العودة   جمهرة العلوم > جمهرة علوم القرآن الكريم > توجيه القراءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 10:42 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي توجيه القراءات في سورة الفاتحة

توجيه القراءات في سورة الفاتحة


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 10:46 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي مقدمات سورة الفاتحة

مقدمات توجيه القراءات في سورة الفاتحة
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (القراءة في سورة فاتحة الكتاب). [معاني القراءات وعللها: 1/108]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): ( (فاتحة الكتاب) ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/47]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (فاتحة الكتاب). [الحجة للقراء السبعة: 1/7]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (سورة فاتحة الكتاب). [المحتسب: 1/49]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : (سورة فاتحة الكتاب). [حجة القراءات: 77]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : (1 - الفاتحة). [حجة القراءات: 77]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): («سورة الحمد»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/25]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (سورة الفاتحة). [الموضح: 229]

روابط مهمة:


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 10:49 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي الاستعاذة

الاستعاذة

قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (باب علل الاستعاذة
1- قال أبو محمد: إن سأل سائل فقال: لأي شيء جيء بالاستعاذة في أول الكلام؟
فالجواب أن الاستعاذة دعاء إلى الله جل ذكره واستجارة به من الشيطان، وامتثال لما أمر به نبيه عليه السلام إذ قال له في كتابه: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} «النحل 98».
2- فإن قيل: فما معنى الاستعاذة، وما أصل «أعوذ»؟
فالجواب: أن معنى الاستعاذة الاستجارة والامتناع بالله من همزات الشياطين بدلالة قوله تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين} «المؤمنون: 97» والشيطان في الاستعاذة اسم للجنس يُراد به الشياطين بدلالة الجمع في الآية، فأما «أعوذ» فأصله «أعْوذُ» على وزن «أفعل» مثل «أدخل» فألقيت حركة الواو على العين، فسكنت الواو وانضمت العين بمنزلة «أقول»، وألف «أعوذ» ألف المتكلم في فعل ثلاثي في الماضي.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/7]
وعلة فتح الألف أنها أخت الياء والتاء والنون اللواتي يدخلن في الفعل المضارع للدلالة على الحال والاستقبال، فوجب حركة الألف كحركتهن إن فتحن فتحت الألف، وإن ضممن ضمت الألف، وكذلك قياس ألف المتكلم حيث وقعت.
3- فإن قيل: فهلا بقيت الواو مضمومة لسكون ما قبلها، وصحت كما صحت في قولهم: هذا دلو، لسكون ما قبلها؟
فالجواب أن سكون العين في «أعوذ» ليس بأصل كسكون اللام في «دلو»، وأصل العين الفتح في «عاذ»، وإنما سكنت العين لدخول الزوائد عليها، ولئلا تجتمع أربع حركات متواليات في «يضرب ويخرج» ونحوه، فلما كان سكون العين ليس بأصل لم يُعتد به، وأعلّت الواو. وأيضًا فإن الواو قد اعتلت في الماضي في «عاذ» فوجب أن تُعل في المستقبل اتباعًا، لئلا يختلف حكم الفصل.
4- فإن قيل: فما الاختيار في الاستعاذة؟
فالجواب أن الذي عليه العمل، وهو الاختيار أن يقول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وعلة اختيار ذلك ما وقع في النص بلفظ الأمر الذي معناه الترغيب في قوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/8]
«النحل 98» فحضنا الله على قول {أعوذ بالله من الشيطان الرجيم} عند القراءة فعلينا امتثال هذا الذي رغبنا فيه عند افتتاح القراءة.
5- فإن قيل: فإن لفظ القرآن أتى بلفظ الأمر والحتم به، أذلك فرض على كل من قرأ القرآن أم لا؟
فالجواب أن لفظ الأمر في القرآن يأتي على وجوه كثيرة، ليس معناها الفرض والحتم، نحو قوله: {وإذا حللتم فاصطادوا} «المائدة 2» واللفظ لفظ الأمر ومعناه الإباحة، ومثله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا} «الجمعة 10» ويأتي لفظ الأمر ومعناه الندب والإرشاد كقوله: {وأنكحوا الأيامى منكم} «النور 32» و{فانكحوا ما طاب لكم من النساء} «النساء 3» وكذلك قوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} معناه الندب والإرشاد، ليس على الفرض والحتم.
6- فإن قيل: فإن ظاهر النص أن يتعوذ القارئ بعد القراءة لأنه قال: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} والفاء بعد ما قبلها تتبعه، هو أصلها.
فالجواب أن المعنى على خلاف الظاهر، معناه: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله، ودل على ذلك الإجماع أن الاستعاذة قبل القراءة، ودليل هذا المعنى قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا} «الأعراف 4» فوقع في ظاهر التلاوة أن مجيء البأس بعد الهلاك، وليس المعنى على ذلك، إنما معناه: وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا، فمجيء البأس بعد إرادة الهلاك وقبل الهلاك، وكذلك التعوذ المأمور به يكون بعد إرادة القراءة، وقبل القراءة على
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/9]
أصل الفاء.
7- فإن قيل: فمن أي شيء اشتق الشيطان، لعنه الله، وما وزنه، وما معناه؟
فالجواب أن اشتقاقه فيه قولان: أحدهما أنه مشتق من «شطن» إذا بعد، يقال: دار شطون، أي بعيدة، وبئر شطون، أي بعيدة القعر، فيكون وزنه على هذا «فيعالا»، سمي ذلك لبعده من رحمة الله، والقول الثاني أن يكون مشتقًا من «شاط يشيط» إذا هلك، فسمي بذلك لهلاكه بمعصيته وغضب الله عليهن فيكون وزنه على هذا «فعلان».
8- فإن قيل: فما معنى «الرجيم»؟
فالجواب أن فيه ثلاثة أقوال: الأول أن يكون بمعنى «مرجوم» وصف بذلك لأنه يرجم بالنجوم عند استراقه السمع، قال الله جل ذكره في الكواكب {وجعلناها رجومًا للشياطين} «الملك 5»، والثاني أن يكون بمعنى «المرجوم» أي: المشتوم على معصيته كما قال تعالى: {لئن لم تنته لأرجمنك} «مريم 46» أي: لأشتمنك، والثالث أن يكون بمعنى المرجوم أي: الملعون، ومعنى «الملعلون» المطرود المبعد من رحمة الله وجواره، ومنه قوله تعالى: {لعنه الله} «النساء 118» أي: أبعده من رحمته وطرده من جواره.
9- فإن قيل: فما وجه ما ذكرته في «كتاب التبصرة» أن خلفا روى عن
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/10]
حمزة أنه كان يُخفي التعوذ؟
فالجواب أنه إنما كان يفعل ذلك لئلا يظن ظان أو يتوهم متوهم أنه من القرآن، أو أنه فرض لازم فتعوذ في نفسه اتباعًا لحض الله على ذلك.
10- فإن قيل: فما وجه ما ذكرت أنه روى سليم عن حمزة أنه كان يخفي التعوذ والبسملة؟
فالجواب أن ذلك إذا صح، فمعناه أنه أخفاهما لئلا يظن ظان أنهما من القرآن فاكتفى بالإخفاء عن الإظهار، ولأنه إنما يقرأ عليه القرآن، ولذلك أخفى، والتعوذ والبسملة ليسا من القرآن ففرق بالإخفاء، بين ما ليس بقرآن وبين ما هو قرآن، وأما سائر القراء فأظهروهما إذ قد وقر في النفوس، وعُلم أنهما
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/11]
ليسا من القرآن، إنما هما للاستفتاح والدعاء والتبرك، وهو الاختيار، وعليه العمل عند القراء في سائر الأمصار.
11- فإن قيل: فما وجه ما ذكرته عن المسيبي عن نافع أنه ترك التعوذ والجهر بالبسملة؟
فالجواب أنه على معنى ما ذكرنا، أنه أخفاهما إذ ليسا من القرآن، ولئلا يظن ظان أنهما من القرآن، ذلك أنه أسقطهما مرة واحدة.
والمشهور عن نافع وغيره إظهارهما). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/12]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (الاستعاذة والبسملة
أما الاستعاذة: فالمرضي فيها المتلقى عن السلف، الموافق للتنزيل هو: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، جهرًا عند إرادة الابتداء بالقراءة، وإلى هذا ذهب أبو عمرو وعاصمٌ، وروي أيضًا عن كثير من العلماء.
ووجه ذلك أنا ندبنا إلى ذكر ذلك في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وليس فيه زيادةٌ على هذا، فينبغي أن لا يزاد عليه.
وروي أن رجلًا كان يقرأ على أبي بن كعب فقال: أعوذ بالله السميع العليم، فقال له: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كما أمرك الله حين يقول: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
[الموضح: 221]
والمراد بقوله تعالى: إذا قرأت القرآن: إذا أردت قراءة القرآن، كما قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة.
ولا يجوز أن يقال: المراد إذا فرغتم من قراءة القرآن؛ لأن الحمل على هذا يبطل المقصود؛ لأن المقصود من الاستعاذة عند القراءة هو أن يعيذنا سبحانه من أن يلقي الشيطان في تلاوتنا باطلًا، أو ما لا تجوز قراءته، أو يشغلنا بوساوسه عن التدبر له أو عن تلاوته، على غير الوجه المأمور به، وهذا بعد الفراغ من القراءة محالٌ، ويروى عن سليم عن حمزة أنه كان يتعوّذ بعد القراءة آخذًا بظاهر اللفظ، وهذه رواية مرغوبٌ عنها.
والشيطان هو إبليس، ووزنه عند بعضهم: فعلان، من تشيط النار، وهو التهابها، سمي بذلك؛ لأنه خلق من نارٍ، أو لأن مكايده وغوائله تتقد اتقاد النار، أو لأنه كالنار في تأثيره في الإنسان بالضرر، أو لأنه يصلى نار جهنم.
وقيل هو: فيعالٌ، من شطن إذا بعد؛ لأنه مبعد باللعنة، أو لأنه بعيدٌ عن الأبصار.
أما الرجيم فإنه الملعون المطرود، كأنه رجم باللعنة أي رُمي بها.
وقيل: هو الرجيم بالشهب، كما قال: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ}.
وقيل: هو فعيلٌ بمعنى فاعلٍ، أي يرجم بني آدم بالسيئات ويرميهم بالغوائل.
[الموضح: 222]
ورُوي عن ابن كثير، وروى أيضًا ش- عن نافع: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم.
ووجه هذا أنه غير مقصودٍ به إعادة لفظ القرآن؛ لأنا ما أمرنا إلا بمسألة الله تعالى أن يعيذنا عن شرّ الشيطان، فبأي لفظ، وعلى أي نظم سألناه ذلك أجزأنا، فليس اللفظ بمتعبدٍ به.
وروي عن حمزة: أستعيذُ بالله من الشيطان الرجيم، ونستعيذ أيضًا.
ووجهه أنه تعالى لما قال: {اسْتَعِذْ بِالله} فوجه امتثال هذا الأمر على لفظه أن يقال: أستعيذ بالله، كما لو قال: سل الله، فقال: أسأل الله.
وعن نافع وابن عامر والكسائي: أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم.
ووجه ذلك أن فيه التمسك بلفظ القرآن وما جاء فيه الأثر، ثم يتلوه ثناء على الله عز وجل، ووصف له بما هو مذكورٌ في القرآن، وتصريحٌ بأنه يسمع استعاذته ويعلم نيته، وهذا غير ممنوع جوازه.
وعن قوم آخرين: أعوذ بالسمع العليم، وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ووجهه ما ذكرنا في قراءة ابن كثير). [الموضح: 223]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 10:52 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي البسملة

البسملة

قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (باب علل البسملة
1- قال أبو محمد: إن سأل سائل عن الإتيان بالبسملة في أول القراءة بالسورة وما علته؟
فالجواب أنه أتي بالتسمية على إرادة التبرك بذكر أسماء الله وصفاته في أول الكلام ولثباتها للاستفتاح في المصحف، فهي للابتداء بالسورة فلا يوقف على التسمية دون أن توصل بأول السورة. وليست بآية من «الحمد» ولا من غيرها من السور عند مالك وغيره من العلماء. فأما من قال إنها آية من أول
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/13]
كل سورة، فتكون علته أنه أتى بها في تلاوته بأول سورة، ولأنها آية من كل سورة. ولثباتها في المصحف، وهو أحد قولي الشافعي وقول ابن المبارك، وسنذكر ضعف هذا القول إن شاء الله.
2- فإن قيل: ما معنى قولهم «التسمية والبسملة» ومما اشتقاقهما؟
فالجواب أن التسمية مصدر «سميت»، فقيل: «التسمية» في {بسم الله الرحمن الرحيم} لأنك سميت «الله» بأسمائه الحسنى، وذكرته في لفظك، فأما «البسملة» فهي مشتقة من اسمين من «بسم» ومن «الله»، فـ «بسم» ملفوظ به واللام من «الله» جل ذكره، وهي لغة للعرب، تقول: بسمل الرجل إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وحوقل الرجل وحولق إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهلل الرجل إذا قال: لا إله إلا الله، وهو كثير. وقد فعلوا ذلك في النسب فقالوا في «عبد الدار» «عبدري» وفي «عبد القيس» «عبقسي»
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/14]
فإن قيل: فما علة من فصل بين كل سورتين بالتسمية؟
فالجواب أن الذين فعلوا ذلك هم الحرميان إلا ورشا وعاصم والكسائي وعلتهم في ذلك أنهم اتبعوا خط المصحف، وأرادوا التبرك بابتداء أسماء الله، ولما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «اقرؤوا ما في المصحف»، ولأن بعض العلماء قد قال: إنها آية من أول كل سورة إلا «براءة» وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال ابن المبارك، وهو قول شاذ، لأنهم زادوا في
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/15]
القرآن مائة آية وثلاث عشرة آية، والقرآن لا تثبت فيه الزيادة إلا بالإجماع الذي قطع على غيبه، ولا إجماع في هذا، بل الإجماع قد سبق في الصدر الأول من الصحابة، وفي الصدر الثاني من التابعين على ترك القول بهذا.
4- فإن قيل: فما علة من أسقط التسمية بين كل سورتين ولم يثبت التسمية إلا في أول قراءته، وهو حمزة؟
فالجواب أنه لما كانت {بسم الله الرحمن الرحيم} ليست بآية من كل سورة عنده وعند جماعة الفقهاء أسقطها في وصله السورة بالسورة، لئلا يظن ظان أنها آية من أول كل سورة، فالقرآن عنده كله كالسورة الواحدة، فكما لا يفصل بين بعض سورة وبعض بالتسمية كذلك لا يفصل بين سورة وسورة بالتسمية، فأما ثباتها في المصحف فإنما ذلك ليُعلم فراغ سورة وابتداء أخرى.
5- فإن قيل: فما حجة من فصل بين كل سورتين بسكت؟
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/16]
فالجواب أنه لما ابتدأ بالتسمية في أول ابتدائه بالسورة ثم وصل السورة بالسورة، أراد أن يبين بالسكت بينهما أن الأولى قد تمت، وأنه ابتدأ بثانية، وبين أيضًا بحذفه التسمية أن التسمية ليست بآية من كل سورة، وفي إجماع أكثر القراء على حذف التسمية بين كل سورتين، وقبول قرن بعد قرن لذلك، وروايته ذلك عنهم دليل على أنها ليست بآية من كل سورة. فما كان الله ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على إسقاط مائة آية وثلاث عشرة آية من كتابه منذ ثلاثمائة سنة إلى أن تقوم الساعة، لا يرد ذلك أحد ولا ينكره، بل ينقله خلف عن سلف، ويروونه ويستعملونه في محاريبهم ويعلمونه الولدان، ولا أحد يعرف أنه أنكر ذلك.
6- فإن قيل: فما علة الاختيار لمن لم يفصل بين السورتين بالتسمية أن يفصل بالتسمية بين المدثر والقيامة، وبين الانفطار والمطففين، وبين الفجر ولا أقسم، وبين العصر والهمزة؟
فالجواب أن وصل آخر السورة بالسورة التي بعدها من هذه السور فيه قبح في اللفظ، فكره ذلك إجلالًا للقرآن وتعظيمًا له، ألا ترى أن القارئ يقول: {هو أهل التقوى وأهل المغفرة – لا أقسم} «المدثر 56، القيامة 1» فيقع لفظ النفي عقيب لفظ المغفرة، وذلك في السمع قبيح، ويقول: {والأمر يومئذ لله – ويل للمطففين} «الانفطار 19، المطففين 1» فيقع لفظ الويل عقيب اللفظ باسم
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/17]
الله جل ذكره، وذلك قبيح، وكذلك السور الأخر، فاختير لمن يفصل بالسكت بين كل سورتين أن يفصل بين هذه السور بالتسمية، ولمن لا يفصل بالسكت بين كل سورتين أن يفصل بين هذه السور بالسكت، وهو حمزة، وهو اختيار من المتعبين، ولهم حجة قوية في ذلك، روى مالك أن النبي عليه السلام سئل عن العقيقة فقال: «لا أحب العقوق»، قال مالك: فكأنه كره الاسم، يريد مالك أن فعل العقيقة جائز لم يكره النبي فعلها، وإنما كره لفظ اسمها، فانظر كيف كره النبي عليه السلام قبح اللفظ، وقد روي أن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد أحدهما وقال: من يطع الله جل وعز ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد رشد، ومن يعصهما»، ووقف على «يعصهما» فقال له النبي: «بئس الخطيب أنت»، وإنما قال له النبي ذلك لقبح لفظه في وقفه، إذ خلط الإيمان بالكفر في إيجاب الرشد لهما، وكان حقه أن يقول: ومن يعصهما فقد غوى، أو يقف على «رشد» ثم يبتدئ: ومن يعصهما فقد غوى، فانظر كيف كره النبي قبح وقفه ولفظه، وإن كان مراده الخير لم يقصد إلى شيء من الشر، وبهذا وبنحوه يُرغب في معرفة الوقف في كتاب الله على الكلام التام، ولهذا المعنى اخترت أنا في مواضع من الابتداء بالأحزاب أن لا يبتدأ بها، وأن
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/18]
يبتدأ بما قبلها، مثل الابتداء بأول الحزب في النساء في قوله: {الله لا إله إلا هو} «87» لأن القارئ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الله لا إله إلا هو، فيصل «الرجيم» بلفظ اسم الله، وذلك قبيح في اللفظ، فمنعت من ذلك إجلالًا لله وتعظيمًا له، ومثله أني منعت من الابتداء بأول الحزب في السجدة في قوله: {إليه يُرد علم الساعة} «47» لأن القارئ يقول: {من الشيطان الرجيم. إليه يرد علم الساعة}، فيصل ذلك بالشيطان، وذلك قبيح في اللفظ.
7- فإن قيل: فما العلة في حذفهم التسمية في المصاحف والقراءة بين براءة والأنفال؟
فالجواب أنها حذفت من القراءة لحذفها من المصحف، فأول «براءة» كأول عشر من السور، والتعوذ في الابتداء بها يكفي كما يفعل بالابتداء بالأعشار، فأما علة حذفها من المصحف فمختلف في ذلك، روي عن مالك أنه قال: إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة «بسم الله الرحمن الرحيم» لأنها سقط أولها يعني نُسخ، وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «براءة» من سورة الأنفال وسقط بينهما شيء لم نجده عند أحد يثبت، فلذلك لم نكتب في أولها «بسم الله الرحمن الرحيم» يريد عثمان أنه نُسخ من أولها
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/19]
شيء، وعن عثمان أيضًا أنه قال: لم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في براءة شيئًا، وكانت قصتها تشبه قصة الأنفال، وكانت من آخر ما نزل، فلذلك لم يكتب بينهما {بسم الله الرحمن الرحيم} ولم يأمر في سورة «براءة» بشيء، فلذلك ضمت إلى الأنفال، ولم يكتب بينهما {بسم الله الرحمن الرحيم} وكانت أولى بها لشبهها بها، وقال المبرد: إنما لم تكتب {بسم الله الرحمن الرحيم} في أول براءة لأن {بسم الله الرحمن الرحيم} خير و«براءة» أولها وعيد ونقض للعهود، وقال عاصم: لم يكتب {بسم الله الرحمن الرحيم} أول «براءة» لأنها رحمة، و«براءة» عذاب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/20]
وقال ابن لهيعة: يقولون «براءة» من الأنفال فكذلك لم يكتب أولها {بسم الله الرحمن الرحيم}، وقال الليث، وقال ابن عجلان: بلغني أن «براءة» كانت تعدل سورة البقرة أو قريبًا منها، فلذلك لم يكتب في أولها {بسم الله الرحمن الرحيم}، يريد ابن عجلان أنه نسخ منها ما نقص منها.
8- قال أبو محمد: فإن سأل سائل فقال: فما اختيارك في التسمية بين كل سورتين وتركها؟
فالجواب أن الذي أختاره لنفسي أن أفصل بين كل سورتين بالتسمية اتباعًا لخط المصحف، ولقول عائشة: «اقرؤوا ما في المصحف» ولإجماع أهل الحرمين وعاصم على ذلك، فإجماعهم على القراءة حجة أعتمد عليها في أكثر هذا الكتاب،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/21]
وليتبين بذلك أن السورة الأولى قد تمت وأن الثانية مبتدأ بها، ولقول أبي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا في أول كل سورة بـ {بسم الله الرحمن الرحيم} وللتبرك بالابتداء بذكر أسماء الله وصفاته.
9- قال أبو محمد: ولست ممن يعتقد أنها آية في شيء من القرآن إنما هي بعض آية في «النمل»، ومن قال: إنها آية في أول كل سورة فقد زاد في القرآن مائة آية وثلاث عشرة آية، ولم يقل بذلك أحد من الصحابة ولا من التابعين، فالإجماع قد حصل على ترك عدها آية من كل سورة، فما حدث بعد الإجماع من الصحابة والتابعين من قول منفرد محدث فقول مرفوض غير مقبول
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/22]
وأيضًا فقد أجمع أهل العدد من أهل الكوفة والبصرة ومكة والمدينة والشام على ترك عدها آية في أول كل سورة، فهذه حجة قاطعة وإجماع ظاهر، وإنما اختلفوا في عدها وتركه في سورة «الحمد» لا غير، فعدها آية الكوفي والمكي، ولم يعدها آية البصري ولا الشامي ولا المدني، والمشهور من قول الشافعي أن التسمية آية في «الحمد» لا غير، وهذا مما اختلف فيه الصدر الأول، وقال جماعة منهم بذلك، فهو اختلاف غير منكر، لكنا نقول في هذا إن الزيادة في القرآن لا تثبت بالاختلاف وإنما تثبت بالإجماع، ولا إجماع في ذلك، وقد روى الشافعي وأصحابه في ذلك أحاديث، وروى من خالفهم في ترك عدها آية من «الحمد» أحاديث، فتوازن الأمران، وبقي انتقاد صحة الأحاديث، والكلام في ذلك يطول، ويخرجنا عما قصدنا إليه، لكنا نقول: لو ثبتت أحاديثهم وصحت لم يكن لهم فيها حجة في إثبات قرآن، لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد التي لا يقطع على غيبها، إنما يثبت القرآن بالإجماع والأخبار المتواترة المقطوع على غيبها، ولا تواتر ولا إجماع في أن {بسم الله الرحمن الرحيم} آية من «الحمد»، فسقط
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/23]
ما ذكروا في ذلك من الأحاديث، أنها آية من «الحمد»، مع ما روينا من الأحاديث الصحاح عن مالك وغيره، أنها ليست آية من «الحمد»، فالنافي في هذا أولى من المثبت لأن المثبت لو صح ما روي لم ينفعه ذلك، لأن ما روي من الأحاديث لم يقطع على غيبه أنه حق، والقرآن لا يثبت إلا بما يقطع على غيبه أنه حق). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/24]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (1- قال أبو محمد: إن سأل سائل عن علة اختلافهم في عدد آي سورة «الحمد».
فالجواب هو ما قدمنا من الاختلاف في {بسم الله الرحمن الرحيم} أنها آية من سورة الحمد، فعدها الكوفي والمكي آية ولم يعدّا {أنعمت عليهم} «7» آية، وترك البصري والشامي والمدني عدّها آية، وعدوا {أنعمت عليهم} آية، وعلة من عد {بسم الله الرحمن الرحيم} من «الحمد» آية ما روي في ذلك من الأحاديث أنها آية من «الحمد» ولأنها ثابتة في خط المصحف، ولقول عائشة: «اقرؤوا ما في المصحف»، وعلة من لم يعدها آية هو ما قدمنا من الأدلة، أنها ليست بآية من «الحمد» إذ لا يثبت القرآن إلا بإجماع أو بأخبار متواترة تقطع على غيبها، فلما لم يثبت أنها من «الحمد» آية لم يعدها منها). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/25]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (وأما البسملة:
فقد اختلفوا في كونها آية من الفاتحة، وكونها أيضًا آية من أول كل سورة.
والبسملة هي التلفظ ببسم الله، كما أن الحمدلة هي التلفظ بالحمد لله، والهيللة هي قول: لا إله إلا الله، والحيعلة: قول حي على الفلاح.
والفعل منها: بسمل، وكذلك حمدل، وهيلل، وحيعل.
وأما الاختلاف فيها فإن ابن كثير ونافعًا وابن عامر وعاصمًا والكسائي ويعقوب كانوا يجهرون بالاستعاذة وببسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة وفي جميع القرآن، إلا بين القرينتين: الأنفال والتوبة اتباعًا للكتاب، وتابعهم أبو عمرو في الجهر بالاستعاذة وبسم الله الرحمن الرحيم إلا في الفصل بين كل سورتين، فكان يتركها ويصل أواخر السور بأوائل ما يليها ولا يعربها كقوله: {وَلَا الضَّالِّينَ ألم} لا يحرك النون إذا وصلها بألم، بل يسكت عليها سكتة خفيفة، ثم يصلها، وكذلك يفعل بأواخر السور كلها، ويجعل السكتة في ثلاثة مواضع أوضح منها في سائرها، وهو قوله في آخر المدثّر {وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} {لَا أُقْسِمُ} كره أن يصل المغفرة بحرف نفي، وكذلك في آخر الفجر، كره أن يقول: {وَادْخُلِي جَنَّتِي} {لا}، وكذلك في آخر الانفطار {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} كره أن يقول {لله} {وَيْلٌ}، فلهذا
[الموضح: 224]
كانت سكتته في هذه المواضع الثلاثة أوفى، وكان حمزة يجهر بالاستعاذة وببسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب فقط، ويخفيها في سائر القرآن.
ووجه التسمية في أول الفاتحة مجهورًا بها: أنها آية من الفاتحة، بدلالة أخبارٍ وردت فيها، منها:
ما روت أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، يقطعها آية آية حتى عد سبع آيات عدد الأعراب. وما روى طلحة بن عبيد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله عز وجل، وقد عد علي فيما عد في أم الكتاب".
[الموضح: 225]
وبدلالة أن الفاتحة تسمى السبع المثاني؛ لأنها سبع آيات، وهي إنما تكون سبع آيات مع التسمية، وليس قولُ من قال إن {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} رأس آية بصحيح؛ لأن قوله: {عَلَيْهِمْ} ليس بمشاكل لآيات هذه السورة، ولا بمقارب لها، ومقاطع القرآن إما متشاكلة أو متقاربة فالمتشاكلة نحو ما في سور القمر والشمس والنجم وغيرها من الآي، والمتقاربة نحو: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و{هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} فقد تقارب قوله {مَجِيدُ} و{عَجِيبٌ} من جهة أن كل واحدٍ منهما قبل آخره ياء ساكنة قبلها كسر، فهي مدة، وليس قوله {عَلَيْهِمْ} بمشاكل لقوله: {الْمُسْتَقِيمِ} ولا بمقارب له؛ لأن ياء {عَلَيْهِمْ} ليس قبلها كسرة، فلا تكون مدّة، وليس بعد الياء حرف واحد كالمستقيم بل حرفان وهما الهاء والميم، فإذا ليس برأس آية.
ثم إن الابتداء بغير في أول الآية ليس بمستقيمٍ.
وأما كون التسمية من أول كل سورة فبدلالة ما روي عن ابن عباس أن
[الموضح: 226]
النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف ختم السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم.
فدل على أنه منزل في أول كل سورة.
وبدلالة اتفاقهم على كتب التسمية في أوائل السور بخط القرآن، فلولا أنهم عدوها منها لما كتبوها بما كتبوا به السور، مع أنهم لم يجيزوا كتب ما ليس من السورة في المصحف بالخط الذي كتبت به السورة.
وهذا أعني كون التسمية آية من الفاتحة ومن كل سورة مذهب جماعة من التابعين. وإليه ذهب الشافعي رحمة الله عليه.
وأما تركهم إياها بين القرينتين الأنفال والتوبة؛ فلأنها لم تنزل هناك، وأنزلت في أول كل سورة.
فذهب بعضهم إلى أنها إنما لم تنزل؛ لأن السورة في رفع الأمان، والتسمية أمان.
[الموضح: 227]
وذهب بعضهم إلى أن الأنفال والتوبة سورة واحدة، فلهذا لم يفضل بينهما بالتسمية.
وأما أبو عمرو فإنه يرى أن التسمية من الفاتحة إلا أنها ليست من سائر السور، لكنها كتبت فيها تيمنًا وتبركًا، وللفضل بين السور، وكذلك حمزة.
وبعض العلماء لا يراها من الفاتحة أيضًا، بل يرى الافتتاح بها في الفاتحة وفي غيرها للتبرك والتيمن، ولا يجب عنده قراءتها في الفاتحة.
ورُوي ذلك عن أبي هريرة، وإليه ذهب مالك والأوزاعي وأبو حنيفة رحمةُ الله عليهم). [الموضح: 228]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 10:53 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي القراءات في قول الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين}

القراءات في قول الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين}

قوله تعالى: {الحمد لله رب العالمين}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
قول الله جلّ وعزّ: (الحمد للّه ربّ العالمين (2).
اتفق القراء على ضم الدال من قوله: (الحمد لله)، وكسر اللام من (لله)، وكسر الباء من (ربّ العالمين).
فـ (الحمد) رفع على الابتداء، وخبر الابتداء اللام من (لله)، وهذه القراءة هي المأثورة.
وقد قرأ بعضهم: (الحمد لله)، وليس بمختار؛ لأن المصادر تنصب إذا كانت غير مضافة، وليس فيها ألف ولام، كقولك: حمداً، وشكراً، أي: أحمد وأشكر.
وهذا قول أبي العباس أحمد بن يحيى فيما أخبرني عنه أبو الفضل محمد بن أبي جعفر المنذري العدل). [معاني القراءات وعللها: 1/108]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (قراءة أهل البادية: [الْحَمْدُ لُله] مضمومة الدال واللام، ورواها لي بعض أصحابنا قراءة لإبراهيم بن أبي عبلة: [الحمدِ لِله] مكسورتان، ورواها أيضًا لي قراءة لزيد بن علي -رضي الله عنهما- والحسن البصري رحمه لله.
وكلاهما شاذ في القياس والاستعمال؛ إلا أن من وراء ذلك ما أذكره لك؛ وهو أن هذا اللفظ كثر في كلامهم، وشاع استعماله، وهم لِمَا كثر من استعمالهم أشد تغييرًا، كما جاء عنهم لذلك: لم يَكُ، ولا أَدْرِ، ولم أُبَلْ، وأَيْشٍ تقول، وجا يجي، وسا يسو، بحذف همزتيهما.
فلما اطرد هذا ونحوه لكثرة استعماله أَتبعوا أحد الصوتين الآخر، وشبهوهما بالجزء الواحد وإن كانا جملة من مبتدأ وخبر؛ فصارت [الْحَمْدُ لُله] كعُنُق وطُنُب، و[الْحَمْدِ لِله] كإِبِل وإِطِل.
إلا أن [الْحَمْدُ لُله] بضم الحرفين أسهل من [الْحَمْدِ لِله] بكسرهما من موضعين:
أحدهما: أنه إذا كان إِتْبَاعًا فإن أقيس الإِتْبَاع أن يكون الثاني تابعًا للأول؛ وذلك أنه جارٍ مجرى السبب والمسبَّب، وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب، فتكون ضمة اللام تابعة لضمة الدال كما نقول: مُدُّ وشُدُّ، وشَمَّ وفِرِّ، فتتبع الثاني الأول، فهذا أقيس من إتباعك الأول للثاني في اقْتُل ادْخُل، ومع هذا فإن الإتباع -أعني: اقتل وبابه- لا يكاد يعتد؛ وذلك أن الوصل هو الذي عليه عقد الكلام واستمراره، وفيه تصح وجوهه ومقاييسه، وأنت إذا وصلتَ سَقَطَتِ الهمزة، فقلت: فاقتل زيدًا، فادخل يا هذا، وليست كذلك ضمة الدال
[المحتسب: 1/37]
في مُدُّ، ولا فتحة الميم في شَمَّ، ولا كسرة الراء في فِرِّ؛ لأنهن ثوابت في الوصل الذي عليه معقد القول، وإليه مفزع القياس والصوب، فكما أن مُدُّ أقيس إتباعًا من: اقتل؛ لما ذكرنا من الوصل المرجوع إليه المأخوذ بأحكامه، ولأن السبب أيضًا أسبق رتبة من المسبب، فكذلك [الحمدُ لُله] أسهل مأخذًا من [الحمدِ لِله].
والآخر: أن ضمة الدال في [الحمدُ] إعراب، وكسرة اللام في [لِله] بناء، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فإذا قلت "و": [الحمدُ لُله] فقريب أن يغلب الأقوى الأضعف، وإذا قلت: [الحمدِ لِله] جنى البناء الأضعف على الإعراب الأقوى، مضافًا ذلك إلى حكم تغيير الآخِر الأول، وإلى كثرة باب عُنُق وطُنُب في قلة باب إِبِل إِطِل فاعرفه، ومثل هذا في إتباع الإعراب البناء ما حكاه صاحب الكتاب في قول بعضهم:
وقال اضرب الساقين إِمِّك هابل
كسر الميم لكسرة الهمزة، ثم من بعد ذلك أنك تفيد من هذا الموضع ما تنتفع به في موضع آخر؛ وهو أن قولك: [الحمدُ لُله] جملة، وقد شبه جزآها معًا بالجزء الواحد -وهو مد أو عنق- فيمن أسكن ثم أتبع، أو السُّلُطان أو القُرُفْصاء أو الْمُنْتُن، دل ذلك على شدة اتصال المبتدأ بخبره؛ لأنه لو لم يكن الأمر عندهم كذلك لما أجروا هذين الجزأين مجرى الجزء الواحد، وقد نَحَوْا هذا الموضع الذي ذكرته لك في نحو قولهم في تأبط شرًّا: تأَبطي، وقولهم في رجل اسمه زيد أخوك: زيدي، فحذفوا الجزء الثاني، كما يحذفون الجزء الثاني من المركب في نحو قولهم في حضرموت: حضرمي، وفي رام هرمز: رامي، وكما يقولون أيضًا في طلحة: طَلْحي، فاعرف ذلك دليلًا على شدة اتصال المبتدأ بخبره، وما علمت أحدًا من أصحابنا نَحَا هذا الموضع على وضوحه لك، وقوة دلالته على ما أثبته في نفسك.
ومثله أيضًا في الدلالة على هذا المعنى قراءة ابن كثير: {فَإِذَا هِيَ تلَقَّفُ}، ألا ترى إلى تسكين حرف المضارع من {تَلَقَّف}؟ فلولا شدة اتصاله بما قبله للزم منه تصور الابتداء
[المحتسب: 1/38]
بالساكن، لا بل صار في اللفظ قولك: "هِيَتَّ" كالجزء الواحد الذي هو خِدَبَّ وهِجَفَّ وهِقَبَّ، وهذا أقوى دلالة على قوة اتصال المبتدأ بخبره من الذي أريناه من قبله لما فيه إن لم تنعم به من وجوب تصور الابتداء بالساكن.
نعم، ومن ورائه أيضًا ما هو ألطف مأخذًا؛ وهو أن قوله سبحانه: {تلقف} جملة، ومشفوعة أيضًا بالمفعول الموصول الذي هو {مَا يَأْفِكُونَ}، وأصل تصور الجمل في هذا المعنى: أن تكون منفصلة قائمة برءوسها، وقد قرأها هاهنا كيف تصوِّرت شديدة الحاجة إلى المبتدأ قبلها؟ فإذا جاز هذا الخلط له، ووكادة الصلة بينه وبين ما قبله، فما ظنك بخبر المبتدأ إذا كان مفردًا؟ ألا تعلم أنه به أشد اتصالًا، وإليه أقوى تساندًا وانحيازًا؟ فاضم ذلك إلى ما قبله.
ونَحْوٌ مما نحن على سمته، وبسبيل الغرض فيه -حكاية الفراء عن بعضهم، وجرى ذكر رجل فقيل: ها هو ذا، فقال مجيبًا: نَعَم الْهَا هُوَ ذَا هُوَ، فإلحاقه لام المعرفة بالجملة المركبة من المبتدأ والخبر من أقوى دليل على تنزلها عندهم منزلة الجزء الواحد. نعم، وفي صدر هذه الجملة حروف التنبيه، وهو يكاد يفصلها عن لام التعريف بعض الانفصال، وهما مع ذلك كالمتلاقيتين المعتقبتين مع حَجْزِه بينهما وإعراضه على كل واحد منهما). [المحتسب: 1/39]

قوله تعالى: {الرحمن الرحيم}

قوله تعالى: {مالك يوم الدين}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (ملك يوم الدّين (4).
قرأ (ملك يوم الدّين) ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة بن حبيب.
وقرأ (مالك يوم الدّين) عاصم، والكسائي، ويعقوب الحضرمي، قال الأزهري: من قرأ (مالك يوم الدّين) فمعناه: أنه ذو الملكة في يوم الدين.
وقيل: معناه أنه مالك الملك يوم الدين.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: اختار أبو عبيد - (ملك يوم الدّين)، قال: والفراء ذهب إليه.
قال: واختار الكسائي (مالك) ثم قال: (ناخرةً) و(نخرةً) يجوز هذا وهذا. قال: واعتل أبو عبيد بأن الإسناد فيها أقوى، ومن قرأ بها من أهل العلم أكثر، وهي في المعنى أصح..
ويقوي هذه القراءة قوله جلّ وعزّ: (فتعالى الله الملك الحق)، وقوله: (قل أعوذ برب الناس، ملك الناس)، قال: وفيه وجه ثالث يقويه، وهو قوله تبارك وتعالى: (لمن الملك اليوم).
وإنما اسم المصدر من الملك: الملك، يقال: ملك عظيم الملك.
[معاني القراءات وعللها: 1/109]
قال: والاسم من المالك: الملك. قال: ومما يزيده قوة أن الملك لا يكون إلا مالكًا، وقد يكون مالكا وليس بملك وهو أتمّ الوجهين.
قال أبو العباس: والذي أختار (مالك) لأن كل من يملك فهو مالك، لأنه بتأويل الفعل (مالك الدراهم) و(مالك الثوب) و(مالك يوم الدين) الذي يملك إقامة يوم الدين.
ومنه قوله: (مالك الملك).
قال: وأمّا "ملك الناس" و(سيد الناس) و(رب الناس)، فإنه أراد: أفضل من هؤلاء، ولم يرد: يملك هؤلاء.
وقد قالوا: (مالك الملك).
ألا ترى أنه جعله مالكًا لكل شيء، فهذا يدل على الفعل.
قال أبو العباس: فكلا الوجهين حسن، له مذهب صحيح.
قال أبو منصور: القراءتان كلتاهما ثابت بالسنة، غير أن (مالك) أحبّ إليّ؛ لأنه أتم). [معاني القراءات وعللها: 1/110]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم
1- قوله تعالى: {مالك يوم الدين}
قرأ عاصم والكسائي: {مالك يوم الدين} بألف بعد الميم.
وقرأ الباقون: {ملك} بغير ألف، فحجة من قرأ {مالك} قال: لأن الملك دخل تحت المالك، واحتج بقوله تعالى {قل اللهم مالك الملك} وحجة من قرأ {ملك} قال: لأن ملكًا أخص من مالك وأمدح؛ لأنه قد يكون المالك غير ملك ولا يكونُ الملكُ إلا مالكًا. وأكثر ما يجيء في كلام العرب وأشعارهم ملك، ومليك: لغةٌ فصيحةٌ، وإن لم يقرأ بها أحدٌ؟، قال ابن الزبعرى يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا رسول المليك إن لساني = راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغــ = ـــــي ومن مال ميله مثبور
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/47]
وقال الفرزدق: وجمع بين اللغتين فقال:
إن الذي سمك السماء بنى لنا = بيتًا دعائمه أعز وأطول
بيتًا بناه لنا المليك وما بنى = ملك السماء فإنه لا ينقل
فأما ما رواه عبد الوارث [عن] أبي عمرو {ملك يوم الدين} فإنه أسكن اللام تخفيفًا كما [يُقال] في فخذٍ: فخذ، وقال الشاعر:
من مشية في شعر ترجله = تمشي الملك عليه حلله
وقرأ أبو حيوة: {ملك يوم الدين} وقرأ أنس بن مالك: {ملك يوم الدين} [جعله فعلاً ماضيًا] قال: ويجوز في النحو: مالك يوم الدين [بالرفع] على [معنى] هو مالك. فأما قراءة أبي هريرة رحمه الله وعمر
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/48]
ابن عبد العزيز، ومحمد بن السميفع {مالك يوم الدين} على الدعاء، يا مالك يوم الدين، فقد ذكرته في «الشواذ» ولا أذكر في هذا الكتاب غير حروف السبعة وعلله). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/49]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في إثبات الألف، وإسقاطها من قوله [عزّ وجلّ]: ملك يوم الدين [الفاتحة/ 4].
فقرأ عاصم، والكسائي: (مالك) بألف، وقرأ الباقون:
[الحجة للقراء السبعة: 1/7]
(ملك) بغير ألف، ولم يمل أحد الألف من (مالك)
[الحجة للقراء السبعة: 1/8]
قال أبو بكر محمد بن السريّ: قال أبو عمرو فيما أخذته عن اليزيديين: إن «ملك» يجمع مالكا، أي: ملك ذلك اليوم بما فيه، و «مالك» إنما يكون للشيء وحده، تقول:
هو مالك ذاك الشيء، وقال الله سبحانه: قل اللّهمّ مالك الملك [آل عمران/ 26] للشيء بعينه، فملك يجمع مالكا، ومالك لا يجمع ملكا. وقال الله سبحانه: ملك النّاس [الناس/ 2] والملك القدّوس [الحشر/ 23].
[الحجة للقراء السبعة: 1/9]
قال: وحكي أن عاصما الجحدري قرأها (ملك) بغير ألف. فقال محتجا على من قرأها (مالك) بألف:
يلزمه أن يقرأ: قل أعوذ برب الناس مالك الناس [الناس/ 1، 2]. قال هارون: فذكرت ذلك لأبي عمرو، فقال: نعم، أفلا يقرءون: فتعالى الله المالك الحق [المؤمنون/ 116]؟.
قال: وقال بعض من اختار القراءة بملك: إن الله قد وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله: ربّ العالمين فلا فائدة في تكريره ذكر ما قد مضى ذكره من غير فصل بينهما بذكر معنى غيره. قال: وقال: وإن الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقراءته: ملك يوم الدين أصح إسنادا من الخبر بقراءته (مالك). وإنّ وصفه بالملك أبلغ في المدح، قال: وهي قراءة
[الحجة للقراء السبعة: 1/10]
أبي جعفر، والأعرج وشيبة بن نصاح.
قال أحمد بن يحيى: من حجة الكسائي أنه يقال: ملك النّاس مثل سيّد الناس، وربّ الناس، ومالك يوم الدين، ولا يقال: سيد يوم الدين، فإذا كان مع الناس وما
[الحجة للقراء السبعة: 1/11]
يفضل عليهم كان «ملك» وإذا كان مع غير الناس كان «مالك».
قال: وقال من احتجّ لمالك، وكره «ملك»: إن أول من قرأ «ملك» مروان بن الحكم وإنه قد يدخل في الملك ما لا يجوز، ولا يصح دخوله في الملك، قالوا: وذلك أنه صحيح في الكلام أن يقال: فلان مالك الدراهم والطير، وغير صحيح أن يقال: فلان ملك الدراهم والدنانير. قالوا: فالوصف بالملك أعم من الوصف بالملك، والله سبحانه مالك كل شيء قالوا: والمعنى: أنه يملك الحكم يوم الدين بين خلقه دون سائر الخلق الذين كانوا يحكمون بينهم في الدنيا. قالوا: وقد وصف الله سبحانه نفسه بأنّه مالك الملك، فقال تعالى: قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء [آل عمران/ 26]، ولا يقال: هو ملك الملك، قالوا: فوصفه بالملك. أبلغ في الثناء وأعمّ في المدح من وصفه بالملك. وقرأها (مالك) من متقدمي القرّاء قتادة والأعمش.
[الحجة للقراء السبعة: 1/12]
وقال أبو عبيد في قوله: ملك يوم الدين معناه: الملك يومئذ ليس ملك غيره. ومن قرأ (مالك) أراد: أنه يملك الدين والحساب لا يليه سواه. قال: وكذلك يروى عن عمر.
قال أبو بكر محمد بن السري: الاختيار عندي: «ملك يوم الدين»، والحجة في ذلك: أن الملك والملك يجمعهما معنى واحد، ويرجعان إلى أصل، وهو الربط والشد، كما قالوا: ملكت العجين، أي: شددته. وقال الشاعر:
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها... يرى قائم من دونها ما وراءها
[الحجة للقراء السبعة: 1/13]
يصف طعنة، يقول: شددت بها كفي. والإملاك من هذا، إنما هو رباط الرجل بالمرأة، وكلام العرب بعضه مأخوذ من بعض، فقد يكون الأصل واحدا ثم يخالف بالأبنية، فيلزم كل بناء ضربا من ذلك الجنس، مثال ذلك العدل، يشتقّ منه: العدل والعديل، فالعدل: ما كان متاعا، والعديل: الإنسان، والأصل إنما هو العدل. وكذلك ملك، ومالك فالملك الذي يملك الكثير من الأشياء: ويشارك غيره من الناس، بأنه يشاركه في ملكه بالحكم عليه فيه، وأنه لا يتصرف فيه إلا بما يطلقه له الملك، ويسوسه به، ويجتمع مع ذلك أن الملك يملك على الناس أمورهم في أنفسهم، وجميع متصرّفاتهم، فلا يستحق اسم الملك حتى يجتمع له ملك هذا كله، فكل ملك مالك، وليس كلّ مالك ملكا.
وأما قوله تعالى: مالك الملك [آل عمران/ 26] فإنّ الله سبحانه يملك ملوك الدنيا، وما ملكوا، وإنّما تأويل ذلك: أنّه يملك ملك الدنيا، فيؤتي الملك من يشاء. فأمّا يوم الدين فليس إلّا ملكه، وهو ملك الملوك جلّ وعزّ يملكهم كلّهم، وقد يستعمل هذا في الناس، فيقال: فلان ملك الملوك
[الحجة للقراء السبعة: 1/14]
وأمير الأمراء، يراد بذلك: أن من دونه ملوكا وأمراء فيقال: ملك الملوك وأمير الأمراء، ولا يقال: ملك الملك، ولا أمير الإمارة، لأنّ أميرا وملكا صفة غير جارية على فعل، فلا معنى لإضافتها إلى المصدر، فأمّا إضافة ملك إلى الزمان فكما يقال: ملك عام كذا، وملوك سنيّ كذا، وملوك الدهر الأوّل، وملك زمانه، وسيّد زمانه، وهو في المدح أبلغ. والآية إنما نزلت بالثناء والمدح لله سبحانه والصفة له، ألا ترى قوله [تعالى]: الحمد للّه ربّ العالمين، الرّحمن الرّحيم [الفاتحة/ 1 - 2]؟ فالربوبية والملك متشابهان.
قال: وللمختار لمالك أن يقول: قرأت: (مالك) لأنّ المعنى: يملك يوم الدين، وهو يوم الجزاء، ولا يملك ذلك اليوم أن يأتي به ولا سائر الأيام غير الله سبحانه، وهذا ما لا يشاركه فيه مخلوق في لفظ ولا معنى. فيقال: هذا الذي قلت حسن، ولولا هذا المعنى وما يؤيّده ما جازت القراءة به، ولا بدّ للمعاني من أن تتقارب، والملك في ذلك اليوم أيضا لا يكون إلا لله تعالى، فهو متفرد بهذا الوصف، ويقوّي ذلك قوله: لمن الملك اليوم [غافر/ 16] وقوله: والأمر يومئذٍ للّه [الانفطار/ 19].
فإن احتجّ المختار لمالك بما روي من أنّ أوّل من قرأ
[الحجة للقراء السبعة: 1/15]
«ملك» مروان بن الحكم، احتجّ عليه من الأخبار بما يبطل ذلك، ولعل القائل لذلك أراد: أنّ أول من قرأ في ذلك العصر، أو من ضربه، لأنّ القراءة بذلك أعرض وأوسع من ذلك بحسب ما انتهى إلينا. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو عليّ [الحسن بن أحمد بن عبد الغفّار رضي الله عنه]: قال أبو الحسن الأخفش فيما روى محمد بن العباس عن عمه عنه: يقال: ملك بيّن الملك، الميم مضمومة.
وتقول: مالك بيّن الملك والملك، بفتح الميم وكسرها.
وزعموا أن ضمّ الميم لغة في هذا المعنى.
وروى بعض رواة البغداذيين: يقال: طالت مملكتهم الناس ومملكتهم وطال ملكه وملكه إذا طال رقّه. وأعطاني من ملكه وملكه، وهو ما يقدر عليه، ولي في هذا الوادي ملك وملك وملك. ويقال: نحن عبيد مملكة، ولسنا بعبيد قنّ، أي: سبينا، لم نملك في الأصل.
وقال أبو عثمان: شهدنا إملاك فلان، وملكه، ولا يقال: ملاكه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/16]
وقال غيره:
ملكت بها كفي...
أي: شددت، وملكت العجين، أي: شددت عجنه.
قال أبو علي: وإملاك المرأة إنما هو العقد عليها، وقيل:
إملاك، كما قيل: عقدة النكاح، والملك للشيء: اختصاص من المالك به، وخروجه عن أن يكون مباحا لغيره، ومعنى الإباحة في الشيء كالاتساع فيه، وخلاف الحصر له، والقصر على شيء. ألا تراهم قالوا: باح السرّ، وباحة الدار؟ وقال أوس بن حجر:
فملّك بالليط الذي تحت قشرها... كغرقيء بيض كنّه القيض من عل
ملّك أي: شدّد أي: ترك شيئا من القشر على قلبها يتمالك به ويكنّها، لئلا يبدو قلب القوس فتنشق.
قال أبو علي: وينبغي أن يكون موضع الذي: نصبا، بأنّه مفعول به لملّك، ولا يكون جرّا على أنّه وصف لليط، لأنّ
[الحجة للقراء السبعة: 1/17]
الليط فوق القلب، ليس تحته، والمعنى: فملّك بالقشر الذي فوق القلب الذي تحت القشرة ليصون القشر القلب فلا ينشقّ، ألا ترى أنّهم قالوا: إذا لم يكن عليها القشر صنعوها عقبة.
قال أبو علي: فكأن العقب يصون القلب كما يصونها بترك القشر عليه، ويدلّ على ذلك تشبيهه بالقيض والغرقئ.
قال أبو علي: وأمّا ما حكاه أبو بكر عن بعض من اختار القراءة بملك، من أنّ الله سبحانه قد وصف نفسه بأنّه مالك كلّ شيء بقوله: ربّ العالمين فلا فائدة في تكرير ذكر ما قد مضى، فإنّه لا يرجّح قراءة ملك على مالك، لأنّ في التنزيل أشياء على هذه الصورة قد تقدّمها العامّ، وذكر بعد العامّ الخاصّ، كقوله [عزّ وجلّ]: اقرأ باسم ربّك الّذي خلق [العلق/ 1] [ثم قال: خلق الإنسان من علقٍ] [العلق/ 2]. فالذي: وصف للمضاف إليه دون الأول المضاف لأنه كقوله: هو اللّه الخالق البارئ [الحشر/ 24] ثم خصّ ذكر الإنسان تنبيها على تأمل ما فيه من إتقان الصنعة، ووجوه الحكمة، كما قال: وفي أنفسكم أفلا تبصرون [الذاريات/ 21] وقال: خلق الإنسان من علقٍ [العلق/ 2]
[الحجة للقراء السبعة: 1/18]
وكقوله: وبالآخرة هم يوقنون [البقرة/ 4] بعد قوله: [عزّ وجلّ]: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 3] والغيب يعمّ الآخرة، وغيرها، فخصّوا بالمدح بعلم ذلك والتيقن له، تفضيلا لهم على الكفار المنكرين لها، في قولهم: لا تأتينا السّاعة، قل بلى وربّي لتأتينّكم [سبأ/ 3]. وكقولهم: ما ندري ما السّاعة إن نظنّ إلّا ظنًّا [الجاثية/ 32]، وكقولهم:
ما هي إلّا حياتنا الدّنيا نموت ونحيا [الجاثية/ 24] وكذلك قوله: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الرحمن أبلغ من الرحيم، بدلالة أنه لا يوصف به إلا الله سبحانه. وذكر الرحيم بعده لتخصيص المسلمين به في قوله تعالى: وكان بالمؤمنين رحيماً [الأحزاب/ 43] فكما ذكرت هذه الأمور الخاصّة بعد الأشياء العامّة لها ولغيرها، كذلك يكون قوله مالك يوم الدين، فيمن قرأها بالألف بعد قوله: الحمد لله رب العالمين.
وممّا يشهد لمن قرأ: (مالك) من التنزيل قوله تعالى: والأمر يومئذٍ للّه [الانفطار/ 19] لأن قولك: الأمر له، وهو مالك الأمر بمعنى. ألا ترى أن لام الجر معناها: الملك والاستحقاق، وكذلك قوله [عزّ وجلّ]: يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً [الانفطار/ 19] يقوّي ذلك؟
والتقدير: مالك يوم الدين من الأحكام ما لا تملكه نفس
[الحجة للقراء السبعة: 1/19]
لنفس. ففي هذا دلالة وتقوية لقراءة من قرأ: (مالك). وإن كان قوله: لمن الملك اليوم [غافر/ 66] أوضح دلالة. على قراءة من قرأ: ملك، من حيث كان اسم الفاعل من الملك: الملك فإذا قال: الملك له ذلك اليوم، كان بمنزلة: هو ملك ذلك اليوم. هذا مع قوله: فتعالى اللّه الملك الحقّ [طه/ 114] والملك القدّوس [الحشر/ 23] وملك النّاس [الناس/ 2].
واعلم أن الإضافة إلى يوم الدين في كلتا القراءتين من باب:
يا سارق الليلة أهل الدار
اتّسع في الظرف فنصب نصب المفعول به، ثم وقعت الإضافة إليه على هذا الحدّ، وليس إضافة اسم الفاعل هاهنا إلى اليوم كإضافة المصدر إلى الساعة في قوله: وعنده علم السّاعة [الزخرف/ 85]، لأن الساعة مفعول بها على الحقيقة، وليس على أن جعل الظرف مفعولا به على السعة.
ألا ترى أن الظرف إذا جعل مفعولا على السعة فمعناه متّسعا فيه معنى الظرف؟ فلو جعلته ظرفا لكان المعنى: يعلم في الساعة، فلم يكن بالسهل، لأنّ القديم- سبحانه- يعلم في كل وقت، فإنّما معنى يعلم الساعة: يعرفها، وهي حقّ، وليس
[الحجة للقراء السبعة: 1/20]
الأمر على ما الكفار عليه من إنكارها وردّها. وإذا كان كذلك فمن نصب: وقيله يا ربّ [الزخرف/ 88] جاز أن يكون حاملا له على المعنى، وموضع الساعة، لأن الاسم منصوب في المعنى بأنه مفعول به. وكذلك قوله: إنّ اللّه عنده علم السّاعة وينزّل الغيث، ويعلم ما في الأرحام [لقمان/ 34]، وهذا كقوله: ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت [البقرة/ 65] وإذا كان كذلك، فالظرف في قوله: قل إنّما علمها عند اللّه [الأعراف/ 187] وإنّما علمها عند ربّي [الأعراف/ 187] لا يكون متعلقا بمحذوف إلّا أن تجعله في موضع حال. ومما يمكن أن يكون انتصابه على أنّه مفعول به على الاتساع وكان في الأصل ظرفا، قوله: (أيّاماً) في قوله: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون أيّاماً معدوداتٍ [البقرة/ 183] فالعامل
[الحجة للقراء السبعة: 1/21]
في الأيام (كتب)، تقديره: كتب عليكم الصيام أياما معدودات.
أي: في أيام [معدودات].
وإن شئت اتسعت فنصبته نصب المفعول به فتقول على هذا: يا مكتوب أيام عليه، ولا يستقيم أن ينتصب أيام بالصيام على أن يكون المعنى: كتب عليكم الصيام في أيام، لأنّ ذلك، وإن كان مستقيما في المعنى فهو في اللفظ ليس كذلك، ألا ترى أنّك إن حملته على ذلك فصلت بين الصلة والموصول بالأجنبي منهما! وذلك أن أياما تصير من صلة الصيام، وقد فصلت بينهما بمصدر: كتب، لأنّ التقدير: كتب عليكم الصيام كتابة مثل كتابته على من كان قبلكم، فالكاف في (كما) متعلقة بكتب، وقد فصلت بها بين المصدر وصلته، وليس من واحد منهما. فإن قلت: أضمر (الصّيام) لتقدّم ذكر المتقدم عليه، كأنّه صيام أيّاما، فإنّ ذلك لا يستقيم، لأنّك لا تحذف بعض الاسم، ألا ترى أنّه قد قال: في قوله:
لعمر أبيك إلا الفرقدان
[الحجة للقراء السبعة: 1/22]
إنه لا يكون على: إلا أن يكون الفرقدان، لحذفك الموصول، فكذلك الآية. فأما قوله [عزّ وجلّ]: (الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ) [البقرة/ 197] فإنّه يكون على: أشهر الحجّ أشهر معلومات، ليكون الثاني الأوّل في المعنى، ومعنى معلومات: أي أشهر مؤقتة معيّنة لا يجوز فيها ما كان يفعله أهل الجاهليّة من التبديل بالتقديم والتأخير اللذين كان يفعلهما النّسأة الذين أنزل فيهم: (إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر، يضلّ به الّذين كفروا يحلّونه عاماً) إلى قوله: (فيحلّوا ما حرّم اللّه) [التوبة/ 37] أو يكون: الحجّ حجّ أشهر معلومات، أي: لا حجّ إلا في هذه الأشهر، ولا يجوز في غيرها، ولا يجزئ كما كان أهل الجاهلية يستجيزونه في غيرها من الأشهر. فالأشهر على هذا متّسع فيها مخرّجة عن الظروف، والمعنى على ذلك، ألا ترى أن الحجّ في الأشهر: كما أن الموعد في قوله: (موعدكم يوم الزّينة) [طه/ 59] في اليوم إلّا أنّه اتّسع فيه فجعل الأول لمّا كان فيه، كما فعل ذلك في قوله «يوم الزينة».
وإن قلت: موعدكم موعد يوم الزينة، فقد أخرجته أيضا على هذا التقدير عن أن يكون ظرفا، لأنك قد أضفت إليه، والإضافة إليه تخرجه عن أن يكون ظرفا، كما أن رفعه كذلك.
ويدلّك على تأكد خروجه عن الظرف عطفك عليه ما لا يكون ظرفا، وهو قوله: (وأن يحشر النّاس ضحًى) [طه/ 59]، ولو نصبت اليوم على أنّه ظرف وأضمرت مبتدأ يكون قوله: (وأن يحشر النّاس ضحًى) خبرا له كأنّه قال: وموعدكم
[الحجة للقراء السبعة: 1/23]
أن يحشر الناس ضحى- لكان ذلك مستقيما في قياس العربية.
وقد يجوز أن تجعل الحجّ: الأشهر على الاتساع، لكونه فيها وكثرته من الفاعلين له، كما جعلتها الخنساء الإقبال والإدبار لكثرتهما منها، وكما قال:
لعمري وما دهري بتأبين هالك... ولا جزع مما أصاب فأوجعا
ألا ترى أنّه جعل دهره الجزع. فإن قلت: إن ذات الإقبال والإدبار فاعلة في المعنى، وليس الأشهر كذلك إنّما هي مفعول فيها. فإنّ الأشهر بمنزلة الدهر في قوله: ولا جزع، أي: وما دهري بجزع. فكما أجاز سيبويه ذلك في الدهر فكذلك
[الحجة للقراء السبعة: 1/24]
يجوز في الأشهر في الآية، وإذا جاز ذلك في الفاعل جاز في المفعول به، وفي الظرف، إذا جعل في الاتساع مفعولا به، ألا ترى أنّ المصدر لمّا أضيف إلى الفاعل أضيف إلى المفعول به أيضا في نحو [قوله تعالى] من دعاء الخير [فصلت/ 49] وبني الفعل للمفعول به كما بني للفاعل، واختصّ المفعول به بأبنية قصرت عليه، نحو: وضع في تجارته، كما كان للفاعل أفعال لا تتعدّى إلى المفعول به، فكذلك إذا اتسع في هذا النحو في الفاعل يتّسع في المفعول به، وما أجري مجراه من الظروف. فأمّا قوله: (اللّه أعلم حيث يجعل رسالته) [الأنعام/ 124]. فالقول في العامل في «حيث» أنّه لا يخلو من أن يكون «أعلم» هذه المذكورة أو غيرها. وإن عمل «أعلم» فيه فلا يخلو من أن يكون ظرفا، أو غير ظرف. فلا يجوز أن يكون العامل فيه أعلم، على حسب ما عمل أحوج في ساعة في قوله:
فإنّا وجدنا العرض أحوج ساعة
[الحجة للقراء السبعة: 1/25]
لأنّ المعنى يصير: أعلم في هذا الموضع أو هذا الوقت، ولا يوصف الله بأنّه أعلم في مواضع أو أوقات، كما تقول: زيد أعلم في مكان كذا منه في مكان كذا، أو زمان كذا، فإذا كان كذلك لم يجز أن يكون العامل «أعلم» هذه وإذا لم يجز أن يكون إيّاه كان فعلا يدلّ عليه أعلم، وإذا لم يجز أن يكون «حيث» ظرفا لما ذكرناه، كان اسما، وكان انتصابه انتصاب المفعول به على الاتساع كما يكون ذلك في كم ومتى ونحوهما، ويقوّي ذلك دخول الجار عليها.
وقد حكى بعض البصريين فيها الإعراب، وكان الأصل: الله أعلم بمواضع رسالاته، ثم حذف الحرف، كما قال: أعلم بمن ضلّ عن سبيله [النحل/ 125] وفي موضع آخر: أعلم من يضلّ [الانعام/ 117] ف «من يضل» معمول فعل مضمر دلّ عليه أعلم، ولا يجوز أن يكون معمول أعلم، لأن المعاني لا تعمل في مواضع الاستفهام ونحوه، إنما تعمل فيها الأفعال التي تلغى، فتعلّق كما تلغى. ومثل ذلك- في أنّه لا يكون إلا محمولا على فعل- ما أنشده أبو زيد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/26]
وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا
فالقوانس على مضمر دون أضرب الظاهر، لأنّ المعاني لا تعمل في المفعول به وكان القياس ألّا تعمل في الحال.
ولا يجوز أن يكون موضع (من) في قوله: أعلم من يضلّ [الأنعام/ 117] جرّا لأن أفعل لا يضاف إلّا إلى ما هو بعض له، وليس ربّنا من المضلّين عن سبيله، فيضاف إليهم، فإذا لم يجز أن يكون جرّا، كان نصبا، كالقوانس في البيت.
وممّا يستقيم أن يكون انتصابه انتصاب المفعول به على السعة قوله تعالى: وأتبعناهم في هذه الدّنيا لعنةً ويوم القيامة هم من المقبوحين [القصص/ 42]. يحتمل أن يكون: وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة، ولعنة يوم القيامة،
[الحجة للقراء السبعة: 1/27]
فحذف المصدر وأقام يوما مقامه، فانتصب انتصاب المفعول به، كما أنه لو لم يحذف المصدر وأضيف إلى اليوم كان كذلك.
ويجوز فيه ثلاثة أضرب أخر:
أحدها: أن يكون محمولا على موضع «في هذه الحياة الدنيا» كما قال: إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا ويشهد لذلك وللوجه الذي قبله قوله في أخرى: لعنوا في الدّنيا والآخرة [النور/ 23] وقوله: وأتبعوا في هذه لعنةً ويوم القيامة بئس الرّفد المرفود [هود/ 99] ويكون قوله: (هم من المقبوحين) جملة استغني عن حرف العطف فيها بالذكر الذي تضمنت ممّا في الأولى، كما استغني عنه بذلك في قوله: ثلاثةٌ رابعهم كلبهم [الكهف/ 22] ولو كانت فيها الواو لكان ذلك حسنا، كما قال تعالى: ويقولون سبعةٌ وثامنهم كلبهم [الكهف/ 22].
[الحجة للقراء السبعة: 1/28]
ويجوز أن يكون العامل فيه من المقبوحين، لأنّ فيه معنى فعل، وإن كان الظرف متقدّما كما أجاز: أكلّ يوم لك ثوب؟
ويجوز أن يكون العامل فيه مضمرا يدل عليه قوله: (من المقبوحين) كقوله: يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين [الفرقان/ 22]. ومن ذلك قوله: والوزن يومئذٍ الحقّ [الأعراف/ 8] إن جعلت الظرف من صلة المصدر جاز أن تنصبه نصب المفعول به، كقولك: الوزن الدراهم حقّ، ويكون الحقّ على هذا خبر المبتدأ وإن جعلت يومئذ خبر المصدر، لأنّ الوزن حدث، فيكون ظرف الزمان خبرا عنه تعلّق بمحذوف.
وجاز أن ينتصب انتصاب الظروف دون المفعول به.
ألا ترى أن المفعول به لا تعمل فيه المعاني؟ ويكون الحقّ على هذا صفة للوزن، ويجوز أن يكون بدلا من الذكر المرفوع الذي في الخبر. ولو قدمت (الحقّ) في الوجه الثاني على (يومئذٍ) لاستقام، ولو قدمته عليه في الوجه الأول لم يجز
[الحجة للقراء السبعة: 1/29]
للفصل بين الصلة والموصول بصفة الموصول.
وأمّا قوله (تعالى): الملك يومئذٍ الحقّ للرّحمن [الفرقان/ 26] فيكون يومئذ من صلة المصدر كما كان في التي قبلها، والحق صفة والظرف الخبر. ويجوز أن يكون يومئذ معمول الظرف وإن تقدّم عليه، فلا يتصل على هذا بالمصدر، وكذلك قوله: هنالك الولاية للّه الحقّ [الكهف/ 44] يكون هنالك مستقرّا فيكون قولك: (للّه) حالا من الولاية ومن الذكر الذي في هنالك، في قوله سيبويه وعلى قول أبي الحسن، ومن رفع بالظرف، من الولاية فقط ويكون لله مستقرّا، وهنالك ظرفا متعلقا بالمستقر، ومعمولا له، فأمّا قول الشاعر:
حميت عليه الدّرع حتى وجهه... من حرّها يوم الكريهة أسفع
[الحجة للقراء السبعة: 1/30]
فإن جعلت «يوم الكريهة» ظرفا لأسفع لم ينتصب انتصاب المفعول به، وإن جعلته منتصبا بالمصدر جاز فيه ما جاز في قوله: والوزن يومئذٍ الحقّ [الأعراف/ 8] من الانتصاب على الظّرف، على أنه مفعول به على الاتّساع.
ألا ترى أن الفعل المتعدّي كالفعل غير المتعدي في جواز نصب الظرف بعده نصب المفعول به؟ فكذلك مصادرهما، وكذلك إن جعلت قوله: يوم الكريهة، ظرفا لحميت. وممّا لا يكون إلا ظرفا قوله تعالى: ويوم يحشر أعداء اللّه إلى النّار فهم يوزعون [فصلت/ 19] ألا ترى أنه ليس في هذا الكلام فعل ظاهر يجوز أن يتعلّق الظرف به؟
وإذا كان كذلك تعلّق بما دلّ عليه قوله: فهم يوزعون.
- كما أن قوله: أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أإنّا لمبعوثون [المؤمنون/ 82] الظرف فيه كذلك، فكذلك قوله: ينبّئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّقٍ إنّكم لفي خلقٍ جديدٍ [سبأ/ 7]- لأن الظرف من حيث كان مستقبلا كان بمنزلة إذا، ومن ثم أجيب بالفاء، كما يجاب إذا بها.
[الحجة للقراء السبعة: 1/31]
وأمّا قوله سبحانه: يوم ندعوا كلّ أناسٍ بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه [الإسراء/ 71] فقد يكون مثل الذي تقدمت. ألا ترى أن قوله: وفضّلناهم على كثيرٍ ممّن خلقنا تفضيلًا [الإسراء/ 70] ماض كما أن قوله: ونجّينا الّذين آمنوا وكانوا يتّقون [فصلت/ 18] كذلك. و (ندعو) مستقبل كما أن (يحشر أعداء الله) كذلك؟ فتجعل الظرف بمنزلة إذا، كما جعلته ثمّ بمنزلته، فيصير التقدير: إذا دعي كل أناس بإمامهم لم يظلموا أو عدل عليهم ونحوه.
فأمّا الباء في قوله: (بإمامهم) فيكون على ضربين:
أحدهما أن تكون متعلّقة بالفعل الذي هو: (ندعوا) في موضع المفعول الثاني كأنّه: كل أناس بشيعة إمامهم، يدلّ على هذا قوله: ويوم تقوم السّاعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب [غافر/ 46] وعلى هذا فسّره ابن عباس فيما روي، فقال: برئيسهم.
وتكون متعلّقة بمحذوف في موضع الحال كأنّه: ندعو كلّ أناس مختلطين بإمامهم، أي: يدعون وإمامهم فيهم، نحو:
[الحجة للقراء السبعة: 1/32]
ركب بثيابه، وجاء في جنوده، فيكون الدعاء على هذا الوجه متعدّيا إلى مفعول واحد خلاف الوجه الأول. ويقوّي هذا قوله: وسيق الّذين كفروا إلى جهنّم زمراً [الزمر/ 71] وقوله: احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم [الصافات/ 22] وروي عن الحسن: بإمامهم أي: بكتابهم الذي فيه أعمالهم، فيكون التقدير على هذا في قوله: بإمامهم، أي: معهم كتابهم.
ومن ذلك قوله: فإذا نقر في النّاقور فذلك يومئذٍ يومٌ عسيرٌ [المدثر/ 8]. القول فيه أن (ذلك) إشارة إلى النقر، كأنّه قال: فذلك النقر يومئذ يوم عسير، أي: نقر يوم عسير، فقوله: يومئذ، على هذا متعلق بذلك، لأنّه في المعنى مصدر، وفيه معنى الفعل، فلا يمتنع أن يعمل في الظرف كما عمل في الحال.
ويجوز أن يكون (يومئذٍ) ظرفا لقوله (يومٌ)، ويكون يومئذ بمنزلة حينئذ، ولا يكون اليوم الذي يعنى به وضح النهار، ويكون اليوم الموصوف بأنّه عسير خلاف الليلة، فيكون التقدير:
[الحجة للقراء السبعة: 1/33]
فذلك اليوم يوم عسير حينئذ، أي: ذلك اليوم يوم في ذلك الحين، فيكون متعلقا بمحذوف، ولا يتعلق بعسير، لأن ما قبل الموصوف لا تعمل فيه الصفة. فأما (إذا) في قوله: فإذا نقر في النّاقور فالعامل فيه المعنى الذي دل عليه قوله: يومٌ عسيرٌ، تقديره: إذا نقر في الناقور عسر الأمر وصعب كما أن لا بشرى يومئذٍ [الفرقان/ 22] يدل على يحزنون.
فأمّا من قرأ: مالك يوم الدّين [الفاتحة/ 4] فأضاف اسم الفاعل إلى الظرف، فإنّه قد حذف المفعول به من الكلام للدلالة عليه، وإن هذا المحذوف قد جاء مثبتا في قوله: يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً [الانفطار/ 19] فتقديره: مالك يوم الدين الأحكام. وحسن هذا الاختصاص لتفرّد القديم سبحانه في ذلك اليوم بالحكم. فأما في الدنيا فإنه يحكم فيها الولاة، والقضاة، والفقهاء.
وحذف المفعول على هذا النحو كثير واسع في التنزيل وغيره، ومثل هذه الآية في حذف المفعول به مع الظرف قوله:
فمن شهد منكم الشّهر فليصمه [البقرة/ 185]، فالشهر ينتصب على أنّه ظرف، وليس بمفعول به، يدلك على ذلك أنه لا يخلو من أن يكون ظرفا أو مفعولا به، فلو كان مفعولا به للزم الصيام المسافر، كما لزم المقيم من حيث شهد المسافر
[الحجة للقراء السبعة: 1/34]
الشهر شهادة المقيم إيّاه، فلمّا لم يلزم المسافر علمت أن المعنى: فمن شهد منكم المصر في الشهر، ولم يكن (الشّهر) مفعولا به في الآية، كما كان يكون مفعولا به لو قلت: أحببت شهر رمضان.
فإن قلت: فإذا كان الشهر في قوله: فمن شهد منكم الشّهر ظرفا ولم يكن مفعولا به، فكيف جاء ضميره متصلا في قوله: (فليصمه)، وهلّا دلّ ذلك على أنه مفعول به؟ قيل: لا يدلّ ذلك على ما ذكرته، لأن الاتساع إنّما وقع فيه بعد أن استعمل ظرفا، وذلك سائغ، ويدلّ على أنّ: (شهد) متعد إلى مفعول قوله:
ويوم شهدناه سليما وعامرا
ومما حذف من المفعول به في التنزيل قوله تعالى: فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا [السجدة/ 14]
[الحجة للقراء السبعة: 1/35]
والتقدير: ذوقوا العذاب، فاستغني عن ذكره للعلم به، وكثرة تردّده في نحو: وذوقوا عذاب الخلد [السجدة/ 14] وذوقوا عذاب النّار [السجدة/ 20] [سبأ/ 42]. ومن ذلك قوله ربّنا إنّي أسكنت من ذرّيّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ [إبراهيم/ 37] أي: ناسا أو فريقا. وقال: فادع لنا ربّك يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها وقثّائها [البقرة/ 61] أي شيئا. ومن ذلك قوله: يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات [إبراهيم/ 48].
ومنه الحديث: «لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده»
المعنى: ولا ذو عهد في عهده بكافر، كما كان التقدير في الآية: والسموات غير السموات. والمعنى: لا يقتل مؤمن بكافر حربيّ، ولا ذو عهد في عهده بكافر. قال أبو يوسف: ولو كان المعنى: لا يقتل مؤمن به، كان: ولا ذي عهد في عهده، وممّا جاء في الشعر من ذلك قوله:
كأنّ لها في الأرض نسيا تقصّه... على أمّها وإن تحدّثك تبلت
[الحجة للقراء السبعة: 1/36]
أي: تقطع الحديث، ومثل ذلك في المعنى والحذف:
رخيمات الكلام مبتّلات... جواعل في البرى قصبا خدالا
ومن ذلك قول الآخر:
لا يعدلنّ أتاويّون تضربهم... نكباء صرّ بأصحاب المحلّات
أي: لا يعدلنّ بهم أحدا، والتقدير: لا يعدلنّ مجاورتهم بمجاورة أحد، ومن ذلك قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/37]
ولا يتحشّى الفحل إن أعرضت به... ولا يمنع المرباع منها فصيلها
روي: منها فصيلها، ومنه فصيلها، فمن روى منها، كان من هذا الباب، وكان منها: حالا أو ظرفا. فأمّا قول الهذليّ:
ضروب لهامات الرجال بسيفه... إذا عجمت وسط الشئون شفارها
فإن شئت كان التقدير: إذا عجمت وسط الشئون شفارها الشئون، أو مجتمع الشئون كما قال المرار الفقعسيّ:
فلا يستحمدون الناس شيئا... ولكن ضرب مجتمع الشّئون
فحذفت المفعول، وإن شئت جعلت وسطا في الشعر اسما، وجعلته المفعول به، كما جعله الفرزدق مبتدأ في قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/38]
أتته بمجلوم كأنّ جبينه... صلاءة ورس وسطها قد تفلّقا
فكما حذف المفعول به من هذه الآي، وهذه الأبيات.
وغير ذلك مما تركنا ذكره كراهة الإطالة، كذلك حذف في قوله: مالك يوم الدّين.
والدين: الجزاء في هذا الموضع بدلالة قوله: اليوم تجزى كلّ نفسٍ بما كسبت [غافر/ 17] واليوم تجزون ما كنتم تعملون [الجاثية/ 28] ولا تكون الطاعة، ولا العادة، وقيل في قول ابن مقبل:
يا دار سلمى خلاء لا أكلّفها... إلّا المرانة حتى تعرف الدّينا
حتى تقوم القيامة، وتأويل هذا: حتى تعرف يوم الدين أي: يوم الجزاء. والمرانة: اسم ناقة عن الأصمعي. وقال غيره: اسم موضع. فأما قوله: تعرف فيستقيم أن يكون مسندا إلى
[الحجة للقراء السبعة: 1/39]
المتكلم المذكور في أكلّف ويستقيم أن يكون للمؤنث الغائب.
والإمالة في (مالك) في القياس لا تمتنع، لأنّه ليس في هذا الاسم ممّا يمنع الإمالة شيء، وليس كلّ ما جاز في قياس العربية تسوغ التلاوة به حتى ينضم إلى ذلك الأثر المستفيض بقراءة السلف له، وأخذهم به لأنّ القراءة سنة.
فأمّا إعراب ملك يوم الدين فالجرّ في القراءتين.
وهو صفة لاسم مجرور، والصفات تجري على موصوفيها، إذا لم تقطع عنهم لذمّ أو مدح.
فأمّا العامل فيها، فزعم أبو الحسن أن الوصف يجري على ما قبله، وليس معه لفظ عمل فيه، إنّما فيه أنّه نعت، فذلك هو الذي يرفعه، وينصبه، ويجرّه، كما أن المبتدأ إنّما رفعه الابتداء، وإنّما الابتداء معنى عمل فيه وليس لفظا، فكذلك هذا.
فإن قلت: فلم لا يكون العامل في الوصف ما عمل في الموصوف؟ قيل: ممّا يدل على أن العامل في الوصف لا يكون العامل في الموصوف أن في هذه التوابع ما يتعرّب بإعراب ما
[الحجة للقراء السبعة: 1/40]
يتبعه، ولا يصح أن يعمل فيه ما عمل في موصوفه. وذلك نحو أجمع وجمع وجمعاء وليست هذه الكلم ككلّ الذي قد جوّز فيه أن يلي العوامل على استكراه. فلمّا صحّ وجود هذا فيها، دلّ أنّ الذي يعمل في الموصوف غير عامل في الصفة في نحو: مررت برجل قائم، وما أشبهه لاجتماعهما في أنّهما تابعان.
ويدلّ على ذلك أيضا أنّك قد تجد من الصفات ما إعرابه يخالف الموصوف، نحو: يا زيد العاقل، فزيد مبني، وصفته مرتفعة ارتفاعا صحيحا. فلو كان العامل في الصفة العامل في الموصوف، لم تختلف حركتاهما، فكانت إحداهما إعرابا، والأخرى بناء، وكان مجيء هذا في النداء دلالة على ما ذكرناه: من أن الصفة ليست بمعمول لما يعمل في الموصوف.
فإن قال قائل: فلم لا تجعل الصفة- من حيث كانت كالجزء ممّا تجري عليه- مع الموصوف بمنزلة شيء واحد؟
وتستجيز من أجل ذلك أن يعمل فيها ما عمل في الموصوف، وتستدل على ذلك بأشياء من كلامهم، تقوي هذا المسلك. من ذلك: أنّهم جعلوه مع الموصوف كاسم واحد، في نحو لا رجل ظريف، وكذلك قولهم: يا زيد بن عمرو وما أشبهه، وقال الله سبحانه: قل إنّ الموت الّذي تفرّون منه فإنّه ملاقيكم [الجمعة/ 8]
[الحجة للقراء السبعة: 1/41]
فلمّا وصف المبتدأ بالاسم الموصول دخلت الفاء في الخبر، كما أنّه لمّا كان المبتدأ موصولا دخلت الفاء فيه؟ قيل: إن ما أوردته من ذلك لا يدلّ شيء منه على كون الوصف معمولا للعامل في الموصوف:
لأنّه يلزم من ذلك أن يكون في اسم واحد إعرابان، وهذا قد رفضوه في كلامهم، يدل على رفضهم إيّاه أنّهم إذا نسبوا إلى تثنية أو جمع على حدّها حذفوا علامتي التثنية أو الجمع من الاسم؛ لئلا يجتمع في الاسم دلالتا إعراب، فإذا كانوا قد كرهوا ذلك في التثنية والجمع مع أن التثنية قد جرت مجرى غير المعرب في قولهم إذا عدّوا: واحد، اثنان، فأن يكره ذلك في الإعراب المحض الذي لم يجر مجرى البناء أجدر.
ومن ثمّ ذهبوا في قولهم: يا زيد بن عمرو، لمّا جعل الموصوف مع الصفة بمنزلة اسم مفرد، إلى أنّه بمنزلة امرئ وابنم ونحو ذلك من الأسماء التي يتبع ما قبل حرف الإعراب فيها حرف الإعراب، ولم يجز فيها عندهم إلّا ذلك، لأنّ حركة آخر الاسم الأول لو كانت إعرابا لوجب أن يكون في الاسم الواحد إعرابان، وذلك ممّا قد اطّرحوه في كلامهم فلم يستعملوه.
ومما يبيّن ذلك أنّهم حيث قالوا في المنفيّ: لا رجل ظريف لك، جعلوا الأول منهما بمنزلة صدور الأشياء التي يضمّ
[الحجة للقراء السبعة: 1/42]
إليها ما يكون معها شيئا واحدا. وإذا كان الأمر كذلك كان قول من قال في امرئ ونحوه: إنّه معرب من مكانين، غير مستقيم، لما أريتكه من حذفهم علامة التثنية والجمع في النسب. وأمّا قوله: قل إنّ الموت الّذي تفرّون منه فإنّه ملاقيكم [الجمعة/ 8] فقد جوّز أبو الحسن فيه: أن تكون الفاء فيه زائدة. وحكى أبو يعلى عن أبي عثمان مثل ذلك. ووجه ذلك أن الفاء تدخل للعطف أو للجزاء وزيادة، فلمّا لم يكن للعطف مذهب من حيث لم يستقم عطف الخبر على مبتدئة لم يصحّ حمله على العطف، ولم يستجز حمله على أنها للجزاء لبعد ذلك في اللفظ والمعنى.
فأمّا اللفظ فلأن الجزاء الذي هو في الأصل شرط لازم غير مستغنى عنه ولا يستقلّ الجزاء إلّا به. فلمّا كانت صورة الشرط على ما ذكرنا، ولم يكن الوصف كذلك- لأنّك في أكثر الأمر مخيّر في ذكره وتركه- لم يكن موضعا للجزاء كما يكون موضعا له مع المبتدأ الموصول، والنكرة الموصوفة، كقوله تعالى: الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار ثم قال: فلهم أجرهم [البقرة/ 274]. وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه
[الحجة للقراء السبعة: 1/43]
[النحل/ 53] فلمّا لم يكن موضعا له ولا للعطف حكم بزيادة الفاء، لأنّها قد ثبتت زائدة حيث لا إشكال في زيادتها، وذلك قوله:
لا تجزعي إن منفسا أهلكته... وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي
ألا ترى أنّ إحدى الفاءين لا تكون إلّا زائدة، لأنّ (إذا) إنّما يقتضي جوابا واحدا. وأما بعد الجزاء في المعنى، فلأن الجزاء ما كان بإثبات معنى أو نفيه، فأمّا ما كان واقعا لا محالة، فإنّه لا يكون من باب الجزاء، والموت ملاق لهم، فرّوا أو لم يفرّوا.
فإن قلت: فقد تقول في الجزاء: لأضربنّك إن سكتّ أو نطقت، ولأعطينك إن خرجت أو أقمت فإن هذا كلام متّسع فيه مخرج عن أصله. وحكمه إذا استعمل حرف المجازاة أن يفعل الإعطاء إذا وقع الخروج، ثم يبدو له أن يفعله في جميع الأحوال فيقول بعد: أو أقمت. وقد يصحّ أن يحمل هذا الكلام
[الحجة للقراء السبعة: 1/44]
على المعنى فيستقيم أن تكون الفاء جزاء. وذلك أنّ معنى:
(إنّ الموت الّذي تفرّون منه) ومعنى: إنّ الذي تفرون منه من الموت واحد، فكما يصحّ الجزاء في هذا الاسم كذلك يصحّ فيما كان بمعناه.
ألا ترى أنّك قد جازيت حيث كانت الصلة ظرفا لمّا كان الظرف متضمّنا لمعنى الفعل؟ كقوله: وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه [النمل/ 53] ودخلت الفاء في الخبر، كما دخلت في الصلة، والصلة فعل محض، وكل ذلك حمل على المعنى، لأنّ الجزاء المحض لا يكون بالظرف، ولذلك قال سيبويه: إنّ عندك ونحوه لا يبنى على إن. فأمّا دخول معنى الجزاء في الآية وصحته، فعلى أن ينزل الكلام كأنه خوطب به من ظنّ أنّ فراره من الموت ينجيه، وقد جاء الجزاء المحض في ذلك، قال الشاعر:
ومن هاب أسباب المنيّة يلقها... ولو رام أسباب السماء بسلّم
فإذا جاز في الجزاء المحض في البيت فكذلك تكون الآية، والتصحيح لمعنى الجزاء في ذلك قول محمد بن يزيد. فإن قلت: فهلّا استدللت بعمل إنّ في الاسم على أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/45]
معنى المجازاة لا يصحّ في الآية، لأنّ إنّ لا يدخل على الجزاء المحض، فكذلك لا يدخل على هذا الضرب من حيث كان مثل المحض في كونه جزاء. قيل: لا يمتنع دخول إنّ على هذا الضرب وإن كان قد تضمّن الاسم معنى الجزاء، كما امتنعت من الدخول على الجزاء المحض، لأنّ الذي يدخله اسم، لم يقم مقام الحرف، كما كان ذلك في الجزاء الجازم، والكلام خبر، فإن كان كذلك، لم يكن شيء يمنع من إعمال إنّ، ألا ترى أنّها قد دخلت في قوله: إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم [البروج/ 10] فعملت في الموصول الذي دخلت الفاء في خبره، كما تعمل فيما لا تدخل الفاء خبره. فما دخلت عليه إنّ، ممّا في خبره الفاء من صحّة معنى الجزاء فيه كما لم تدخل عليه إنّ، كقوله: الّذين ينفقون أموالهم...
فلهم أجرهم [البقرة/ 274]، ولو ألحقت هذا الضرب من
[الحجة للقراء السبعة: 1/46]
الأسماء: «ليت ولعل» لم يجز دخول الفاء لأنّ الشرط والجزاء خبر، وما يدخل عليه إنّ مثله.
فأمّا «ليت ولعلّ» فإنهما إذا دخلتا أبطلتا معنى الخبر، وإذا بطل الخبر لم يكن موضع مجازاة، وإذا لم يكن موضع مجازاة لم يصحّ دخول الفاء، فصحّة دخول معنى الجزاء مع دخول إنّ كصحته إذا لم يدخل، ومن ثم قال فيمن قال:
المرأة التي أتزوّجها فهي طالق. إنه من تزوّج من النساء طلق لدخول معنى الجزاء الكلام ولحاق الفاء من أجله، والجزاء يوجب الشياع والإبهام واستغراق الجميع لذلك. وإذا جاز هذا الذي ذكرناه في قوله تعالى: قل إنّ الموت الّذي تفرّون منه فإنّه [الجمعة/ 8]... لم يكن لمن زعم أن الصفة في حكم الموصوف- من أجل أن الفاء دخلت والفعل في صلة الصفة دون المبتدأ- دلالة على قوله، لاحتماله غير ذلك مما ذكرت.
فأمّا قوله تعالى: شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن
[الحجة للقراء السبعة: 1/47]
ثم جاء: فمن شهد منكم الشّهر [البقرة/ 185] فإن شئت جعلته مثل قوله: قل إنّ الموت الّذي تفرّون منه، وإن شئت جعلته مبتدأ محذوف الخبر، كأنّه لمّا تقدم: كتب عليكم الصّيام [البقرة/ 183] قيل: فيما كتب عليكم من الصيام شهر رمضان، أي صيامه، كما قال:
الزّانية والزّاني فاجلدوا [النور/ 2] أي: فيما فرض عليكم الزانية والزاني، أي: حكمهما. وكذلك مثل الجنّة الّتي وعد المتّقون [محمد/ 15]. وإن شئت جعلته ابتداء وجعلت خبره الموصول كقولك: زيد الذي في الدار. فإن قلت: إذا جعلت الذي وصفا في قوله: (الّذي أنزل فيه القرآن) فكيف لم يكن عن الشهر كقولك: شهر رمضان المبارك من شهده فليصمه؟ فإنّ ذلك يكون كقوله: الحاقّة ما الحاقّة [الحاقة/ 1]، والقارعة ما القارعة [القارعة/ 1] ونحو ذلك.
وأمّا جواز دخول معنى الجزاء فيه فلأنّ شهر رمضان وإن كان معرفة فليس بمعرفة معيّنة، ألا ترى أنه شائع في جميع هذا القبيل لا يراد به واحد بعينه، فلا يمتنع من أجل ذلك من معنى الجزاء، كما يمتنع ما يشار به إلى واحد مخصوص، ومن ثم لم يمتنع ذلك في صفة الموت في قوله: قل إنّ الموت الّذي تفرّون منه لأنّ الموت ليس يراد به موت بعينه، إنّما يراد
[الحجة للقراء السبعة: 1/48]
به الشياع، ومعنى الجنس، وخلاف الخصوص. وأشبه الوجوه أن يكون الذي وصفا، ليكون النصّ قد وقع على الأمر بصيام الشهر.
ومن قال: إن الفاء في قوله: فإنّه ملاقيكم زيادة، فقياس قوله في هذه الفاء أن تكون زائدة أيضا، وهو قول أبي الحسن وأبي عثمان فيما روى عنه أبو يعلى بن أبي زرعة). [الحجة للقراء السبعة: 1/49]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ( (ملك يوم الدّين) 4
قرأ عاصم والكسائيّ {مالك يوم الدّين} بألف
وقرأ الباقون بغير ألف وحجتهم {الملك القدوس} و{ملك النّاس} {فتعالى الله الملك الحق} وكان أبو عمرو يقول أولا تقولون: {فتعالى الله الملك الحق}
وحجّة أخرى ذكرها أبو عبيد وهي أن كل ملك فهو مالك
[حجة القراءات: 77]
وليس كل مالك ملكا لأن الرجل قد يملك الدّار والثّوب وغير ذلك فلا يسمى ملكا وهو مالك وكان أبو عمرو يقول ملك تجمع مالكًا ومالك لا يجمع ملكا
وحجّة أخرى وهي أن وصفه بالملك أبلغ في المدح من وصفه بالملك وبه وصف نفسه فقال {لمن الملك اليوم} فامتدح بملك ذلك وانفراده به يومئذٍ فمدحه بما امتدح به أحق وأولى من غيره والملك إنّما هو من ملك لا من مالك لأنّه لو كان من مالك لقيل لمن الملك بكسر الميم والمصدر من الملك الملك يقال هذا ملك عظيم الملك والاسم من المالك الملك يقال هذا مالك صحيح الملك بكسر الميم
وحجّة من قرأ مالك هي أن مالكًا يحوي الملك ويشتمل عليه ويصير الملك مملوكا لقوله جلّ وعز {قل اللّهمّ مالك الملك} فقد جعل الملك للمالك فصار مالك أمدح وإن كان يشتمل على ما يشتمل عليه الملك وعلى ملكه سوى ما يتلوه 1 / 2 من زيادة الألف الّتي هي حسنة قد ضمن عنها عشر حسنات والدّليل على هذا أن شاعرًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو امرأته فقال:
يا مالك الملك وديان العرب
[حجة القراءات: 78]
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مه ذلك الله
وحجّة أخرى وهي قوله {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا} فقد أخبر أنه وإذا كان يملك فهو مالك
وحجّة أخرى ذكرها الأخفش وهي أن مالكًا يضاف في اللّفظ إلى سائر المخلوقات فيقال هو مالك النّاس والجنّ والحيوان ومالك الرّياح ومالك الطير وسائر الأشياء ولا يقال هو ملك الرّيح والحيوان فلمّا كان ذلك كذلك كان الوصف بالملك أعم من الوصف بالملك لأنّه يملك جميع ما ذكرنا وتحيط به قدرته ويحكم يوم الدّين بين خلقه دون سائر خلقه
قال علماؤنا إنّما يكون الملك أبلغ في المدح من مالك في صفة المخلوقين لأن أحدهم يملك شيئا دون شيء والله يملك كل شيء). [حجة القراءات: 79]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (2- قوله: {مالك يوم الدين} قرأ عاصم والكسائي بألف. وروي عن الكسائي أنه خير في ذلك. وقرأ الباقون (ملك) بغير ألف.
وحجة من قرأه بألف إجماعهم على قوله: {قل اللهم مالك الملك} «آل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/25]
عمران 26» ولم يقل «ملك» وأيضًا فإن «مالكا» معناه المختص بالملك و«ملكا» معناه «سيد ورب» فيقول: هو ملك الناس، أي: ربهم وسيدهم ولا يحسن هذا المعنى في «يوم الدين»، لو قلت: هو سيد يوم الدين، لم يتمكن المعنى، وإذا قلت: هو مالك يوم الدين، تمكن المعنى؛ لأن معناه هو المختص بملك يوم الدين. وقوله: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا} «الانفطار 19» بكسر اللام يدل على «مالك» لأنه لما نفى عنهم الملك الذي هو مصدر المالك وجب أن يكون هو المالك، ولو قال «تملك» بضم اللام لدل على «ملك» لأن الملك مصدر «ملك» و«الملك» مصدر «مالك»، وأيضًا فإن «مالكا» بألف يجمع لفظ الاسم ومعنى الفعل، فلذلك يعمل «فاعل» عمل الفعل، فينصب كما ينصب الفعل، فـ «مالك» أمدح من «ملك»، وأيضًا فإن «مالكا» أعم، تقول: هو مالك الجن والطير والدواب، ولا تضيف «ملكا» إلى هذه الأصناف، وتقول: الله مالك كل شيء، ولا تقول: هو ملك كل شيء فـ «مالك» أعم وأجمع للمعاني في المدح، وأيضًا فإن «مالكا» يدل على تكوين يوم الدين وإحداثه، ولا يدل على ذلك «ملك»؛ إذ ليس له عمل الفعل، تقول: الله مالك يوم الدين، أي: مالك إحداثه وتكوينه، ولا تقول ذلك في «ملك» بهذا المعنى.
وحجة من قرأ «ملك» بغير ألف إجماعهم على {الملك القدوس} «الحشر 23» و{الملك الحق} «طه 114» و{ملك الناس} «الناس 2»، وروي عن أبي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/26]
عمرو أنه قال: «ملك» يجمع معنى «مالك»، و«مالك» لا يجمع معنى «ملك» لأن {مالك يوم الدين} معناه: مالك ذلك اليوم بعينه، و(ملك يوم الدين) معناه: ملك ذلك اليوم بما فيه، فهو أعم، وأيضًا فقد أجمعوا على الضم في قوله: {من الملك اليوم} «غافر 16» يعني: يوم الدين، و«الملك» بالضم مصدر من «ملك»، تقول: هو ملك بين الملك.
قال أبو محمد: وقد قرأ «ملك» بغير ألف جماعة من الصحابة وغيرهم، منهم أبو الدرداء وابن عباس وابن عمر ومروان بن الحكم ومجاهد
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/27]
ويحيى بن وثاب والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن جريج والجحدري وابن جندب وابن محيصن وهو اختيار أبي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/28]
عبيد، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: «ملك» بغير ألف، وروي عنه بألف أيضًا.
3- فإن قيل: فما اختيارك في ذلك؟
فالجواب أن القراءتين صحيحتان حسنتان، غير أن القراءة بغير ألف أقوى من نفسي لما ذكرته من الحجج في ذلك، ولما فيه من العموم، تقول: كل ملك مالك، ولا تقول: كل مالك ملك، وتقول: كل ملك ذو ملك، ولا تقول: كل مالك ذو ملك، وإنما هو ذو ملك لا غير، فـ «ملك» أعم في المدح وأيضًا فإن أكثر القراء العامة على «ملك» و«مالك» أيضًا حسن قوي في الرواية، فقد روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام كان يقرأ: {مالك يوم الدين} بألف، وكذلك روت أم حصين أنها
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/29]
سمعت النبي عليه السلام يقرأ في الصلاة: {مالك يوم الدين}، وكذلك روت أم سلمة، ولما روى الزهري عن أنس أن النبي وأبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب، ومعاذ
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/30]
ابن جبل كانوا يقرؤون: مالك، بألف، وكذلك روى أبو هريرة والحسن ومعاوية وابن مسعود وعلقمة والأسود وابن جبير وأبو رجاء والنخمي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/31]
وابن سيرين وأبو عبد الرحمن السلمي ويحيى بن يعمر، وغيرهم، وقد اختلف فيه عن علي وعمر بن عبد العزيز، وأيضًا فإن «مالكا» بألف هو اختيار أبي حاتم وأبي الطاهر وغيرهما. و«ملك» بغير ألف أقوى
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/32]
في نفسي لما ذكرت لك.
4- فإن سأل سائل فقال: ما العلة التي أوجبت ذكرك لكسر الكاف من «ملك» دون ياء، وبضم الدال من «نعبد» دون واو ولم خصصت هذين الأصلين بالذكر؟
فالجواب أنه إنما ذكرت ذلك لأن بعض أهل مصر والمغرب روى عن ورش أنه يشبع الكسرة إذا أتت بعدها ياء، حتى يتولد من الكسرة ياء، فيقول: «ملكي يوم الدين» وكذلك ما أشبهه. وروى أنه يشبع الضمة إذا أتت بعدها واو، حتى يتولد من الضمة واو، فيقول: (نعبدو وإياك)، وكذلك ما شابهه في القرآن، فأردت بذكري لذلك إنكار هذه الرواية، ومنعها لشذوذها، وقلة روتها، وترك الناس لاستعمالها في صلاتهم ومساجدهم ومكاتبهم.
5- فإن قيل: فما العلة في منعها، وقد رويت؟
فالجواب أن الإجماع من القراء والرواة عن ورش على خلافها لشذوذها، ولأنها إنما هي لغة تجوز في الشعر للضرورة، وحمل كتاب الله على ذلك لا يحسن ولا يجوز، مع ما في ذلك من الإشكال، إذا قرئ به؛ لأنه إذا قرئ: (ملكي يوم) أمكن أن يكون جمع «ملك» المسلم، وحذفت النون للإضافة وإذا قرئ: «نعبدو» أمكن أن تزاد واواو ضمير الجميع، فيجمع بين النون التي تدل على الجمع وبين الواو، مع أن الواو لو كانت ضميرًا للجمع للزمتها النون،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/33]
وهذا كله إشكال، وخروج عن لغة العرب، ولحن خطأ). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/34]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (بسم الله الرحمن الرحيم
1- {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [آية/ 4].
بالألف، قرأها عاصم والكسائي ويعقوب.
لأن الوصف بالملك أعم منه بالملك؛ لأنه ينطلق على كل شيء، فالله تعالى مالك كل شيء، والمعنى في الآية أنه يملك الحكم في يوم الدين فالملك إنما يكون مع الناس، والمالك مع غيرهم، يقال: هو ملك الناس ومالك الدراهم، والله تعالى مالك للناس ولغيرهم.
الباقون: (مَلِكِ) بغير ألف.
لأن ملكًا يجمع مالكًا، ومالكًا لا يجمع ملكًا، ثم إن ملكًا أبلغ في
[الموضح: 229]
المدح، والآية إنما نزلت في المدح بدلالة ما قبلها، والربوبية والملك متشابهان، ولا يكون ملكًا حتى يكون مالكًا لكثير من الأشياء، والمعنى الملك في يوم الدين). [الموضح: 230]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 06:14 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

القراءات في قول الله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}

قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قرأها الفضل الرقاشي: {وَأَيَّاكَ} بفتح الهمزة.
قال أبو الفتح: قد ذكرنا في كتابنا الموسوم بسر صناعة الإعراب: ما تحتمله إيّا من الْمُثُل: هل هي فِعَّل، أو فِعْيَل، أو فِعْوَل، أو إِفْعَل، أو فِعْلَل؟
أَمِنْ: آءَة، أم من أَيَة، أم من أَوَيْتُ، أم من وَأَيْتُ، أم من قوله:
فأَوِّ لذكراها إذا ما ذكرتُها
فأما فتح الهمزة فلغة فيها: إِياك وأَياك وهِيَّاك وهَيَّاك، والهاء بدل من الهمزة، كقولهم:
[المحتسب: 1/39]
في أرَقت: هَرقت، وأردت: هَردت، وأرحت الدابة: هرحت، وأَنرت الثوب: هنرت، قال:
فهِياك والأمرَ الذي إن توسَّعَتْ ... موارده ضاقت عليك مصادره
وقرأ عمرو بن فايد: {إِيَاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ نَسْتَعِينُ} بتخفيف الياء فيهما جميعًا، فوزن إيا على هذا فِعَل كرِضًا وحِجًا وحِمًى، ونظيره: أيَا الشمس، قال طرَفة:
سقته إياةُ الشمس إلا لِثَاتِه ... أُسِفَّ ولم تكدِمْ عليه بإثمِدِ
ويقال فيه: أَيَاءُ الشمس بالفتح والمد، قال ذو الرمة:
تَنازَعها لونان ورد وحُوُّةٌ ... ترى لأَيَاءِ الشمس فيه تحدُّرا
وإِيًا فِعَل، وأَيَاء فَعَال، وكلاهما من لفظ الآية ومعناها، وهي: العلامة، وذلك أن ضوء الشمس إذا ظهر عُلم أن جرمها على وجه الأرض.
وحدثنا أبو بكر محمد بن علي قال: كان أبو إسحاق يقول في قول الله سبحانه: {إياك نعبد} أي: حقيقتك نعبد، وكان يشتقه من الآية وهي العلامة، وهذا يجيء ويسوغ على رأي أبي إسحاق؛ لأنه كان يعتقد في {إيَّاك} أنه اسم خُص به المضمر، فأما على قول الكافة فاشتقاقه فاسد؛ لأن {إيَّاك} اسم مضمر، والأسماء المضمرة لا اشتقاق في شيء منها، وينبغي أن يكون عمرو بن فايد إنما قرأ [إِيَاكَ] بالتخفيف؛ لأنه كره اجتماع التضعيف مع ثقل الياءين والهمزة والكسرة، ولا ينبغي أن يحمل [إيَاك] بالتخفيف على أنها لغة، وذلك أنا لم نرَ لذلك أثرًا في اللغة ولا رسمًا ولا مرَّ بنا في نثر ولا نظم. نعم، ومن لم يُخْلِد مع ثقته إلى نظر يُعْصم به ويتساند إليه بأمانته، أُتي من قبل نفسه من حيث يظن أنه ينظر لها، وكان ما دهاه في ذلك من أجل فقاهته لا أمانته.
وإذا جاز أن تخفف الحروف الثقال مع كونها صحاحًا وخفافًا؛ فتخفيف الضعيف الثقيل
[المحتسب: 1/40]
أَحْرَى وأَوْلَى، فمن ذلك قولهم في رُبَّ رَجُل: رُبَ رَجل، وفي أرَّ: أرْ، وفي أيٍّ: أيْ، أنشدنا أبو علي للفرزدق:
تنظرتُ نصرًا والسماكين أَيْهُمَا ... عَلَيَّ من الغيثِ استهَلَّت مواطِرُه
ويبدلون أيضًا ليختلف الحرفان فيخفا، وذلك قوله:
يا ليتما أُمُّنَا شالت نعامَتُها ... أَيْمَا إلى جنة أَيْمَا إلى نار
وقالوا في اجلوَّاذ: اجليواذ، "و" وفي دِوَّان: ديوان، والشيء من هذا ونحوه أوسع؛ لكن كل واحد من هذه الحروف وغيرها قد سمع وشاع، فأما [إِيَاك] بالتخفيف فلم يسمع إلا من هذه الجهة، وينبغي للقرآن أن يُختار له، ولا يختار عليه). [المحتسب: 1/41]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 06:16 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

القراءات في قول الله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}

قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (اهدنا الصّراط المستقيم (6).
قرأ بالصاد ابن كثير، واتفق معه نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، والكسائي.
وقرأ حمزة بين الصاد والزاي،
[معاني القراءات وعللها: 1/110]
ولا يحتمله الكتاب، وقرأ يعقوب الحضرمي (السّراط) بالسين، وروى السين عن ابن عباس، وابن الزيير.
وقال أبو حاتم فيما أخبرنا عنه أبو بكر بن عثمان: قراءة العامة بالصاد، وعليها المصاحف.
قال الأزهري: من قرأ بالسين فهو الأصل؛ لأن العرب تقول: سرطت اللقمة سرطا، و: زردتها - زرداً، أي: بلعتها بلعًا.
ومن قرأ بالصاد فلأن مخرج السين والصاد من طرف اللسان فيما بينه وبين الثنايا، والسين والصاد يتعاقبان في كل حرف فيه غين، أو قاف، أو طاء، أو خاء.
فالطاء مثل: (بسطة" و(بصطة)، ومثل: (مسيطر" و"مصيطر)، والخاء مثل: سلخ الجلد، وصلخه.
والغين مثل: مصدغة، ومسدغة.
والقاف مثل: الصقر، والسقر، و: صقع الديك، وسقع.
روى ذلك الثقات عن العرب.
والسين حرف مهموس، والصاد حرف مجهور، وذلك اختير مع هذه الحروف.
وقوله جلّ وعزّ: (اهدنا الصّراط المستقيم)، معناه ثبّتنا على المنهاج الواضح.
وقيل معناه: زدنا هدى). [معاني القراءات وعللها: 1/111]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (2- وقوله: {إهدنا الصراط المستقيم}.
قرأ ابن كثير {السراط} بالسين، وكذلك في كل القرآن على أصل الكلمة.
وقرأ الباقون: {الصراط} بالصاد، وإنما قلبوا السين صادًا؛ لأن السين مهموسة والصاد مجهورة، وهي من حروف الإطباق، والسين مفتحة، وقلبوا السين صادًا لتكون مؤاخية للسين في الهمس والصغير، وتؤاخي الصاد في الإطباق، إلا حمزة فإنه يُشم الصاد زايا، وذلك أن الزاي تؤاخي السين في الصفير وتؤاخي الصاد في الجهر، وكذلك قوله: {حتى يصدر الرعاء} بإشمام الزاي، وانشد ابن دريد رضي الله عنه:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/49]
ولا تهييني الموماة أركبها = إذا تجاوبت الأزداء بالسحر
جعلها زايًا خالصة وهي لغة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/50]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: الصّراط المستقيم [الفاتحة/ 6] فروي عن ابن كثير: السين والصاد. وروي عن أبي عمرو: السين، والصاد، والمضارعة بين الزاي والصاد، رواه عنه العريان بن أبي سفيان، وروى عنه الأصمعي «الزراط» بالزاي، والباقون بالصاد، غير أن حمزة يلفظ بها بين الصاد والزاي.
قال أبو بكر: للقارئ بالسين أن يقول: هو أصل الكلمة، ولو لزم لغة من يجعلها صادا مع الطاء لم يعلم ما أصلها.
ويقول من يقرأ بالصاد: إنّها أخفّ على اللسان، لأنّ
[الحجة للقراء السبعة: 1/49]
الصاد حرف مطبق كالطاء فتتقاربان، وتحسنان في السمع، والسين حرف مهموس، فهو أبعد من الطاء، وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة وقتادة.
ويقول من قرأ بالزاي: أبدلت منها حرفا مجهورا حتى يشبه الطاء في الجهر، ورمت الخفّة، ويحتجّ بقول العرب: صقر، وسقر، وزقر.
ويقول من قرأ بالمضارعة التي بين الزاي والصاد:
رمت الخفة، ولم أجعلها زاء خالصة، ولا صادا خالصة فيلتبس بأحدهما.
قال أبو بكر: والاختيار عندي الصاد، للخفّة، والحسن في السمع، وهو غير ملبس، لأنّ من لغته هذا إذا كان يتجنّب السين مع الطاء لم يقع عليه لبس، لأنّ السين كأنّها مهملة في الاستعمال عنده مع الطاء، وإنّما يقع الإلباس لو التبست كلمة بالسين بكلمة بالصاد في معنيين مختلفين، ومع ذلك فهي قراءة الأكثر، ألا ترى أنّ من رويت عنه القراءة بالسين منهم قد رويت عنه بالصاد؟
[الحجة للقراء السبعة: 1/50]
وقال: وأما الزاي فأحسب الأصمعيّ لم يضبط عن أبي عمرو، لأنّ الأصمعي كان غير نحويّ، ولست أحبّ أن تحمل القراءة على هذه اللغة، وأحسب أنه سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة للزاي فتوهّمها زاء.
وأمّا القراءة بالمضارعة التي بين الزاي والصاد فعدلت عن القراءة بها، لأنّه تكلّف حرف بين حرفين، وذاك أصعب على اللسان، لأنّه إنّما استعمل في هذه الحال فقط، وليس هو بحرف يبنى عليه الكلم، ولا هو من حروف المعجم، ولست أدفع أنّه من كلام الفصحاء من العرب، إلا أنّ الصاد أفصح وأوسع وأكثر على ألسنتهم. والسين والصاد والزاي أخوات، والصاد أشبههنّ بالطاء، لأنّها مطبقة مثلها، والزاي أقرب أيضا إلى الطاء من السين، لأن الزاي حرف مجهور. قال أبو حاتم: ليست الزاي الخالصة بمعروفة. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: الحجّة لمن قرأ بالصاد أن القراءة بالسين مضارعة لما أجمعوا على رفضه من كلامهم، ألا ترى أنّهم تركوا إمالة «واقد» ونحوه كراهة أن يصعّدوا بالمستعلي
بعد التسفل بالإمالة؟ فكذلك يكره على هذا أن يتسفّل ثم يتصعّد بالطاء في سراط، وإذا كانوا قد أبدلوا من السين الصاد مع
[الحجة للقراء السبعة: 1/51]
القاف في صقت، وصويق، ليجعلوها في استعلاء القاف مع بعد القاف من السين وقرب الطاء منها، فأن يبدلوا منها الصاد مع الطاء أجدر من حيث كانت الصاد إلى الطاء أقرب. ألا ترى أنّهما جميعا من حروف طرف اللسان، وأصول الثنايا، وأن الطاء تدغم في الصاد؟
ويدلّك على أنّ حسن إبدال الصاد من السين في «سراط» لما ذكرت لك من كراهة التصعّد بعد التسفّل، أنّ من يقول: صويق، وصقت إذا قال: قست وقسوت لم يبدل الصاد منها، لأنّه الآن ينحدر بعد الإصعاد، وهذا يستخفّ ولا يستثقل كما استثقل عكسه، ألا ترى أنّهم لم يميلوا نائق، وأمالوا، نحو قادر، وقارب؟
فإن قلت: إنّ السين الأصل بدلالة قولهم: سرطم وسرطراط والأخذ سرّيط. قيل: الألف أيضا أصلها ألّا تمال، ولكن لمّا وقعت مع الكسرة والياء فأريد مجانسة
[الحجة للقراء السبعة: 1/52]
الصوتين وملاءمتهما أميلت، وترك الأصل الذي هو التفخيم والتحقيق لها.
فكذلك في باب صراط وصويق وصالخ وصالغ لمّا أريد فيه ذلك ترك الأصل إلى تشاكل الصوتين وتجانسهما، وقد تركوا في غير هذا- لما ذكرت لك- ما هو أصل في كلامهم إلى ما ليس بأصل، طلبا لاتّفاق الصوتين، ألا تراهم قالوا: شمباء، ومم بك، فلم يبينوا النون التي هي الأصل في الشّنب، ومن عامر؟ لمّا أرادوا أن يوفّقوا بين الصوتين. ولم يستجيزوا إدغام النون في الباء من حيث كان متشابها ما لم يدغم في الباء وهو الميم، فكما تركوا الأصل هاهنا طلبا للمشاكلة، كذلك يترك الأصل في سراط، ويختار إبدال الصاد من السين.
فأمّا القراءة بالزاي فليس بالوجه. وذلك أن من قال في أصدرت: أزدرت، وفي القصد: القزد، فأبدل من الصاد الزاي، فإنه إذا تحركت الصاد في نحو: صدرت، وصدقت، لم يبدل. فإذا لم يبدلوا الصاد زاء إذا تحركت مع الدال، وكانت الطاء في الصراط، مثل الدال في القصد في حكم
[الحجة للقراء السبعة: 1/53]
الجهر، فكذلك ينبغي ألّا تبدل من السين الزاي في سراط من أجل الطاء، لأنها قد تحرّكت كما تحركت في صدقت، مع أنّ بينهما في «سراط» حاجزين، وقد قال سيبويه: إذا قال:
مصادر فجعل بينهما حرفا ازداد التحقيق حسنا وكثرة. يريد يزداد التحقيق للصاد كثرة إذا وقع الفصل بالحرف على التحقيق إذا وقع الفصل بحركة نحو: صدق.
وإنما لم تبدل في الموضعين لمّا فصلت الحركة أو الحرف، لأنّ التبيين وتصحيح الصاد في قصد وأصدرت قد كان يجوز ولا حاجز بينهما، فلمّا وقع الفصل وحجزت الحركة أو الحرف امتنع ما كان يجوز من قبل.
ألا ترى أن المتقاربين إذا وقعا في كلمة واحدة ففصل بينهما الحركة بيّن، وذلك نحو وتد. ومن أدغم قدّر فيه الإسكان، مثل فخذ فأدغم على ذلك؟ فكما لم يقو الإدغام ولم يكثر مع حجز الحركة كذلك لا يقوى البدل مع حجز الحركة، لاجتماع الموضعين في أن القصد فيهما تقريب حرف من حرف. فأمّا القراءة بالمضارعة، فأحسن من القراءة
بإبدال الزاي من السين، لأنّ من لم يبدل من الصاد الزاي إذا تحركت قد يضارع بنحو صاد صدقت، ويضارع بها إذا بعدت نحو مصادر، والصراط كما قالوا: حلبلاب فوفّقوا بين الحرفين مع حجز ما حجز بينهما من الحروف، وكأنّه أحبّ أن يشاكل بهذه
[الحجة للقراء السبعة: 1/54]
المضارعة ليكثر بذلك تناسب أحد الحرفين إلى الآخر. فأشرب الصاد صوت الزاي لذلك.
ومما يقوّي مضارعة الصاد في الصراط بالزاي أنّهم حيث وجدوا الشين مشبهة للصاد والسين في الهمس والرخاوة والاستطالة إلى أعلى الثّنيّتين ضارعوا بها الزاي، لمّا وقع بعده الدال ليتفقا في الجهر، وذلك نحو قولهم: أزدق في الأشدق، وكذلك فعلوا بالجيم قبل الدال لقربها من الشين، وذلك قولهم: أزدر في الأجدر، فإذا ضارعوا بهذين الحرفين الزاي ليقرّبوها بذلك من الدال مع تباعد مخارجهما من الزاي فأن يضارعوا بها الصاد أجدر، لقربها منها واتفاقهما في المخرج. ويؤكّد هذه المضارعة أنّهم قالوا: اجدرءوا واجدمعوا، فأبدلوا من تاء الافتعال الدال لمّا أشرب صوت الزّاي، كما أبدل في مزدجر ونحوه، ولا يجوز أن تخلص الشين، والجيم زاء كما فعلت ذلك في الصاد والسين في:
القصد، ويسدل ثوبه، لأنهما لم تقربا من الزاي قرب الصاد والسين منها.
ويقوي اتساع ذلك في الاستعمال أن سيبويه قال: زعم هارون أنها قراءة الأعرج، قال: وقراءة أهل مكة اليوم:
[الحجة للقراء السبعة: 1/55]
حتّى يصدر الرّعاء [القصص/ 23] بين الصاد والزاي قال: والمضارعة في الصاد يعني إذا كانت مع الدال أكثر وأعرف منها في السين، يعني في نحو: يزدل ثوبه.
وممّا يحتجّ به من أخلص الصاد وحققها على من ضارع بها الزاي أن يقول: الحرف قد أعلّ مرة بالقلب فلا تستقيم المضارعة، لأنّها إعلال آخر، وقد رأيتهم كرهوا الإعلال في الحرفين إذا تواليا، فإذا لم يوالوا بين إعلالين في حرفين مفترقين فألّا يوالوا بين إعلالين في حرف واحد أجدر.
ويقوّي ذلك أنهم حذفوا النون من نحو بلعنبر، وبلحرث، ولم يحذفوا من بني النجار مع توالي النونات حيث كانت اللام قد اعتلّت بالقلب لئلا يتوالى إعلالان: الحذف والقلب، وإن كانا من كلمتين مفترقتين فإذا كره في هذا النحو كان توالي إعلالين في حرف واحد أبعد.
وممّا يحتجّون به على من ضارع بها الزاي، أنّ هذه المضارعة تشبه الإدغام في أنّه تقريب الحرف الأول من الثاني، فكما أنّ الصاد لا تدغم في الطاء، لانتقاص صوتها بذلك، فكذلك لا ينبغي أن يضارع بها لأنّ هذه المضارعة في حكم الإبدال، بدلالة أنّهم حيث ضارعوا بالجيم الزاي في قولهم:
اجدرءوا واجدمعوا أبدلوا من تاء الافتعال الدال كما أبدلوا في
[الحجة للقراء السبعة: 1/56]
مزدجر. وقال سيبويه: لم تكن المضارعة هنا الوجه، يعني في الصراط). [الحجة للقراء السبعة: 1/57]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن رضي الله عنه: [اهدنا صراطًا مستقيمًا].
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون أراد -والله أعلم- التذلل لله سبحانه، وإظهار الطاعة له؛ أي: قد رضينا منك يا ربنا بما يقال له: صراط مستقيم، ولسنا نريد المبالغة في قول من قرأ: {الصراط المستقيم} أي: الصراط الذي شاعت استقامته، وتُعولمت في ذلك حاله وطريقته، فإن قليل هذا منك لنا زاك عندنا وكثير من نعمتك علينا، ونحن له مطيعون، وإلى ما تأمر به وتنهى فيه صائرون، وزاد في حسن التنكير هنا ما دخله من المعنى؛ وذلك أن تقديره: أَدِمْ هدايتك لنا؛ فإنك إذا فعلت ذلك بنا فقد هديتنا إلى صراط مستقيم؛ فجرى حينئذ مجرى قولك: لئن لقيتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتَلْقَينَّ منه رجلًا متناهيًا في الخير، ورسولًا جامعًا لسبل الفضل؛ فقد آلت به الحال إلى معنى التجريد؛ كقول الأخطل:
بِنَزوة لص بعدما مر مصعب ... بأَشعث لا يُفْلَى ولا هو يَقمَل
[المحتسب: 1/41]
ومصعب نفسه هو الأشعث، وعليه قول طرفة:
جازت القومَ إلى أرحُلنا ... آخر الليل بيعفور خَدِر
وهي نفسها عنده اليعفور.
أنشدنا أبو علي:
أفاءت بنو مروان أَمسِ دماءَنا ... وفي الله إن لم يحكموا حَكَم عدل
وهو سبحانه أعرف المعارف، وقد سماه الشاعر حكمًا عدلًا، فأَخرج اللفظ مخرج التنكير، فقد ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف، وفيه مع ذلك لفظ الرضا باليسير، فإذا جاز أن يَرضى الإنسان من مخلوق مثله بما رضي به الشاعر من محبوبه بما دل عليه قوله، أنشده ابن الأعرابي:
وإني لأَرضى منك يا ليلُ بالذي ... لو أبصره الواشي لقرَّت بلا بِلُهْ
بلا وبأن لا أستطيع وبالْمُنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله
وبالنظرة العَجْلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله
وأنشدني بعض أصحابنا لبعض المولدين:
عدينا واكذبينا وامطلينا ... فقد أومنت من سوء العقاب
فلسنا من وعيدك في ارتياب ... ولا من صدق وعدك في اقتراب
ولكنا لشؤم الْجَدِّ منا ... نَفِر من العذاب إلى العذاب
وعليه قول الآخر:
عَلِّليني بموعد ... وامطلي ما حييت به
ودعيني أعيش منـ ... ـك بنجوى تطلُّبه
فعسى يعثر الزما ... ن بجنبي فينتبه
[المحتسب: 1/42]
ونظائره كثيرة، قديمة ومولَّدة -كان العبد البر والزاهد المجتهد أحرى أن يسأل خالقه -جل وعز- مقتصدًا في سؤاله، وضامنًا من نفسه السمع والطاعة على ذلك من يأمره.
ويؤكد عندك مذهب من أنشدته آنفًا، ما حدثنا به أبو علي قال: لما قال كُثير:
ولست بِراض من خليلي بنائل ... قليل ولا أرضى له بقليل
قال له ابن أبي عتيق: هذا كلام مُكافئ، هلا قلت كما قال ابن الرقيات:
رُقَيَّ بِعَمْرِكُمْ لا تهجرينا ... ومنِّينا المنى ثم امطلينا
وأنشدني بعض أصحابنا:
وعلليني بوعد منك آمله ... إني أُسَرُّ وإن أخلفت أن تعدي
وعليه قوله الله عز اسمه: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: هديناهم من نعمتنا عليهم، ونَظَرِنَا لهم صراطًا مستقيمًا.
وقال كثير:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم
وهذا كقولك: أمير المؤمنين على الصراط المستقيم لا فرق بينهما؛ وذلك أن مفاد نكرة الجنس مفاد معرفته؛ من حيث كان في كل جزء منه معنى ما في جملته، ألا ترى إلى قوله:
وأَعلم إن تسليمًا وتركًا ... لَلَا متشابهان ولا سواء
فهذا في المعنى كقوله: إن التسليم والترك لا متشابهان ولا سواء). [المحتسب: 1/43]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({اهدنا الصّراط المستقيم * صراط الّذين أنعمت عليهم} 5 و6
قرأ ابن كثير في رواية القواس السراط وسراط بالسّين وحجته هي أن السّين الأصل ولا ينتقل عن الأصل إلى ما ليس بأصل وروي ان ابن عبّاس كان يقرؤها بالسّين
وقرأ حمزة بإشمام الزّاي وروي عنه بالزاي وهي لغة للعرب
وقرأ الباقون بالصّاد وحجتهم أنّها كتبت في جميع المصاحف بالصّاد قال الكسائي هما لغتان). [حجة القراءات: 80]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (6- قوله: (الصراط، وصراط) وحجة من قرأ «السراط» بالسين، وهو قنبل عن ابن كثير، أن السين في هذا هو الأصل، وإنما أبدل منها صادًا لأجل الطاء التي بعدها، فقرأها على أصلها، ويدل على أن السين هو الأصل أنه لو كانت الصاد هي الأصل لم ترد إلى السين لضعف السين، وليس من أصول كلام العرب أن يردوا الأقوى إلى الأضعف، وإنما أصولهم في الحروف إذا أبدلوا أن يردوا الأضعف إلى الأقوى أبدًا.
وحجة من قرأه بالصاد أنه اتبع خط المصحف، وأن السين حرف مهموس فيه تسفل، وبعدها حرف مُطبق مجهور مستعلٍ، واللفظ بالمطبق المجهور بعد المستفل المهموس، فيه تكلف وصعوبة، فأبدل من السين صادًا لمؤاخاتها الطاء في الإطباق والتصعد ليكون عمل اللسان في الإطباق والتصعد عملًا واحدًا، فذلك أسهل وأخف، وعليه جمهور العرب وأكثر القراء، وكانت الصاد أولى بالبدل من غيرها لمؤاخاتها السين في الصفر والمخرج، فأبدل من السين حرف يؤاخيها في الصفير والمخرج، ويؤاخي الطاء في الإطباق والتصعد، وهو الصاد.
7- وحجة من قرأه بالصاد أنه اتبع خط المصحف، وأن السين حرف مهموس فيه تسفل، وبعدها حرف مطبق مجهور مستعلٍ، واللفظ بالمطبق المجهور بعد المستفل المهموس، فيه تكلف وصعوبة، فأبدل من السين صادًا لمؤاخاتها الطاء في الإطباق والتصعد ليكون عمل اللسان في الإطباق والتصعد عملًا واحدًا، فذلك أسهل وأخف، وعليه جمهور العرب وأكثر القراء، وكانت الصاد أولى بالبدل من غيرها لمؤاخاتها السين في الصفير والمخرج، فأبدل من السين حرف يؤاخيها في الصفير والمخرج، ويؤاخي الطاء في الإطباق والتصعد، وهو الصاد.
7- وحجة من قرأه بين الصاد والزاي وهو خلف عن حمزة، أنه لما رأى الصاد فيها مخالفة للطاء في الجهر، لأن الصاد حرف مهموس والطاء حرف مجهور، أشم الصاد لفظ الزاي، للجهر الذي فيها، فصار قبل الطاء حرف يشابهها في الإطباق وفي الجهر، اللذين هما من صفة الطاء، وحسن ذلك لأن الزاي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/34]
من مخرج السين، والصاد مؤاخية لها في الصفير، والعرب تبدل السين صادًا إذا وقع بعدها طاء أو قاف أو غين أو خاء، لتسفل السين وهمسها، وتصعد ما بعدها وإطباقه وجهره، ليكون عمل اللسان من جهة واحدة، فذلك أخف عليهم.
8- فإن قيل: فما اختيارك في ذلك؟
فالجواب أن الاختيار القراءة بالصاد اتباعًا لخط المصحف، ولإجماع القراء عليه، ولما ذكرنا من مشابهة الصاد بالطاء في الإطباق، وبعد السين من الطاء في الهمس والتسفل اللذين فيهما). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/35]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (2- (السِّرَاطَ) [آية/ 6].
بالسين، قرأها ابن كثير ل- ويعقوب يس-.
لأنه أصل الكلمة فهي من سرطت الشيء إذا بلعته؛ لأن السراط يسترط المارّة، وفي هذا اللفظ بعض من الثقل والنبو عن الطبع، إذ في السين تسفل وفي الطاء استعلاءٌ، ففيه تصعد بعد تسفل، كما كرهوا إمالة واقدٍ إذ تصعدوا بالقاف بعد التسفّل بالإمالة، إلا أنهم احتملوا هذا الثقل؛ لأنه أصلٌ.
وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بإشمام الزاي وهي المضارعة بين الصاد والزاي هذا لئلا يلتبس بأحدهما، فكلاهما ليس بأصلٍ في الكلمة،
[الموضح: 230]
وكرهها بعضهم إذ هي تكلف حرف بين حرفين.
الباقون ويعقوب ح- بالصاد الخالصة.
لأن الصاد والطاء يتقاربان من حيث الإطباق، فالقراءة بذلك أخفُّ عن اللسان وأحسن في السمع.
والرواية بالزاي الخالصة ضعيفة عند القراء، فإن صحت فلتشابه الزاي والطاء في الجهر). [الموضح: 231]

قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (صراط الّذين أنعمت عليهم).
قرأ حمزة ويعقوب: عليهم، ولديهم، وإليهم وزاد يعقوب على حمزة: فيهم، وفيهما.
وذلك أن عليّ ولديّ وإليّ إذا أفردن ولم يضفن فلفظهنّ بالفتح، فاستحسن حمزة فيهن ضمّ الهاء لما كن منفتحاتٍ في الإفراد، وذلك أن الهاء لا يجوز كسرها إلا أن يسبقها كسرة أو ياء، وأما (أيديهم) و(يزكيهم) ونحوها مما كان قبل الهاء ياء فإن يعقوب يضمها، وكذلك مكني المؤنث، مثل: عليهنّ، وفيهنّ.
وكذلك إذا سقطت الياء التي قبل الهاء للجزم كقوله: (أولم تأتهم " و(إن يأتهم عرضٌ)، "فاستفتهم) بضم الهاء -
[معاني القراءات وعللها: 1/112]
في هذه الحروف كلها إلا قوله: (ومن يولهم " فإنه يكسر الهاء في مثله.
والباقون من القراء يكسرون الهاء ويسكنون الميم إلا ابن كثير فإنه يصل الميم بواو في اللفظ ويكسر الهاء، كقولك (عليهمو) و(إليهمو)، وكذلك إذا انضمت الهاء وصل الميم بواو مثل: (لهمو) و(عندهمو) و(وراءهمو) في كل القرآن.
وكان نافع في رواية قالون وإسماعيل بن جعفر يخير في هذا، فمن أحب ضم الميم، ومن أحب أسكنها.
وكان ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم يكسرون الهاء ويضمون الميم عند السواكن، مثل قوله: (عليهمو الغمام " و: (إليهمو اثنين، و(من دونهم امرأتين)،
وكان أبو عمرو يكسر الميم والهاء عند السواكن، وكان حمزة والكسائي يضمان الميم والهاء عند
[معاني القراءات وعللها: 1/113]
السوكن حيث لقي الميم سكن.
وكان يعقوب يضم الهاء والميم عند السواكن إذا سبقت الهاء ياء فإذا تقدم الهاء حرف غير الياء كسر الهاء والميم.
مثل قوله: (بهم الأسباب) و(من دونهم امرأتين).
وقرأ الكسائي في رواية نصير عنه أنه يضم الميم إذا تطرفت فكانت آخر كلمة مضمرة تلي رأس آية نحو قولهم: (هم يوقنون) (إن كنتم صادقين)
(وأنتم تعلمون)، ونحو هنا في كل القرآن.
وكذلك قراءته بضم الميم عند الألفات المهموزات (أنا) (أنت) في موضع الاستفهام، فكانت أصلية أو قطعا. كقوله، (أأنتم أعلم أم اللّه) (أأنتم أشدّ خلقًا) (وإذا قيل لهم آمنوا) وكذلك إذا لقيت الميم ميمٌ نحو قوله: (جاكم موسى)، (فمنهم من يقول) (جاءهم من ربهم)، وإذا طالت الكلمة لم يضم الميم عند ما ذكرنا من هنا الباب، (أتاني زيد ومررت بزيد) ولأنهما واو وصل
[معاني القراءات وعللها: 1/114]
فلا يثبت لئلا يلتبس الوصل بالأصل، قال: فإذا قلت - (عليه مال) فلك فيه أربعة أوجه:
إن شئت قلت (عليه مالٌ) وإن شئت قلت (عليهي مالٌ) وإن شئت قلت (عليه مالٌ) وإن شئت قلت (عليهو مالٌ).
وأما قوله جلّ وعزّ: (إن تحمل عليه يلهث)، وقوله، (إلا ما دمت عليه قائما) فالقراءة بالكسر بغير ياء، وهي أجود هذه الوجوه.
ولا ينبغي أن يقرأ بما يجوز في اللغات إلا أن تثبت رواية صحيحة، أو يقرأ به كبير من القراء.
قال: ومن قرأ (عليهم) فأصل الجمع أن يكون بواو.
ولكن الميم استغني بها عن الواو، والواو أيضًا تثقل على ألسنتهم حتى إنه ليس في أسمائهم اسم آخره واو قبلها حركة، فكذلك اخترنا حذف الواو.
وقوله جلّ وعزّ (غير المغضوب عليهم)
قرأ أبو عمرو. ونافع. وابن عامر. وعاصم، وحمزة والكسائي، ويعقوب، (غير المغضوب)، بالكسر واختلف عن ابن كثير، فقال أبو حاتم: قال بكّار: حدثتي الخليل بن أحمد عن ابن لعبد الله بن كثير المكي أنه قرأ، (غير المغضوب عليهم) نصبا قال بكار وحدثني الغمر بن بشير عن عباد الخواص قال: قراءة أهل مكة غير المغضوب، بالنصب، قال أبو حاتم: روى هارون الأعور عق أهل مكة النصب في
[معاني القراءات وعللها: 1/115]
(غير). قال أبو منصور: وروى غير هؤلاء عن ابن كثير أنه قرأ (غير) بالكسر كما قرأ سائر القراء.
قال أبو منصور: والقراءة الصحيحة المختارة "غير المغضوب " بكسر الراء، ونصب الراء شاذ.
وأخبرني المنذري عن أبي طالب عن أبيه عن الفراء أنه قال في قول الله جلّ ثناؤه: (غير المغضوب عليهم) بخفض غير، لأنها نعت للذين، لا للهاء والميم من (عليهم)، قال: وإنما جاز أن يكون (غير) نعتا لمعرفة لأنها قد أضيفت إلى اسم فيه ألف ولام وليس بمصمود له ولا الأول أيضًا بمصمود له، وهو في الكلام بمنزلة قولك: (لا أمرّ إلا بالصادق غير الكاذب)، كأنك تريد: بمن يصدق ولا يكذب.
ولا يجوز أن تقول: (مررت بعبد الله غير الظريف) إلا على التكرير، لأن (عبد الله) موقت، و(غير) في مذهبٍ نكرة غير موقتة، فلا يكون نعتا إلا لمعرفة غير موقتة.
قال: الفراء: وأما النصب في (غير) فجائز، يجعله قطعا من (عليهم).
قال: وقد يجوز أن يجعل (الذين) قبلها في موضع توقيت، وتخفض (غير) بمعنى التكرير، صراط غير المغضوب
[معاني القراءات وعللها: 1/116]
عليهم.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال: جعل الفراء الألف واللام بمنزلة النكرة.
قال: وقال الأخفش: هو بدل.
قال أبو العباس: وليس يمتنع ما قال، وهو قريب من قول الفراء.
وقال الزجاج في (غير) - بالجر - قريبا مما قال الفراء.
قال: ويجوز نصب (غير المغضوب) على ضريين: على الحال، وعلى الاستثناء.
فأما الاستثناء فكأنك قلت: إلا المغضوب عليهم، وحق (غير) من الإعراب في الاستثناء النصب إذا كان ما بعد (إلا) منصوبًا، وأما الحال فكأنك قلت فيها: صراط الذين أنعمت عليهم لا مغضوبًا عليهم.
وأخبرني المنذري عن ابنٍ لليزيدي عن أبي زيد في نصب (غير) إنه على القطع كما قال الفراء.
وأما قول القائل بعد الفراغ من قراءة سورة فاتحة الكتاب:
[معاني القراءات وعللها: 1/117]
(آمين) ففيه لغتان:
إحداهما: قصر الألف
والأخرى: آمين بوزن (عامين).
وهما لغتان معروفتان، والميم خفيفة، والنون ساكنة.
ومعنى (آمين): الاستجابة.
وحقه السكون، ومن العرب من ينصب النون إذا مر عليه، ومنه قول الشاعر:
تباعد مني فطحلٌ إذ رأيته أمين... فزاد الله ما بيننا بعدا
وقال الآخر فيمن طو" الألف:
يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبداً... ويرحم الله عبداً قال آمينا
[معاني القراءات وعللها: 1/118]
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال في قوله (ولا الضّالّين) القراء كلهم عليها إلا ما روي عن أيوب السختياني أنه همز (ولا الضّألين) لالتقاء الساكنين.
قال أبو العباس: وقال بعضهم: نمد المدغم إذا كان قبله واو، أو ياء، أو ألف سواكن، نحو قوله: (ولا الضّالّين) و(لا رادّ لفضله) و(يوادّون من حادّ اللّه ورسوله)، وما أشبهه.
قال: أرادوا: أن يكون المدغم عوضا عن الحركة التي كانت قبل أن يدغم الحرف الأول؛ لأنه لا يجتمع ساكنان.
قال أبو العباس: وهذا غلط، إنما مد لأن الساكن الثاني يخفى فيمد ما قبله لحركة الثاني، ولأن المدة إذا كانت مع الأول، فكأنه متحرك). [معاني القراءات وعللها: 1/119]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (3- وقوله [تعالى] {أنعمت عليهم}.
قرأ حمزة وحده {أنعَمْتَ عَلَيْهُمْ} بضم الهاء وجزم الميم، وكذلك: {إليهم} و{لديهم} وهي لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ضم الهاء في أصل الكلمة قبل أن تتصل بها «على كما تقول: (هُمْ)، فلما أدلعت «على» فقلتم {عليهم} بقيت على حالها.
قال ابن مجاهد: إنما خص حمزة هذه الثلاثة الأحرف بالضم دون غيرهن أعني: «عليهم» «ولديهم» «وإليهم» من بين سائر الحروف، لأنهن إذا وليهن ظاهر صارت يا آتهن ألفان، ولا يجوز كسر الهاء إذا كان قبلها ألف، فعامل الهاء مع المكني معاملة الظاهر، إذا كان ما قبل الهاء ياء فإذا صارت ألفًا لم يجز كسر الهاء، فإذا جاوز هذه الثلاثة الأحرف ولقي الهاء والميم ساكن ضمها، فإذا لم يلق الميم ساكن كسر الهاء نحو قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ} و{بربهم يعدلون} وعند الساكن {عن قبلتهم التي} {عليهم
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/50]
الذلة} {وإليهم اثنين} ولو كان مكان الهاء والميم كاف وميم لم يجز كسرهما إلا في لغة قليلة لا تدخل في القراءة لبُعد الكاف من الياء.
وقرأ الباقون {عليهمْ} بكسر الهاء، وإنما كسروها لمجاورة الياء كراهة أن يخرجوا من كسر إلى ضم كما قالوا: مررت بهم وفيهم.
وقرأ ابن كثير: {عليهموا} بالواو على أصل الكلمة؛ لأن الواو علم الجمع، كما كانت الألف علم التثنية، إذا قلت: عليهما، ومثله قاما قاموا.
وكان نافع يخير بين جزم الميم وضمها.
وقرأ الباقون: بإسكان الميم وحذف الواو. فحجة من حذف قال: لأن الواو متطرفة فحذفتها إذ كنت مستغنيًا عنها؛ لأن الألف دلت على التثنية، ولا ميم في الواحد إذا قلت: «عليه» فلما لزمت الميم لجمع حذفتها اختصارًا، فإن حلت هذه الواو عير طرف لم يجز حذفها، كقوله تعالى: {أنلزمكموها} فأما ما رواه الخليل بن أحمد عن ابن كثير {غير الغضوب عليهم} بالنصب، فإنه نصبه على الحال من الهاء والميم في {عليهم} ويكون نصبًا
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/51]
على الاستثناء في قول الأخفش، ومن قرأ {غير} بالخفض فإنه يجعله بدلاً من {الذين} وصفة لهم. والفرق بين «غير» إذا كانت صفة أو كانت استثناءً حسن إلا في مواضعها كقولك: عندي درهم غير دانق، وعندي درهم غير زائف، لأنه لا يحسن أن تقول: عندي درهم إلا زائفًا.
واعلم أن المدة في قوله تعالى: {ولا الضآلين} إنما أتى بها لتحجز بين الساكنين وهي اللام المُدغمة وألف التي قبلها.
وقال الأخفش: المدة عوض من اللامين. وقال ثعلب: لما كانت الألف خفية والمدغم خفي قووهما بالمد.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه: ومن العرب من يجعل المدة همزة فيقول: {ولا الضآلين} وقد قرأ بذلك أيوب السختياني.
أنشدني ابن مجاهد رضي الله عنه:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/52]
لقد رأيت بالقوم عجبا
حمار قبان يسوق أرنبا
خطامها زأمها أن تذهبا
يريد:زامها.
وإنما ذكرتُ هذا الحرف وإن لم تختلف السبعة فيه؛ لأن بعض النحويين يمد هذا ونحوه مدًا مفرطًا، والمد فيه وسط، كذلك كان لفظ ابن مجاهد، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد {ولا جأن} مهموز غير ممدود، والنون مشددة.
حدثني ابن مجاهد قال: روى لي عبد الله بن عمرو قال: حدثني ظفر
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/53]
ابن العباس قال: حدثنا أبو زيد: قال: صلى بنا عمرو بن عبيد الفجر فقرأ {إن ولا جآن} فهمز فلما سلم قلت: لم همزة؟ قال: فررت من اجتماع الساكنين.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه: كان عمرو بن عبيد يؤتي من قلة المعرفة بكلام العرب، وذلك أن العرب لا تكره اجتماع الساكنين، إذا كان أحد الساكنين حرف لين، كقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض} وقد كان كلم أبا عمرو بن العلاء في الوعد والوعيد فلم يفرق بينهما حتى فهمه أبو عمرو، وقال: ويحك إن الرجل العربي إذا وعد أن يسئ إلى رجل ثم لم يفعل يقال: عفا وتكرم، ولا يقال: كذب، وأنشد:
وإني إن أوعدته أو وعدته = لمخلف إيعادي ومنجز موعدي). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/54]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضمّ الهاء من (عليهم) [الفاتحة/ 7] فقرأ حمزة وحده (عليهم) بضم الهاء وكذلك (لديهم)، (وإليهم) هذه الثلاثة الأحرف بالضم وإسكان الميم وقرأ الباقون: (عليهم) وأخواتها بكسر الهاء.
واختلفوا في الميم:
فكان عبد الله بن كثير يصل الميم بواو، انضمّت الهاء قبلها أو انكسرت، فيقول: عليهمو غير المغضوب عليهمو ولا الضالين، وعلى قلوبهمو، وعلى سمعهمو، وعلى أبصارهمو غشاوة [البقرة/ 7].
واختلف عن نافع في الميم. فقال إسماعيل بن جعفر وابن جمّاز وقالون والمسيّبي: الهاء مكسورة،
[الحجة للقراء السبعة: 1/57]
والميم مضمومة، أو منجزمة، أنت فيها مخيّر. وقال أحمد بن قالون عن أبيه: كان نافع لا يعيب ضمّ الميم، فهذا يدلّ على أن قراءته كانت بالإسكان. قال أحمد بن موسى: والذي قرأت به الإسكان. وقال ورش: الهاء مكسورة والميم موقوفة إلّا أن تلقى الميم ألف أصلية، فإذا لقيتها ألف أصلية ألحق في اللفظ واوا، مثل قوله: سواء عليهموء أنذرتهمو أم لم تنذرهمو [البقرة/ 6].
وكان أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، والكسائي يكسرون الهاء، ويسكّنون الميم، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا: فكان ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر يمضون على كسر الهاء، ويضمّون الميم إذا لقيها ساكن، مثل قوله:
عليهم الذّلّة [البقرة/ 61، آل عمران/ 112]، ومن دونهم امرأتين [القصص/ 23]، وما أشبه ذلك.
وكان أبو عمرو يكسر الهاء أيضا ويكسر الميم، فيقول: عليهم الذّلّة وإليهم اثنين [يس/ 14] وما أشبهه.
وكان حمزة والكسائي يضمّان الهاء والميم معا، فيقولان: عليهم الذلة ومن دونهم امرأتين وما أشبه ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/58]
وقال أبو بكر أحمد بن موسى: وكل هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنّما هو في الهاء التي قبلها كسرة، أو ياء ساكنة، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضّم. وإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلّا الضم أو التسكين مثل قوله: (منكم)، و (أنتم).
قال أبو بكر: فيمن قرأ عليهم بكسر الهاء ووصل الميم بالواو - وهو قول ابن كثير ونافع في أحد قوليه-: قال سيبويه: قال بعضهم: (عليهمو) أتبع الياء ما أشبهها، وترك ما لا يشبه الياء ولا الألف على الأصل. وقال أبو حاتم: هي قراءة الأعرج. قال أبو بكر: وقال بعض من احتجّ لذلك:
إن الهاء من جنس الياء، لأنّ الهاء تنقطع إلى مخرج الياء، فوجب لذلك إتباع الهاء الياء.
وحجّة من قرأ عليهم- فكسر الهاء وأسكن الميم - وهو قول عاصم، وأبي عمرو، والكسائي، وابن عامر - أن يقول: إنّه أمن اللبس، إذ كانت الألف في التثنية قد دلّت على
[الحجة للقراء السبعة: 1/59]
الاثنين، ولا ميم في الواحد، فلما لزمت الميم الجمع حذفوا الواو، وأسكنوا الميم طلبا للتخفيف، إذ كان لا يشكل.
قال: وقال: لمّا كانت الهاء في (عليهم) هي الهاء التي كانت في عليه وجب إقرارها على ما كانت عليه من الكسر قبل دخول الميم، إذ كانت العلة واحدة.
وحجة من قرأ عليهم- وهو قول حمزة- أنّهم قالوا: ضمّ الهاء هو الأصل، وذلك أنّها إذا انفردت من حروف تتّصل بها قيل: هم فعلوا. والواو هي القراءة القديمة، ولغة قريش، وأهل الحجاز، ومن حولهم من فصحاء اليمن.
قالوا: وإنّما خصّ حمزة هذه الحروف الثلاثة بالضم- وهي (عليهم) و (إليهم) و (لديهم) - لأنّهنّ إن أولاهنّ ظاهرا صارت ياءاتهنّ ألفات مثل: على القوم، ولدى القوم، وإلى القوم، ولا يجوز كسر الهاء إذا كان قبلها ألف.
وحجّة من ضمّ الميم إذا لقيها ساكن بعد الهاء المكسورة أن يقول: إني لمّا احتجت إلى الحركة رددت الحرف إلى أصله فضممت، وتركت الهاء على كسرها، لأنّه لم تأت ضرورة تحوج إلى ردّها إلى الأصل، ولأنّ الهاء إنّما تبعت الياء، لأنّها شبّهت بها ولم تتبعها الميم لبعدها منها. قال أبو حاتم: وهي لغة فاشية بالحرمين.
[الحجة للقراء السبعة: 1/60]
وحجّة من كسر الميم للساكن الذي لقيها والهاء مكسورة أن يقول: أتبعت الكسر الكسر، لثقل الضم بعد الكسر، كما استثقلوا ضمّ الهاء بعد الكسرة، وكذلك استثقلوا ضمّة الميم بعد الهاء. ألا ترى أنه ليس في كلامهم مثل فعل، وأنّهم يضمون ألف الوصل في مثل: اقتل، فرارا من الضم بعد الكسر.
وحجّة من كسر الهاء إذا لم يلق الميم ساكن، وضمّها إذا لقي الميم ساكن- وهو قول الكسائي- أنّه يقول: إذا ردّ الميم إلى أصلها ردّ الهاء أيضا إلى أصلها، وأتبع الضمّ الضمّ استثقالا للخروج من الكسر إلى الضمّ.
قال: والاختيار (عليهم) بالكسر، لأنّها أخفّ على اللسان، وهي قراءة الأكثر.
قال سيبويه: الهاء تكسر إذا كان قبلها ياء أو كسرة، لأنّها خفيّة، كما أن الياء خفيّة، وهي من حروف الزيادة، كما أن الياء من حروف الزيادة، وهي من موضع الألف، وهي أشبه الحروف بالياء. فكما أمالوا الألف في مواضع استخفافا، كذلك كسروا هذه الهاء وقلبوا الواو ياء، لأنّه لا تثبت واو ساكنة وقبلها كسرة. وذلك قولك: مررت بهي [قبل]، ولديهي مال، ومررت بدارهي قبل، وأهل الحجاز يقولون: مررت بهو قبل، ولديهو مال، ويقرءون: فخسفنا بهو وبدارهو الأرض [القصص/ 81]، فإن لحقت الهاء الميم في علامة الجمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/61]
كسرتها كراهية الضمة بعد الكسرة. ألا ترى أنّهما لا تلزمان حرفا أبدا؟ - يعني أنّه ليس في الكلام مثل فعل- فإذا كسرت الميم قلبت الواو ياء كما فعلت ذلك في الهاء. ومن قال: (وبدارهو الأرض) قال: عليهمو مال.
قال: والاختيار- إذا لقيها ساكن- كسر الميم، وذلك أنه أخفّ، وهذه الكسرة ليست بالكسرة التي تأتي لالتقاء الساكنين، ولا أصل لها في الكلمة، لأن هذا الحرف له حركة في الأصل فحقّه أن يردّ- متى احتيج إلى حركته- إلى الأصل، وكأنّ من يكسر يقدّر أن أصل الحرف: (عليهمي)، روي عن الحسن أنه كان يقرأ (عليهمي) بكسرتين ويثبت الياء في الوصل. وقال أبو حاتم: لم أسمع أحدا يقرأ بكسر الميم إلّا ألحق الياء في الوصل، ولا أحدا يضمّ الميم إلّا ألحق واوا في الوصل، والواو والياء تسقطان في الوقف. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: الحجّة لمن قرأ: (عليهم) بكسر الهاء أن الهاء من مخرج الألف وهي في الخفاء نحوها، فكما أنّ الكسرة أو الياء إذا وقعت إحداهما قبل الألف أميلت الألف نحوها، وقرّبت منها، كذلك إذا وقعت قبل الهاء قرّبت الهاء منها بإبدال ضمّتها كسرة، كإمالتهم الألف نحو الياء. وممّا يؤكّد شبهها بالألف، أنّهم قد قالوا: أخذت أخذه وضربت ضربه،
[الحجة للقراء السبعة: 1/62]
فأمالوا الفتحة التي قبلها نحو الكسرة، كما أمالوها إذا كانت قبل الألف نحو الكسرة، لتميل الألف نحو الياء.
فإن قلت: إنّه لا شيء في قولهم: ضربت ضربه، يوجب الإمالة من كسرة ولا ياء ولا غيرهما مما يوجب الإمالة، فكيف استدللت بقولهم: ضربت ضربه على ما يوجب كسر الهاء في عليهم، وليس في «ضربه» شيء يوجب الإمالة؟ قيل: إنّ ذلك يشبه من الإمالة ما أميل لغير سبب موجب للإمالة، كقولهم في العلم: الحجّاج، والناس، وكقولهم: طلبنا، ورأيت عنتا. فعلى هذا الحد أمالوا في قولهم: ضربت ضربه، ألا ترى أنهم لم يميلوا إذا جاوزت الياء والكسرة حرفا سوى الهاء.
وكان إمالة الفتحة مع الهاء ساكنة أكثر في الاستعمال من باب طلبنا، وأقيس، لأنّ الهاء قد أجريت متحركة مجرى الألف فيما ستراه بعد، إن شاء الله، فإذا كانت ساكنة كانت أن تجرى مجرى الألف أجدر وأسهل.
وممّا يؤكّد شبه الهاء بالألف اجتماعهما في تبيين الحركة نحو: (أنا) و (حيّ هلا) كتبيينهم إيّاها بالهاء في: (كتابيه) و (حسابيه). ولو لفظت بالباء من ضرب، لقلت في قول الخليل إن شئت: به وإن شئت با. فكما جرتا مجرى واحدا في هذا، كذلك جعل في عليهم بمنزلة الألف في أن أبدل من ضمتها كسرة ليوفّق بين الصوتين فيكونا من جهة واحدة.
فإن قلت: ما وجه استجازة الخليل التخيير بين الهاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/63]
والألف في إلحاق الحرف الملفوظ به، وهلّا ألحق الهاء دون الألف، لقلة إلحاق الألف في الوقف، وكثرة إلحاقهم الهاء فيه؟ قيل: جمع بينهما لمشابهة كلّ واحد منهما الآخر فيما ذكرنا، ولقيام كل واحد منهما مقام الآخر، ولأنّهم قد ألحقوا هذه الحروف الألف في قولهم با، تا، ثا ونحوه، فكثر في هذا الباب وإن لم يكثر في غيره.
فإن قلت: فإنّ الهاء لا يجري فيها الصوت كما يجري في الألف وأختيها. فإنّها وإن كانت كذلك، فإنّها توافقها في الخفاء، والضعف، واتّفاق المخرج، فلا ينكر- وإن اختلفا من حيث ذكرت- أن يتفقا في تقريب إحداهما من الأخرى، كما قربت الباء من الميم في قولهم: (اصحب مطرا)، لاتفاقهما في المخرج، وإن كانتا قد اختلفتا في غير ذلك.
ومما يبيّن شبه الهاء بالألف أنّهم قد غيّروا بها بعض الحروف في الوقف، وأبدلوها منه كما فعلوا ذلك بالألف في: رأيت رجلأ.
وممّا يدلّ على خفاء الهاء ومشابهتها الألف والياء أنّها إذا كانت إضمار مذكّر بعد حرف ساكن أو مجزوم، حرّكوا الساكن، أو المجزوم بالضمّ، وذلك قولهم في الوقف: «لم يضربه، وقده، ومنه» وقد كسروا أيضا قبله التاء التي
[الحجة للقراء السبعة: 1/64]
للتأنيث، وذلك قولهم: ضربته. ومثل هذا في قول أبي الحسن قول بعضهم: ادعه، فكسروا العين للساكن الثاني الذي هو هاء الوقف، فإذا وصلت أسكنت كلّ ذلك، لأنّك تحرك هاء الضمير فتبيّن الحركة.
قال أبو زيد: قال- يعني رجلا عربيا-: لم أضربهما، فكسر الهاء مع الباء. قال أبو علي: فهذا على أنّه أجرى الوصل مجرى الوقف نحو: «سبسبّا»، ولا تحمله على أجوءك ونحوه، لأنّ سكون الإعراب مثل حركته، فلا يتبع غيره، كما أن حركة الإعراب لا يبدل منها للإتباع، كما لا تسكن في حال السعة والاختيار، ألا ترى أن من قال: للملائكة اسجدوا [البقرة/ 34] لم يكن مصيبا، ولم يجز كما جاز «منتن» وكما جاز وعذابٍ اركض [ص/ 41 - 42]،
[الحجة للقراء السبعة: 1/65]
وليس قوله: لم أضربهما مثل:
... لم يلده أبوان
لأنّ التحريك لالتقاء الساكنين، وذلك أنّه لمّا أسكن العين التي وليت حرف المضارعة حيث كان مثل: كبد، كما أسكن «تفخا» من قوله: أراك منتفخا، التقى ساكنان فحرّك لذلك، ومثل ذلك قوله سبحانه: ويخش اللّه ويتّقه [النور/ 52] ومثل «لم يلده» ما أنشده أبو زيد:
أجرّه الرّمح ولا تهاله
[الحجة للقراء السبعة: 1/66]
ألا تراه حرّك اللام المنجزمة بالفتح، لالتقاء الساكنين، كما فعل ذلك في «لم يلده». إلّا أنّ اللام في «تهاله» حرّكت للساكن الثاني فكان القياس ألّا تردّ الألف التي هي ردف،
كما لم تردّ فيما حكاه سيبويه من قولهم: لم أبله. وليس قول من قال: (ويتقه) كما أنشده أبو زيد:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا
لأنّ هذا إمّا أن يكون على سبسبّا أو على: لم يك.
ووجه ثالث: وهو أن يجرى الوصل في قوله: اشتر لنا، مجرى الوقف.
ومن ذلك أنّهم حذفوها لاما كما حذفوا الياء وأختها، وذلك نحو: شاة وشفة وسنة فيمن قال: سنهاء، وفم.
فبحسب كثرة الشبه يحسن إجراؤها مجرى ما قام فيها الشبه منه، ألا ترى أنّ الشيء إذا أشبه في كلامهم شيئا من وجهين
[الحجة للقراء السبعة: 1/67]
فقد تجري عليه أيضا أشياء من أحكامه، نحو أبواب ما لا ينصرف، ونحو شبه «ما» ب «ليس». فإذا زاد على ذلك كان تشبيهه بالمشابهة له من جهات كثيرة أجدر.
ومن ذلك أنهم أبدلوها من الياء، كما أبدلوا منها الألف في «طائيّ» ونحوه. وذلك قولهم: ذه أمة الله. في ذي. تسكن في الوصل كما أسكنت ميم عليهم وعليكم فيه، من حيث لزم ما قبلها ضرب واحد من الحركة، وتلحق هذه الهاء التي هي بدل من الياء في الوصل الياء، وذلك قوله تعالى: قل هذهي سبيلي [يوسف/ 108] فإذا وقفت قلت: هذه تحذفها كما حذفتها في عليه وبه في الوقف، وهذا على لغة أهل الحجاز، فأما بنو تميم فإنهم يقولون في الوقف:
هذه، فإذا وصلوا قالوا: هذي فلانة.
ومن ذلك أنهم أبدلوا الياء منها في التضعيف، كما أبدلوا الألف من الياء في حاحيت، وذلك قولهم في دهدهت: دهديت، وقالوا: دهدوهة كدحروجة. وقالوا: دهديّة، فأبدلوا. ومن ذلك أنّهم أبدلوا الهمزة منها لاما كما يبدلونها من حروف اللين، وذلك قولهم: ماء. قال أبو زيد: قالوا: ماهت الركيّة تموه وتميه وأماهها صاحبها إماهة. وأنشد أحمد بن يحيى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/68]
إنّك يا جهضم ماه القلب... ضخم عريض مجرئشّ الجنب
ومما يقوّي شبهها بالألف أنّ ناسا كسروها مع حجز الحرف بينها وبين الكسرة، فقالوا: منهم، كأنّهم لمّا رأوها جارية مجرى الألف جعلوها بمنزلة جلباب وحلبلاب، فإذا كانوا قد كسروا مع هذا الحاجز فأن يكسروا إذا لم يحجز بين الكسرة والياء شيء أجدر، وهذه اللغة وإن كان سيبويه قد سماها اللغة الرديئة فلها من وجه القياس ما ذكرته.
ويقوّيه أيضا من جهة القياس قول الجميع: هو ابن عمي دنيا فقلب من أجل الكسرة، وإن كانت العين قد حجزت، وقولهم: قنية، وزيد من العلية.
ويقويه أيضا ما حكاه أبو زيد من أن رجلا من بني بكر بن وائل قال: أخذت هذا منه ومنهما ومنهمي. قال أبو زيد: فكسر الاسم المضمر في الإدراج والوقف.
[الحجة للقراء السبعة: 1/69]
قال أبو زيد: وقال يعني هذا الرجل: عليكم، فضمّ الكاف.
ومما يؤكد كسر الهاء أن ناسا من بكر بن وائل قالوا:
بكم، و «فضل أحلامكم»، فكسروا تشبيها لها بالهاء من حيث اجتمعا في الهمس وعلامة الضمير، فإذا أجروا هذا مجرى الهاء لقيام شبهين من الهاء فيه، فإتباع الهاء الكسرة للمشابهات التي فيها من حروف اللين وكثرتها أولى، واستجازة غيره أبعد.
ومن ثمّ ألحق الكاف حرف اللين من ألحق، فقال:
أعطيتكاه للمذكّر، وأعطيتكيه للمؤنث، كما ألحقه الهاء في أعطيتهاه، وأعطيتهوه، لاجتماعهما فيما ذكرت لك، فكسرهم للكاف في بكم يدلّ على استحكام الكسرة في الهاء وكثرتها فيها.
فإن قال قائل: إنّ الضمة هي الأصل في عليهم وبهم ونحو ذلك بدلالة أن علامة المضمر المجرور كعلامة المضمر المنصوب المتصل، وأنّ ما جاز فيه الكسر جاز فيه الضمّ، نحو (بهو وبدارهو الأرض) وليس كل ما جاز فيه الضم يجوز فيه الكسر، تقول: هذا له، وسكنت داره، ولا يجوز كسر الهاء في شيء من ذلك. وإذا كان استعمال الضمّ فيه أعمّ وكان الأصل، وجب أن يكون أوجه من الكسر. قيل: إن كون الضمّ الأصل ليس ممّا يجب من أجله أن يختار على الكسر مع مجاورة الكسرة أو الياء، لأنّه قد تحدث أشياء توجب تقديم غير الأصل
[الحجة للقراء السبعة: 1/70]
على الأصل، طلبا للتشاكل وما يوجب الموافقة، ألا ترى أنّ الأصل الذي هو السين في الصراط الصاد أحسن منه، وأن النون التي هي الأصل في شنباء قد رفضت وترك استعمالها، وكذلك الأصل في شقرة ونمر في باب الإضافة قد رفض، وكذلك الأصل في حنيفة وجديلة فيها قد رفض، ولم يستعمل إلّا في أحرف يسيرة. والأصل في يرى قد رفض مع جميع حروف المضارعة في حال السعة والاختيار.
والأصل في عيد كذلك أيضا، ومن ثمّ كسّر على أعياد، ولم يكن كالأرواح. والأصل في الدنيا قد رفض في جميع بابه إلا في القصوى، كما رفض الأصل في تقوى وشروى، والأصل في فاء آدم وآخر أن يكون همزة، وقد ترك ذلك بدلالة أوادم وأواخر، وإجرائهم إيّاه مجرى ضوارب. وكذلك جاء في قولي الخليل والنحويين.
والأصل في قسيّ أن يكون على فعول، وأن يكون في الفاء الضم والكسر مثل حقي وعصيّ. وحقيّ وعصيّ. ولم نعلم أحدا ممّن يوثق بروايته حكى الضمّ في فاء هذه الكلمة، والأصل تقديم حرف العلة على السين التي هي لام، وأن تكون الواو مصحّحة كما صحت في العتوّ ونحوه من المصادر، فترك
[الحجة للقراء السبعة: 1/71]
ذلك إلّا في نحو ونحو ونحوّ. فهذه كلمة قد ترك الأصل فيها في ثلاثة مواضع. وهذا ممّا يقوّي قراءة حمزة في (بيوت) ونحو ذلك على أن سيبويه حكى في تحقير
بيت: بييت، فإذا جاز إبدال الضمة كسرة في التحقير لمكان الياء، فكذلك يجوز أن تبدل من ضمّة فاء فعول، في الجمع، الكسرة من أجل الياء. ألا ترى أنه قد قال: إنّ التحقير والتكسير من واد واحد.
فإذا رأيت هذه الأشياء وغيرها قد تركت فيها الأصول، واطّرحت في كثير منها، واختير عليها غيرها لمشابهات تعرض، أو تخفيف يطلب أو غير ذلك، لم ينكر أن يترك الأصل الذي هو الضمّ في عليهم، ويؤثر عليه الكسر ليتشابه الصوتان ويتّفقا ويكون مع ذلك أخفّ في اللفظ.
فإن قال: إنّ الألف التي شبّهت بها الهاء في عليهم ودارهم لا تكون إلا ساكنة، وهذه الهاء متحركة فكيف وفّقت بينهما مع اختلافها من حيث ذكرنا؟ قيل: إنّ هذا الذي ذكرت من الخلاف بينهما لا يوجب لهما اختلاف حكم بينها وبين الألف فيما ذكرنا، لأنّهم قد جعلوا الهاء متحركة بمنزلة الألف الساكنة، ألا ترى أن قول الأعشى:
رحلت سميّة غدوة أجمالها
اللام فيه حرف الرويّ، والهاء وصل، فجعلت الهاء مع
[الحجة للقراء السبعة: 1/72]
تحركها بمنزلة الألف والواو والياء والهاء والسواكن في نحو:
عاذل والعتابا
ونحو:
حبيب ومنزلي
وإن لام لائمو
والهاء في:
أعارتكهما الظبية
وبكّي النساء على حمزة
[الحجة للقراء السبعة: 1/73]
فكما جرت وهي وصل متحركة مجرى السواكن بدلالة أنّه لا شيء في هذه الحروف يكون متحركا وصلا إلّا إيّاها، وما كان منها متحركا غيرها كان رويّا، ولم يكن وصلا كالواو في قوله:
وعينيك تبدي أنّ قلبك لي دوي
والياء في:
وإنّما يبكي الصّبا الصّبيّ
وكقوله:
فقد كان مأنوسا فأصبح خاليا كذلك يكون في قولهم: بهي وعليهي، وإن كانت متحركة بمنزلة الألف فتتبع الياء أو الكسرة كما تتبعها الألف.
وليست الهاء في قول القائل:
[الحجة للقراء السبعة: 1/74]
شلّت يدا فارية فرتها... وفقئت عين التي أرتها
كالتي في قوله:
غدوة أجمالها:
وإنّما هي بمنزلة التاء فيما أنشده أبو زيد:
ألا آذنتني بالتّفرّق جارتي... وأصعد أهلي منجدين وغارت
فالألف في الأبيات تأسيس، وليست بردف، وإن كان قد لزم الراء التي لا تلزمه [في الأبيات]، ألا ترى أنّه لو قال: عاجت مع غارت كان مستقيما.
ومما يدل على أنّ الهاء وإن كانت متحركة لم تخرج بحركتها عن الخفاء ومشابهة الألف والياء الساكنة: أنّهم لم
[الحجة للقراء السبعة: 1/75]
يعتدّوا بها وهي متحركة، فصلا، بل جعلوا ثباتها كسقوطها.
وذلك قولهم: يريد أن يضربها وينزعها وبيني وبينها، فأمالوا الفتحة التي قبل الهاء كما يميلها إذا قال: يريد أن ينزعا، وعلى هذا قالوا: مهاري فأمالوا فتحة الميم كما يميل إذا قال ماري، فإذا لم يعتدّ بها متحركة في هذا الموضع، فأن تجرى مجرى الألف في دارهم وعليهم وبهم، فتقرّب من الياء أو الكسرة بأن تكسر بعد كل واحد منهما، أسهل من ذلك.
ويدل على ذلك أيضا أنّ من قال: ردّ أو ردّ إذا قال:
ردّها، اجتمعوا على فتح الدال فيما حكى من يوثق به، كما يجمعون على فتحها إذا لم يحل بينها وبين الألف شيء في ردّا، فإذا صنع بها هذا وما ذكرته قبل، علمت أن إجراءها مجرى الألف في السكون أسهل. ومن هاهنا كان الوجه في القراءة:
فيه هدىً [البقرة/ 2]، وخذوه فغلّوه ثمّ [الحاقة/ 30 - 31] أن يحذف الحرف اللّين اللاحق للهاء، لأن الاعتداد في هذين الموضعين لم يقع بها متحركة وفي «أجمالها» لم يقع الاعتداد بحركتها فيحصل من اعتبار كلا الموضعين أنّك كأنّك جمعت بين ساكنين.
فإن قال: فما وجه حذف حرف الليّن بعد الميم واختياره على وصلها بحرف اللين؟ فإن وجه ذلك أن هذه الحروف قد تستثقل فتحذف في مواضع لا يحذف فيها غيرها، ألا ترى أنّهم حذفوا اللام من قولهم: ما باليت به بالة، وحانة. ولا تجد هذا
[الحجة للقراء السبعة: 1/76]
الحذف إلا فيه وفيما جانسه، وأجمعوا على حذف ما انقلب عن اللام في نحو مرامى في الإضافة. وحذفوا الياء عندنا من نحو: جوار وغواشٍ [الأعراف/ 41] وحذفوا الياء والواو من نحو: حنيفة، وشنوءة في الإضافة، وجعلوا الأصل في تحيّة فيها بمنزلتهما، ورفضوا فيها الإتمام الذي هو في الأصل فيمن قلب فقالوا: أسيدي، وحذفوهما في الفواصل والقوافي. ولما استمر ذلك فيها وكثر، جعلوا ما كان اسما بمنزلة غيره في استجازة حذفها. قال:
لا يبعد الله أصحابا تركتهم... لم أدر بعد غداة الأمس ما صنع
وقال:
لو ساوفتنا بسوف من تحيّتها... سوف العيوف لراح الرّكب قد قنع
رواية الكتاب: ساوفتنا، وقد روي: لو ساعفتنا،
[الحجة للقراء السبعة: 1/77]
السوف: الشمّ والعيوف تسوف ولا تشرب. يريد: صنعوا قنعوا. وقال:
يا دار عبلة بالجواء تكلم
فكما حذفوهما في هذه المواضع، كذلك حذفوهما في عليهم ونحوه، للخفّة في اللفظ، وأمن اللبس، ألا ترى أن هذه الميم إنّما تلحقها الألف أو الواو أو الياء المنقلبة عنها [و] الألف لا تحذف كما تحذفان، لأنّ من قال «ما صنع» يريد صنعوا قالوا: ومن قال «تكلم» يريد: تكلمي. يقول:
خليليّ طيرا بالتفرّق أوقعا
فلا يحذف الألف كما حذف الواو والياء، ومن قال:
واللّيل إذا يسر [الفجر/ 4] وذلك ما كنّا نبغ [الكهف/ 64] قال: واللّيل إذا يغشى والنّهار إذا تجلّى [الليل/ 1 - 2] فلا يحذف الألف من الفواصل كما يحذف الياء، وكذلك لا يحذفها من القوافي في نحو:
داينت أروى، والدّيون تقضى... فمطلت بعضا، وأدّت بعضا
[الحجة للقراء السبعة: 1/78]
فكما لا تحذف ألف «بعضا» كذلك لا تحذف ألف «تقضى». فأمّا ما حذفه من قوله:
رهط مرجوم ورهط ابن المعل
فللضّرورة، والتشبيه بالياء لإقامة القافية، وليس ذلك ولا ما أشبهه ممّا يستقيم الاعتراض به. فإذا كانت هذه الميم لا تلحقها إلا الألف أو الواو، أو الياء. والألف لا تحذف، علم أنّ الذي يلحقه الحذف الواو أو الياء المنقلبة عنها من أجل الكسرة، فلم يقع لبس، وحصل التخفيف في اللفظ، ولم تخل هذه الواو أو الياء في عليهم ونحوه من أن تكون بمنزلة ما هو من نفس الكلمة، أو ممّا لحق لمعنى، فإذا كانوا قد حذفوا القبيلين جميعا، وحذفوا التي للضمير، ولم يبق في لفظ الكلمة المحذوف منها شيء يدلّ عليها، كان أن يحذف من نحو: «عليهم» للدلالة عليه أحسن وأولى.
فإن قلت: فإذا حذفت الواو والياء اللتان كانتا تتصلان
[الحجة للقراء السبعة: 1/79]
بالميم فلم حذفت حركة الميم في الوصل من نحو: عليهم وبهم؟ قيل: لمّا حذفت الواو والياء للتخفيف ولما قام على لزوم حذفهما من الدلالة، كره أن تبقى الكسرة أو الضمة، لأنّهما قد يكونان بمنزلة الياء والواو، في باب الدلالة عليهما، ألا ترى أنّك تقول في النداء: يا غلام أقبل، فيكون ثبات الكسرة كثبات الياء وتقول: أنت تغزين يا هذه، فتشمّ الزاي ليكون ذلك دلالة على الواو المحذوفة، فكما كانتا في هذه المواضع بمنزلة الياء والواو، كذلك لو لم تحذفا مع الميم من عليهمي وعليهمو كان إثباتهما بمنزلة إثباتهما، ودالّا عليهما، فيصير بإثباتهما كأنّه لم يحذف الحرفين، كما كان إثباتهما حين ذكرتا بمنزلة إثبات الحرفين.
ويدلّ على وجوب إسكان الميم أنّ الحركة لو أثبتت، ولم تحذف كان فيها استجلاب بإثباتهما للمحذوف، ألا ترى أن الضمة والكسرة إذا ثبتتا قد يشبعان فيلحقهما الواو والياء، فمن إشباع الضمة قول الشاعر- أنشده أحمد بن يحيى-:
وأنّني حوثما يسري الهوى بصري... من حوثما سلكوا أثني فأنظور
[الحجة للقراء السبعة: 1/80]
ومن إشباع الكسرة:
لما نزلنا نصبنا ظلّ أخبية... وفار للقوم باللحم المراجيل
فلو أتيت ما يجلبهما في بعض الأحوال كان ذلك كالنقض لما قصد من التخفيف بحذفهما. وقد جرت الفتحة في ذلك مجرى أختيها، قال ابن هرمة:
وأنت من الغوائل حين ترمى... ومن ذمّ الرجال بمنتزاح
وإذا أسكن أمن هذا، ألا ترى أنهم لم يصلوا القوافي الساكنة، ومن ثم كانت الهاء رويّا في: «فرتها» ولم تكن وصلا كما كانت إيّاه في: «أجمالها».
فإن قلت: فهلّا أثبتت حركتها، كما أثبتت حركة الهاء في
[الحجة للقراء السبعة: 1/81]
عليه ونحوه بعد حذف حرف اللين، ليتفقا في التحرك، كما اتفقا في حذف حرف اللين منهما وكما اتفقا في الحذف في الوقف. قيل: الفصل بينهما أن الميم في عليهم، وعليكم، ودارهم، وبهم، لا يخلو ما قبلها من أن يكون ضما أو كسرا فما يستثقل لازم له، والهاء في الإفراد لا تكون كذلك، لأن ما قبلها قد يكون مفتوحا في نحو: رفعت حجره، وقدت جمله.
وقد يكون ساكنا في نحو: عصاه، وعليه، واضربه، فهذه الهاء إذا تصرف ما قبلها هذا التصرف، علمت أنّها لا تكون بمنزلة هاء الجميع التي لا تخلو من الضمة والكسرة وهما يستثقلان فخفّف بحذف الحركة وإلزامها ذلك كما خفّف نحو: عضد وكتف، ولم يخفّف نحو: جمل.
فأمّا اتّفاقهما في الحذف في الوقف فلأنّهما قد حذفا في الوصل في: عليهم وعليكم، فلما اتفقا في الحذف في الوصل وكان الوقف يحذف فيه ما لا يحذف في الوصل نحو الحركات، وجب أن يلزم فيه الحذف ما يحذف في الوصل، لأنّ الوقف موضع تغيير.
وممّا يقوّي حذف هذه الحركة من الميم في «عليهم» ونحوه أنّها لو أثبتت ولم تحذف لأدّى ذلك إلى اجتماع أربع متحركات وخمس، وذلك ممّا قد كرهوه حتى لم يأخذوا به في أصول أبنيتهم، إلا أن يكون قد حذف منه شيء، ولا في أوزان الشعر إلّا أن يلحقه ذلك أيضا، وقد رفضوا أن تجتمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/82]
خمس متحركات في شيء من أوزان الشعر. ومن ثمّ تعاقبت السين والفاء في مستفعلن التي هي عروض البيت الأول من المنسرح، لأنّهما لو حذفا جميعا وقبلها تاء مفعولات لاجتمع خمس متحركات، فلما كان يؤدّي إلى ما قد تركوه، واطّرحوه، حذفوا الحركة فيه.
ألا ترى أنهم تركوا الابتداء بأنّ الثقيلة المفتوحة لما كان يؤدي إليه من اجتماع حرفين لمعنى وتركوا أن يخرموا من أول الكامل كما خرموا من أول الطويل والوافر ونحوهما لما كان الخرم فيه يؤدّي إلى الابتداء بالساكن؟ فكذلك حذفت الحركة في الميم من «عليهم» ونحوه لمّا كان يؤدّي إلى ما قد رفضوه في كلامهم من توالي المتحركات، وجعل غير اللازم في هذا كاللازم، كما جعل مثله في: فعل لبيد، و (لا تناجوا) ومررت بمال لك، ونحو ذلك.
الحجة لحمزة في قراءته (عليهم):
فأمّا قراءة حمزة: (عليهم) وأختيها بالضم فليس على أنّه لم يتبع الهاء الياء مع المشابهات التي بينهما، ولكنّه لمّا وجد هذه الياءات غير لازمة، وما كان غير لازم من الحروف فقد لا يقع الاعتداد به في الحكم وإن ثبت في اللفظ، وكانت الياء
[الحجة للقراء السبعة: 1/83]
بمنزلة الألف في قرب المخرج والاجتماع في اللين وإبدال إحداهما من الأخرى في نحو:
لنضربن بسيفنا قفيكا
أجرى الياء مجرى الألف، فضمّ الهاء بعد الياء، كما يضمّها بعد الألف، وقوّى ما رآه من ذلك عندنا أن سيبويه حكى عن الخليل: أن قوما يجرونها مع المضمر مجراها مع المظهر، فيقولون: علاك وإلاك. فهذا يقوّي أن الياء لمّا لم تلزم لم يكن لها حكم اللازم، كما أن الواو في ضوء إذا خففت الهمزة فلم تلزم لم يلزمه القلب، كما أن التاء في قائمة وطويلة لمّا لم تلزم لم يكن لها حكم اللازم، والياء لما كانت أقرب مخرجا إلى الألف من الواو إليها أبدلت هي من الألف، كما أبدلت الألف منها، ولم تبدل الألف من الواو على هذا الحدّ.
ألا ترى أنهم قالوا: حاحيت، وعاعيت، وقالوا في النسب إلى طيئ: طائيّ وفي الحيرة: حاريّ، وفي زبينة: زباني،
[الحجة للقراء السبعة: 1/84]
وذهب سيبويه في آية وغاية إلى أن الألف بدل من الياء الساكنة التي كانت في أيّة ولم نعلم الألف أبدلت من الواو على هذه الصورة إلّا قليلا كياجل في بعض اللغات.
فأمّا ما يقوله بعض البغداذيّين من أن الألف في داويّة بدل من الواو في دوّيّة فقد يمكن أن يكون الأمر على خلاف ما ذهب إليه، وذلك أنه يجوز أن يكون بنى من الدوّ فاعلا كالكاهل والغارب، ثم أضاف إليه على من قال: حانيّ، ويقوّي ذلك أن أبا زيد أنشد:
والخيل قد تجشم أربابها الشّقّ * وقد تعتسف الداويه فإن قلت: إنه قد يمكن أن يكون خفف ياء النسب في الداويه لأنّها قد تخفّف في الشعر، كما أنشده أبو زيد:
بكّي بعينك واكف القطر... ابن الحواري العالي الذكر
[الحجة للقراء السبعة: 1/85]
فإن الحمل على القياس والأمر العامّ أولى، حتى يحوج إلى الخروج عنه أمر يضطرّ إلى خلافه، ويخرج عن الشائع الواسع.
وممّا يؤكد ذلك أنّ أبا الحسن قال: زعم أبو زيد أنّه لقي أعرابيا فصيحا: يقول: ضربت يداه، ووضعته علاه. وحكى أبو عثمان عن أبي زيد أنّه سأل الخليل عمن قال: رأيت يداك، فحمله على هذا الوجه.
ومن الدلالة على صحّة ما اعتبره حمزة في ذلك، أنّ الياء في الأواخر في غير هذا الموضع، وقعت موضع الألف في الوصل، والوقف، وذلك لغة طيئ فيما حكاه عن أبي الخطّاب وغيره من العرب، وذلك قولهم في أفعا: أفعي فكما جرت الياء مجرى الألف في هذا عندهم، كذلك أجرى الياء في «عليهم» مجرى الألف، معها، كما ضمّها مع الألف، إذ كانت الياء في حكمها، وإن لم تكن من لفظها.
وتوافق هذه اللغة في إبدال الياء من الألف قول ناس في
[الحجة للقراء السبعة: 1/86]
الإضافة إلى الياء: (يا بشرى). و:
سبقوا هويّ وأعنقوا...
وممّا يثبت هذه اللغة التي استشهدنا له بها من القياس، أنّها على قياس ما اجتمع عليه أهل الحجاز وغيرهم من قيس، وذلك أن بني، تميم يبدلون من الياء الهاء في الوقف في «هذه» فإذا وصلوا قالوا:
فهذي شهور الصيف..
كما أن ناسا يقولون: أفعي في الوقف، فإذا وصلوا قالوا:
رأيت الأفعى، فاعلم.
[الحجة للقراء السبعة: 1/87]
وجعلت طيئ الحرف في الوصل والوقف ياء كما جعل أهل الحجاز وغيرهم من قيس آخر الكلمة في الوصل والوقف هاء فقالوا: هذه وهذهي أمة الله، وقالوا في الوقف: هذه، فاجتمعوا على إبدال الياء هاء كما فعلت طيئ ذلك بالألف فيهما. فإذا عضد ما ذكرنا من السماع الذي وصفناه من القياس، ثبت بذلك توجّه هذه اللغة وتقدّمها، وساغ من أجل ذلك التشبيه بها والترجيح لها على غيرها.
فإن قلت: فقد قال بعضهم: أفعو، فأبدل الواو من الألف، كما أبدل الياء منها. فالقول أن إبدال الواو منها ليس بقويّ من جهة القياس قوة إبدال الياء لما تقدم ذكره، وليس هو أيضا من طريق السماع في كثرة إبدال الياء منها، لأنّ الياء يبدلها من الألف في الوقف فيما حكاه عن الخليل وأبي الخطّاب فزارة وناس من قيس، وفي الوقف والوصل يبدلها منها طيّئ والواو يبدلها منها بعض طيئ، فما كثر في الاستعمال وعضده قياس لم يكن كما كان بخلاف هذا الوصف. على أن مشابهة بعض هذه الحروف لبعض لا تنكر، وإن كانت الألف أقرب إلى الياء منها إلى الواو.
فإن قلت: فإن الياء قد اجتمعت مع الواو في أشياء لم تجتمع الألف فيها معها، كوقوعها في الردف في نحو: صدود وعميد، وامتناع الألف من مشاركتهما، وكاجتماعهما في الإدغام في سيّد ونحو ذلك. فالقول في ذلك أن الشعر يعتبر
[الحجة للقراء السبعة: 1/88]
فيه التعديل في الأجزاء، لما يدخله من الغناء والحداء، فلمّا كان المدّ في الألف أكثر من المدّ الذي في كل واحد منهما لم تجتمع معهما الألف في الردف، كما لم تقع واحدة
منهما مع الألف في التأسيس. ويدلّك على أن امتناع الألف في الاجتماع معهما في الردف لذلك، أنّ الفتحة لمّا لم تكن في مدّ الألف، لم يمتنع أن تقع قبل حرف الروي مع الضمة والكسرة في نحو:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق... تفليل ما قارعن من سمر الطرق
إذا الدليل استاف أخلاق الطرق... ألّف شتّى ليس بالرّاعي الحمق
ألا ترى أن الفتحة لمّا خالفت الألف فيما ذكرنا لم تمتنع في قول أبي الحسن من أن تجتمع مع الضمة والكسرة. ومما يدلّك على زيادة المدّ في الألف، استجازتهم تخفيف الهمزة بعدها في هباءة والمسائل وجزاء أمّه، ولم يفعلوا ذلك بها مع الواو والياء. ولكن قلبوها إلى لفظها في: مقروّ
[الحجة للقراء السبعة: 1/89]
والنسيّ. ومن ثم استجاز يونس إيقاع الخفيفة بعدها في فعل الاثنين وجماعة النساء، وقرأ بعضهم فيما روي لنا: ومحياي ومماتي [الأنعام/ 162].
وأما امتناعها من الإدغام وجوازه فيهما فإن إدغامها لم يجز في واحدة منهما لما فيها من زيادة المد: ألا ترى أن الصاد والسين والزاي لم يدغمن في الطاء والتاء والدال، ولا في الظاء والثاء والذال، لما فيهنّ من زيادة الصوت التي ليست في هذه الستة وهو الصفير، وأدغمن فيهنّ. ولم يجز إدغام الياء والواو في الألف لأنها لا تكون إلا ساكنة والمدغم فيه تلزمه الحركة، ولأن الحروف المجانسة لها يكره فيها الإدغام.
ومما يقوّي قراءته بالضم في هذه الحروف أنّه قد اعتبر في بعض الحروف المنقلبة حكم المنقلب عنه، ألا ترى أن الألف إذا كانت منقلبة عن الياء قرّبت منها فصارت مشابهة لها، ولا يفعل بها ذلك في الأمر العام إذا كانت منقلبة عن غيرها، وكذلك هذه الياء في عليهم إذا كانت منقلبة عن الألف جعلت
[الحجة للقراء السبعة: 1/90]
بمنزلة الألف فضمّت معها الهاء ضمك إيّاها مع الألف، كما قرّبت الألف من الياء لمّا كانت منقلبة عنها. وقد أريتك فيما تقدم أن المقرّب من الحروف قد يكون في حكم الحرف المقرّب منه عندهم بدلالة قولهم اجدرءوا واجدمعوا، وإبدالهم تاء الافتعال مع المقرب إبدالهم إياها مع الحرف المقرّب منه.
ومما يؤكد ذلك أنّهم قالوا. رويا وروية ونوي فجعلوا [حكم الواو] حكم الحرف المنقلب عنه، فلم يدغموه في الأمر العام الشائع، كما لم يدغموا في هذه الياء ما الواو بدل منه، فكذلك يكون حكم الياء في عليهم حكم الحرف المنقلب عنه.
ومن ذلك أنهم قالوا: بيس فلم يحقق الهمزة، وأقرّ مع ذلك كسرة الباء فيها، كما كان يكسرها لو حقق الهمزة، أفلا ترى أنّه جعل حكم الحرف المغير حكمه قبل أن يغيره، فكذلك يضم الهاء مع الياء المنقلبة عن الألف، كما يضمّها مع الألف.
ومن تشابه الياء والألف أنّ الياء قد أجريت مجرى الألف، فأسكنت في موضع النصب، فصارت في الأحوال الثلاث على صورة واحدة، كما أنّ الألف في مثنّى ومعلّى كذلك، وقد كثر هذا في الشعر، وجاء في الكلام منه أيضا.
وذلك قولهم: أيادي سبا، وأيدي سبا، وبادي بدا وبادي بدي
[الحجة للقراء السبعة: 1/91]
وقالي قلا، ومعدي كرب. فالأول من هذه الأشياء في موضع فتح، لأنّه لا يخلو من أن يكون ككفّة كفّة أو كفّة كفّة. فأمّا قولهم: لا أكلمك حيري دهر، فإن شئت قلت: إن الياء للإضافة فلما حذفت المدغم فيها بقيت الأولى على السكون كقوله:
............. أيهما ... عليّ من الغيث استهلّت مواطره
وإن شئت قلت: إنّه لمّا حذف الثانية جعل الأولى كالتي في أيدي سبا، ولم يجعله مثل رأيت يمانيا. وإن شئت جعله فعلي وكان في موضع نصب.
فإن قلت: إنّه قد قال: إن هذا البناء لا يكون إلّا بالهاء فإن شئت جعلته مثل انقحل، وإن شئت قلت:
إن الهاء حذفت للإضافة كما حذفت معها حيث، لم تحذف مع غيرها، وأن تجعلها للنسب أولى، لأنّهم قد شدّدوها. وكما
[الحجة للقراء السبعة: 1/92]
شبّهت الياء بالألف في هذا، كذلك شبّهت الألف بالياء في نحو ما أنشده أبو زيد:
إذا العجوز غضبت فطلّق... ولا ترضّاها ولا تملّق
فهذا إنما هو على تشبيه الألف بالياء، ألا ترى ما قدّر من إثبات الحركة في «ألم يأتيك... » وحذفها للجزم لا يستقيم هاهنا لمنع اللام بانقلابها ألفا من ذلك، من حيث لو لم يقدّر ثبات الحركة لصحّ الحرف ولم ينقلب كما لم ينقلب في نحو كي وأي ولو وأو. فأمّا قول الشاعر:
وتضحك مني شيخة عبشمية... كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا
فإنه ينشد تري وترى. فمن أنشده تري بالياء كان مثل قوله: إيّاك نعبد [الفاتحة/ 4] بعد الحمد لله، وقد يكون على هذا قول الأعشى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/93]
حتى تلاقي محمدا
بعد قوله:
فآليت لا أرثي لها من كلالة.
وقد تكون على: هي تفعل، إلّا أنّه أسكن اللام في موضع نصب. ومن أنشد: كأن لم ترى، كان مثل لا ترضّاها.
فإن قلت: فلم لا يكون على التخفيف على قياس من قال: المراة والكماة. قيل إن التخفيف على ضربين:
تخفيف قياس وتخفيف قلب على غير القياس وهذا الضرب حكم الحرف فيه حكم حروف اللين التي ليست أصولهن الهمز، ألا ترى أن من قال: أرجيت قال: وآخرون مرجون [التوبة/ 106] مثل معطون، ومن لم يقلب جعلها بين بين، فكذلك: «لم ترى» إذا لم يكن تخفيفه تخفيف قياس كان كما قلنا، فلا يجوز لتوالي الإعلالين ألا ترى أنّهم قالوا: طويت وقويت وحييت فأجروا الأول في جميع ذلك مجرى العين من
[الحجة للقراء السبعة: 1/94]
اخشوا، وقالوا: نوا وحيا، فجعلوه بمنزلة قطا، وقالوا: آية. فإن قلت: فقد قالوا: استحيت. فإن ذلك من النادر الذي لا يحمل عليه. فإن قلت: فلم لا تجعله مثل لم يك ولم أبل كأنه حذف أولا اللام للجزم، كما حذف الحركة من يكون، ثم خفف على تخفيف الكماة والمراة، وأقرّ الألف كما أقرّ في «لا ترضّاها». فإن ذلك يعرض فيه ما ذكرنا من توالي الإعلالين، ويدخل فيه شيء آخر لا نظير له، وهو أنّه إذا حذف الألف من «لم ترى» على هذا الحدّ، فقد حذف للجزم حرفين، وليس لم يك ولم أبل كذلك، لأنّه إنّما حذف فيه حركة وحرف. وممّا يبعد التخفيف في «ترى» على حد الكماة والمراة، أنّهم قد حذفوا الألف من هذه الكلمة في قولهم: ولو تر أهل مكّة، لكثرة الاستعمال، كما حذفوها في قول من قرأ:
حاش للّه [يوسف/ 31 - 51]. فإذا حذف الألف كما حذف من حاش لله وجب أن تكون العين في حكم الصحيح والتخفيف القياسي ليكون كحاش لله.
الحجة لابن كثير في قراءته: (عليهمو ولا)
وأما قول ابن كثير: «عليهمو ولا الضالين» فوجهه أنّه أتبع
[الحجة للقراء السبعة: 1/95]
الياء ما أشبهها، والذي يشبهها الهاء، وترك ما لا يشبه الياء والألف- وهو الميم- على أصله وهو الضم، كما أنّ الذين قالوا: شعير، ورغيف، ورجل جئز وماضغ لهم، وشهد.
ولعب أتبعوا الفتحة الكسرة في جميع ذلك لقربها منها كقرب الألف من الياء، وشبهها بها. ولم يتبعوا الفتحة الضمّة فيقلبوها ضمّة في رءوف ورؤف كما أتبعوا الفتحة الكسرة في جئز وشعير حيث لم تقرب الواو من الألف قرب الياء منها، فكذلك أتبع الهاء الياء لما قرب منها، ولم يتبعها الميم لما لم تقرب منها، كما لم يتبع الفتحة في رءوف الضمة حيث لم تقرب الفتحة من الضمة قربها من الكسرة.
فأما قولهم: مغيرة ومغير فليس على حدّ شعير ورغيف، ولكن على قولهم. منتن في منتن وأجوءك في أجيئك.
ومما يقوّي قوله في ذلك، أنّهم قالوا: قرأ يقرأ، وجأر يجأر، فأتبعوا الهمزة وأخواتها ما جانسها من الحركات، وما كان من حيزها، وهي الفتحة، ولم يفعلوا ذلك مع الحروف المرتفعة عن الحلق. حيث لم يقربن من الفتحة قرب الحلقيّة منها.
فكذلك أتبع في قوله: (عليهمو ولا) الياء ما قرب من الياء، وهو الهاء، ولم يتبعه ما لم يقرب منها وهو الميم.
[الحجة للقراء السبعة: 1/96]
ومثل قوله: (عليهمو) - في أنّه أتبع الياء ما يشبهها، وترك ما لا يشبهها على أصله- قولهم (يصدر) فقرّب الصاد من أشبه الحروف من موضعها بالدال وهو الزاي. ألا ترى أنهما يجتمعان في الجهر؟ فلما أراد تقريب الأول من الثاني، ولم يجز ذلك بالإدغام لما يدخل الحرف من انتقاص صوته، قرّبه من هذا الوجه الذي قرّب منه دون الإدغام.
ولو كان موضع الدال في (يصدر) حرف آخر لا يقرب من الصاد قرب الدال منها- كاللام والراء ونحوهما- لم تغيّر الصاد له كما غيرت من أجل الدال لقربها منها، فكذلك قرّب الهاء في عليهمو من الياء، لقربها منها ولم يغير الميم لبعدها منها، كما لم تقرّب الصاد من الزاي مع اللام ونحوها، لمّا لم يقربن منها قربها من الدال.
فإن قلت: هلّا رغب عن ذلك لما يعترض في قراءته من ضم بعد كسر، والضم بعد الكسر في كلامهم مكروه؟ قيل له: إن الضم بعد الكسر على ضربين، أحدهما: أن يكون في بناء الكلمة وأصلها، كالضم بعد الفتح في عضد، (والآخر: أن يكون عارضا في الكلمة غير لازم لها)، فما كان من الضرب الأول فهو مرفوض في أبنية الأسماء والأفعال كما كان فعل في أبنية الأسماء مرفوضا. وما كان من الضرب الثاني فمستعمل، نحو قولهم: فرق، ونزق في الرفع، وقالوا في
[الحجة للقراء السبعة: 1/97]
الوقف على الرّدء في الرفع في قوله: فأرسله معي ردءاً يصدّقني [القصص/ 34] هو الرّدؤ مثل الرّدع، كما قالوا في البطء: من البطىء فحرّكوه- كراهة لالتقاء الساكنين- بالحركة التي كانت تكون للإعراب، كما قال:
... إذ جدّ النّقر.
وقد أعلمتك فيما تقدّم أن كثيرا ممّا لا يلزم الكلمة لا يقع الاعتداد به. فإذا كان الأمر في وقوع الضمة بعد الكسرة على ما ذكرنا لم يصحّ أن يرغب عن قراءته (عليهمو ولا) من حيث لحقت فيها ضمة بعد كسرة. لأن هذه الضمة تشبه ما ذكرنا. من ضمة الإعراب وما استعملوه في الوقف، وذلك أنّها غير لازمة، ألا نرى أنّ الكسرة في الهاء إنّما تكون إذا جاورت الكسرة أو الياء، فإذا زالت هذه المجاورة زالت الكسرة. كما أن ضمّة الإعراب في قولهم: هذا نزق يا فتى إذا زال عاملها زالت. وكما أن الرّدؤ إذا زال الوقف فيه في الرفع زالت الضمة
[الحجة للقراء السبعة: 1/98]
فإن قلت: فإنّ قوما كرهوا أن يقولوا: هو الرّدؤ في الوقف على المرفوع، فقالوا: هو الرّدىء، وقالوا هذا عدل، لكراهة الضمّة بعد الكسرة. فهلّا كره (عليهمو) كما كره هؤلاء ما ذكرت. قيل له: إنّ هؤلاء إنّما عدلوا عن الضمة إلى الكسرة حيث وجدوا عنها مندوحة، بأن أتبعوا الساكن الحركة التي قبله، كما أتبعوه الحركة التي قبله في مدّ ونحوه. والذي يقرأ (عليهمو) لو لم يكسر الهاء هاهنا لم يشاكل بها الياء، والمشاكلة بها واجبة، لما تقدّم من الحجة في ذلك. ولو لم يضمّ الميم لأتبع الياء والكسرة في عليهم ما لا يشبهها من كسرة الميم لو كسرها، وكأنّ ذلك إنّما يجوز على نحو مغيرة وأجوءك، ونحو ذلك ممّا ليس بالكثير في الاستعمال ولا المتّجه في القياس، ألا ترى أنّ القياس تقرير هذه الحركات على أصولها، ومن ثمّ لم يجز في مدير ومغير ما جاز في مغيرة من كسر الأوّل. على أن ما ذكرته من قولهم: هو الرّدء، يشبه ألّا يكون الأكثر، لأنّه قال: وأمّا ناس من بني تميم فيقولون:
هو الرّدىء، كرهوا الضمّة بعد الكسرة، لأنه ليس في الكلام فعل، فتنكّبوه لذلك واستنكروه.
قال أبو علي: والقياس قول الأكثر: لأنّ هذه الحركة في أنّها لا تلزم كقولهم: نزق في الرفع، فكما لا مذهب عن ذلك في الرفع فكذلك ينبغي أن يكون الوقف لاجتماع الوقف مع الإعراب في أنّه لا يلزم الكلمة، فلا ينبغي أن يسام ترك القياس
[الحجة للقراء السبعة: 1/99]
على الأكثر في الاستعمال والأصحّ في القياس إلى ما كان بخلاف هذه الصفة. وكأنّ هؤلاء الذين قالوا: هذا الرّدىء، كراهة الضمة بعد الكسرة شبّهوا الحركة التي تشبه حركات الإعراب بحركة البناء التي لا تفارق، وليس هذا بالمستقيم. ألا ترى أنّهم قالوا: يا زيد العاقل، ولا رجل صاحب امرأة عندك؟
فجعلوا الحركة المشابهة للإعراب بمنزلة الإعراب. وكذلك ينبغي أن تجعل الحركة المشابهة للإعراب في الوقف بمنزلة الإعراب فلا يكره فيه هو الرّدؤ، كما لم يكره فرق، ولا يتبع الأول، لأن إتباع الحركة ليس بمستمرّ استمرار حركة الإعراب التي الحركة في الرّدؤ في قياسها ومشابهة لها من حيث وصفنا.
على أنهم قالوا في الوقف: رأيت الرّدىء، ومن البطؤ، ورأيت العكم، ورأيت الحجر، فأتبعوا الأوسط تحريك الأول، فكذلك يكون قولهم: هذا الرّدؤ على هذا الحدّ، لا لكراهة الضمّة بعد الكسرة، فكما لا يكون في رأيت الحجر إلّا على الإتباع لما قبله، كذلك لا يكون في هذا عدل إلا كذلك، لا لكراهة الضمّة بعد الكسرة. ومثل قوله (عليهمو ولا الضالين) في أنّه جعل حركة البناء بمنزلة الإعراب في وقوع الضمّة بعد الكسرة لمشابهتها حركة الإعراب في أنّها لا تلزم، ويتعاقب على الموضع غيرها قول العرب من غير أهل الحجاز في ردّ، وعضّ، وفرّ، واستعدّ ألا ترى أنهم أدغموا في الساكن المبنيّ كما أدغموا في المعرب نحو: هو يردّ ويستعدّ، لمّا كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/100]
المبنيّ تتعاقب عليه الحركات وإن كن لغير الإعراب كالتحريك لالتقاء الساكنين، وإلقاء حركة الهمزة عليه في التخفيف، وإلحاقهم الثقيلة أو الخفيفة به، والتحريك للإطلاق.
أدغموا كما أدغموا المعرب لمشابهته له في تعاقب هذه الحركات عليه، فكما صار غير المعرب بمنزلة المعرب لاجتماعهما في الشّبه الذي ذكرنا، كذلك استجاز أن يوقع الضمة بعد الكسرة في (عليهمو) كما وقعت بعدها في المعرب، لمشابهته المعرب لتعاقب الحركات عليه، وإن لم يكن لاختلاف عامل.
والدليل على أن الإدغام في باب ردّ ونحوه إنما هو لما ذكرناه من مشابهته المعرب لتعاقب الحركات عليه- وإن كانت لغير الإعراب- امتناعهم من الإدغام حيث عري من هذه المشابهة التي وصفنا. وذلك قولهم: رددت، ورددنا، ويرددن.
فالذين أدغموا ردّ في الأمر بيّنوا هذا الذي وصفناه من التضعيف المتّصل بالضمير لمّا كان موضعا لا تصل الحركة إليه. فأمّا قول بعضهم ردّت وردّنا يريدون. رددت ورددنا فمن النادر الذي إن لم يعتدّ به كان مذهبا. لقلته في الاستعمال. وأنّه غير قويّ في القياس. فهو كالمقارب: لليجدّع.
[الحجة للقراء السبعة: 1/101]
ومن حجّة من قرأ (عليهمو) أن كسرة الهاء أصلها الضمة، وإنّما أبدل منها الكسرة للاعتلال من أجل الإتباع، كما أن الكسرة في التقاضي والترامي والتداعي ونحو ذلك أصلها الضمّ، من حيث كان مصدر تفاعل. فكما أن هذه الكسرة في حكم الضمّة، والضمّة التي هي الأصل تراعى في المعنى بدلالة صرفهم له وامتناعهم من أن يجعلوه من باب حذار: جمع حذرية وغواش، كذلك تكون الضمّة التي هي الأصل في (عليهمو) مراعاة في المعنى. فلا ينبغي أن يكره ذلك كما كره فعل، ولا يكون بمنزلته، كما لم يكن الترامي بمنزلة الغواشي والحذاري، لمّا كان الأصل مراعى في ذلك.
وإذا كانت الضمّة المرفوضة في الاستعمال مراعاة في اللفظ للدليل الذي ذكرنا، فأن تراعى الضمة في (عليهمو) أجدر، لأنّها لم ترفض كما رفضت في باب التفاعل، ألا ترى أنّ أهل الحجاز يستعملونه، وأنّ من قال: بهو، (وبدارهو) قال: (عليهمو)، ومن قال: (عليهمو) ضمّ إذا عدا الياء والكسرة.
ومما يقوّي ذلك أنهم قد اعتبروا الحركات التي هي أصول في غير هذا الموضع، وإن لم تكن في اللفظ مستعملة، فجعلوا الحكم لها. وذلك قولهم: عدت المريض، وقلت الحق، فعدّوه إلى المفعول، وإن كان اللفظ على فعلت، لأن
[الحجة للقراء السبعة: 1/102]
الأصل فعلت. ولولا أن تلك الحركة مراعاة معتبرة لم يتعدّ هذا النحو: ألا ترى أنا لم نعلم شيئا على فعل جاء متعديا إلى المفعول.
ومما يؤكّد ذلك أن النقل وقع بالزيادة منه وذلك نحو:
أقلته إذا جعلته يقول، وأبعت الفرس، وأخفت زيدا. وممّا يدلّ على ذلك أنّهم قالوا: يسع، ويطأ، فحذفوا الواو التي هي فاء كما يحذفونها في باب يعد ويزن، لمّا كان الأصل الكسر، وإنّما فتح لحرف الحلق، فكما أن الفتحة هاهنا في حكم الكسر لمّا لم تكن الأصل، كذلك تكون الكسرة في (عليهمو) في حكم الضمّ، فلا يكون مكروها من حيث لم يجيء فعل ونحوه في أصول الأبنية إذ كان الأصل الضمّ، كما كان الأصل الكسر في يطأ ويسع ونحوه.
ومما يبيّن ذلك أن ما كان على فعل لم يذكر سيبويه منه إلا «إبلا» وإذا جمعت قربة وسدرة ونحوهما قلت: قربات وسدرات، فاستمرّ فيه توالي الكسرتين من أجل الجمع، ولم يرفض ذلك، ولم يكره كما كره في أصل المقرر قبل الجمع. فكذلك (عليهمو) لا تكره فيه الكسرة قبل الضمة من أجل إعلال الإتباع وإن كان قد كره في بناء الآحاد، كما لم يكره توالي الكسرتين في سدرات من أجل الجمع، وإن كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/103]
كره ذلك في الآحاد، لأن الضمة بعد الكسرة ليس من أصل الكلمة وإنما اجتلبه الاعتلال، كما اجتلب توالي الكسرتين الجمع.
ويؤكّد ذلك أنّهم قالوا في شقرة: شقريّ، وفي نمر نمريّ. ولم يجيء في شيء من هذا النحو إلّا فتح العين.
وقالوا: صعقيّ، فكسروا الفاء مع العين لمّا كان للاعتلال، ولم يكن من أصل البناء.
فأمّا وصل ابن كثير الميم بالواو في (عليهمو) فلأن الأصل الواو، وإنّما أتبع الياء ما يشبهها وترك ما لا يشبهها على الأصل، وكان تقرير الأصل أولى عنده من إتباع الكسرة الكسرة، لأنّ إتباع الحركة الحركة على هذا النحر ليس بالمستمرّ.
فإن قلت: فقد جاء في ظلمات وسدرات وحفنات.
قيل: هذا التحريك ليس الغرض فيه الإتباع فقط. ألا ترى أنّه يفصل به بين الاسم والصفة، وكذلك عصيّ وحليّ يفصل به بين الواحد والجميع، ولا يلزم الكسر. ومع ذلك فقد أبدل فيه ناس الفتحة من الضمة، والكسرة، فقالوا: ركبات وسدرات.
وقد أسكن المفتوح في الشعر قال لبيد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/104]
رحلن لشقّة ونصبن نصبا... لوغرات الهواجر والسّموم
وقال ذو الرمة.
أبت ذكر عوّدن أحشاء قلبه... خفوقا ورفضات الهوى في المفاصل
فكأنّه رأى ترك الحرف على أصله أولى من أن يصير به إلى ما لا يطرد. فإن قلت: فقد حكي عن الخليل وهارون، أنّ ناسا يقولون: (مردفين) وقال: فهؤلاء يقولون: مقتّلين، فقاس على قولهم. قيل: قد يمكن أن يقال: إنّ ذلك من قوله لا يدلّ على أنّه يرى القياس عليه، وإنّما أراد أنّ القياس على ما ذكر لو قيس. فأمّا اطّراده فلا يستقيم، بدلالة أن نحو مغيرة ومنتن لا يطّرد، وإنما يقتصر به على ما جاء فكذلك (مردفين).
وإن شئت قلت: إن هذا تحريك لالتقاء الساكنين، كما أن قولهم، مدّ كذلك، فيكون هذا مستمرّا على لغتهم، كما أن ردّ كذلك، وإن كان الساكن في مردّفين متقدما. وقد قال: إنّها أقل اللغات.
ولم يحذف الواو في عليهمو في الوصل كما حذفها
[الحجة للقراء السبعة: 1/105]
غيره، لأنّها الأصل، وليس إثباتها من الأصول المرفوضة المطّرحة عندهم، كالواو إذا وقعت طرفا في الأسماء وقبلها ضمة، لكنه مراد في التقدير وإن كان محذوفا من اللفظ عند قوم.
والدليل على ذلك اتّفاق الجمهور على إثباتها إذا اتّصل الضمير بها. وبذلك جاء التنزيل في قوله: أنلزمكموها [هود/ 28]. وهذا أقوى في القياس، وأشيع في الاستعمال ممّا حكاه عن يونس: من أنه يقول أعطيتكمه، لأن مواضع الضمير وما يتّصل به قد ردّت فيها أشياء إلى أصولها في غير هذا، كقولهم: والله، وحقك. فإذا وصلوه بالضمير قالوا بك لأفعلن. أنشد أبو زيد:
رأى برقا فأوضع فوق بكر... فلا بك ما أسال ولا أغاما
[الحجة للقراء السبعة: 1/106]
ويدلّ على ذلك أيضا أنّ ضمير المؤنث الذي بإزائه على حرفين، وذلك نحو عليكنّ وبكنّ. فالأول من التضعيف بإزاء الميم، والثاني بإزاء حرف اللين. فهذا مما يقوي أنّه لم يحذفه على وجه الاطّراح والرفض، إنّما حذفه للتخفيف معتدّا به في الحكم وإن كان محذوفا في اللفظ.
فأمّا ما انفرد به ورش في روايته عن نافع: من أن الهاء مكسورة والميم موقوفة، إلّا أن تلقى الميم ألف أصليّة مثل:
سواء عليهمو أأنذرتهمو أم لم تنذرهم لا يؤمنون [البقرة/ 6] فالقياس فيها إذا لقيت الألف الأصلية وإذا لقيت غيرها سواء.
وكأنه أحبّ الأخذ باللغتين مثل: (لا يألتكم) و (لا يلتكم). فإن قلت: إنّه لمّا أمن سقوطها لالتقاء الساكنين، كما تسقط إذا كانت بعدها همزة وصل، وكان المد قبل الهمزة مستحبا بدلالة أن القرّاء قد مدّوا نحو: كما آمن النّاس [البقرة/ 13] أكثر مما مدّوا: وما عند اللّه باقٍ [النحل/ 96]- ويقوي ذلك اجتلاب من اجتلب الألف بين الهمزتين في نحو (أاأنت) [الأنبياء/ 62]- فهو قول. وقال أبو الحسن: إنّما وقعت هذه القراءة بالمدّ ليفهّموا المتعلمين فيمدّوا الهمزة إذا كانت
[الحجة للقراء السبعة: 1/107]
قبلها ألف أو ياء [أو واو] نحو: حتّى إذا، ونحو: قالوا أأنت [الأنبياء/ 62] قال: والعرب تفعل هذا في حال التطريب، وإذا أراد أحدهم الرقّة والترتيل.
الحجة لاختلافهم إذا حركوا الميم لساكن يلقاها:
كان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر يضمّون الميم إذا لقيها ساكن، مثل قوله تعالى: عليهمو الذلة [البقرة/ 61]، ومن دونهمو امرأتين [القصص/ 23]، فأمّا ضمّ ابن كثير ونافع لذلك فهو على قولهما بيّن، لأنّ ابن كثير في ذلك يتبع الميم واوا تثبت في اللفظ إذا لم تلق ساكنا، وكذلك نافع في رواية الأكثر عنه، لأن من روى عنه أن الميم مضمومة، فكأنه قد روى عنه إثبات الواو، ألا ترى أنه ليس أحد يضمّ الميم ولا يتبعه الواو في نحو: عليهمو وعليهمو، فإذا لقي الواو ساكن حذفت وبقيت الميم على ضمها.
وأمّا عاصم وابن عامر فكأنهما يريان أن حرف اللين الذي يتبع الميم- الواو، دون الياء- وإن كانا قد حذفاه في اللفظ طلبا للخفة، فإذا لزم التحريك لالتقاء الساكنين ردّا حركة الأصل عندهما، وإن كانا قد حذفا الواو من اللفظ، وأثبتها ابن كثير ونافع، لأن حذف من حذفها ليس على جهة الرفض
[الحجة للقراء السبعة: 1/108]
- بدلالة أن كثيرا منهم يقولون: كنتموا فاعلين [يوسف/ 10] وعليهمو مال- فإذا احتاجا إلى التحريك ردّا حركة الأصل كما رد الجميع حركة الأصل التي هي الضم في قولهم: مذ اليوم لمّا احتيج إلى التحريك لالتقاء الساكنين، ويدل على أن حركة الساكن المحرك في التقاء الساكنين إذا كانت أصلا كانت أولى من الحركة المجتلبة لالتقاء الساكنين أن أحدا لم يقل: إليهم اثنين، [يس/ 14]، فيكسر بعد الضمّ لما لم يقل أحد عليهمي. فلولا أن حركة الأصل أولى من المجتلبة لجاز تحريك هذا النحو
بالكسر، كما حرّك غيره ما لا حركة له في الأصل. ومما يقوي تحريكهم إيّاه بالضم أنه حرف ضمير كما أن الواو في اخشوا كذلك، وكما اتّفق الجمهور على تحريك الواو في اخشووا بالضم وجعلوا مصطفو الله مثله من حيث كان مثل اخشووا فيمن قال: أكلوني البراغيث، مع أن المحرك واو، كذلك حرّكوا الميم بالضمة لأنها مع الميم أسهل منها مع الواو. ومن زعم أن تحريك ذلك بالضمّ لأنه فاعل دخل عليه قول من كسر فقال: اخشوا القوم، وقولهم: اخشي القوم، وفي غير التقاء الساكنين: ذهبت وذهبت.
ومما يقوّي تحريك الواو بالضمّ أنّ قوما شبّهوا التي لغير
[الحجة للقراء السبعة: 1/109]
الضمير بها، فقالوا: لو استطعنا [التوبة/ 42]، فحرّكوها بالضمّ. فأمّا: أو اخرجوا [النساء/ 66] وأو انقص [المزمل/ 3]، فعلى حدّ: وقالت اخرج [يوسف/ 31]، فدلّ قولهم لو استطعنا [التوبة/ 42]، وتشبيه غير الضمير بالضمير على استحكام الضمّة في الواو، كما دلّ قول من قال: منهم وعليكم وأحلامكم على استحكام الكسرة في عليهم وبهم وما أشبه ذلك.
الحجة لأبي عمرو في قراءته: عليهم الذّلّة [البقرة/ 61] ونحوه بكسر الميم:
فأمّا قول أبي عمرو: عليهم الذّلّة [البقرة/ 61] وإليهم اثنين [يس/ 14]، فتحريكه بالكسر ليس على حدّ قوله: قم اللّيل [المزمل/ 2] وأحدن الله [الإخلاص/ 1 - 2]، ولكن كأن الأصل عنده في الوصل عليهمي، فحذف الياء استخفافا، كما حذف عاصم وابن عامر ونافع في إحدى الروايتين لذلك، فلمّا حرّك لالتقاء الساكنين، أتى بحركة الأصل التي هي الكسر، كما أتى أولئك بالضمّ،
[الحجة للقراء السبعة: 1/110]
لأنّ الكسر في قوله: (عليهم الذّلّة) و (إليهم اثنين) على قوله في أنه أصل، نظير الضمّ في قول ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر، فكانت حركة الأصل أولى من أن تجتلب حركة، كما أنّ تحريك مذ بالضمّ أولى. وعلى هذا قال سيبويه: في ترخيم رادّ اسم رجل على قول من قال: يا حار، يا راد أقبل، فحرّك لالتقاء الساكنين بالحركة التي كانت للحرف في الأصل، ولم يجعله بمنزلة ترخيم إسحارّ، لأنّ الراء الأولى فيه لا حركة لها في الأصل كحركة عين رادّ فأتبع الحركة ما قبلها، لأنّ حركة التقاء الساكنين تتبع كثيرا ما قبلها، كقولهم: ردّ وعضّ وفرّ، وكقولهم: انطلق.
فإن قلت: فقد قدّمت أن حركة الإتباع لا تطرّد، ولا يقاس عليها، قيل له: ليس هذا بقياس، ولكنه مسموع، كما أن مغيرة مسموع، وكما أن حليّ وعصيّ ومردّفين كذلك، ومع ذلك فقد اطّردت هذه الحركة في قول من قال: ردّ وعضّ وفرّ والأظهر في مردّفين أنه مطّرد في بابه.
وممّا يقوّي تحريك هذه الميم بالكسر من جهة القياس، أنّهم قد أتبعوا حركة الميم الدالة على اسم الفاعل الكسر، مع أنّ ذلك يزيل صورة دلالتها على ما أريد فيها. فإذا جاز في
[الحجة للقراء السبعة: 1/111]
ذلك كان في حركة علامة الضمير التي لا تتعلق بها دلالة على معنى أجوز. وممّا يقوّي إتباع الميم في الكسر الهاء، أنّ حركة الإتباع قد جاءت عنهم مع حجز حرف بين الحركتين، وذلك قولهم: أجوءك في أجيئك ومنتن.
وأما قولهم: أنبؤك ومنحدر من الجبل، فإن قولهم:
منحدر تبعت الضمة فيه ضمة الإعراب، كقولهم: ابنم وامرو، وأخوك، وفوك، وذو مال. فأمّا قولهم: أنبؤك، فإن شئت أتبعت ضمّة العين ضمّة الإعراب مثل منحدر، وإن شئت أتبعتها ضمة همزة المضارعة، وإن كان الحرف قد حجز مثل منتن.
ومما يقوّي ذلك، أن أبا عثمان قال حدثني محبوب بن الحسن القرشي عن عيسى، قال: كان عبد الله بن أبي إسحاق يقرأ: بين المرء وقلبه [الأنفال/ 24] ويقول: رأيت مرءا وهذا مرء.
[الحجة للقراء السبعة: 1/112]
ومن ذلك أنّهم قد احتملوا من أجل إتباع الحركات ما رفضوه في غيره وذلك قولهم: يخطّف، ويكتّب، فكسروا الياء في المضارعة اتباعا لما بعدها، ولولا ذلك لم تكسر الياء، لأن من يقول: أنت تعلم لا يقول: هو يعلم.
فأمّا ما حكاه من قولهم: هو يئبى، فليس مما يعترض به لشذوذه، فإنّما الكسرة في يخطّف لاستحباب قائله للإتباع، كما أنّ من قال: ييجل، استجاز الكسر في الياء مع امتناعه في يعلم ليتوصل بذلك إلى قلب الواو ياء، فكذلك كسر فيما ذكرنا ليصل به إلى الإتباع.
قال أبو الحسن: من قال يخطّف كسر الخاء لاجتماع الساكنين ثم كسر الياء، أتبع الكسرة الكسرة وهي قبلها، كما أتبعها إيّاها وهي بعدها. وإتباع الآخر الأوّل في كلام العرب كثير، ويتبعون الكسرة الكسرة في هذا الباب. يقولون: قتّلوا وفتّحوا يريدون افتتحوا.
ومما يؤكد ذلك أن أبا الحسن قال: روى عيسى بن عمر أن بعض العرب يثقّل كل اسم أوّله مضموم إذا كان على ثلاثة أحرف، نحو: العسر، واليسر، والحكم، والرّحم. ومن الإتباع قولهم: هذا فوك ورأيت فاك، ومررت بفيك. ومثله قولهم: ذو مال، إلا أن ذو لا يضاف إلى المضمر، لمّا حذفت اللام من فم تبعت الفاء العين التي هي حرف الإعراب عندنا. فإن
[الحجة للقراء السبعة: 1/113]
أضفته إلى المتكلم، قلت: هذا فيّ ورأيت فيّ، وفي فيّ. ولا يجوز في موضع النصب فاي.
وإنما اتّفقت الألفاظ الثلاثة على لفظ واحد إذا أضاف المتكلم إلى نفسه، لأنّ حرف الإعراب ينقلب إلى الحرف المجانس للحركة التي تجب له، ألا ترى أنّه يكون في موضع الرفع واوا، وفي الجرّ ياء، وفي النصب ألفا، ثم تتبعه الفاء؟
فكذلك إذا أضافه إلى نفسه انقلبت ياء؛ لأنّ حركة الحرف الذي يلي الياء في جميع أحواله الكسر، فإذا كان كذلك وجب أن يكون ياء في الأحوال الثلاث إذا أضفته إلى نفسك كما يكون في الجرّ، لاجتماع الحركتين على لفظ واحد، وليس هذا في موضع النصب إذا أضفته إلى نفسك بمنزلة عصاي، لأنّ حرف اللين في عصاي لا ينقلب بحسب الحركة التي تجب له كما ينقلب في فيك.
فأمّا افتراق الحركتين بأن إحداهما حركة إعراب، والأخرى حركة بناء، فليس ممّا يوجب اختلافا فيما ذكرنا، كما لم يوجب في قولهم: ابنم، ألا ترى أنهم أتبعوا النون فتحة التثنية في قولهم:
[الحجة للقراء السبعة: 1/114]
ومنا لقيط وابنماه وحاجب... مؤرّث نيران المكارم لا المخبي
كما أتبعوها فتحة النصب فيما أنشده أبو زيد:
تبزّ عضاريط الخميس ثيابها... فأبأست ربّا يوم ذلك وابنما
وقد قال قائل في قولهم ابنم: إن النون إنما جعلت حركته تابعة لحركة الميم، لأنّها قد كانت تتحرك بهذه الحركات، فزيدت الميم فتبعته لذلك. وليس هذا بمستقيم، لأنّهم قد فعلوا ذلك بامرئ، ولم يحذف منه شيء، ألا ترى أنّ الهمزة في تخفيف امرئ المسكّن الفاء تكون بين بين،
[الحجة للقراء السبعة: 1/115]
ولا تحذف لتحرّك ما قبلها، فيقول: إنّ العين قد تحركت لحذف الهمزة، وجرى الإعراب عليها كما جرى على الباء من الخب. ويدلّ على بعد اعتبار ذلك، أنّهم أتبعوها الفاء فيما حكيناه عن ابن أبي إسحاق، مع أنّها لا يجوز أن تتحرك بحركة إعراب، فتحريك النون من ابنم على حدّ تحريك الفاء من المرء. على أنّهم قد قالوا: غد فحذفوا، وغدو، فأتمّوا، ولم يفعلوا به ما فعلوا بفم، وهو مثله في الزنة، وفي أن نقص مرّة وأتمّ أخرى.
وما ثبت مما ذكرناه من قولهم في فيّ يدلّ على فساد قول من قال: إن هذه الكلم معربة من مكانين. ألا ترى أنهم أتبعوا حركة البناء، كما أتبعوا حركة الإعراب في هذا وفي تثنية ابنم في قوله: وابنماه. والحركة التي تتبع الحركة على ضربين: أحدهما: إتباع حركة ليست للإعراب حركة ليست للإعراب نحو: مغيرة، ومنتن، ويعفر، وظلمات، والآخر: إتباع حركة ليست للإعراب حركة إعراب، وذلك مثل: امرؤ، وابنم، وفوك، وأجوءك، وأنبؤك، والحرف المذكور في الكتاب
[الحجة للقراء السبعة: 1/116]
بعكس هذه القسمة، من النادر الذي لا حكم له. وهو مثل تشبيههم حركة الإعراب بحركة البناء في نحو:
أشرب غير مستحقب شبهه بعضد.
فأمّا ما قيل من قولهم: فلأمّه [النساء/ 11]، فإنّه يذكر في هذا الكتاب في موضعه إن شاء الله.
الحجة لحمزة والكسائي في قراءتهما عليهم الذلة [البقرة/ 61] ومن دونهم امرأتين [القصص/ 23].
فأمّا قول حمزة والكسائي: (عليهم الذلة)، و (من دونهم امرأتين)، فإنّ تحريك حمزة الميم، في: عليهم ولديهم، وإليهم، خاصّة بالضم مستقيم حسن، وذلك أنه يضم الهاء في
[الحجة للقراء السبعة: 1/117]
هذه الأحرف ولا يكسرها، فإذا ضمّها لم يكن في تحريك الميم إلا الضمّ، ولم يجز الكسر، ألا ترى أنّه لم يكسر الميم أحد ممّن ضمّ الهاء، نحو: عليهم الذلة، وإنما يكسر هذه الميم لالتقاء الساكنين من يكسر الهاء فيتبعها حركة الميم؟ واجتماعهم على ذلك يدلّ على أنّ المحرّك لالتقاء الساكنين إذا كانت له حركة أسكن عنها، كان تحريكه بتلك الحركة التي كانت له أولى من اجتلاب حركة لالتقاء الساكنين لم يتحرك الحرف بها في غير التقائهما. وعلى هذا قالوا: مذ اليوم، فحركوا الذال بالضمّ، فكذلك تحريك حمزة هذه الميم في (عليهم) والحرفين الآخرين بالضم.
وأمّا موافقة الكسائيّ له في عليهم ولديهم، واتفاقهما على تحريك الهاء من ضمير المجرور أو المنصوب المجموع بالضم إذا لقيت الميم ساكنا مع كسرهما هذه الهاء في غير هذه المواضع إلّا ما انفرد به حمزة في عليهم وإليهم ولديهم فوجهه أن ذلك لغة، كما أن الكسر لغة، فكأنّهما أحبّا أن يأخذا باللغتين جميعا، كما قرأ غيرهما: وقالوا لولا نزّل عليه آيةٌ من ربّه قل إنّ اللّه قادرٌ على أن ينزّل آيةً [الأنعام/ 37] وكما قرئ: ولتكملوا العدّة [البقرة/ 185] ولتكملوا
[الحجة للقراء السبعة: 1/118]
العدة وكما قال: لا يألتكم من أعمالكم شيئا، ولا يلتكم من أعمالكم [الحجرات/ 14] ونحو ذلك، ممّا قد أخذ فيه بلغتين وأكثر، نحو قوله: فلا تقل لهما أفٍّ [الإسراء/ 23]. وفي ذلك توسعة وتسهيل وأخذ بظاهر الخبر المأثور: «نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف».
ومثل قولهما في هذا من الأخذ باللغتين، ما روي عن نافع من قراءته مرة: (عليهمو) وأخرى (عليهم).
فإن قلت: فإن حركة التقاء الساكنين حركة غير معتدّ بها لأدلة قامت على ذلك، وإذا لم يعتدّ بها وجب ألّا تتبع غيرها، فيلزم ألّا تضمّ الهاء معها كما لا يضمها إذا لم تكن الميم متحركة، فإذا ضمّ الهاء في هذا الموضع دون غيره فكأنّه أتبع حركة الهاء التحريك لالتقاء الساكنين قيل: إنّ هذا الكلام مما يجوز أن يرجّح به قول من خالفهما في ذلك فإذا تؤول قولهما على ما قدمناه لم يدخل هذا السؤال عليه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/119]
فأما الأدلة على أنّ التحريك لالتقاء الساكنين غير معتدّ به، فمنها أنّهم قالوا: رمت المرأة وبغت الأمة. فحذفوا الألف المنقلبة عن اللام لسكونها وسكون تاء التأنيث، ولمّا حركت التاء لالتقاء الساكنين لم يردّ الألف ولم يثبت كما لا يثبت في حال سكون التاء. وكذلك: لم يخف الرجل، ولم يقل القوم، ولم يبع الناس وقم اللّيل [المزمل/ 2].
ولو كانت الحركة معتدا بها لثبتت العين كما ثبتت في: لم يقولا، ولم يخافا. ومن ثم ثبتت العين مع الخفيفة والشديدة، إذا قال: قولن ذاك، وبيعنّ هذا.
فدلّ أن التحريك ليس لالتقاء الساكنين.
فإن قلت: فقد جاء:
أجرّه الرّمح ولا تهاله
فردّ الألف التي كانت حذفت للجزم، واللام التي بعدها متحركة لالتقاء الساكنين، فهلّا دلّ ذلك على الاعتداد بحركة التقاء الساكنين وقوّى ذلك قول من قال: (عليهم الذلة)، و (من دونهم امرأتين)، فضمّ الهاء لمّا انضمت الميم. فالقول: إنّ ذلك من القلّة بحيث إن لم يعتبر به المعتبر كان المذهب على أنّ الألف يجوز أن تكون على حدها في «منتزاح».
[الحجة للقراء السبعة: 1/120]
فإن قلت: فقد اعتد بحركة التقاء الساكنين في موضع آخر، وذلك قوله: لم يكن الّذين كفروا [البينة/ 1]، ألا ترى أنّ من يقول: لم يك زيد منطلقا، إذا تحرك لالتقاء الساكنين لم يحذف. كما أنّه إذا تحرك بحركة الإعراب لم يحذف؟ فالقول: إنّ ذلك أوجه من الأول، من حيث كثر في الاستعمال. وجاء به التنزيل. فالاحتجاج به أقوى.
فأمّا حذف الشاعر له مع تحركها بهذه الحركة كما يحذفها إذا كانت ساكنة فإن هذه الضرورة من ردّ الشيء إلى أصله نحو: «ضننوا» لأنّ الاستعمال فيه الإثبات كما أعلمتك.
فهذا يجري مجرى (استحوذ) في أن القياس كان على نظائره أن يعلّ، كما كان القياس في النون أن يستعمل حذفها في حال السعة إذا كانت الحركة غير لازمة ولكن الاستعمال جاء بغيره.
ومن ذلك قولهم: اضرب الاثنين. واكتب الاسم.
فحركت اللام من افعل بالكسر لالتقاء الساكنين. ثم لمّا حركت لام المعرفة من الاثنين والاسم لم تسكن اللام من افعل كما لم تسكنها في نحو: اضرب القوم، لأن تحريك اللام لالتقاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/121]
الساكنين، فهي في تقدير السكون، فكما أنّ لام افعل إذا وقع بعدها ساكن يحرك ولا يسكن، فكذلك إذا وقعت بعدها حركة لالتقاء الساكنين، تحرك من حيث كانت الحركة غير معتد بها، فصارت من أجل ذلك في حكم السكون.
فإن قلت: فكيف حرّكت لام المعرفة في اضرب الاثنين لالتقاء الساكنين، وهلّا حرّكت الثاء لأنهما في كلمة واحدة، والساكنان إذا التقيا في كلمة واحدة حرّك الثاني منهما، نحو أين وكيف؟. فالقول في ذلك أنّ لام المعرفة، وإن كانت بمنزلة ما هو من نفس الحرف لدخول العامل عليها، وأنّها أشدّ اتصالا بالكلمة التي هي فيها من حرف التنبيه في قولهم: هذا، ونحوه لاكتساب الكلمة بها معنى لم يكن لها إذا لم يدخلها. فالقول: إنها قد جرت مجرى المنفصل منها لمّا لم تكن أصلا فيها كما كان في التذكّر كذلك، وذلك قولهم: ألي، إذا تذكروا، نحو: الخليل، والقوم، ولذلك كرّرت في قوله:
بالشحم إنّا قد مللناه بجل
[الحجة للقراء السبعة: 1/122]
ويدل على أن التحريك للساكنين غير معتدّ به، أنهم قالوا في الجزم: لم يضربا، ولم يضربوا، فحذفوا النون في هذه المواضع، كما حذفوا الألف والياء والواو السواكن إذا كنّ لامات، من حيث عودلن بالحركة، ولو كانت حركة النون معتدّا بها لحذفت هي من دون الحرف، كما فعل ذلك بسائر الحروف المتحرّكة إذا لحقها الجزم. ويدلّ على ذلك أيضا اتفاقهم على أن المثلين إذا تحرّكا ولم يكونا للإلحاق أو شاذا عن الجمهور، أدغموا الأوّل في الآخر، وقالوا: اردد ابنك واشمم الريحان، فلم يدغموا في الثاني إذا تحرك لالتقاء الساكنين، كما لم يدغموه قبل هذا التحريك، فدلّ ذلك على أنّ التحريك لالتقاء الساكنين لا اعتداد به عندهم. ويدلّ على ذلك أيضا أنّ الواوات إذا تحرّكت بالضمّ، جاز أن تبدل منها الهمزة. نحو: أقّتت وأدؤر والنئوور، و:
كأن عينيه من الغئور
[الحجة للقراء السبعة: 1/123]
ولم يبدلوا الهمزة منها إذا تحركت بالضم لالتقاء الساكنين، كما لم يبدلوها منها إذا كانت ساكنة لمّا لم يكن بتحريك الساكنين اعتداد. والذي حكي من همز بعضهم لذلك يجرى مجرى الغلط.
وقد جعلوا ما لم يلزم من الحركات كما لم يلزم من حركة التقاء الساكنين في أن لم يعتدّ به، كما لم يعتدّ بالتحريك لالتقائهما، وذلك لاجتماع الصنفين في أنّ الحركة فيهما غير لازمة. فمن ذلك قولهم: رمتا وغزتا، لما لم تلزم حركة التاء وإنّما هي لمجاورة الألف، لم يعتدّ بها، فلم تردّ الألف المنقلبة عن اللام في فعل كما لم تردّ في رمت المرأة لمّا كانت حركة التاء غير لازمة، كما كانت في رمت المرأة كذلك.
فإن قلت: فقد وقع الاعتداد بها في قوله:
لها متنتان خظاتا
[الحجة للقراء السبعة: 1/124]
فالقول فيه أنّه بمنزلة ما تقدّم من قوله: ولا تهاله. وقد قيل: إنّه حذف منها نون التثنية، وليس ذلك عندنا بأوجه القولين، لأنّ حذف نون التثنية إنّما جاء في الموصولة نحو:
....... إن عمّيّ اللّذا... قتلا .......
ونحو:
الحافظو عورة العشيرة..
والحذوف تخصّص ولا تقاس.
وكذلك قول من ذهب إلى الحذف في قوله:
قد سالم الحيّات منه القدما
[الحجة للقراء السبعة: 1/125]
ولا يقوى ما ذهبوا إليه من قول أبي دواد:
ومتنان خظاتان... كزحلوف من الهضب
لأنّ هذا يكون تثنية والأول مثال ماض كغزا أو رمى ومن ذلك قولهم: اضرب الاجل، لمّا كانت حركة اللام حركة الهمزة ولم تكن لازمة في قول من حقّق، كما لم تلزم حركة التقاء الساكنين، أقررت الكسرة على الباء، كما أقررتها في اضرب الاثنين، لاجتماع الحركتين في أنّهما لا تلزمان.
وعلى هذا تقول: ملآن.
وما أنس م الأشياء...
[الحجة للقراء السبعة: 1/126]
فلا ترد النون التي حذفتها لالتقاء الساكنين، لأنّ اللام في تقدير السكون من حيث كانت متحركة بحركة الهمزة. وعلى هذا تقول: (قال لان جئت بالحق) [البقرة/ 71] فلا تردّ الواو، كما لم تسكّن الباء في قولهم: اضرب الاجل. ومن قال:
((قالوا لان جئت بالحق)) فردّ الواو لحركة اللام فإنّ هذا على قياس قولهم: لحمر، لمّا جعلت الحركة بمنزلة اللازمة حذفت همزة الوصل التي إنّما تجتلب لسكون اللام. وقياس هذا أن يسكن الباء في اضرب لاجل ولا تكسرها كما كسرها من لم يعتدّ بالحركة. وهذا مما يقوي قراءة حمزة والكسائي.
ألا ترى أن الحركة التي ليست بلازمة جعلت بمنزلة اللازمة في أن حذفت همزة الوصل قبلها؟ فكذلك يجعلان الحركة التي لالتقاء الساكنين وإن كانت غير لازمة بمنزلة اللازمة، فيختاران أن يتبعاها المضمومة في ((عليهم الذلة)) و ((من دونهم امرأتين)) وإن لم يختاراها في غير هذا الموضع ليكون الصوت من جنس واحد وضربا واحدا. وقد أخذ أبو عمرو مثل ذلك أيضا معهما. وذلك في قراءته: وأنه أهلك عادلولى [النجم/ 50]، ألا ترى أن حكم المدغم فيه أن يكون متحركا ولا يكون ساكنا، فإنما تجعله على لغة من قال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/127]
لحمر، كما تأوّله أبو عثمان.
فإن قلت: فلم لا تحمله على قول من قال: الحمر، فلم يسقط همزة الوصل لأن الحركة غير لازمة، فلما أدغمت النون في اللام الساكنة حرّكتها، كما حركت غض ونحوه، وإن كان المدغم فيه ساكنا؟ فالقول: إن ذلك لا يمتنع أن تقدر القراءة عليه، وتتأوّل، إلّا أنّه مثل الأول في أن المدغم فيه ساكن، وأن الحركة التي هي بمنزلة المجتلبة لالتقاء الساكنين تنزّلت منزلة الثابتة غير المجتلبة.
ومما يقوي قولهما، أنّهم قالوا: سل ور رأيك، فأسقطوا همزة الوصل لما تحركت الفاء، فكما شبهوها هاهنا بالحركة اللازمة فحذفت همزة الوصل، كذلك تكون في قولهما الحركة غير اللازمة بمنزلة اللازمة، فيحسن أن يضم لذلك الهاء التي كانا يكسرانها لتتبع حركة الميم التي قد تنزّلت منزلة اللازمة في هذه المواضع.
وقد قال أبو الحسن: إنّ ناسا يقولون: اسل، فهؤلاء لم يسقطوا همزة الوصل لما كانت السين في تقدير السكون، إلا أن إسقاط الهمزة مع سل أكثر وإثباتها في قولهم: الحمر، وقولهم: الآن جئت بالحقّ [البقرة/ 71] أكثر، والقياس على ما ذكرت لك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/128]
قال أبو عثمان: ولا يجوز عندي اسل، وإنّما جاز في الألف واللام الحمر لأنّ الألف واللام بمنزلة حرف واحد، ألا ترى أن ألف الاستفهام تلحق ألف اللام فتمدّ ولا تحذف في قولك: آلرجل قال ذاك؟ ويقولون: الحمر، وليس كذا جميع ألفات الوصل، لأنّ الألف واللام بمنزلة قد، كما ذكر سيبويه. قال: ومن أثبت ألف الآن، وقبلها كلام، فقد أخطأ في كل مذهب.
وممّا لم يعتد فيه بالحركة لمّا لم تلزم قولهم: قعدتا وضربتا، لما كانت الحركة من أجل الألف، والألف غير لازمة استجازوا الجمع بين أربع متحركات، ولم يستجيزوا ذلك في ضربت ونحوه. وإنّما استجازوا الموالاة بين هذه الحركات في ضربتا كما قالوا: رمتا وقضتا، فلم يردوا الألف، فكما لم يردوا الألف، حيث كانت الحركة غير لازمة، كذلك لم يكرهوا الموالاة بين أربع متحركات من حيث لم تكن الحركة في التاء لازمة، فكانت من أجل ذلك في تقدير السكون كما كان في تقديره في رمتا.
ومن الحجّة لمن خالفهما ممّن تقدم ذكر قوله، أن يقال:
إنّ التحريك لالتقاء الساكنين لا ينبغي أن يتبع غيره، لأنّهم قد جعلوه تابعا لغيره متقدما ومتأخّرا، ولم يجعلوا غيره يتبعه من حيث كان في تقدير السكون بالأدلّة التي تقدمت. فممّا أتبع ما قبله: انطلق. ولم يلده. فاعلم، لما لزم تحريك اللامين
[الحجة للقراء السبعة: 1/129]
لالتقاء الساكنين أتبعا الفتحة التي قبلهما، ومن ثم قال سيبويه في ترخيم اسم رجل يسمى إسحارّ على من قال يا حار: يا إسحار أقبل. وكذلك قالوا لا تضارّ يا فتى. ومن ذلك مدّ، وفرّ، وعضّ، ومما أتبع ما بعده قول من قال: (وقالت اخرج) [يوسف/ 31] وعذابن. اركض [ص/ 41 - 42]، (أو انقص) [المزمل/ 3]، وعيونن ادخلوها [الحجر/ 45 - 46]. فإذا كان على ذلك بعد أن يتبع غيره لما تقدم من أنّه في تقدير السكون.
فأمّا ما ذكره أبو بكر عن بعض من احتجّ لكسر الهاء في عليهم أنّ الهاء من جنس الياء، لأنّ الهاء تنقطع إلى مخرج الياء- فليس بمستقيم وذلك أنّ قوله: لأن الهاء تنقطع إلى مخرج الياء لا يخلو من أن يريد به أنّه ينقطع إلى الجهة التي تخرج منها الياء، أو يريد بذلك أن الصوت بها يتّصل بمخرج الياء، كما أن صوت الشين استطال حتى خالط أعلى الثنيّتين، وكذلك صوت الهاء استطال حتى اتّصل بمخرج الياء، فصار من أجل ذلك بمنزلة الحروف الخارجة من مخرج الياء، كما صارت الشين بمنزلة الحروف التي تخرج من الموضع الذي بلغه استطالة صوته حتى أدغم فيها كثير من حروف ذلك الموضع، كالطاء وأختيها، والظاء وأختيها.
فإن كان أراد المعنى الأول فليس للهاء به اختصاص ليس
[الحجة للقراء السبعة: 1/130]
لغيره، لمساواتها غيرها ممّا يخرج من مخرجها في ذلك. وإن كان أراد أن الصوت يستطيل حتى يتصل بمخرج الياء كما استطال الصوت بالشين حتى خالط أعلى الثنيّتين، فأنت إذا اعتبرت الهاء في مخرجها لم تجد لها هذه الاستطالة، ولم تجدها تتّصل بمخرج الياء على حدّ ما اتصل صوت الشين بالموضع الذي اتصل به.
ولعلّ الذي حمل هذا القائل على ما قاله من ذلك، كون الهاء مهموسة رخوة. والحروف المهموسة إذا وقف عليها كان الوقف مع نفخ، لأنها لمّا لم تعترض على النّفس اعتراض المجهورة، فتمنعها من أن يجري معها كما منعت المجهورة حين خرجت مع التنفس وانسلّت معه، وهي أيضا حرف رخو، والحروف الرخوة يجوز أن يجري فيها الصوت، وليست الشديدة كذلك، لأنّك لو قلت: ألدّ، والحجّ، لم يجر الصوت فيها إذا مددته كما يجري الصوت في الرخوة، نحو أنقصّ وأيبسّ. فلعل هذا الذي يتبع الصوت في بعض الأحوال من النفخ في المهموسة وإمكان إجراء الصوت في الرخوة، جعله بمنزلة استطالة الشين، وليس هذا من ذلك في شيء، وإنما المشابهة المعتبرة بين الهاء والياء ما ذكرنا من مشابهتها الألف لخفائها، وأنّها قد جعلت متحركة بمنزلة هذه الحروف ساكنة.
والألف تقرّب من الياء بالإمالة، فكذلك قرّبت الهاء منها بأن أبدلت من حركتها الكسرة. وهذه المناسبات التي تكون بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/131]
الحروف توفق بينها، كما يوفّق تقارب المخارج، أو هو آكد في ذلك من تقارب المخارج، ألا ترى أن الواو والياء قد جرتا مجرى المثلين في جواز إدغام كل واحدة منهما في الأخرى، لما اجتمعا فيه من اللين، وأن النون أدغمت في الياء على بعد بين مخارجهما لما ذكرنا.
وأما ما ذكره عن بعض من احتجّ لحمزة من أنّهم قالوا:
ضمّ الهاء هو الأصل، وذلك أنّها إذا انفردت من حروف تتصل بها قيل: هم فعلوا، فليس بمستقيم أيضا، وليست الدلالة على أن ضمير الجميع المجرور أو المنصوب أصله الضمّ انضمام الهاء في هم فعلوا، وذلك أن العلامتين وإن اتفقتا في اللفظ في الجمع، فهما مختلفتان، وليس اتفاقهما في اللفظ بموجب اتفاقهما في التقدير والمعنى.
ألا ترى أن التاء في «أنت» وإن كانت على لفظ التاء في فعلت، فليست إياها ولا مثلها في المعنى، وكذلك الكاف في ذلك، وأرأيتك، والنّجاءك، ونحو ذلك ممّا لحقه الكاف للخطاب مجرّدة من معنى الاسم، ليست كالكاف في أكرمتك، وصادقتك، ولا هو التي للفصل كالتي في قولك للغائب: هو فعل، ولا الواو والألف والنون في قاما أخواك، وقاموا إخوتك، و:
.. يعصرن السّليط... أقاربه
[الحجة للقراء السبعة: 1/132]
بمنزلتها في قولك: أخواك قاما، وإخوتك قاموا، والهندات قمن، فليس الاتفاق في اللفظ بموجب الاتفاق في المعنى، ألا ترى أن الهمزة في الاستفهام على لفظ الهمزة في النداء، وأن هل التي للاستفهام على لفظ هل التي بمنزلة قد؟ وإنّما الدلالة على أنّ أصل الهاء في (عليهم)، [وهذه دارهم] ونحو ذلك الضم، أنّها إذا لم تجاورها الكسرة ولا الياء لم تكن إلا مضمومة، وإذا جاورتها الكسرة أو الياء جاز الكسر فيها للإتباع والتقريب، وجاز الضمّ على الأصل، كقول أهل الحجاز في ذلك، فكلّ موضع جاز فيه الكسر فالضمّ فيه جائز. والمواضع التي تختصّ باستعمال الضم فيها لا يجوز الكسر معها، فبهذا يعلم أنّه الأصل، لا بما ذكره من اتفاق اللفظ.
فأمّا ضمّ الهاء من هم في قوله: هم فعلوا، فلا يدل على أنّ أصل الهاء في عليهم الضمّ، لأنّها ليس بها.
ومما يدلك على اختلافهما، أنّك تقول في واحد «هم» - من قولك هم فعلوا ذلك-: هو قال، كما تقول في واحدة «هنّ فعلن»: هي فعلت، فالواو والياء من نفس الكلمة. فأمّا الواو التي تلحق علامة المضمر المجرور أو المنصوب في نحو
[الحجة للقراء السبعة: 1/133]
هذا له، وضربه، فزيادة لاحقة للكلمة بدلالة سقوطها في نحو:
عليه، ومنه، وإن لم نقف على شيء من ذلك، وأنّه في الغائب نظير الكاف للمخاطب والياء للمتكلم، وبدلالة ما جاء في الشعر عند سيبويه نحو:
له أرقان
وحكى أبو الحسن أنها لغة.
ومما يبيّن أنّ كل واحد من هذه الأسماء التي للضمير ليس الآخر في اللفظ وإن اتفقا في بعض الحروف تحريكك الواو والياء من هو وهي، وحرف المد اللاحق في عليه فيمن أثبت ولم يحذف، وفي داره، وبه، لم يحرّك في موضع.
فإن قلت: فقد أسكنت الياء من هي وهو في الشعر، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/134]
فإذا هي بعظام ودما
فإنّ ذلك لا يؤخذ به في التنزيل وحال السعة والاختيار، وإنّما هذا تشبيه لفظي يستعمله الشاعر للضرورة من وجه بعيد، كأنّه يقول ضمير وضمير حرف لين وحرف لين، وعلى هذا استجاز:
إذه من هواكا
و: بيناه يشري
كأنّه حذفه من هو وهي المسكنتين في الشعر للضرورة، ولا يكون محذوفا من المتحركة لأنّ التشبيه في ذلك لفظيّ،
[الحجة للقراء السبعة: 1/135]
والتحريك يرتفع معه التشبيه الذي يقصده، فلا يصحّ له معه حذف الحرف لتحرّكه، ألا ترى أن الياء إذا كانت لاما أو غيرها فتحرّكت صارت بمنزلة الحروف الصحيحة، ولم يجز فيها الحذف الذي كان يجوز حيث يسكن الحرف؟ وهذا الشّبه اللفظي الذي أعمله الشاعر في اضطراره مرفوض في الكلام، غير مأخوذ به، ومن ثمّ قال سيبويه: ولم يفعلوا هذا بذاهي ومن هي ونحوهما، يريد لم يفعلوه في الكلام لأنّه قد جاء:
فبيناه يشري..
كما قال: فألقى عصاه [الأعراف/ 107]. وجاء:
إذه من هواكا
وجاء الاتفاق بين بعض حروف هذين الاسمين المضمرين، كما جاء ذلك في المظهرة كقولهم: الضّيّاط والضّيطار، والغوغاء فيمن لم يصرف وفيمن صرف، وقاع قرق وقرقوس، ودمث ودمثر وما أشبه ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/136]
فإن قلت فلم لا تستدلّ بثبات الألف في المؤنث في نحو عليها وضربها أن الواو أو الياء في لهو وبهي ليسا بزائدين وإن سقطا في بعض المواضع، لأنّ الأصول قد تسقط أيضا فيه، نحو:
كنواح ريش حمامة نجديّة .... .................
و:............. .... دوامي الأيد يخبطن السّريحا
[الحجة للقراء السبعة: 1/137]
وإذا كان كذلك لم يكن فيما ذكرت من سقوط حرف اللين دلالة على زيادته، وثبات الألف في علامة المؤنث وأنّها لا تحذف دلالة على أنّ الواو والياء في ضمير المذكر في حكم الألف. قيل: لم يستدلّ على زيادتها بالسقوط فقط فيتجه هذا الكلام، فأمّا ثبات الألف في ضمير المؤنث المفرد فليس بدالّ على أنّه من نفس الكلم، وإنّما ألحقت للفصل بين التأنيث والتذكير كما ألحقت السين أو الشين في الوقف في قولهم: أكرمكس، وأكرمكش في بعض اللغات لذلك، فكما أنّهما ليسا مع الكاف كلمة واحدة، وإنّما الأصل الكاف، ولحق هذان الحرفان للفصل بين التأنيث والتذكير، كذلك الألف اللاحقة لهاء الضمير في التأنيث. وقد يكون من الزوائد ما يلزم فلا يحذف نحو نون منطلق، ونحو «ما» في: آثرا ما، ونحو الألف المبدلة من التنوين في النصب في أكثر اللغات.
[الحجة للقراء السبعة: 1/138]
على أنّ ناسا أجازوا حذف هذه الألف في الوقف. قال أبو عثمان: أخبرني أبو محمد التّوّزي قال: أخبرني الفراء قال: قوله:
ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله
أراد: بعد ما كدت أفعلها، يعني: الخصلة، فحذف الألف وطرح حركة الهاء على اللام. قال: ومن كلام أهل بغداد الكسائي والفرّاء: نحن جئناك به، طرح حركة الهاء على الباء، وهو يريد: نحن جئناك بها.
[قال أبو علي]: وهذا الذي حكاه أبو عثمان عن الكسائي والفراء ليس بالمتسع في الاستعمال، ولا المتّجه في القياس، وذلك أن حركة الحرف التي هي له أولى من المجتلبة، يدلّ على ذلك أنّ من ألقى حركة الحرف المدغم على الساكن الذي قبله في نحو: استعدّ، إذا أمر فقال: امتدّ واعتدّ وانقدّ، أقر الحركة التي للحرف فيه، ولم يحذفها، ويلقي على الحرف حركة الحرف المدغم، فكذلك الحركة التي هي الكسر في به أولى به من نقل حركة الموقوف عليه
[الحجة للقراء السبعة: 1/139]
ولا يشبه هذا قول الشاعر:... إذ جدّ النقر
ولا قولهم: هذا عدل، لأنّ هذا التحريك إنّما هو لكراهة التقاء الساكنين. يدل على ذلك أنّ الساكن قبل الحرف الموقوف عليه إذا كان ياء أو واوا نحو: عون وزيد، لم يحرك لكون ما فيه من المدّ بدلا من الحركة، فاحتمل ذلك كما احتمل الإدغام في نحو: عونّهشل وزيد دّاود وما أشبه ذلك.
فإن قلت: فقد قال بعضهم: ردّ، فألقى حركة الحرف المدغم على الفاء وحذف حركتها التي هي الضمة. فالقول:
أن الذي فعل ذلك إنّما شبهه بباب: قيل، وبيع، حيث وافقه في اعتلال العين بالسكون، فجعله مثلها في نقل الحركة إلى الفاء، كما جعلوها مثلها في الحذف في قولهم: ظلت، ومست.
فكما استجازوا فيه الحذف في العين كما حذف من بنات الياء والواو، كذلك استجازوا نقل حركة العين إلى الفاء.
والأكثر الأشيع في ردّ غير ذلك.
وممّا يدل على أنّ حركة الحرف التي له في الأصل أولى به من الحركة المجتلبة، أنّ «مذ» لمّا حركت لالتقاء الساكنين حركت بالضمّة التي هي حركته في الأصل ولم تكسر، وكذلك: ((عليهم الذلة)).
ومما يبعد ما حكاه أبو عثمان عنهم، من القول في أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/140]
الألف لا تحذف في الوقف كأختيها، حذفهم الألف من علامة الضمير، والألف لا تحذف في الوقف كما تحذف الياء والواو.
فإن قلت: فقد قال بعضهم في الوقف: رأيت زيد، فلم تبدل من التنوين الألف. وقال الأعشى:
وآخذ من كلّ حيّ عصم
وقد قال لبيد:
ورهط ابن المعلّ
وقالوا: ولو تر ما أهل مكة، وقرئ: (حاش للّه) [يوسف/ 31 - 51] وهو فاعل، فإذا حذفت الألف في هذه
[الحجة للقراء السبعة: 1/141]
الأشياء، فلم لا يجوز أن يحذف في قوله: «أن أفعله» و «نحن جئناك به» قيل: لا يشبه هذا قولهم لو تر ما، وحاش لله، لأنّ ذلك إنّما حذف كما حذف لا أبال، ولا أدر، بدلالة أنّهما قد حذفا في الوصل أيضا.
وأما المعل فحذفه لإقامة القافية، وترك إبدال الألف من النون في عصم ليس بالمتسع. ألا ترى أن سيبويه لم يحكه؟
وحذف الأعشى له لإقامة القافية أيضا كحذف ألف معلّى، فحذف الألف من هاء الضمير ليس بالمتجه.
قوله عزّ وجلّ: غير المغضوب عليهم
قرأ: غير المغضوب عليهم- بخفض الراء- نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي. واختلف عن ابن كثير فروي عنه النصب والجر.
قال أبو بكر في الحجّة في الجر: إنّهم قالوا ينخفض على ضربين: على البدل من الذين، ويستقيم أن يكون صفة للنكرة. تقول: مررت برجل غيرك، وإنما وقع (غير) هاهنا صفة للذين، لأن الذين هاهنا ليس بمقصود قصدهم، فهو بمنزلة قولك: إنّي لأمر بالرجل مثلك فأكرمه. قال: وقالوا يجوز النصب على ضربين. على الحال، والاستثناء.
فأمّا الاستثناء فكأنّك قلت: إلّا المغضوب عليهم.
[الحجة للقراء السبعة: 1/142]
وأما الحال فكأنك قلت: صراط الّذين أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم.
قال: ويجوز عندي النصب أيضا على أعني. وقد حكي عن الخليل نحو هذا، أنّه أجازه على وجه الصفة والقطع من الأول كما يجيء المدح. ومما يحتجّ به لمن يفتح أن يقال:
غير نكرة، فكره أن يوصف به المعرفة.
قال: والاختيار الذي لا خفاء به الكسر، ألا ترى أن ابن كثير قد اختلف عنه. وإذا كان كذلك فأولى القولين به ما لم يخرج به عن إجماع قراء الأمصار؟
ولعل الذي تنكّب الجر، إنما تنكبه فرارا من أن ينعت الذين أنعمت عليهم بغير، وغير إذا أضيفت إلى المعرفة قد توصف بها النكرة.
[قال أبو بكر]: والذي عندي أن (غير) في هذا الموضع مع ما أضيفت إليه معرفة، وهذا شيء فيه نظر ولبس.
فليفهم عني ما أقول: «أعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، وإنما تنكرت غير، ومثل، مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك أنك إذا قلت: رأيت غيرك، فكل شيء ترى سوى المخاطب فهو غيره، وكذلك إذا قال: رأيت مثلك، فما هو مثله لا يحصى، يجوز أن يكون مثله في خلقه، وفي خلقه،
[الحجة للقراء السبعة: 1/143]
وفي جاهه، وفي علمه، وفي نسبه. فإنّما صارا نكرتين من أجل المعنى. فأمّا إذا كان شيء معرفة له ضد واحد وأردت إثباته ونفي ضده، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير، وأضفت غيرا إلى ضده فهو معرفة، وذلك نحو قولك: عليك بالحركة غير السكون، فغير السكون معرفة، وهي الحركة، فكأنك كرّرت الحركة تأكيدا، فكذلك قوله: الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم. فالذين أنعم عليهم لا عقيب لهم إلا المغضوب عليهم، فكل من أنعم عليه بالإيمان فهو غير مغضوب عليه، وكل من لم يغضب عليه فقد أنعم عليه. فغير المغضوب عليهم هم الذين أنعم عليهم، فهو مساو له في معرفته. هذا الذي يسبق إلى أفئدة الناس وعليه كلامهم. فمتى كانت (غير) بهذه الصفة وقصد بها هذا القصد، فهي معرفة.
وكذلك لو عرف إنسان بأنه مثلك في ضرب من الضروب، فقيل فيه: قد جاء مثلك لكان معرفة إذا أردت المعروف بشبهك، والمعرفة والنكرة بمعانيهما، فكل شيء خلص لك بعينه من سائر أمّته فهو معرفة.
ومن جعل (غير) بدلا فقد استغنى عن هذا الاحتجاج، لأنّ النكرة قد تبدل من المعرفة. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: قوله: غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين قيل: إن المعنيّ بقوله: المغضوب عليهم اليهود، ويدلّ على
[الحجة للقراء السبعة: 1/144]
ذلك قوله تعالى: من لعنه اللّه وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير [المائدة/ 60] فهؤلاء اليهود، بدلالة قوله: ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت، فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين [البقرة/ 65] والضالّون: النصارى، لقوله: ولا تتّبعوا أهواء قومٍ قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السّبيل [المائدة/ 77].
فأمّا الخفض في (غير)، فعلى ما تقدم ذكره: من البدل أو الصفة. والفصل بين البدل والصفة أنّ البدل في تقدير تكرير العامل. وليس كالصفة، ولكن كأنّه في التقدير من جملتين بدلالة تكرير حرف الجر في قوله: قال الملأ الّذين استكبروا من قومه للّذين استضعفوا لمن آمن منهم [الأعراف/ 75] وبدلالة بدل النكرة من المعرفة، والمظهر من المضمر. وهذا مما لا يجوز في الصفة، فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم، فكذلك يكون العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرير. وهو وإن كان كذلك فليس يخرج عن أن يكون فيه تبيين للأول، كما أنّ الصفة كذلك، ولهذا لم يجز سيبويه: بي المسكين كان الأمر، ولا بك المسكين. كما أجاز ذلك في الغائب نحو:
مررت به المسكين. فأما ما ذهب إليه بعض البغداديين في قول الشاعر:
فلأحشأنّك مشقصا... أوسا أويس من الهبالة
[الحجة للقراء السبعة: 1/145]
من أنّ أوسا بدل من كاف الخطاب، فليس الأمر فيه كما ذهب إليه، لأنّ أوسا مصدر، من قولك: أسته إذا أعطيته، وانتصب أوس لأن ما ذكر من قوله: فلأحشأنك يدل على لأؤوسنّك فانتصب المصدر عنه، فإن جعلت الجار متعلقا بالمصدر كان بمنزلة قوله:
فندلا- زريق- المال ندل الثعالب
[الحجة للقراء السبعة: 1/146]
وإنما لم يجز البدل من ضمير المتكلم والمخاطب، لأن ذلك من المواضع التي يستغنى فيها عن التبيين، لوضوحه.
وأنّه لا يعرض التباس كما يعرض في علامة الغيبة.
ولما كان البدل قد حصل فيه شبه من الأجنبي من حيث كان في التقدير من كلامين، وحصل فيه شبه من الصفة من حيث بيّن به كما بيّن بالصفة، ولم يستعمل ما يكون به من كلامين، أجراهما أبو الحسن مجرى واحدا، فقال- فيما روى عنه أبو إسحاق الزيادي - في قولهم: زيد ذهب عمرو أخوه، وقد سأله: أبدل هو أم صفة؟ فقال: ما أبالي أيّهما قلت.
قال أبو إسحاق قلت: أو كذا تقول في المعطوف؟ قال:
نعم. أقول: زيد ذهب عمرو وأخوه. وقال أبو الحسن في هذه المسألة في بعض كتبه: إن جعلت قولك أخوه بدلا لم يجز، وإن جعلته صفة جاز، وإنما لم يجزه في البدل لمّا كان على ما ذكرنا من أنّه في تقدير جملتين، فكأنّه قد انقضى الكلام ولم
[الحجة للقراء السبعة: 1/147]
يعد إلى الأول ذكر. وإذا كان صفة جاز ذلك، لأن الصفة بمنزلة الجزء من الاسم الموصوف. ألا ترى أنهم قالوا: لا رجل ظريف، وهذا زيد بن عمرو. فتنزّلت الصفة مع الموصوف بمنزلة اسم مضاف نحو امرئ القيس وقد جعل يونس صفة المندوب بمنزلة المندوب في استجازته إلحاق علامة الندبة بها، وقد تنزلت الصفة عندهم جميعا منزلة الجزء من الاسم، وذلك إذا كان الموصوف لا يعرف إلا بالصفة، فإذا كان كذلك لم يستغن بالاسم الموصوف دون صفته. ومن ثم جعله سيبويه بمنزلة بعض الاسم في قوله:
إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
فجعل (أشنعا) حالا، ولم يجعله خبرا، لأن فيما تقدم من صفة الاسم ما يدل على الخبر، فيصير الخبر لا يفيد زيادة معنى. فهذا مما تنزّلت فيه الصفة منزلة جزء من الاسم عنده، كما ذكرنا.
[الحجة للقراء السبعة: 1/148]
ومما يدل على مفارقة الصفة للبدل، أنّك تصف بما لا يجوز فيه البدل، نحو الفعل والفاعل والابتداء والخبر، نحو:
مررت برجل قام أخوه، وبرجل أبوه منطلق. ولو جعلت شيئا من ذلك بدلا لم يجز، من حيث لا يستقيم تكرير العامل، وجاز الوصف به، من حيث كان مشابها للوصل، فلم يكن في تقدير تكرير العامل.
فمن جعل (غير) في الآية بدلا كان تأويله بيّنا، وذلك أنّه لا يخلو من أن يجعل غيرا معرفة أو نكرة، فإن جعله معرفة فبدل المعرفة من المعرفة سائغ مستقيم، كقوله: اهدنا
الصّراط المستقيم صراط الّذين أنعمت عليهم
[الفاتحة/ 6] وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا [آل عمران/ 97]، وإن جعله نكرة فبدل النكرة من المعرفة في الجواز كذلك، كقوله: بالنّاصية ناصيةٍ كاذبةٍ [العلق/ 15 - 16].
فإن قلت: إن النكرة التي هي بدل في الآية على لفظ المعرفة الذي أبدل منه. وليس (غير) على لفظ الموصول المبدل منه، فهلا امتنع البدل لذلك، كما امتنع عند قوم له؟
قيل: إذا جاز بدل النكرة من المعرفة فيما كان على لفظ الأول، فلا فصل بين ما وافق الأول في لفظه وبين ما خالفه، لاجتماع الضربين في التنكير. ويدل على جواز ذلك قوله:
إنّا وجدنا بني جلّان كلّهم... كساعد الضّبّ لا طول ولا قصر
[الحجة للقراء السبعة: 1/149]
وأنشد أبو زيد:
فلا وأبيك خير منك إني... ليؤذنني التّحمحم والصهيل
[وليؤذنني. يقال: آذنته وأذنته إذا رددته].
فالبدل شائع كثير، وهو الذي يختاره أبو الحسن في الآية، وذلك لأنّ «الذي» إنّما صيغ لأن يتوصّل به إلى وصف المعارف بالجمل، فإذا كان كذلك لم يحسن أن يذهب بها مذهب الأسماء الشائعة التي ليست بمخصوصة.
فإن قلت: فقد جاء: مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً، ثم قال: فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم [البقرة/ 17] فدلّ أنّه يراد به الكثرة، وقال: والّذي جاء بالصّدق وصدّق به، ثم قال أولئك هم المتّقون [الزمر/ 33]. وقد قيل في قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/150]
إنّ الذي حانت بفلج دماؤهم
إنه أفرد، والمراد به الكثرة، ليس أن النون حذفت كما حذفت من قوله:
اللذا قتلا الملوك
فجاءت في هذه المواضع شائعة دالّة على الكثرة، فهلّا جاز أن يكون كالرّجل ونحوه ممّا يجوز وصفه بما يوصف به الأسماء الشائعة نحو: مثلك وخير منك.
قيل: إن هذا قد جاء فيه كما جاء في اسم الفاعل نحو قوله:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلّي... أو تصبحي في الظاعن المولّي
[الحجة للقراء السبعة: 1/151]
ونحو ما أنشده أبو زيد:
باكرني بسحرة عواذلي... ولومهنّ خبل من الخبل
ونحو: نعم القائم أخوك، وبئس الذاهبان صاحباك، إلّا أنّ مجيئه للتخصيص أكثر. وإنّما جاءت في الآي شائعة لمشابهتها «من وما» واجتماعها معهما في الصلة، ألا ترى أنّ تعرف «الذي» بالصلة لا بالألف واللام؟ وإذا كان كذلك كان المعنى المتعرّف به لازما له لا يجوز إلقاؤه، كما جاز عند أبي الحسن إلقاء لام التعريف من قولهم: قد أمرّ بالرجل غيرك فيكرمني، والقوم فيها الجمّاء الغفير، والخمسة العشر درهما ونحو ذلك، وإذا لم يجز ذلك في الذي للزوم المعنى المعرّف للّذي، لم يحسن وصفه بما وصف به الرجل ونحوه، ممّا قد يتنكّر فيتنزّل لذلك منزلة الأسماء الشائعة،
[الحجة للقراء السبعة: 1/152]
ويقدّر إلقاء الألف واللام منه ليحسن بذلك وصفه بما توصف به النكرة، أو تقدّر في الصفة الألف واللام، كما يقدّره الخليل وسيبويه ليصح بذلك كونه وصفا لما فيه الألف واللام.
قال أبو عثمان: يجوز عندي: زيد هو يقول ذاك، وهو فصل، ولا أجيز: زيد هو قال ذاك، لأني أجيز الفصل بين الأسماء والأفعال، ولا يجوز في الماضية كما جاز في المضارعة، وذلك أن سيبويه قد قال: إني لأمر بالرجل خير منك فيكرمني، وبالرجل يكرمني، وهما صفة على توهّم الألف واللام، فكذلك في الفصل أتوهم الألف واللام في الفعل ويكون بمنزلة إلغائه بين المعرفتين، كما أقول: كان زيد هو خيرا منك، على توهّم الألف واللام في خير منك، ولا يجوز كان زيد هو منطلقا، لأني أقدر على الألف واللام، وإنما يجوز هذا فيما لا يقدر فيه على الألف واللام.
وأمّا من قدّر (غير) صفة للّذين، وقدره معرفة لما ذكره أبو بكر، فإن وصفه للذين بغير كوصفه له بالصفات المخصوصة، وقد حمله سيبويه على أنه وصف.
ومن لم يذهب بغير هذا المذهب. ولم يجعله مخصوصا؛ استجاز أن يصف (الّذين) بغير من حيث لم يكن
[الحجة للقراء السبعة: 1/153]
الذين مقصودا قصدهم، فصار مشابها للنكرة، من حيث اجتمع معه في أنّه لم يرد به شيء معيّن. ونظير ذلك ممّا دخله الألف واللام فلم يختصّ بدخولهما عليه لمّا لم يكن مقصودا قصده قولهم: قد أمرّ بالرجل مثلك فيكرمني، عند سيبويه، فوصف الرجل بمثلك لما لم يكن معيّنا، وكذلك أجاز مررت بأبي العشرة أبوه، فترفع أبوه بأبي العشرة، إذا لم تكن العشرة شيئا بعينه لأنّ هذا موضع يحتاج فيه إلى خلاف التخصيص، لعمل الاسم عمل الفعل، ألا ترى أن اسم الفاعل إذا كان لما مضى لم يعمل، وكذلك قال في قوله: إمّا العبيد فذو عبيد: إذا لم يجعلهم عبيدا بأعيانهم جاز أن يقع موقع المصدر، وكذلك قولهم: سير عليه الأبد، والليل والنهار، والشهر والدهر، فلذلك وقعت في جواب كم دون متى في قولهم: سير عليه الليل والنهار، والدهر والأبد، فكما أن هذه الأشياء التي فيها الألف واللام لمّا لم يرد به شيء معيّن جرت مجرى النكرات، كذلك (الّذين) إذا لم يرد به شيء معيّن جاز أن يوصف بما يوصف به ما كان غير معيّن.
ويقوّي هذا الوجه قول من رأى أنّه إذا نصب كان منتصبا على الحال، وهذا النحو إذا انتصب على الحال كان شائعا غير مخصوص، إذا لم يكن كالعراك وجهدك وطاقتك.
وحكم الحال وما انتصب عليها أن يكون نكرة، كما أن ما
[الحجة للقراء السبعة: 1/154]
انتصب على التمييز كذلك، ويكون العامل في الحال أنعمت، كأنّه قال: أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم!، أي في حال انتفاء الغضب عنهم، كما أنّ قولهم: جاءني زيد راكبا تقديره: جاءني زيد في حال الركوب، وهكذا يمثّلونه.
فإن قلت: كيف جاز هذا التقدير وراكب عبارة عن زيد، وهو هو في المعنى، وأنت لو قلت: جاءني زيد في حال نفسه لم يستقم؟ فالقول: إن ترجمة راكب- وإن كان زيدا في المعنى- لا يمتنع أن يكون ما ذكرنا، وإن لم يحسن جاءني زيد في حال نفسه، لأنّ راكبا يدلّ على الركوب، وزيد لا يدلّ عليه، ألا ترى أنهم قد قالوا:
إذا نهي السفيه جرى إليه
أي: إلى السفه، فأضمره لمّا كان قد تقدّم ما يدل عليه؟
فإذا كان في ذكر راكب دلالة على الركوب، لم يمتنع أن تقول في ترجمة جاءني زيد راكبا: جاءني زيد في حال ركوبه،
[الحجة للقراء السبعة: 1/155]
فيجعل الركوب وقتا لفعله، لأنّ المصادر تكون نحو:
مقدم الحاج.
ومن هاهنا قال أبو الحسن وغيره فيها: إنّها وقت، ولمّا كان هذا معناها أجراها العرب مجرى الظرف، وإن كانت عبارة عن زيد ونحوه، فاستجازت أن تعمل فيها المعاني، كما أعملتها في الظروف، ولم تجعله بمنزلة الظروف من حيث كان مفعولا مختصا، فلم تعمل فيها المعاني متقدّمة.
ويؤكد أنّها عندهم بمنزلة الظروف إخلاؤهم إيّاها من الذكر العائد إلى ذي الحال كإخلائهم الظروف من ذلك، وذلك نحو قولهم: أتيتك وزيد قائم، ولقيتك والجيش قادم، فخلا من ذكر عائد، واستغنى بالواو عن ذلك لما فيها من دلالة الاجتماع. ومن ثمّ مثله سيبويه بإذ في قوله: إذ طائفة حيث لم يعد من الجملة التي بعد الواو ذكر إلى من هذه الجملة حال لهم، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا في أمر الحال من أنّه أشبه الظرف والمفعول به فلم يكن بمنزلة المفعول به على حدته، ولا الظرف على انفراده- وجب أن يكون انتصابها على ضرب آخر غيرهما، كما أن حكمها غير حكم كل واحد منهما على انفراده.
[الحجة للقراء السبعة: 1/156]
وكثيرا ما يجتمع في الشيء الواحد الشبه من وجهين وأصلين. فمن ذلك حروف الجر في: مررت بزيد ونحوه، وهو من جهة بمنزلة جزء من الفعل، ومن أخرى بمنزلة جزء من الاسم. أما الجهة التي كان منها بمنزلة جزء من الفعل، فلأنّه قد أنفذ الفعل إلى المفعول، وأوصله، كما أنّ الهمزة في نحو:
أذهبته، قد فعلت ذلك، وكما أنّ تضعيف العين في خرّجته وفرحته، قد فعل ذلك. وأمّا كونه بمنزلة جزء من الاسم فهو أنّك قد عطفت عليه بالنصب في نحو: مررت بزيد وعمرا، لمّا كان موضع الجارّ والمجرور نصبا، ومن ثم قدّمت على الاسم في نحو: بمن تمرر أمرر به، وبمن تمر. وكذلك قولهم: لا أبا لك، هو من وجه منفصل، ومن وجه متصل، فكذلك الحال: من وجه بمنزلة المفعول به، ومن وجه بمنزلة الظرف الذي هو مفعول فيه.
وفيما ذكرناه- من جواز خلوّ الحال من ذكر يعود منها إلى ذي الحال- ما يدلّ على جواز وقوع الأسماء التي ليست بصفات أحوالا، نحو البسر والرطب والقفيز، وما أشبه ذلك من الأسماء التي لا تناسب الفعل. وفي التنزيل: هذه ناقة اللّه لكم آيةً [هود/ 64].
وأمّا من ذهب إلى أن غيرا منتصب بالاستثناء، فإن الاسم المنتصب في الاستثناء ينتصب بالفعل الذي قبله أو بمعناه بتوسّط إلّا. ومما يدل على انتصابه بذلك- بتوسط هذا الحرف- أنّ حروف الجر قد وقعت هذا الموقع في نحو: جاءني القوم حاشا زيد وخلا زيد، فكما أنّ حرف الجر قد أوصل
[الحجة للقراء السبعة: 1/157]
الفعل أو معناه إلى المستثنى، فكذلك إلّا قد أوصلت ذلك إلى ما بعدها.
ونظير إلا في الاستثناء- في إيصالها الفعل إلى ما بعدها، وانتصاب الاسم بذلك- الواو في قولهم: جاء البرد والطيالسة، واستوى الماء والخشبة، فانتصاب الاسم بعد إلا كانتصابه بعد الواو، ألا ترى أنه لولا الواو لم يصل الفعل إلى الاسم المنتصب على أنّه مفعول معه، كما أنّ إلّا في الاستثناء لولا هي لم يصل الفعل، ولا معناه إلى الاسم المستثنى.
وقد يعمل بواسطة الحروف عوامل، لولا توسّطها لم تعمل فيما تعمل فيه مع دخول الحرف، ألا ترى أنّ اسم الفاعل إذا كان لما مضى لم يعمل عمل الفعل عند عامة النحويين، وقد أجازوا جميعا: هذا مارّ بزيد أمس، لمكان حرف الجر. وتقول: أنت أعلم بزيد منك بعمرو. وفي التنزيل: إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله [النجم/ 30] فأما ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
أكرّ وأحمى للحقيقة منهم... وأضرب منا بالسيوف القوانسا
فعلى إضمار فعل يدلّ عليه أضرب، كما أن قوله: إنّ ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله [الأنعام/ 117] على ذلك.
يدلّك على هذا أنّ (من) لا يخلو من أن تكون موصولة
[الحجة للقراء السبعة: 1/158]
أو استفهاما، فإن كان صلة كان مختصّا، والمفعول به إذا كان مختصا لم تعمل فيه المعاني، وإن كان استفهاما فالذي يعلّق قبل الاستفهام- من الأفعال- ما جاز فيه الإلغاء وما شبّه به، وليست المعاني بواقعة موقع الأفعال في هذا الموضع، فعلمت بهذا أنّه على إضمار فعل.
فإن قلت: فإنّ الاسم في هذا الباب قد انتصب من غير أن يتوسّط حرف، وذلك نحو: غير. في قولهم: جاءني القوم غير زيد، فانتصب غير بالاستثناء من غير أن يتوسط الحرف، فهلّا دلّ ذلك على أن الفعل حيث ذكرت لم يصل بتوسط الحرف. قيل: لا يدل هذا على ما ذكرته، وإنّما وصل الفعل إلى «غير» بغير حرف توسّط، ولم يصل إلى زيد ونحوه إلّا بالحرف، لأنّ غيرا مبهم، والأسماء المبهمة تعمل فيها عوامل لا تعمل في المخصوصة، ألا ترى أن خلفك وعندك ونحو ذلك قد عمل فيهما من المعاني ما لا يعمل في المختصّ غير المبهم، وكذلك الحال والتمييز، قد عمل فيهما ما لا يعمل في غيرهما من الأسماء المختصة. فكما لم يحتج إلى توسط الحرف في عمل ما قبل «غير» في غير، كذلك لم يحتج إلى توسطه في عمل ما قبل سوى في الاستثناء في «سوى» لأنّها في الإبهام بمنزلة «غير» فانتصب بأنّه ظرف، والظروف تعمل فيها المعاني. فلمّا اجتمعت «غير» معها في ذلك كان مثلها في الاستغناء عن توسط الحرف معها.
ومما يدل على استغناء الفعل عن الحرف الذي يصل به
[الحجة للقراء السبعة: 1/159]
مع غير أن غيرا في قولك: أتاني القوم غير زيد، هم الآتون.
فإذا كان إيّاهم في هذا المعنى لم يكن بمنزلة المنصوب في باب المفعول معه، ولا بمنزلة الاسم المنتصب بعد إلا في الاستثناء، ولكنه مشابه للحال، من حيث كان المنصوب المرفوع في المعنى، ولم يكن مخصوصا، كما أن الحال غير مخصوص، فلم يحتج فيه إلى توسط الحرف لإيصال الفعل، كما لم يحتج إلى ذلك في الحال.
وممّا جاء (غير) فيه صفة قوله تعالى: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر [النساء/ 95]، فمن رفع غيرا كان وصفا للقاعدين. والقاعدون غير مقصود قصدهم، كما كان قوله: الّذين أنعمت عليهم كذلك.
والتقدير لا يستوي القاعدون من المؤمنين الأصحّاء والمجاهدون. ومن نصبه كان استثناء من القاعدين، وإن شئت كان من المؤمنين، لأن غيرا واقع بعد الاسمين الموصولين، ولو وقع متقدما على المؤمنين لم يكن استثناؤه إلّا من القاعدين، لأنّ العامل في المستثنى ما في الصلة، فلا يجوز أن يتقدم على الموصول. ومن جر غيرا كان وصفا للمؤمنين، والتقدير لا يستوى القاعدون من المؤمنين الأصحّاء.
فأمّا قوله سبحانه: إلى طعامٍ غير ناظرين إناه [الأحزاب/ 53] «فغير» حال من قوله: إلّا أن يؤذن لكم،
[الحجة للقراء السبعة: 1/160]
ولا يجوز أن يكون وصفا للطعام كما جاز أن يكون «غير» في الأخرى وصفا للقاعدين مرّة، وللمؤمنين أخرى، لأنّ الناظرين هم المخاطبون، فهم غير الطعام. فكما أنّك لو قلت:
إلى طعام لا ناظرين إناه، لم يكن بد من أن تقول: أنتم، لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له فلا بد من إظهار الضمير فيه، فكذلك لو جعلت غيرا صفة غير حال للزم أن تظهر الضمير. وكذلك تقول: هذه شاة ذات حمل مثقلة به هي، فتظهر الضمير، لأنّ اسم الفاعل للشاة، وقد جرى على الحمل. ولو رفعت لم تحتج إلى الإظهار.
وأصل هذا أنّ الفعل، بما يتضمّنه من الضمير، أقوى من اسم الفاعل مع ما يتضمنه [مما يتضمّنه] اسم الفاعل، فإذا أظهر الضمير في الفعل حيث أدّى إلى الإلباس، فأن يظهر الضمير في اسم الفاعل أولى وأوجب. فمن ثم قال أبو الحسن: إن هذا الضمير إذا لم يظهر كان لحنا. وليس قول من قال: إن إظهاره لا يلزم استدلالا بقول الشاعر:
أمسلمتي للموت أنت فميّت... وهل للنفوس المسلمات بقاء
بمستقيم، لأنّ قوله: فميت يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنّه قال: فأنا ميت.
وقال قوم: تقول: أنت غير القائم ولا القاعد، تريد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/161]
وغير القاعد، كما قال: غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين.
قالوا: ولم يجيء هذا في المعرفة العلم، فلا يجوز: أنت غير زيد ولا عمرو. وهذا إن لم يسمع كما قالوا، فإنّه لا يمتنع أن يقاس فيجوز على ما سمع. وذلك أنّ هذا إنّما جاء لما في «غير» من معنى النفي، فكما أجازوا أنا زيدا غير ضارب لمّا كان المعنى معنى النفي، فجعلوه بمنزلة حرفه، ولم يجعل بمنزلة «مثل» وما كان نحوه من الأسماء المضافة، فكذلك يجوز أن يجعل غير بمنزلة حرف النفي في المعرفة المؤقتة، فيكرّر معه لا كما كرّر مع غير العلم.
فإن قلت: فإن من الناس من يحمل انتصاب زيد في: أنا زيدا غير ضارب على مضمر، ولا يحمله على «ضارب» هذا كما لا يحمله عليه إذا قال: أنا زيدا مثل ضارب. قيل: إن حمله على المعنى وعلى ما في اللفظ من هذا العامل الظاهر أبين، لأنّهم قد حملوا الكلام على المعنى في النفي في مواضع غير هذا. ألا ترى أنّهم قالوا: قلّ رجل يقول ذاك إلا زيد؟ فجعلوا قلّ- وإن كان فعلا- بمنزلة الحرف النافي لمّا كان مثله، فكذلك «غير» إذا كان معناه النفي جعل بمنزلة حرف النفي، فلحقت «لا» معه كما تلحق مع حرف النفي.
وقالوا: إنّما سرت حتى أدخلها، فلم يجز الرفع بعد حتى، كما لم يجز بعد حرف النفي، إذا قال: ما سرت حتى أدخلها، وذلك إذا احتقر السير إلى الدخول. ويدل على أن هذا يجري مجرى النفي قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/162]
........... وإنّما... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
وقالوا نشدتك الله إلا فعلت، فإذا جازت في هذه الأشياء أن تجري مجرى النفي فكذلك ما ذكرناه.
ومن جعل (غير) استثناء لم يمتنع على قوله دخول لا بعد الحرف العاطف، كما لم يمتنع في قولهم: أنت غير القاعد ولا القائم. وذلك أن الاستثناء يشبه النفي، ألا ترى أن قولك: جاءني القوم إلا زيدا بمنزلة قولك. جاءني القوم لا زيد.
فيجوز أن تدخل لا حملا على المعنى، ويجوز أن تجعلها زيادة في هذا الوجه، كما تجعلها زيادة في قوله: وما يستوي الأحياء ولا الأموات [فاطر/ 22].
وإذا جاز دخول «لا» مع الاستثناء من هذين الوجهين، فلا وجه لقول من أنكره. وكذلك يجوز زيادة «لا» في قول من جعلها حالا أو صفة أو بدلا.
وقد دخلت «لا» زائدة في مواضع كثيرة في التنزيل وغيره. فمن ذلك قوله تعالى: لئلّا يعلم أهل الكتاب ألّا يقدرون على شيءٍ من فضل اللّه [الحديد/ 29].
[الحجة للقراء السبعة: 1/163]
وقد أجاز سيبويه قياسا على هذا «أمّا أن لا يكون يعلم فهو يعلم» على زيادة لا. وقد جاء زيادتها في الإيجاب كما جاء في النفي، قال:
أفعنك لا برق كأن وميضه... غاب تسنّمه ضرام مثقب
وأنشد أبو عبيدة:
ويلحينني في اللهو ألّا أحبّه
وقال تعالى: ما منعك ألّا تسجد [الأعراف/ 12]، وفي الأخرى: ما منعك أن تسجد [ص/ 75]. ومن ذلك قول جرير:
ما بال جهلك بعد الحلم والدين... وقد علاك مشيب حين لا حين
[الحجة للقراء السبعة: 1/164]
لا فيه زائدة، والتقدير: وقد علاك مشيب حين حين، وإنّما كانت زائدة لأنّك إذا قلت: علاك مشيب حينا فقد أثبت حينا علاه فيه المشيب.
فلو جعلت (لا) غير زائدة لوجب أن تكون نافية على حدّها في قولهم:
جئت بلا مال، وأبت بلا غنيمة، فنفيت ما أثبتّ، من حيث كان النفي ب (لا) عامّا منتظما لجميع الجنس، فلمّا لم يستقم حمله على النفي للتدافع العارض في ذلك حكمت بزيادتها، فصار التقدير: حين حين.
وهذه الإضافة من باب: حلقة فضة، وخاتم حديد، لأنّ الحين يقع على الزمان القليل كالساعة ونحوها، يدل على ذلك قوله:
تطلّقه حينا وحينا تراجع
ويقع على الزمان الطويل كقوله تعالى: هل أتى على الإنسان حينٌ من الدّهر [الدهر/ 1] وعلى ما هو أقصر من
[الحجة للقراء السبعة: 1/165]
ذلك، كقوله: تؤتي أكلها كلّ حينٍ [إبراهيم/ 25]، فصار حين حين كقول الآخر:
ولولا يوم يوم ما أردنا... جزاءك والقروض لها جزاء
وليس هذا كقوله:
حنّت قلوصي حين لا حين محنّ
لأنّه في قوله: لا حين محنّ- ناف حينا مخصوصا لا ينتفي بنفيه جميع الأحيان، كما كان ينتفي بالنفي العامّ جميعها، فلم يلزم أن تكون (لا) زيادة في هذا البيت، كما لزم زيادتها في حين لا حين.
فهذا الحرف يدخل في النكرة على وجهين: أحدهما: أن يكون زائدا كما مر في بيت جرير، والآخر: أن تكون غير زائدة، فإذا لم تكن زائدة كان على ضربين: أحدهما أن يكون لا مع الاسم بمنزلة اسم واحد نحو خمسة عشر، وذلك قولهم:
[الحجة للقراء السبعة: 1/166]
غضبت من لا شيء، وجئت بلا مال. فلا مع الاسم المنكور في موضع جرّ بمنزلة خمسة عشر، ولا ينبغي أن يكون من هذا الباب قوله:
حنّت قلوصي حين لا حين محنّ
لأن (حين) هاهنا منصوب نصبا صحيحا لإضافته، ولا يجوز بناء المضاف مع لا كما جاز بناء المفرد معها. وإنّما (حين) في هذا البيت مضافة إلى جملة، كما أنّها في قوله:
حين لا يكفّون عن وجوههم النّار [الأنبياء/ 39] كذلك، إلا أن الخبر محذوف وخبر (لا) يحذف كثيرا. ونظير هذا في حذف الخبر من الجملة المضاف إليها ظرف الزمان- قولهم:
كان هذا إذ ذاك.
والآخر: ألّا تعمل (لا) في اللفظ، ويراد بها معنى النفي، فتكون صورتها صورة الزيادة، ومعنى النفي فيه مع هذا صحيح. وذلك كقول النابغة:
أمسى ببلدة لا عمّ ولا خال
[الحجة للقراء السبعة: 1/167]
وقال الشمّاخ:
إذا ما أدلجت وصفت يداها... لها إدلاج ليلة لا هجوع
وقال رؤبة:
لقد عرفت حين لا اعتراف
وبيت الكتاب:
تركتني حين لا مال أعيش به... وحين جنّ زمان الناس أو كلبا
وهذا الوجه عكس ما جاء فيما أنشده أبو الحسن من قول الشاعر:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها... إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا
[الحجة للقراء السبعة: 1/168]
ألا ترى أن (لا) في المعنى زيادة، وقد عملت، وفي قوله: ليلة لا هجوع، وبابه معنى النفي فيه صحيح ولم تعمل.
ومما جاءت فيه (لا) زائدة- إنشاد من أنشد:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به... نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
[قال أبو الحسن: فسرته العرب: أبى جوده البخل، وجعلوا (لا) زائدة حشوا وصلوا بها الكلام]. واختلفوا في قول الشماخ:
أعائش ما لأهلك لا أراهم... يضيعون الهجان مع المضيع
[الحجة للقراء السبعة: 1/169]
فروى التّوزيّ عن أبي عبيدة: أنّ (لا) زائدة، وذهب غيره إلى أنّها ليست زائدة.
ومما يجوز أن تكون (لا) فيه زيادة قول الشاعر:
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم... إذا جلسوا منّا ولا من سوائنا
فأمّا القول في (منّا)، فإنّه يجوز أن يتعلق بشيئين:
أحدهما أن يكون: إذا جلسوا منّا، أي: إذا جلسوا مخالطين لنا؛ لأنّ (منّا) قد استعمل في هذا المعنى، ألا ترى أنّه قد قال: وتقول: أنت منّي فرسخين، فالمعنى: أنت مخالطي في هذه المسافة، وملابسي، فيكون التقدير: إذا جلسوا مخالطين لنا ومخالطين سوانا، و (لا) زائدة كما زيدت في قوله: «أفعنك لا برق».
[الحجة للقراء السبعة: 1/170]
والوجه الآخر: (منّا) متعلّقا بما قبل، كأنه، من كان منهم منّا.
فإن قلت: كيف يصحّ أن يكون من كان منهم منّا؟ قيل:
هذا يكون على وجهين:
أحدهما: أن يكون (منّا) في معنى المخالطة والملابسة كما تقدّم، فيكون (منهم) مستقرّا، و (منّا) في موضع حال، ولا يكون (منّا) مستقرّا و (منهم) في موضع حال من قوله (منّا) لأنّ الحال لا تتقدم على العامل إذا كان معنى، فإن جعلت العامل في الحال كان جاز ذلك.
ويجوز أيضا في قوله: (من كان منهم منّا) أن يكون بينهم محالفة، فيجوز للحلف أن يقول: من كان منهم منّا: لأنّه يجوز- وإن كان من معشر آخرين- أن تقول: منا للحلف، أو للولاء.
وقد جاء: «مولى القوم منهم».
وعلى هذا قوله: «الأذنان من الرأس»
وقال تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/171]
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعضٍ [التوبة/ 67]، أي بعضهم يلابس بعضا ويوالي بعضا. وليس المعنى على النسل والولادة، لأنه قد يكون من نسل المنافق مؤمن، ومن نسل المؤمن منافق. فهذا كقوله: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعضٍ [التوبة/ 67]. وكذلك قوله: ذرّيّةً بعضها من بعضٍ [آل عمران/ 34] أي بعضها يوالي بعضا، ولا يتبرأ بعضهم من بعض. ويجوز في قوله: بعضها من بعض- أن يكون المعنى: أنّهم في الآخرة متوالون، لا يتبرّأ بعضهم من بعض، كما يتبرأ الكافرون والفاسقون. ألا تراه قال: إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا [البقرة/ 166] وفما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميمٍ [الشعراء/ 100] ونحو ذلك من الآي التي تدلّ على هذا المعنى فقوله: ذرّية بعضها من بعض، أي: هم على خلاف صفة المنافقين والكافرين، لأنّهم إخوان متوالون.
فأمّا قوله: واللّه أعلم بإيمانكم بعضكم من بعضٍ [النساء/ 25] فقد يكون المعنى والله أعلم: بإيمانكم بعضكم من بعض، أي: بعضكم يوالي بعضا ويلابس بعضا في ظاهر الحكم من حيث شملكم الإسلام فاجتمعتم فيه وصرتم متكافئين متماثلين لجمع الإسلام لكم، واستوائكم في حكمه في الديات والقصاص والمناكح والتّوارث ونحو هذا، مما جمعهم الإيمان فيه. وقال:
إذا حاولت في أسد فجورا... فإني لست منك ولست مني
[الحجة للقراء السبعة: 1/172]
وقال جرير:
عرين من عرينة ليس مني... برئت إلى عرينة من عرين
وقال آخر- أظنّه الراعي-:
فقلت ما أنا ممن لا يواصلني... ولا ثوائي إلا ريث أحتمل
وأما قوله: ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم [الحديد/ 22]. فإن موضع قوله: في الأرض يحتمل ضربين: أحدهما: أن يكون مفعولا فيه ظرفا، والآخر: أن يكون وصفا. فإن جعلته ظرفا احتمل أن يكون ظرفا لأصاب، واحتمل أن يكون لمصيبة، ولا ذكر فيه على شيء من هذين التأويلين، كما أنّ قولك: بزيد، من: مررت بزيد، كذلك.
ويؤكد ذلك ويحسنه دخول لا في قوله: (ولا في أنفسكم)، فصار ذلك مثل: ما ضربت من رجل ولا امرأة.
والضرب الآخر: أن يكون صفة للنكرة، ويكون متعلقا بمحذوف وفيه ذكر يعود إلى الموصوف. وقوله: (ولا في أنفسكم) صفة معطوفة على صفة، فإذا كان كذلك احتمل موضعه ضربين: أحدهما أن يكون جرا على لفظ قوله: من مصيبة، والآخر: أن يكون رفعا على موضع من مصيبة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/173]
فإن قلت: فإذا كان كذلك فما وجه دخول لا في قوله:
(ولا في أنفسكم) وليس الكلام على هذا التأويل بنفي؟ فالقول في ذلك أنّه لما كان معطوفا على ما هو منفيّ في المعنى- وإن لم يكن منفيا في اللفظ- جاز أن يحمل الكلام على المعنى، فتدخل «لا» كما حملته على ذلك في قوله:
يحكي علينا إلّا كواكبها
ألا ترى أنّ الضمير في يحكي لمّا كان لأحد المنفي أجريته مجرى المنفي في استجازتك البدل منه، كاستجازتك البدل من نفس المنفيّ فكذلك قوله: في الأرض، لما كان صفة لمنفي أجريته مجرى النفي فاستجزت العطف عليه (بلا). وإن شئت قلت: إنّ (لا) زائدة، والأول أبين، لأنّ الحمل على المعنى في النفي قد جاء في غير شيء، ألا ترى أنّهم قد قالوا: إنّ أحدا لا يقول ذاك إلّا زيد، لمّا كان في المعنى منفيا؟ ومن الحمل على المعنى قولهم: قد علمت زيد أبو من هو، فكذلك يكون ما ذكرنا). [الحجة للقراء السبعة: 1/174]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
ذكر أبو بكر أحمد بن موسى أن فيها سبع قراءات: [علهُمُو]، و[عليهُمُ] بضم الميم من غير إشباع إلى الواو، و[عليهُمْ] بسكون الميم مع ضمة الهاء، و[عليهِمي]، و[عليهِمْ] بكسر الهاء وسكون
[المحتسب: 1/43]
الميم، و[عليهِمُو] بكسر الهاء وواو بعد الميم، و[عليهِمُ] مكسورة الهاء مضمومة الميم من غير واو.
وزاد أبو الحسن سعيد بن مَسعدة الأخفش على ما قال أبو بكر ثلاثة أوجه، فصار الجميع عشرة أوجه؛ والثلاثة: [عليهُمِي] بضم الهاء وميم مكسورة بعدها ياء، و[عليهُمِ] بضمة الهاء وكسرة الميم من غير إشباع إلى الياء، و[عليهِمِ] بكسرة الهاء وكسرة الميم أيضًا من غير بلوغ ياء، فتلك عشرة أوجه: خمسة مع ضم الهاء، وخمسة مع كسرها.
قرأ [عليهُمُو] ابن إبي إسحاق ومسلم بن جندب والأعرج وعيسى الثقفي وعبد الله بن يزيد.
وقرأ: [عليهِمِي] الحسن وعمرو بن فايد، ورُوي عن الأعرج: [عليهِمُ] مكسورة الهاء مضمومة الميم من غير بلوغ واو.
وقرأ: [عليهُمُ] مضمومة الهاء والميم من غير بلوغ واو، رويت عن الأعرج أيضًا.
قال أبو الفتح: أما [عليهُمُو] فهي الأصل؛ لأنها رَسِيلة عليهُما في التثنية؛ أعني: ثبات الواو كثبات الألف، وينبغي أن تعلم أن أصل هذا الاسم المضمر الهاء، ثم زيدت عليها الميم؛ علامة لتجاوز الواحد من غير اختصاص بالجمع، ألا ترى الميم موجودة في التثنية: [عليهُما]؟ وأما الواو فلإخلاص الجمعية.
وأما [عليهِمِي] فطريقه: أنه كسرت الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة وضعف الهاء، فأشبهت لذلك الألف، لا سيما وهي تجاورها في المخرج، لا بل أبو الحسن يَدَّعي أن مخرج الألف هو
[المحتسب: 1/44]
مخرج الهاء ألبتة. فكما أن الياء الساكنة إذا وقعت قبل الألف قلبتها ياء، نحو قولك في تحقير كتاب: كُتيِّب، كذلك كسرت الهاء، فكان انكسار الهاء للياء قبلها تغييرًا لحقها لهما، كما أن انقلاب الألف ياء لمكانها تغيير لحقها من أجلها، فصار اللفظ بها من بعد [عليهِمو]، فكرهوا الخروج من كسر الهاء إلى ضم الميم الواو من بعدها، فكسروا الميم لذلك؛ فصارت [عليهِمِوْ]، فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها؛ فصارت [عليهِمِي].
ومَن كسر الهاء وضم الميم وحذف الواو فقال: [عليهِمُ] فإنه لما انتهت به الصنعة إلى كسر الهاء احتمل الضمة بعد الكسرة؛ لأنها ليست بلازمة، إذ كانت ألف التثنية تفتحها؛ لكنه حذف الواو تفاديًا من ثقلها مع ثقل الضمة التي تجَشَّمها.
ومَن قرأ: [عليهُمُ] بضم الهاء والميم، فإنه حذف الواو استخفافًا، واحتمل الضمة قبلها دليلًا عليها.
لكن من قال: [عليهُمِي] بهاء مضمومة وياء بعد الميم ففيه نظر؛ وذلك أنه كُرِه ضمة الهاء وضمة الميم ووقوع الواو من بعد ذلك كما كُرِه في الاسم المظهر وقوع الواو طرفًا بعد ضمة، وذلك نحو قولهم في دَلْو وحَقْو: أَدْل وأَحْق، وأصلها أَفْعُل أَدْلُوٌ وأَحْقُوٌ، ككلب وأَكْلُبٍ، فأبدلوا من الضمة كسرة تطرقًا إلى قلب الواو، فصارت في التقدير: أَدْلِوٌ وأَحْقِوٌ، فقلبت الواو ياء بعذر قاطع؛ وهو وقوع الكسرة قبلها، فصارت أَدْلِي وأَحْقِي، وكذلك أبدلت ضمة الميم من [عليهُمُو] كسرة فصارت [عليهُمِوْ]، فأبدلت الواو ياء للكسرة قبلها؛ فصارت [عليهُمِي].
وأما [عَلَيْهُمِ] بكسرة الميم من غير ياء، فإنه لما كانت الصنعة فيه إنما طريقها الاستخفاف، اكتفي بالكسرة من الياء.
وكذلك مَن قال: [عَلَيْهِمُ] بكسر الهاء مع ضم الميم اكتفي بالضمة من الواو، وقد ذكرناه.
ومَن قال: [عَلَيْهِمِ] بكسر الهاء والميم من غير ياء، فإنه اكتفى بالكسرة أيضًا من الياء استخفافًا، فأما قول الشاعر ورويناه عن قطرب:
فهمو بطانتهم وهم وزراؤهم ... وهُمِ القضاةُ ومنهم الحكام
وروينا عنه أيضًا:
ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم ... همِ الناسَ لما أَخصبوا وتموَّلوا
[المحتسب: 1/45]
فقوله: وهمِ القضاة، ومنهمِ الحكام، فيتحمل كسر الميم وجهين:
أحدهما: أن يكون حرَّكه لالتقاء الساكنين.
والآخر: أن يكون على لغة مَن قال [عليهُمِي]، فحذف الياء لالتقاء الساكنين من اللفظ، وهو ينويها في الوقف.
ووجه ثالث: أن يكون على لغة مَن قال: [عليهُمِ] بكسر الميم من غير ياء.
وقوله: "همِ الناس" يحتمل أيضًا هذه الأوجه الثلاثة.
وروينا عن قطرب أيضًا: عافكمِ الله، ففيه أيضًا ما فيما قبله، واللغات في هذا ونحوه كثيرة.
ومن ذلك قراءة أيوب السختياني: [وَلا الضَّأَلِّينَ] بالهمز.
قال أبو الفتح: ذكر بعض أصحابنا: أن أيوب سُئل عن هذه الهمزة، فقال: هي بدل من المدة لالتقاء الساكنين، واعلم أن أصل هذه ونحوه: الضاللين، وهو "الفاعلون" من ضلَّ يضل، فكره اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد على غير الصور المحتملة في ذلك، فأسكنت اللام الأولى وأُدغمت في الآخرة، فالتقى ساكنان: الألف واللام الأولى المدغمة فزيد في مدة الألف، واعتُمدت وطأة المد، فكان ذلك نحوًا من تحريك الألف؛ وذلك أن الحرف يزيد صوتًا بحركاته كما يزيد الألف بإشباع مدته.
وحكى أبو العباس محمد بن يزيد عن أبي عثمان عن أبي زيد قال: سمعت عمرو
[المحتسب: 1/46]
ابن عبيد يقرأ: [فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَأَن]، قال أبو زيد: فظننته قد لحن إلى أن سمعت العرب تقول: شَأَبَّه ومَأَدَّه ودَأَبَّة، وعليه قول كثير:
إذا ما العوالي بالعبيط احمَأَرَّت
وقال:
وللأرض أما سودها فتجللت ... بياضًا وأما بِيضُها فادْهَأَمَّت
وقد ذكرنا من هذا الضرب في كتابنا الموسوم بالخصائص ما فيه كفاية عن غيره.
ومن طريف حديث إبدال الألف همزة ما حكاه اللحياني من قول بعضهم في الباز: البأز بالهمزة، ووجه ذلك: أن الألف ساكنة، وهي مجاورة لفتحة الباء قبلها، وقد أَرينا في كتاب الخصائص وغيره من كتبنا: أن الحرف الساكن إذا جاور الحركة فقد تُنْزِله العرب منزلة المتحرك بها، من ذلك قولهم في الوقف على بكر: هذا بَكُر، ومررت ببكِر، ألا ترى حركتي الإعراب لما جاورتا الراء صارتا كأنهما فيها. ومنه قوله جرير:
لَحَبَّ المؤقدان إليَّ مؤسى
[المحتسب: 1/47]
فهمَز الواو في الموضعين جميعًا؛ لأنهما جاورتا ضمة الميم قبلهما، فصارت الضمة كأنها فيهما، والواو إذا انضمت ضمًّا لازمًا فهمزها جائز، نحو: [أُقِّتَت] في [وُقِّتت]، و"أجوه" في "وجوه"، ونظائر ذلك كثيرة.
وكذلك الفتحة قبل الألف في باز لما جاورتها صارت على ما ذكرنا كأنها فيها، والألف إذا حركت هُمزت على ما ذكرنا في [الضَّألِّين] و[جَأن]، فهذا وحهه.
فإن قلت: فقد حكي أيضًا جمعه بئزان بالهمز، فصارت لذلك كَرَأْل ورِئْلان، فما أنكرت أن يكون ذلك لغة في الباز لا على البدل الذي رمته؟
قيل: هذا وجه يُذهب إلى مثله، لكنا لم نسمع الهمز في هذا الحرف أصلًا إلا في هذه الحكاية، والواو فيه هي الشائعة المستفيضة.
حدثنا أبو علي قال: قال أبو سعيد الحسن بن الحسين يقال: بأز، وثلاثة أبواز، فإذا كثرت فهي البيزان.
وقالوا: بازٍ وبَوَازٍ وبُزاة، فباز وبزاة كغازٍ وغزاة، وهو مقلوب الأصل الأول، وأنشدنا لذى الرمة:
كأن على أنيابه كل سُدْقَة ... صياح البوازي من صريف اللوائك
وقالوا في تصريفه: بزا فلان يبزو إذا غلب، فكأن البازي اسم الفاعل في الأصل، ثم خص به هذا الجارح على وجه التسمية به له، كما أن الصاحب في أصله اسم الفاعل من صحب، ثم خص بالتسمية به، ونُسي أصل وصفيته.
وكما أن الوالد كذلك، فقد ترى إلى سَعَة تصرف هذا الأصل على الواو، ولم نسمع في تصرفه شيئًا من الهمز غير هذه الحكاية من هذه الجهة، على ما يقول في صاحبها.
[المحتسب: 1/48]
وحدثني أبو علي قال: قال أبو بكر في نوادر اللحياني: إنه لا يَتَرَقَّى بهما السماع إليه، وعلى أنه قد يمكن في الباز ما ذكرناه فلما سُمع فيه بَأْز بالهمزة أشبه في اللفظ، وإلا فقيل في تكسيره: بئزان، كما قيل: رئلان.
وإذا جاز استمرار البدل في نحو عيد وأعياد، وإجراؤه مجرى قَيْل وأَقْيَال مع أن البدل في حرف المد الذي لا يكاد يعتد البدل فيه للضعف، فأن يجوز استمرار هذا في الهمزة لأنها أقوى، فالأمر لذلك فيها أثبت وأحرى وأجدر، ألا ترى أنهم قالوا في تحقير قائم: قُوَيْئِم، فأثبتوا همزه كما أثبتوا همزة سائل من سأل؟ وقالوا في تحقير أدؤر: أُديئر، فأجروها مجرى همزة أرؤس. ولو كان مكان هذه الهمزة واو مبدلة من ياء لما ثبتت، وذلك قولك في تحقير عُوطَط: عُيَيْطط، ولا تقر الواو وإن كانت عينًا.
وكذلك لو كسرت الطوبي والكوسي على فُعَل، لقلت: الطُّيَب والكُيَس.
ولو كسرتهما على مثيل حُبلى وحبالى لقلت: طَيابى وكياسى.
وعلى هذا قالوا في تكسير ريح: أرواح، فلم يحفلوا بانقلاب العين من ريح؛ لأن العمل إنما هو في الواو ليست لها عصمة الهمزة.
فأما ما حُكي عن عُمارة من قوله في تكسير ريح: أرياح، وعلى أن اللحياني أيضًا قد حكى هذا، فمردود عندنا، ومنعيٌّ عليه في آرائنا.
قال أبو حاتم وقد أغلظ في ذلك: أنكرتها على عمارة، قال: فقال لي: قد قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} قال: ولم يعلم عمارة أن الياء في الرياح بعد كسرة، فهذا أمر قاد إليه همز أيوب {الضَّالِّين}، وفيه أكثر من هذا، ولولا تنكُّب الإطالة كراهية الإملال والسآمة لأتينا به، وعلى أنه مثبت في أماكن من تأليفنا وإملائنا). [المحتسب: 1/49]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ( {صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين}
قرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم بضم الهاء قرأ ابن كثير ونافع في رواية القاضي عن قالون عنه عليهمو وإليهمو
[حجة القراءات: 80]
بكسر الهاء وضم الميم ويصلون بواو في اللّفظ
وقرأ الباقون بكسر الهاء وسكون الميم
واعلم أن الأصل في عليهم: عليهمو بضم الهاء والميم والواو الّتي بعد الميم والدّليل على ذلك أن هذه الهاء للمذكر تضم وتشبع ضمتها فيتولد منها الواو نحو ضربته وإذا فتحت كانت للمؤنث نحو رأيتها وهذه أيضا وإن فتحت فأصلها الضّم بدلالة قولك للاثنين رأيتهما وللجماعة رأيتهن وعلامة الجمع في المذكر إلى هذه الهاء هي الميم المضمومة الّتي بعدها واو كما هي في قولكم ضربتكم وأصله ضربتكمو يتبيّن لك ذلك إذا اتّصل به مضمر آخر ترد معه الواو نحو ضربتكموه ولا تقول ضربتكمه ومنه قول الله عز وجل {أنلزمكموها} فهذا ممّا يبين لك أن الأصل عليهمو بضمّتين وواو
وحجّة من قرأ عليهم بضم الهاء وسكون الميم أن أصلها الضّم فأجري على أصل حركتها وطلب الخفة بحذف الواو والضمة فأتى بأصل هو ضم الهاء وترك أصلا هو إثبات الواو وضم الميم وأما من قرأ عليهم فإنّه استثقل ضمة الهاء بعد الياء فكسر الهاء لتكون الهاء محمولة على الياء الّتي قبلها والميم مضمومة للواو الّتي بعدها فحمل كل حرف على ما يليه وهو أقرب إليه
[حجة القراءات: 81]
وحجّة الباقين أن الهاء إذا وقعت بعد ياء أو كسرة كسرت نحو به وإليه وعليه وإنّما اختير الكسر على الضّم الّذي هو الأصل لاستثقال الضمة بعد الكسرة ألا ترى أنه قد رفض في أصل البناء فلم يجئ بناء على فعل مضمومة العين بعد كسر الفاء وأما حذف الواو فلأن الميم استغني بها عن الواو والواو أيضا تثقل على ألسنتهم فإذا لقيت الميم ألف ولام فإنّهم مختلفون مثل {عليهم الذلة} وبهم الأسباب فقرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم وقرأ حمزة والكسائيّ بضمهما وقرأ الباقون بكسر الهاء وضم الميم وإنّما كسروا الهاء لمجاورة الياء والكسرة وإنّما رفعوا الميم لأنهم لما احتاجوا إلى تحريكها من أجل السّاكن الّذي لقيته رد عليها الحركة الّتي كانت لها في الأصل وهي الضّم لأن أصل الميم الضّم وقد بينا فيما تقدم
وأما أبو عمرو فإنّه لما غير الهاء عن أصلها كراهية الثّقل فعل ذلك في الميم حين أراد تحريكها للساكن بعدها فأتبع الميم كسر ما قبلها كراهية أن يخرج من كسر إلى ضم فأتبع الكسر الكسر ليؤلف بين الحركات عند حاجته إلى تحريك الميم
وحجّة من ضم الهاء والميم هي أن الميم لما احتيج إلى تحريكها من أجل السّاكن رد عليها الحركة الّتي كانت في الأصل وهي الضّم فلمّا انضمت الميم غلبت على الهاء وأخرجتها في حيّز ما قبلها من الكسر فرجعت الهاء إلى أصلها). [حجة القراءات: 82]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (9- قوله: (وعليهم، وإليهم، ولديهم) وبابه، إن سأل سائل فقال: ما علة حمزة في ضم الهاء في هذه الثلاثة، في وصله ووقفه؟
فالجواب أن الهاء والميم من «هم» أصلها الضم، وُصلت واو بالميم، لكن الميم أسكنت استخفافًا، وحذفت الواو اختصارًا؛ لأن المعنى لا يُشكل، فلما دخلت «على والي ولدي» على الهاء أبقاها مضمومة على أصلها قبل دخولهن؛ لأن الداخل عليها عارض، ولأن هذه الياءات في «عليهم وإليهم ولديهم» عارضة أيضًا، إنما أصلهن ألف، وإنما ينقلبن إلى عند اتصالهن بالمضمر، والياء عارضة غير لازمة، فلم يعتد بها وترك الهاء على ضمتها الأصلية.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/35]
وأيضًا فإنه توهم الألف الأصلية قبل الهاء، والألف إذا وقعت قبل هاء المضمر لم تكن الهاء إلا مضمومة، لا يجوز غير ذلك، فأجري الهاء مع الياء العارضة، التي هي بدل من الألف، مجراها مع الألف، فضم على الأصل ثم أجري الوقف على الوصل؛ لأن العلة واحدة، ولئلا تختلف الكلمة، وأيضًا فإنه ألزم الهاء الضم في هذه ثلاث الكلمات، وخصها بذلك ليفرق بين الياء، التي أصلها الألف وبين الياء، التي لا أصل لها في الألف، فكسر الهاء مع الياء، التي لا أصل لها في الألف نحو: «فيهم ويريهم» للياء اللازمة التي قبلها، وضم التي قبلها ياء، وأصلها الألف، نحو: «عليهم وإليهم ولديهم» للفرق وقوي ذلك وحسن للضمة المقدرة في الميم؛ لأن أصلها الضم، وصلتها بواو، فأتبع الضم الضم المقدر في الميم.
10- فإن قيل: فما باله لم يضم الهاء في «عليهن وإليهن» وأصلها الضم في «هن»، والياء عارضة أيضًا؟
فالجواب أن «عليهم وإليهم ولديهم» تقوت ضمة الهاء فيهن، لكون الميم مضمومة في الأصل، فأتبع الهاء أصل ضم الميم، وليس ذلك في «عليهن وإليهن»، لا يقول أحد إن النون أصلها الضم. فلما لم يكن بعد الهاء ما يقوي الضمة فيها كسرها للياء، التي قبلها في اللفظ، والضم فيها جائز على أصلها في الكلام.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/36]
وكذلك الجواب في كسرة الهاء في عليهما، ولم يضم الهاء على أصلها، إذ ليس بعد الهاء ما يقوي الضم فيها، من حرف أصله الضم كالميم، إنما بعدها في «عليهما» فتحة.
11- فإن قيل: فما علة حمزة والكسائي في ضمهما الهاء والميم إذا أتى بعدها ساكن، وقبل الهاء ياء أو كسرة يوجبان كسر الهاء نحو: {يريهم الله} «البقرة 167» و{من دونهم امرأتين} «القصص 23».
فالجواب أنهما لما اضطرا إلى حركة الميم، للساكن الذي أتى بعدها، ردا الميم إلى الضمة التي هي أصلها، وكان ردها إلى أصلها، عند الحاجة، بحركتها أولى من ردها إلى حركة، ليست بأصل لها، فلما وجب ضم الميم أتبعت الهاء حركة الميم، وردت أيضًا إلى أصلها، وهو الضم، وقوي ردها إلى أصلها؛ لأن بعدها ميمًا فردت إلى الضم، الذي هو أصلها، فإذا وقفا انفصل الساكن، وسكنت الميم، فرجعت الهاء إلى الكسر للياء التي قبلها.
وحجة أبي عمرو في كسرة الهاء والميم، إذا أتى بعدهما ساكن وقبل الهاء ياء أو كسرة، أنه لما اضطر إلى حركة الميم، لالتقاء الساكنين كسرها لذلك على أصل الكسر في التقاء الساكنين، وكان ذلك عنده أولى بها لكسرة الهاء قبلها، فأتبع الكسر الكسر، فلما كسر الميم أتبعها كسرة الهاء قبلها، وكان قد كسر الهاء اللياء التي قبلها، وقد يحتمل أنه قدر في الميم الكسر على لغة من يقول: «عليهم»
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/37]
فيكسر الميم لكسر الهاء قبلها، ويبدل من الواو ياء، فيكون قد حذف الياء لالتقاء الساكنين، وأبقى الميم على كسرتها، وقوي ذلك لكسر الهاء قبلها.
12- فإن قيل: من أين كان الكسر أصلًا لالتقاء الساكنين؟
فالجواب أنه لما وجب تحريك الأول لالتقاء الساكنين كان الكسر أولى به في الأسماء؛ إذ ليس فيها كسر يُراد به الإعراب إلا ومعه تنوين، فأمنوا أن يلتبس بالمعرب؛ إذ لو ضموا أو فتحوا لالتقاء الساكنين لالتبس بالمعرب الذي لا ينصرف؛ لأن الضم والفتح يكونان إعرابًا بغير تنوين في الأسماء، ولا يكون الكسر إعرابًا في الأسماء إلا بالتنوين، فدل الكسر، بغير تنوين، أنه ليس بإعراب، وأنه بناء، إذ لو كان إعرابًا لاتبعه التنوين، فأما علة الكسر لالتقاء الساكنين بحركة، لا تشكل بالإعراب؛ إذ لا خفض فيها، ولو حركت بالفتح أو الضم لالتبس بالإعراب، لأن الفتح والضم من إعراب الأفعال.
13- وحجة من قرأ بكسر الهاء وضم الميم إذا أتى بعدها ساكن، وقبل الهاء ياء أو كسرة، أنه لما احتاج إلى حركة الميم ردها إلى أصلها، وهو الضم، وبقيت الهاء على كسرتها، للياء أو الكسرة التي قبلها، ولم يعتد بضمة الميم، لأنها عارضة. وهي قراءة نافع وأكثر القراء.
14- وحجة من قرأ بكسر الهاء وضم الميم، وصلتها بواو، حيث
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/38]
وقعت ما لم يأت بعدها ساكن، وقرأ بضم الميم التي للجمع حيث وقعت، وصلتها بواو، كان قبلها هاء أو غيرها، أنه لما أتى بالميم على أصلها، وأصلها بالضم، وصلها بواو، لأن المضمر الغائب إذا جاوز الواحد، يحتاج إلى حرفين بعد الهاء، كما قالوا في التثنية «عليهما» فزادوا ميمًا وألفًا. فالواو في الجمع بإزاء الألف في التثنية، فأما الهاء فإنه أبقاها على كسرتها للياء أو للكسرة قبلها، وهي قراءة ابن كثير، وخيَّر قالون في ذلك، وإنما حذف الواو التي بعد الميم من حذفها من القراء للاستخفاف، ولأن المعنى لا يشكل بغيره.
15- وحجة من وصل الميم التي للجمع بواو، إذا أتى بعدها همزة خاصة، وهو ورش، أنه لما وجد سبيلًا إلى بيان الواو بالمد، لوقوع همزة بعدها، أثبتها ومدها للهمزة التي بعدها، وإذا لم يأت بعد الميم همزة حذفها، إذ لم يجد سبيلًا من علة، توجب مد الواو وإظهارها.
16- وحجة من أسكن الميم التي للجمع، في كل موضع ما لم يأت
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/39]
بعدها ساكن، وعليه أكثر القراء، أنه آثر التخفيف، فحذف الواو إذ المعنى لا يُشكل، فلما حذفت الواو حذفت ضمة الميم، وأسكنت الميم؛ لأنها إنما انضمت من أجل الواو، فلما زالت الواو زالت الضمة، فسكنت الميم، وقد كنا أملينا أقسام التقاء الساكنين والحكم فيها، وذكرنا أن ذلك ينقسم على تسعة أقسام فيما بعد هذا الموضع، فأغنانا ذلك عن إعادته في هذا الموضع والاختيار ما عليه أكثر القراء من كسر الهاء للياء التي قبلها، وإسكان الميم، إذا لم يأت بعدها ساكن، وضمها إذا أتى بعدها ساكن، فذلك أخف وأفصح وعليه جمهور القراء، وهو الأشهر عن نافع.
17- فإن سأل سائل فقال: ما علة ما ذكرت من كسر الهاء وضمها في وقف حمزة، وبدله ياء من الهمزة في «أنبئهم ونبئهم»؟
فالجواب أن حمزة أصله أن يسهل كل همزة متوسطة أو متطرفة في وقفه، فإذا وقف على «أنبئهم ونبئهم» أبدل من الهمزة ياء للكسرة التي قبلها، فصارت الهاء مضمومة قبلها ياء، فمن القراء من يترك الهاء على ضمتها، لأن الياء عارضة، إنما حذفت في الوقف، والوقف أيضًا عارض، ولأن الهمزة
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/40]
منوية مقدرة، والهاء مع الهمزة لا يجوز فيها إلا الضم، فأبقاها على ضمتها كما فعل في «عليهم» وأختيه، حين نوى الألف التي هي الأصل فضم الهاء، ومنهم من يكسر الهاء، للياء التي حدثت قبلها، كما كسرها في «يريهم، وفيهم»، وكلا القولين قائم بحجته، لكن ترك الهاء على ضمتها أولى؛ لأن الياء غير لازمة، ولأن الوصل بالضم، فإجراء الوقف على الوصل أحسن من مخالفته، ولما ذكرنا من العلل فيها). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/41]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (3- {عَلَيْهِمْ} [آية/ 7]:-
بضم الهاء وإسكان الميم، قرأ يعقوب بضم الهاء فيه وفي أمثاله من كل هاءٍ قبلها ياء ساكنة، وبعدها الميم أو النون المشدّدة نحو: إليهم، وعليهم، وفيهم، وكذلك: فيهن وعليهن.
وهذا لأن الضم في هذه الهاء هو الأصل، بدلالة أنها إذا انفردت كان حركتها الضم نحو: هو وهما وهم.
[الموضح: 231]
وقرأ حمزة بضم الهاء في ثلاثة: عليهم، وإليهم، ولديهم.
لأن ياءاتها غير لازمة، إذ هن مع الظواهر ألفات نحو: على زيد ولد عمرو، فكما أن الهاء مضمومة بعد الألفات نحو: عصاهم، فكذلك بعد هذه الياءات؛ لأن حمزة يجريهن في المضمر مجراهن في المظهر.
والباقون يكسرون الهاء في ذلك وأمثاله.
لأن الهاء يقارب الألف في المخرج، وهي مثلها في الخفاء، فكما أن الألف تمال لوقوع الياء أو الكسرة قبلها، فكذلك الهاء تبدل ضمتها كسرة لوقوع الياء أو الكسرة قبلها.
وأما الميم فإن ابن كثير يضم الميم ويصلها بواوٍ، وكذلك ن- و- يل- عن نافع.
وإنما ذلك لأن أصل ميم الجمع أن تكون مضمومة وبعدها واوٌ، بدلالة التثنية وجمع المؤنث، وكما أن بعد الهاء في التثنية وجمع المؤنث حرفين نحو: عليهما وعليهن، فكذلك بعدها في جمع المذكر يجب أن يقع حرفان وهما الميم والواو.
والباقون يسكنون الميم، وكذلك يروي ن- و- يل- عن نافع أيضًا بالتخيير بين الضم والإسكان.
[الموضح: 232]
وعلةُ الإسكان أن الواو حذف للتخفيف، وأسكن الميم؛ لأنه لا لبس هاهنا، إذ الألف في التثنية دلت على الاثنين، ولا ميم في الواحد، فهو مأمون الإشكال موصول فيه إلى التخفيف.
وأما ش- عن نافع فإنه يسكن الميم مع كسر الهاء، إلا أن يلقى الميم ألف أًلية مثل: (عليهمو أأنذرتهمو أم).
وذلك لأنه أمن سقوط الواو قبل ألف الأصل، فإن ألف الأصل لا يسقط معه الواو لالتقاء الساكنين، كما يسقط مع ألف الوصل، فلمّا أمن سقوطه، وكان المدّ قبل الهمزة يتقوى به على التلفّظ بها بدلالة تطويلهم المدّ في نحو: {كَمَا آمَنَ} وأمثاله حيث تقع بعد المدّة همزة، أثبت ورش الواو في (عليهمو) ليتقوى بالمدَّ على التلفظ بالهمزة.
وأما إذا لقي هذا الميم ساكن:
فإن ابن كثير ونافعًا وعاصمًا وابن عامر يكسرون الهاء ويضمون الميم نحو: {عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} و{إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ}.
وذلك لأنهم لما احتاجوا إلى الحركة لالتقاء الساكنين ردوا الحرف إلى أصله من الضم وركوا الهاء على كسرها؛ لأنه لم تأت ضرورة تحوج إلى ردها إلى الأصل.
[الموضح: 233]
وأبو عمرو يكسر الميم والهاء معًا.
وإنما كسر الميم لثقل الضمة بعد الكسرة، ولهذا لم يأت في كلامهم مثل: فعل، وأصل {عَلَيْهِمْ} عند أبي عمرو: عليهمي؛ لأنه أبدل من ضمة ميم (عليهمو) كسرة فانقلب الواو ياءً استثقالًا للواو الساكنة طرفًا وقبلها ضمة، فلما حذف الياء والكسرة تخفيفًا فقال: عليهم واحتاج عند التقاء الساكنين إلى حركة كانت حركة الأصل وهي الكسرة أولى.
وأما حمزة فإنه يضم الميم في الأحرف الثالثة التي ذكرنا إذا لقيها ساكنٌ؛ لأنه يضم الهاء في هذه الأحرف فيتبعها حركة الميم عند التقاء الساكنين.
والكسائي يكسر الهاء إذا لم يلق الميم ساكنٌ، ويضمها إذا لقيها ساكنٌ.
وكذلك حمزة في غير الأحرف الثلاثة.
لأنهما إذا ردّا الميم إلى أصلها من الضم، ردا الهاء أيضًا إلى أصلها، فأتبعا الضم الضم لئلا يقع الخروج من الكسر إلى الضم.
وأما يعقوب فإنه يضم الميم إن كانت الهاء مضمومة في قراءته، ويكسرُها إن كانت مكسورةً في قراءته.
وهذا على إتباع حركة الميم لحركة الهاء.
[الموضح: 234]
4- {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} [آية/ 7]:
اتفق القراءُ كلهم على الجرّ من {غَيْرِ} إلا ما روى عن عبد الله بن كثير ابنه وهرون الأعور بنصب {غَيْرِ}.
وعلة الجر من وجهين:
أحدهما: أن يكون على البدل من {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وجاز ذلك لأن بدل النكرة من المعرفة جائزٌ، فإن {الَّذِينَ} معرفة، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} نكرةٌ، وإن كان مضافًا إلى معرفة؛ لأن غيرًا ومثلًا وشبهًا لا يتعرف بالإضافة.
والثاني: أن يكون صفة لـ {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ويكون ذلك على تأويلين:
أحدهما: أن يجرى {الَّذِينَ} هاهنا مجرى النكرة؛ لأنه واقعٌ على من ليس بمقصود قصدهم فهو بمنزلة قولهم: إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه، والآخر: أن يجعل {الَّذِينَ} معرفة ويوصف بغير على أن غيرًا هاهنا مع ما أضيفت إليه معرفةٌ؛ لأنها مضافةٌ إلى ضد شيءٍ له ضد واحد، فأردت إثباته ونفي ضده، فيكون بمنزلة تكرير الاسم كما تقول: عليك بالحركة غير السكون، فغير السكون معرفةً؛ لأنك ما أردت بها إلا الحركة، فكذلك المنعم عليهم ضدّه
[الموضح: 235]
المغضوب عليهم؛ لأن من أنعم عليه بالإيمان فإنه لم يغضب عليه، ومن لم يغضب عليه فإنه أنعم عليه، وهذا عن ابن السراج.
وأمنا النصب في {غَيْرِ} فيجوز أن يكون على الاستثناء كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم، ويجوز أن يكون حالًا على تقدير: أنعمت عليهم لا مغضوبًا عليهم، ويجوز أن يكون على إضمار أعني.
والمختار هو الجرُّ؛ لاتفاقهم عليه). [الموضح: 236]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:26 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة