تاب الله عليه، بتوفيقه إياه لقوله لها كانت هي التي أنقذته، ويسرت له التوبة من الله، فهي الفاعلة، وهي المستنقذ بها، وكان الأصل أن يقال على هذه القراءة: فتلقت آدم من ربه كلمات لكن لما كان بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث، وهو أصل يجري في كل القرآن، إذا جعل فعل المؤنث بغير علامة، وقيل: إنما ذكر، لأنه محمول على المعنى؛ لأن الكلام والكلمات واحد، فحمل على الكلام فذكر، وقيل: ذكر لأن تأنيث الكلمات غير حقيقي؛ إذ لا ذكر لها من لفظها، وبذلك قرأ ابن عباس ومجاهد وأهل مكة.
22- وعلة من قرأ برفع «آدم» ونصب «الكلمات» أنه جعل «آدم» هو الذي تلقى الكلمات؛ لأنه هو الذي قبلها ودعا بها، وعمل بها، فتاب الله عليه، فهو الفاعل لقبوله الكلمات، فالمعنى على ذلك، وهو الخطاب وفي تقديم «آدم» على الكلمات تقوية أنه الفاعل، وقد قال أبو عبيد في معنى {فتلقى آدم من ربه كلمات} معناه: قبلها، فإذا كان آدم قابلا فالكلام مقبول، فهو المفعول وآدم الفاعل، وعليها الجماعة، وهي قراءة الحسن والأعرج وشيبة وأهل المدينة وعيسى بن عمر والأعمش، وهي قراءة العامة، وهي اختيار أبي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/237]
عبيد وغيره). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/238]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (15- {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [آية/ 37]:-
بنصب {آدَمَ} ورفع الكلمات، قرأها ابن كثير وحده.
ووجهه أن {تَلَقّى} من الأفعال التي مفعولها فاعل، وفاعلها مفعول، وذلك لأنك إذا أسندتها إلى أيهما شئت لا يتغير المعنى، وذلك نحو: أصبت خيرًا وأصابني خير، ونلت مالاً ونالني مال، وتلقيت زيدًا وتلقاني زيد؛ لأن ما تلقيته فقد تلقاك، فإذن هذه وقراءة الجمهور سواءً في المعنى.
وقرأ الباقون {آدَمُ} بالرفع و{كَلِمَاتٍ} بالنصب، وهو أقوى وأحسن في العربية؛ لأن التلقي ههنا بمعنى التلقن والقبول، فآدم هو القابل والمتلقن، والكلمات مقبولة متلقنة، يؤيد ذلك قوله تعالى {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} فأسند الفعل إلى المخاطبين، وجعل القول مفعولاً به). [الموضح: 269]

قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (38)
فالقراءة بتنوين (فلا خوفٌ).
قال أبو منصور: وهو الجيد عند النحويين، المختار إذا تكرر حرف النفي، وقرأ يعقوب وحده (فلا خوف) وهو جائز في العربية، وإن كان المختار ما عليه الجماعة). [معاني القراءات وعللها: 1/148]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (28- وقوله تعالى: {فمن اتبع هداي}
اتفق القراء السبعة على فتح الياء من {هداي} لالتقاء الساكنين، وهما الألف والياء، ففتحت الياء على أصل الكلمة، ومثله: {بشراي}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/83]
{ومحياي} إلا ورشًا فإنه روى عن نافع {هداي} {وبشراي} بإسكان الياء، وإنما جمع بين ساكنين؛ لأن الألف قبل الياء حرف لين، كما فعل ذلك أبو عمرو في قوله {واللائي يئسن} بإسكان الياء، والاختيار فتح الياء، ومما لا يجوز ...... بحذف الياء الأخيرة، وقد ذكرته في (الأعراف).
وأما قوله: {وقولوا للناس حسنا} بالتنوين فالألف في الوقف عوض من التنوين ولا يجوز الإمالة فيها، قال الأخفش: وقرأ بعضهم {وقولوا للناس حسنى}، مثل: {ولله الأسماء الحسنى}، جعلها ألف التأنيث، قال البصريون: هذا غلط؛ لأن الاسم الذي على (فعلى) لا يجوز إلا بالألف واللام مثل: الصغرى والكبرى.
قال أبو عبد الله: قد يجوز؛ لأن الخليل وسيبويه ذكرا أن قوله: {وأخر متشابهات} جمع أخرى ولم يصرف آخر لأنه معدول من الألف واللام فيجوز أن يكون (حسنى) معدولاً، وقوله: {قولوا للناس حسنا} اليهود والنصارى، أي: لا تجادلوهم إلا بالتي هي أحسن. وقال آخرون: يعني جميع الناس.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/84]
قال أبو عبد الله: والاختيار {وقولوا للناس حسنا} وإن كان حمزة قد قرأ {حسنى} لأن جعفر بن محمد عليهما السلام سأل رجلاً كيف تقرأ: {وقولوا للناس حسنا} أو {حسنى} فقال: ابن سيرين أقرأني {حسنا} فقال: أما نحن معشر أهل البيت فنقرأ {حسنى}.
وأما قوله: {ولا ءآمين البيت الحرام} فالياء التي قبل النون علامة الجميع، وقرأ الأعمش {ولا ءآمي البيت الحرام} مثل: {حاضري المسجد الحرام} فأسقط النون للإضافة، والياء سقطت لسكونها ولسكون اللام لفظًا، وتثبت خطا، فالوقف على هذه القراءة {آمي} بالياء، ولولا خلاف المصحف لكانت قراءة جيدة.
وأما قوله: {من نبإي المرسلين} و{من تلقائي نفسي} فكتبتا في المصحف {من نباي} و{تلقاي} بالياء، وقد ذكرت علته في (الأعراف).
وأما قوله: {وهو عليهم عمى} فالوقف عليها بالألف ولا تكون عوضًا في التنوين، وهي لام الفعل أصلية، والأصل: عمي، فانقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
وقرأ ابن عباس: {وهو عليهم عم} فعلى هذه القراءة هي بالألف، وأما قوله: {يا ويلتا أعجزت} هذه الألف مبدلة من ياء والأصل يا ويلتي، كما قالوا: «يا ربي» و«يا ربا»، و«يا عجبي»، و«يا عجبا»، و«يا حسرتي»
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/85]
و «يا حسرتا»، فأما قوله: {يا أبت إني رأيت} فيجوز أن يكون أراد: «يا أبتي» ثم قلب فقال: «يا أبتا ثم حذف الألف».
ويجوز أن يكون أراد: «يا أبتاه».
وفيه قول ثالث: قال قطرب: أراد يا أبتا بالتنوين فحذف، كما قال الشاعر:
* يا دار أقوت بعد ساكنيها *
أراد: دارًا، وقال غيره من البصريين: أخطأ قطرب: لأن المنادي، المنكور منصوب معرب منون، ولا يجوز حذف التنوين فالرواية:
* يا دار أقوت .... *
بالرفع. وأما قوله: {هذا صراط علي مستقيم} الياء الأخيرة ياء الإضافة أدغمت فيها الياء الأولى التي في {على} وقرأ ابن سيرين: {صراط علي مستقيم} أي: رفيع، فالياء في هذه القراءة مبدلة من واو، والأصل: عليو، لأنه من علا يعلو فانقلبت الواو ياء، لسكون الياء، وأدغمت الياء في الياء. وأما قوله: {إنها لإحدى الكبر} «فإحدى» مونثة أحد، والياء التي في آخرها ألف مقصورة علامة التأنيث، وقرأ ابن كثير {لاحدى الكبر} بغير همزة، حدثنا بذلك ابن مجاهد، عن ابن أبي خيثمة، وإدريس، عن
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/86]
خلفٍ؛ عن أهل مكة كأنه حذف الهمزة اختصارًا و{نذيرًا للبشر} نصب على الحال، وقال الفراء: معناه: قم يا محمد نذيرًا للبشر، وفي قراءة أُبَيِّ {نذير للبشر} بالرفع.
وكل ما ورد في القرآن من نحو هذا فيجوز فيه الرفع على البدل، والنصب على الحال، والمدح والذم كقوله: {إنها لظى * نزاعة للشوى} و{نزاعة} و{إن هذه أمتكم أمة واحدة}، قرأ الحسن: {أمة واحدة} وأما قوله: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى} أي: مختلفة متفرقة، فالياء في آخر {شتى} ألف مقصورة علم التأنيث، وقرأ عبد الله: {وقلوبهم أشت} أي: أشد اختلافًا، وفي هذه السورة حرفان أيضًا عن عبد الله، {خالدان فيها} وفي قراءتنا {خالدين} لأن الخبر إذا وقع بين
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/87]
صفتين متفقتين كان الاختيار فيه النصب كقولك: إن زيدًا في الدار قائمًا فيها، ويجوز الرفع عند البصريين، ولا يجوز عند الكوفيين الرفع إلا مع الصفة المختلفة كقولك: إن زيدًا في الدار راغب فيك.
والحرف الثاني: {ولا تجعل في قلوبنا غمرا للذين آمنوا} وفي قراءتنا: {غلا}.
وحرف ثالث عن ابن مسعود: {أو تركتموها قوما}.
وأما قوله: {ولا يأتل أولو الفضل منكم} يفتعل من الألية وهو القسم، سقطت الياء للجزم، وقرأ أبو جعفر المدني {ولا يتأل أولو الفضل منكم} بفتح اللام، فالألف ساقطة للجزم في هذه القراءة والأصل: يتألى يتفعل من الألية أيضًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يتأل على الله يكذبه» وتقول العرب في الإيلاء من قوله: {للذين يؤلون من نسائهم} الألوة والألوة والألية، وفي العود يقال: مجامرهم الألوة بتشديد الواو.
حدثني ابن عرفة قال: حدثنا محمد بن يونس، عن الأصمعي قال:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/88]
اطلع أعرابي في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ألا دفنتم رسول الله في سفط = من الألوة أحوى ملبسًا ذهبا
يقال للعود الذي يتبخر به الكباء والمندل والألوة، والمجمر والقطر، قال امرؤ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام = وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها = إذا طرب الطائر المستحر
وأما قوله {سرابيلهم من قطران} فالقطران اسم واحد آخره نون مثل الظربان وهي: دويبة منتنة الريح، ومن قرأ على قراءة عكرمة: {من قطر آن} فالقطر: النحاس، والآني: الذي قد انتهى حره، من قوله تعالى: {من عين آنية} أي: حارة، ففي هذه القراءة آخر الاسم ياء سقطت لسكونها وسكون التنوين مثل {فاقض ما أنت قاض}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/89]
حدثني ابن مجاهد عن السمري عن الفراء عن أبي بكر بن عياش عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قرأ: {قطر آن}.
وأما قوله: {واستوت على الجودي} بتشديد الياء فهو (فُعْلِيٌّ) مثل: بُخْتِيّ وكرسي وهو اسم جبلٍ. ذكر الفراء أن بعضهم. قرأ {على الجودي} بإرسال ........................................................................................................................................................
كانت عاملة جعلت «لا» عاملة، ولما كانت جوابا لـ «هل» ولم تعملها إذ كانت «هل» غير عاملة، فإذا رفعت نوَّنتَ، وإذا نصبتَ لم يجز التنوين، أعني فيما ولى «لا» وقد مرَّت علَّةُ هذا في قوله: {فلا رفث ولا فسوق}.
فإن سأل سائل فقال: فإن كان الأمر على ما قد زعمت فما وجه قول جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي = فلا عيا بهن ولا اجتلابا؟
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/90]
فالجواب في ذلك: ما قال سيبويه: إن عيا واجتلابا هما مصدران، ومعناه: فلا أعيا عيا ولا أجتلب اجتلابا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/91]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي الطفيل، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعاصم الجحدري، وعيسى بن عمر الثقفي: [هُدَيَّ].
قال أبو الفتح: هذه لغة فاشية في هذيل وغيرهم؛ أن يقلبوا الألف من آخر المقصور إذا أضيف إلى ياء المتكلم ياء. قال الهذلي:
سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا لهواهم ... فتُخِرِّمُوا ولكل جنب مَصْرَعُ
وروينا عن قطرب قول الشاعر:
يطوف بي عِكَبٌّ في مَعَدٍّ ... ويطعن بالصُّمُلَّة في قَفَيَّا
فإن لم تَثْأَرَا لي من عِكَبٍّ ... فلا أرويتما أبدًا صَدَيَّا
قال لي أبو علي: وجه قلب هذه الألف لوقوع ياء ضمير المتكلم بعدها، أنه موضع ينكسر فيه الصحيح، نحو: هذا غلامي، ورأيت صاحبي، فلما لم يتمكنوا من كسر الألف قلبوها ياء، فقالوا: هذه عَصَيّ، وهذا فتيّ؛ أي: عصاي وفتاي، وشبهوا ذلك بقولك: مررت بالزيدين، لما لم يتمكنوا من كسر الألف للجر قلبوها ياء، ولا يجوز على هذا أن تقلب ألف التثنية لهذه الياء، فتقول: هذان غلاميّ؛ لما فيه من زوال علم الرفع، ولو كانت ألف عصا ونحوها علمًا للرفع لم يجز فيها عصَيّ.
[المحتسب: 1/76]
ومنهم من يبدل هذه الألفات في الوقف ياءات، فيقول: هذه عصيْ، ورأيت حبليْ، وهذه رَجَيْ؛ أي: الناحية؛ يريد رجًا.
ومنهم من يبدلها في الوقف أيضًا واوًا، فيقول: هذه عَصَو وأَفعَو وحُبَلَو.
ومنهم من يبدلها في الوصل واوًا أيضًا، فيقول: هذه حُبْلَو يا فتى.
ومن البدل في الوقف ياء ما أنشده بعض أصحابنا؛ وهو محمد بن حبيب:
إن لِطيٍّ نسوة الفَضيْ ... يمنعهن الله ممن قد طغيْ
بالمشرفيات وطعن بالقَنيْ ... يا حبذا جفانك ابن قَحْطَبيْ
وحبذا قدورك الْمُنْصَّبيْ ... كأن صوت غليها إذا غَلَيْ
صوت جمال هَدَرَيْ فَقَبْقَبيْ
أراد: ابن قحطبة، فإما أن يكون حذف الهاء للترخيم في غير النداء، فبقيت الباء مفتوحة، فأشبع الفتحة للقافية؛ فصارت قحطبًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وإما أن يكون أبدل الهاء ألفًا؛ فصارت قحطبة إلى قحطبا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وعلى ذلك يجوز أيضًا أن يكون قوله:
كفعل الْهِرِّ يحترِشُ العَظايا
أراد: العَظَاية، ثم أبدل الهاء ألفًا؛ فصار العظايا.
وإن شئت قلت: شبه ألف النصب بهاء التأنيث فقال: العظايا، كما تقول: العظاية، وهذا قول أبي عثمان.
[المحتسب: 1/77]
وفيه قول لي ثالث؛ وهو أن يكون العَظايا جمع عَظَاية على التكسير، كما تقول في حمامة حمائم، فعظايا على هذا كمطايا وحوايا جمع حَوِيَّة.
وأما قوله: الْمُنَصَّبَيْ فأراد المنصبة، فأبدل الهاء ألفًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، ولا يجوز أن يكون أراد هنا الترخيم؛ لأنه فيه لام التعريف، وما فيه هذه اللام فلا يجوز نداؤه أصلًا، فهو من الترخيم أبعد، وهذا يفسد قول من قال في قول العجاج:
أَوالِفًا مكة من وُرْقِ الْحَمِي
إنه أراد الحمام ثم رخم؛ لأن ما فيه لام التعريف لا يُنادى اصلًا فكيف يرخم؟
وأما قوله: هَدَرَيْ، فإنه أراد هدر، ثم أشبع الفتحة على حد قوله:
ينباع من ذِفرى غضوب جَسْرَةٍ
فصار هدَرَا، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فقال: هدَرَيْ.
وكذلك قوله: قَبْقَبيْ أراد قبقب، ثم أشبع فصار قبقبا، وعلى هذا التخريج يسقط قول سيبويه عن يونس في قوله محتجًّا عليه بقول الشاعر:
دعوت لما نا بني مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْورِ
[المحتسب: 1/78]
قال سيبويه: لو كان لبيك اسمًا واحدًا -كما يقول يونس، وإنما قُلب في لبيك لاتصاله بالمضمر كما يُقلب في إليك وعليك -لما قال: فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ، ولقال: فَلَبَّى يدَيْ مِسْوَرِ، على حد قولك: على يَدَيْ فلان، وإلى يَدَيْ جعفر، فثبات الياء مع المظهر يدلك على أنه لم يقلب في لبيك على حد ما قلب في إليك وعليك، وفي ذلك رد لقول يونس: إن لبيك مفرد كإلبيك وعليك.
قال أبو علي: يمكن يونس أن يقول: إنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فكما تقول في الوقف: عَصيْ وفَتيْ كذلك قال: فَلَبَّيْ، ثم وصل على ذلك، هذا ما قاله أبو علي.
وعليه أن يقال: كيف يحسن تقدير الوقف على المضاف دون المضاف إليه؟
وجوابه: أن ذلك قد جاء، إلا ترى إلى ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
ضَخْمٌ نجارى طيِّب عُنْصُرِّي
أراد: عنصري، فثقَّل الراء لنية الوقف، ثم أطلق بالإضافة من بعد.
نعم، وإذا جاز هذا التوهم مع أن المضاف إليه مضمر، والمضمر المجرور لا يجوز تصور انفصاله، فأن يجوز ذلك مع المظهر الذي هو "يَدي" أولى وأجدر، من حيث كان المظهر أقوى من المضمر.
ومثله قوله:
يا ليتها قد خرجت من فَمِّه
أراد: من فمه، ثم نوى الوقف على الميم فثقلها، على حد قوله في الوقف: هذا خالدّ، وهو يجعلّ، ثم أضاف على ذلك فهذا كقولهم: عنصرِّي.
ويُروى من فُمِّه بضم الفاء أيضًا، وفيه أكثر من هذا). [المحتسب: 1/79]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
قرأ ورش عن نافع {فمن تبع هداي} ساكنة الياء وقرأ الباقون بفتح الياء وإنّما فتحت لأنّها أتت بعد ساكن واصلها الحركة الّتي هي الفتح وقد ذكرته عند قوله إنّي أعلم). [حجة القراءات: 95]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (16- {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [آية/ 38]:
بالفتح من غير تنوينٍ، قرأها يعقوب وحده في جميع القرآن.
[الموضح: 269]
ووجهه أنه أراد نفي جميع أنواع الخوف؛ لأن {لا} إذا بني مع النكرة على الفتح كان النفي به عامًا نحو: لا رجل في الدار، فإنه نفي كون جميع أجناس الرجال في الدار؛ لأنه جواب: هل من رجل في الدار؟، فكما أن: هل من رجل في الدار عام في الاستفهام، كذلك: لا رجل، عام في النفي، فإذن {لا خوف} آكد في نفي الخوف، لما فيه من عموم النفي بجنس الخوف.
وقرأ الباقون {لا خَوْفٌ} بالرفع والتنوين، على الابتداء؛ لأنه يكون جواب: هل فيه خوف؟
والمعنيان يتقاربان في أن الفي يراد به العموم والكثرة؛ لأن النكرة فيها عموم، وإذا كانت في النفي فلا نظر في كونها عامة، يدل على ذلك قول أمية:-
7- فلا لغو ولا تأثيم فيها = وما فاهوا به أبدًا مقيم
[الموضح: 270]
لأنه أراد من نفي اللغو ما أراده من نفي التأثيم). [الموضح: 271]

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:31 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة