قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (اهدنا الصّراط المستقيم (6).
قرأ بالصاد ابن كثير، واتفق معه نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، والكسائي.
وقرأ حمزة بين الصاد والزاي،
[معاني القراءات وعللها: 1/110]
ولا يحتمله الكتاب، وقرأ يعقوب الحضرمي (السّراط) بالسين، وروى السين عن ابن عباس، وابن الزيير.
وقال أبو حاتم فيما أخبرنا عنه أبو بكر بن عثمان: قراءة العامة بالصاد، وعليها المصاحف.
قال الأزهري: من قرأ بالسين فهو الأصل؛ لأن العرب تقول: سرطت اللقمة سرطا، و: زردتها - زرداً، أي: بلعتها بلعًا.
ومن قرأ بالصاد فلأن مخرج السين والصاد من طرف اللسان فيما بينه وبين الثنايا، والسين والصاد يتعاقبان في كل حرف فيه غين، أو قاف، أو طاء، أو خاء.
فالطاء مثل: (بسطة" و(بصطة)، ومثل: (مسيطر" و"مصيطر)، والخاء مثل: سلخ الجلد، وصلخه.
والغين مثل: مصدغة، ومسدغة.
والقاف مثل: الصقر، والسقر، و: صقع الديك، وسقع.
روى ذلك الثقات عن العرب.
والسين حرف مهموس، والصاد حرف مجهور، وذلك اختير مع هذه الحروف.
وقوله جلّ وعزّ: (اهدنا الصّراط المستقيم)، معناه ثبّتنا على المنهاج الواضح.
وقيل معناه: زدنا هدى). [معاني القراءات وعللها: 1/111]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (2- وقوله: {إهدنا الصراط المستقيم}.
قرأ ابن كثير {السراط} بالسين، وكذلك في كل القرآن على أصل الكلمة.
وقرأ الباقون: {الصراط} بالصاد، وإنما قلبوا السين صادًا؛ لأن السين مهموسة والصاد مجهورة، وهي من حروف الإطباق، والسين مفتحة، وقلبوا السين صادًا لتكون مؤاخية للسين في الهمس والصغير، وتؤاخي الصاد في الإطباق، إلا حمزة فإنه يُشم الصاد زايا، وذلك أن الزاي تؤاخي السين في الصفير وتؤاخي الصاد في الجهر، وكذلك قوله: {حتى يصدر الرعاء} بإشمام الزاي، وانشد ابن دريد رضي الله عنه:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/49]
ولا تهييني الموماة أركبها = إذا تجاوبت الأزداء بالسحر
جعلها زايًا خالصة وهي لغة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/50]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: الصّراط المستقيم [الفاتحة/ 6] فروي عن ابن كثير: السين والصاد. وروي عن أبي عمرو: السين، والصاد، والمضارعة بين الزاي والصاد، رواه عنه العريان بن أبي سفيان، وروى عنه الأصمعي «الزراط» بالزاي، والباقون بالصاد، غير أن حمزة يلفظ بها بين الصاد والزاي.
قال أبو بكر: للقارئ بالسين أن يقول: هو أصل الكلمة، ولو لزم لغة من يجعلها صادا مع الطاء لم يعلم ما أصلها.
ويقول من يقرأ بالصاد: إنّها أخفّ على اللسان، لأنّ
[الحجة للقراء السبعة: 1/49]
الصاد حرف مطبق كالطاء فتتقاربان، وتحسنان في السمع، والسين حرف مهموس، فهو أبعد من الطاء، وهي قراءة أبي جعفر والأعرج وشيبة وقتادة.
ويقول من قرأ بالزاي: أبدلت منها حرفا مجهورا حتى يشبه الطاء في الجهر، ورمت الخفّة، ويحتجّ بقول العرب: صقر، وسقر، وزقر.
ويقول من قرأ بالمضارعة التي بين الزاي والصاد:
رمت الخفة، ولم أجعلها زاء خالصة، ولا صادا خالصة فيلتبس بأحدهما.
قال أبو بكر: والاختيار عندي الصاد، للخفّة، والحسن في السمع، وهو غير ملبس، لأنّ من لغته هذا إذا كان يتجنّب السين مع الطاء لم يقع عليه لبس، لأنّ السين كأنّها مهملة في الاستعمال عنده مع الطاء، وإنّما يقع الإلباس لو التبست كلمة بالسين بكلمة بالصاد في معنيين مختلفين، ومع ذلك فهي قراءة الأكثر، ألا ترى أنّ من رويت عنه القراءة بالسين منهم قد رويت عنه بالصاد؟
[الحجة للقراء السبعة: 1/50]
وقال: وأما الزاي فأحسب الأصمعيّ لم يضبط عن أبي عمرو، لأنّ الأصمعي كان غير نحويّ، ولست أحبّ أن تحمل القراءة على هذه اللغة، وأحسب أنه سمع أبا عمرو يقرأ بالمضارعة للزاي فتوهّمها زاء.
وأمّا القراءة بالمضارعة التي بين الزاي والصاد فعدلت عن القراءة بها، لأنّه تكلّف حرف بين حرفين، وذاك أصعب على اللسان، لأنّه إنّما استعمل في هذه الحال فقط، وليس هو بحرف يبنى عليه الكلم، ولا هو من حروف المعجم، ولست أدفع أنّه من كلام الفصحاء من العرب، إلا أنّ الصاد أفصح وأوسع وأكثر على ألسنتهم. والسين والصاد والزاي أخوات، والصاد أشبههنّ بالطاء، لأنّها مطبقة مثلها، والزاي أقرب أيضا إلى الطاء من السين، لأن الزاي حرف مجهور. قال أبو حاتم: ليست الزاي الخالصة بمعروفة. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: الحجّة لمن قرأ بالصاد أن القراءة بالسين مضارعة لما أجمعوا على رفضه من كلامهم، ألا ترى أنّهم تركوا إمالة «واقد» ونحوه كراهة أن يصعّدوا بالمستعلي
بعد التسفل بالإمالة؟ فكذلك يكره على هذا أن يتسفّل ثم يتصعّد بالطاء في سراط، وإذا كانوا قد أبدلوا من السين الصاد مع
[الحجة للقراء السبعة: 1/51]
القاف في صقت، وصويق، ليجعلوها في استعلاء القاف مع بعد القاف من السين وقرب الطاء منها، فأن يبدلوا منها الصاد مع الطاء أجدر من حيث كانت الصاد إلى الطاء أقرب. ألا ترى أنّهما جميعا من حروف طرف اللسان، وأصول الثنايا، وأن الطاء تدغم في الصاد؟
ويدلّك على أنّ حسن إبدال الصاد من السين في «سراط» لما ذكرت لك من كراهة التصعّد بعد التسفّل، أنّ من يقول: صويق، وصقت إذا قال: قست وقسوت لم يبدل الصاد منها، لأنّه الآن ينحدر بعد الإصعاد، وهذا يستخفّ ولا يستثقل كما استثقل عكسه، ألا ترى أنّهم لم يميلوا نائق، وأمالوا، نحو قادر، وقارب؟
فإن قلت: إنّ السين الأصل بدلالة قولهم: سرطم وسرطراط والأخذ سرّيط. قيل: الألف أيضا أصلها ألّا تمال، ولكن لمّا وقعت مع الكسرة والياء فأريد مجانسة
[الحجة للقراء السبعة: 1/52]
الصوتين وملاءمتهما أميلت، وترك الأصل الذي هو التفخيم والتحقيق لها.
فكذلك في باب صراط وصويق وصالخ وصالغ لمّا أريد فيه ذلك ترك الأصل إلى تشاكل الصوتين وتجانسهما، وقد تركوا في غير هذا- لما ذكرت لك- ما هو أصل في كلامهم إلى ما ليس بأصل، طلبا لاتّفاق الصوتين، ألا تراهم قالوا: شمباء، ومم بك، فلم يبينوا النون التي هي الأصل في الشّنب، ومن عامر؟ لمّا أرادوا أن يوفّقوا بين الصوتين. ولم يستجيزوا إدغام النون في الباء من حيث كان متشابها ما لم يدغم في الباء وهو الميم، فكما تركوا الأصل هاهنا طلبا للمشاكلة، كذلك يترك الأصل في سراط، ويختار إبدال الصاد من السين.
فأمّا القراءة بالزاي فليس بالوجه. وذلك أن من قال في أصدرت: أزدرت، وفي القصد: القزد، فأبدل من الصاد الزاي، فإنه إذا تحركت الصاد في نحو: صدرت، وصدقت، لم يبدل. فإذا لم يبدلوا الصاد زاء إذا تحركت مع الدال، وكانت الطاء في الصراط، مثل الدال في القصد في حكم
[الحجة للقراء السبعة: 1/53]
الجهر، فكذلك ينبغي ألّا تبدل من السين الزاي في سراط من أجل الطاء، لأنها قد تحرّكت كما تحركت في صدقت، مع أنّ بينهما في «سراط» حاجزين، وقد قال سيبويه: إذا قال:
مصادر فجعل بينهما حرفا ازداد التحقيق حسنا وكثرة. يريد يزداد التحقيق للصاد كثرة إذا وقع الفصل بالحرف على التحقيق إذا وقع الفصل بحركة نحو: صدق.
وإنما لم تبدل في الموضعين لمّا فصلت الحركة أو الحرف، لأنّ التبيين وتصحيح الصاد في قصد وأصدرت قد كان يجوز ولا حاجز بينهما، فلمّا وقع الفصل وحجزت الحركة أو الحرف امتنع ما كان يجوز من قبل.
ألا ترى أن المتقاربين إذا وقعا في كلمة واحدة ففصل بينهما الحركة بيّن، وذلك نحو وتد. ومن أدغم قدّر فيه الإسكان، مثل فخذ فأدغم على ذلك؟ فكما لم يقو الإدغام ولم يكثر مع حجز الحركة كذلك لا يقوى البدل مع حجز الحركة، لاجتماع الموضعين في أن القصد فيهما تقريب حرف من حرف. فأمّا القراءة بالمضارعة، فأحسن من القراءة
بإبدال الزاي من السين، لأنّ من لم يبدل من الصاد الزاي إذا تحركت قد يضارع بنحو صاد صدقت، ويضارع بها إذا بعدت نحو مصادر، والصراط كما قالوا: حلبلاب فوفّقوا بين الحرفين مع حجز ما حجز بينهما من الحروف، وكأنّه أحبّ أن يشاكل بهذه
[الحجة للقراء السبعة: 1/54]
المضارعة ليكثر بذلك تناسب أحد الحرفين إلى الآخر. فأشرب الصاد صوت الزاي لذلك.
ومما يقوّي مضارعة الصاد في الصراط بالزاي أنّهم حيث وجدوا الشين مشبهة للصاد والسين في الهمس والرخاوة والاستطالة إلى أعلى الثّنيّتين ضارعوا بها الزاي، لمّا وقع بعده الدال ليتفقا في الجهر، وذلك نحو قولهم: أزدق في الأشدق، وكذلك فعلوا بالجيم قبل الدال لقربها من الشين، وذلك قولهم: أزدر في الأجدر، فإذا ضارعوا بهذين الحرفين الزاي ليقرّبوها بذلك من الدال مع تباعد مخارجهما من الزاي فأن يضارعوا بها الصاد أجدر، لقربها منها واتفاقهما في المخرج. ويؤكّد هذه المضارعة أنّهم قالوا: اجدرءوا واجدمعوا، فأبدلوا من تاء الافتعال الدال لمّا أشرب صوت الزّاي، كما أبدل في مزدجر ونحوه، ولا يجوز أن تخلص الشين، والجيم زاء كما فعلت ذلك في الصاد والسين في:
القصد، ويسدل ثوبه، لأنهما لم تقربا من الزاي قرب الصاد والسين منها.
ويقوي اتساع ذلك في الاستعمال أن سيبويه قال: زعم هارون أنها قراءة الأعرج، قال: وقراءة أهل مكة اليوم:
[الحجة للقراء السبعة: 1/55]
حتّى يصدر الرّعاء [القصص/ 23] بين الصاد والزاي قال: والمضارعة في الصاد يعني إذا كانت مع الدال أكثر وأعرف منها في السين، يعني في نحو: يزدل ثوبه.
وممّا يحتجّ به من أخلص الصاد وحققها على من ضارع بها الزاي أن يقول: الحرف قد أعلّ مرة بالقلب فلا تستقيم المضارعة، لأنّها إعلال آخر، وقد رأيتهم كرهوا الإعلال في الحرفين إذا تواليا، فإذا لم يوالوا بين إعلالين في حرفين مفترقين فألّا يوالوا بين إعلالين في حرف واحد أجدر.
ويقوّي ذلك أنهم حذفوا النون من نحو بلعنبر، وبلحرث، ولم يحذفوا من بني النجار مع توالي النونات حيث كانت اللام قد اعتلّت بالقلب لئلا يتوالى إعلالان: الحذف والقلب، وإن كانا من كلمتين مفترقتين فإذا كره في هذا النحو كان توالي إعلالين في حرف واحد أبعد.
وممّا يحتجّون به على من ضارع بها الزاي، أنّ هذه المضارعة تشبه الإدغام في أنّه تقريب الحرف الأول من الثاني، فكما أنّ الصاد لا تدغم في الطاء، لانتقاص صوتها بذلك، فكذلك لا ينبغي أن يضارع بها لأنّ هذه المضارعة في حكم الإبدال، بدلالة أنّهم حيث ضارعوا بالجيم الزاي في قولهم:
اجدرءوا واجدمعوا أبدلوا من تاء الافتعال الدال كما أبدلوا في
[الحجة للقراء السبعة: 1/56]
مزدجر. وقال سيبويه: لم تكن المضارعة هنا الوجه، يعني في الصراط). [الحجة للقراء السبعة: 1/57]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن رضي الله عنه: [اهدنا صراطًا مستقيمًا].
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون أراد -والله أعلم- التذلل لله سبحانه، وإظهار الطاعة له؛ أي: قد رضينا منك يا ربنا بما يقال له: صراط مستقيم، ولسنا نريد المبالغة في قول من قرأ: {الصراط المستقيم} أي: الصراط الذي شاعت استقامته، وتُعولمت في ذلك حاله وطريقته، فإن قليل هذا منك لنا زاك عندنا وكثير من نعمتك علينا، ونحن له مطيعون، وإلى ما تأمر به وتنهى فيه صائرون، وزاد في حسن التنكير هنا ما دخله من المعنى؛ وذلك أن تقديره: أَدِمْ هدايتك لنا؛ فإنك إذا فعلت ذلك بنا فقد هديتنا إلى صراط مستقيم؛ فجرى حينئذ مجرى قولك: لئن لقيتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتَلْقَينَّ منه رجلًا متناهيًا في الخير، ورسولًا جامعًا لسبل الفضل؛ فقد آلت به الحال إلى معنى التجريد؛ كقول الأخطل:
بِنَزوة لص بعدما مر مصعب ... بأَشعث لا يُفْلَى ولا هو يَقمَل
[المحتسب: 1/41]
ومصعب نفسه هو الأشعث، وعليه قول طرفة:
جازت القومَ إلى أرحُلنا ... آخر الليل بيعفور خَدِر
وهي نفسها عنده اليعفور.
أنشدنا أبو علي:
أفاءت بنو مروان أَمسِ دماءَنا ... وفي الله إن لم يحكموا حَكَم عدل
وهو سبحانه أعرف المعارف، وقد سماه الشاعر حكمًا عدلًا، فأَخرج اللفظ مخرج التنكير، فقد ترى كيف آل الكلام من لفظ التنكير إلى معنى التعريف، وفيه مع ذلك لفظ الرضا باليسير، فإذا جاز أن يَرضى الإنسان من مخلوق مثله بما رضي به الشاعر من محبوبه بما دل عليه قوله، أنشده ابن الأعرابي:
وإني لأَرضى منك يا ليلُ بالذي ... لو أبصره الواشي لقرَّت بلا بِلُهْ
بلا وبأن لا أستطيع وبالْمُنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله
وبالنظرة العَجْلى وبالحول تنقضي ... أواخره لا نلتقي وأوائله
وأنشدني بعض أصحابنا لبعض المولدين:
عدينا واكذبينا وامطلينا ... فقد أومنت من سوء العقاب
فلسنا من وعيدك في ارتياب ... ولا من صدق وعدك في اقتراب
ولكنا لشؤم الْجَدِّ منا ... نَفِر من العذاب إلى العذاب
وعليه قول الآخر:
عَلِّليني بموعد ... وامطلي ما حييت به
ودعيني أعيش منـ ... ـك بنجوى تطلُّبه
فعسى يعثر الزما ... ن بجنبي فينتبه
[المحتسب: 1/42]
ونظائره كثيرة، قديمة ومولَّدة -كان العبد البر والزاهد المجتهد أحرى أن يسأل خالقه -جل وعز- مقتصدًا في سؤاله، وضامنًا من نفسه السمع والطاعة على ذلك من يأمره.
ويؤكد عندك مذهب من أنشدته آنفًا، ما حدثنا به أبو علي قال: لما قال كُثير:
ولست بِراض من خليلي بنائل ... قليل ولا أرضى له بقليل
قال له ابن أبي عتيق: هذا كلام مُكافئ، هلا قلت كما قال ابن الرقيات:
رُقَيَّ بِعَمْرِكُمْ لا تهجرينا ... ومنِّينا المنى ثم امطلينا
وأنشدني بعض أصحابنا:
وعلليني بوعد منك آمله ... إني أُسَرُّ وإن أخلفت أن تعدي
وعليه قوله الله عز اسمه: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: هديناهم من نعمتنا عليهم، ونَظَرِنَا لهم صراطًا مستقيمًا.
وقال كثير:
أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوج الموارد مستقيم
وهذا كقولك: أمير المؤمنين على الصراط المستقيم لا فرق بينهما؛ وذلك أن مفاد نكرة الجنس مفاد معرفته؛ من حيث كان في كل جزء منه معنى ما في جملته، ألا ترى إلى قوله:
وأَعلم إن تسليمًا وتركًا ... لَلَا متشابهان ولا سواء
فهذا في المعنى كقوله: إن التسليم والترك لا متشابهان ولا سواء). [المحتسب: 1/43]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({اهدنا الصّراط المستقيم * صراط الّذين أنعمت عليهم} 5 و6
قرأ ابن كثير في رواية القواس السراط وسراط بالسّين وحجته هي أن السّين الأصل ولا ينتقل عن الأصل إلى ما ليس بأصل وروي ان ابن عبّاس كان يقرؤها بالسّين
وقرأ حمزة بإشمام الزّاي وروي عنه بالزاي وهي لغة للعرب
وقرأ الباقون بالصّاد وحجتهم أنّها كتبت في جميع المصاحف بالصّاد قال الكسائي هما لغتان). [حجة القراءات: 80]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (6- قوله: (الصراط، وصراط) وحجة من قرأ «السراط» بالسين، وهو قنبل عن ابن كثير، أن السين في هذا هو الأصل، وإنما أبدل منها صادًا لأجل الطاء التي بعدها، فقرأها على أصلها، ويدل على أن السين هو الأصل أنه لو كانت الصاد هي الأصل لم ترد إلى السين لضعف السين، وليس من أصول كلام العرب أن يردوا الأقوى إلى الأضعف، وإنما أصولهم في الحروف إذا أبدلوا أن يردوا الأضعف إلى الأقوى أبدًا.
وحجة من قرأه بالصاد أنه اتبع خط المصحف، وأن السين حرف مهموس فيه تسفل، وبعدها حرف مُطبق مجهور مستعلٍ، واللفظ بالمطبق المجهور بعد المستفل المهموس، فيه تكلف وصعوبة، فأبدل من السين صادًا لمؤاخاتها الطاء في الإطباق والتصعد ليكون عمل اللسان في الإطباق والتصعد عملًا واحدًا، فذلك أسهل وأخف، وعليه جمهور العرب وأكثر القراء، وكانت الصاد أولى بالبدل من غيرها لمؤاخاتها السين في الصفر والمخرج، فأبدل من السين حرف يؤاخيها في الصفير والمخرج، ويؤاخي الطاء في الإطباق والتصعد، وهو الصاد.
7- وحجة من قرأه بالصاد أنه اتبع خط المصحف، وأن السين حرف مهموس فيه تسفل، وبعدها حرف مطبق مجهور مستعلٍ، واللفظ بالمطبق المجهور بعد المستفل المهموس، فيه تكلف وصعوبة، فأبدل من السين صادًا لمؤاخاتها الطاء في الإطباق والتصعد ليكون عمل اللسان في الإطباق والتصعد عملًا واحدًا، فذلك أسهل وأخف، وعليه جمهور العرب وأكثر القراء، وكانت الصاد أولى بالبدل من غيرها لمؤاخاتها السين في الصفير والمخرج، فأبدل من السين حرف يؤاخيها في الصفير والمخرج، ويؤاخي الطاء في الإطباق والتصعد، وهو الصاد.
7- وحجة من قرأه بين الصاد والزاي وهو خلف عن حمزة، أنه لما رأى الصاد فيها مخالفة للطاء في الجهر، لأن الصاد حرف مهموس والطاء حرف مجهور، أشم الصاد لفظ الزاي، للجهر الذي فيها، فصار قبل الطاء حرف يشابهها في الإطباق وفي الجهر، اللذين هما من صفة الطاء، وحسن ذلك لأن الزاي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/34]
من مخرج السين، والصاد مؤاخية لها في الصفير، والعرب تبدل السين صادًا إذا وقع بعدها طاء أو قاف أو غين أو خاء، لتسفل السين وهمسها، وتصعد ما بعدها وإطباقه وجهره، ليكون عمل اللسان من جهة واحدة، فذلك أخف عليهم.
8- فإن قيل: فما اختيارك في ذلك؟
فالجواب أن الاختيار القراءة بالصاد اتباعًا لخط المصحف، ولإجماع القراء عليه، ولما ذكرنا من مشابهة الصاد بالطاء في الإطباق، وبعد السين من الطاء في الهمس والتسفل اللذين فيهما). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/35]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (2- (السِّرَاطَ) [آية/ 6].
بالسين، قرأها ابن كثير –ل- ويعقوب –يس-.
لأنه أصل الكلمة فهي من سرطت الشيء إذا بلعته؛ لأن السراط يسترط المارّة، وفي هذا اللفظ بعض من الثقل والنبو عن الطبع، إذ في السين تسفل وفي الطاء استعلاءٌ، ففيه تصعد بعد تسفل، كما كرهوا إمالة واقدٍ إذ تصعدوا بالقاف بعد التسفّل بالإمالة، إلا أنهم احتملوا هذا الثقل؛ لأنه أصلٌ.
وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بإشمام الزاي وهي المضارعة بين الصاد والزاي هذا لئلا يلتبس بأحدهما، فكلاهما ليس بأصلٍ في الكلمة،
[الموضح: 230]
وكرهها بعضهم إذ هي تكلف حرف بين حرفين.
الباقون ويعقوب –ح- بالصاد الخالصة.
لأن الصاد والطاء يتقاربان من حيث الإطباق، فالقراءة بذلك أخفُّ عن اللسان وأحسن في السمع.
والرواية بالزاي الخالصة ضعيفة عند القراء، فإن صحت فلتشابه الزاي والطاء في الجهر). [الموضح: 231]
قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (صراط الّذين أنعمت عليهم).
قرأ حمزة ويعقوب: عليهم، ولديهم، وإليهم وزاد يعقوب على حمزة: فيهم، وفيهما.
وذلك أن عليّ ولديّ وإليّ إذا أفردن ولم يضفن فلفظهنّ بالفتح، فاستحسن حمزة فيهن ضمّ الهاء لما كن منفتحاتٍ في الإفراد، وذلك أن الهاء لا يجوز كسرها إلا أن يسبقها كسرة أو ياء، وأما (أيديهم) و(يزكيهم) ونحوها مما كان قبل الهاء ياء فإن يعقوب يضمها، وكذلك مكني المؤنث، مثل: عليهنّ، وفيهنّ.
وكذلك إذا سقطت الياء التي قبل الهاء للجزم كقوله: (أولم تأتهم " و(إن يأتهم عرضٌ)، "فاستفتهم) بضم الهاء -
[معاني القراءات وعللها: 1/112]
في هذه الحروف كلها إلا قوله: (ومن يولهم " فإنه يكسر الهاء في مثله.
والباقون من القراء يكسرون الهاء ويسكنون الميم إلا ابن كثير فإنه يصل الميم بواو في اللفظ ويكسر الهاء، كقولك (عليهمو) و(إليهمو)، وكذلك إذا انضمت الهاء وصل الميم بواو مثل: (لهمو) و(عندهمو) و(وراءهمو) في كل القرآن.
وكان نافع في رواية قالون وإسماعيل بن جعفر يخير في هذا، فمن أحب ضم الميم، ومن أحب أسكنها.
وكان ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم يكسرون الهاء ويضمون الميم عند السواكن، مثل قوله: (عليهمو الغمام " و: (إليهمو اثنين، و(من دونهم امرأتين)،
وكان أبو عمرو يكسر الميم والهاء عند السواكن، وكان حمزة والكسائي يضمان الميم والهاء عند
[معاني القراءات وعللها: 1/113]
السوكن حيث لقي الميم سكن.
وكان يعقوب يضم الهاء والميم عند السواكن إذا سبقت الهاء ياء فإذا تقدم الهاء حرف غير الياء كسر الهاء والميم.
مثل قوله: (بهم الأسباب) و(من دونهم امرأتين).
وقرأ الكسائي في رواية نصير عنه أنه يضم الميم إذا تطرفت فكانت آخر كلمة مضمرة تلي رأس آية نحو قولهم: (هم يوقنون) (إن كنتم صادقين)
(وأنتم تعلمون)، ونحو هنا في كل القرآن.
وكذلك قراءته بضم الميم عند الألفات المهموزات (أنا) (أنت) في موضع الاستفهام، فكانت أصلية أو قطعا. كقوله، (أأنتم أعلم أم اللّه) (أأنتم أشدّ خلقًا) (وإذا قيل لهم آمنوا) وكذلك إذا لقيت الميم ميمٌ نحو قوله: (جاكم موسى)، (فمنهم من يقول) (جاءهم من ربهم)، وإذا طالت الكلمة لم يضم الميم عند ما ذكرنا من هنا الباب، (أتاني زيد ومررت بزيد) ولأنهما واو وصل
[معاني القراءات وعللها: 1/114]
فلا يثبت لئلا يلتبس الوصل بالأصل، قال: فإذا قلت - (عليه مال) فلك فيه أربعة أوجه:
إن شئت قلت (عليه مالٌ) وإن شئت قلت (عليهي مالٌ) وإن شئت قلت (عليه مالٌ) وإن شئت قلت (عليهو مالٌ).
وأما قوله جلّ وعزّ: (إن تحمل عليه يلهث)، وقوله، (إلا ما دمت عليه قائما) فالقراءة بالكسر بغير ياء، وهي أجود هذه الوجوه.
ولا ينبغي أن يقرأ بما يجوز في اللغات إلا أن تثبت رواية صحيحة، أو يقرأ به كبير من القراء.
قال: ومن قرأ (عليهم) فأصل الجمع أن يكون بواو.
ولكن الميم استغني بها عن الواو، والواو أيضًا تثقل على ألسنتهم حتى إنه ليس في أسمائهم اسم آخره واو قبلها حركة، فكذلك اخترنا حذف الواو.
وقوله جلّ وعزّ (غير المغضوب عليهم)
قرأ أبو عمرو. ونافع. وابن عامر. وعاصم، وحمزة والكسائي، ويعقوب، (غير المغضوب)، بالكسر واختلف عن ابن كثير، فقال أبو حاتم: قال بكّار: حدثتي الخليل بن أحمد عن ابن لعبد الله بن كثير المكي أنه قرأ، (غير المغضوب عليهم) نصبا قال بكار وحدثني الغمر بن بشير عن عباد الخواص قال: قراءة أهل مكة غير المغضوب، بالنصب، قال أبو حاتم: روى هارون الأعور عق أهل مكة النصب في
[معاني القراءات وعللها: 1/115]
(غير). قال أبو منصور: وروى غير هؤلاء عن ابن كثير أنه قرأ (غير) بالكسر كما قرأ سائر القراء.
قال أبو منصور: والقراءة الصحيحة المختارة "غير المغضوب " بكسر الراء، ونصب الراء شاذ.
وأخبرني المنذري عن أبي طالب عن أبيه عن الفراء أنه قال في قول الله جلّ ثناؤه: (غير المغضوب عليهم) بخفض غير، لأنها نعت للذين، لا للهاء والميم من (عليهم)، قال: وإنما جاز أن يكون (غير) نعتا لمعرفة لأنها قد أضيفت إلى اسم فيه ألف ولام وليس بمصمود له ولا الأول أيضًا بمصمود له، وهو في الكلام بمنزلة قولك: (لا أمرّ إلا بالصادق غير الكاذب)، كأنك تريد: بمن يصدق ولا يكذب.
ولا يجوز أن تقول: (مررت بعبد الله غير الظريف) إلا على التكرير، لأن (عبد الله) موقت، و(غير) في مذهبٍ نكرة غير موقتة، فلا يكون نعتا إلا لمعرفة غير موقتة.
قال: الفراء: وأما النصب في (غير) فجائز، يجعله قطعا من (عليهم).
قال: وقد يجوز أن يجعل (الذين) قبلها في موضع توقيت، وتخفض (غير) بمعنى التكرير، صراط غير المغضوب
[معاني القراءات وعللها: 1/116]
عليهم.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال: جعل الفراء الألف واللام بمنزلة النكرة.
قال: وقال الأخفش: هو بدل.
قال أبو العباس: وليس يمتنع ما قال، وهو قريب من قول الفراء.
وقال الزجاج في (غير) - بالجر - قريبا مما قال الفراء.
قال: ويجوز نصب (غير المغضوب) على ضريين: على الحال، وعلى الاستثناء.
فأما الاستثناء فكأنك قلت: إلا المغضوب عليهم، وحق (غير) من الإعراب في الاستثناء النصب إذا كان ما بعد (إلا) منصوبًا، وأما الحال فكأنك قلت فيها: صراط الذين أنعمت عليهم لا مغضوبًا عليهم.
وأخبرني المنذري عن ابنٍ لليزيدي عن أبي زيد في نصب (غير) إنه على القطع كما قال الفراء.
وأما قول القائل بعد الفراغ من قراءة سورة فاتحة الكتاب:
[معاني القراءات وعللها: 1/117]
(آمين) ففيه لغتان:
إحداهما: قصر الألف
والأخرى: آمين بوزن (عامين).
وهما لغتان معروفتان، والميم خفيفة، والنون ساكنة.
ومعنى (آمين): الاستجابة.
وحقه السكون، ومن العرب من ينصب النون إذا مر عليه، ومنه قول الشاعر:
تباعد مني فطحلٌ إذ رأيته أمين... فزاد الله ما بيننا بعدا
وقال الآخر فيمن طو" الألف:
يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبداً... ويرحم الله عبداً قال آمينا
[معاني القراءات وعللها: 1/118]
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال في قوله (ولا الضّالّين) القراء كلهم عليها إلا ما روي عن أيوب السختياني أنه همز (ولا الضّألين) لالتقاء الساكنين.
قال أبو العباس: وقال بعضهم: نمد المدغم إذا كان قبله واو، أو ياء، أو ألف سواكن، نحو قوله: (ولا الضّالّين) و(لا رادّ لفضله) و(يوادّون من حادّ اللّه ورسوله)، وما أشبهه.
قال: أرادوا: أن يكون المدغم عوضا عن الحركة التي كانت قبل أن يدغم الحرف الأول؛ لأنه لا يجتمع ساكنان.
قال أبو العباس: وهذا غلط، إنما مد لأن الساكن الثاني يخفى فيمد ما قبله لحركة الثاني، ولأن المدة إذا كانت مع الأول، فكأنه متحرك). [معاني القراءات وعللها: 1/119]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (3- وقوله [تعالى] {أنعمت عليهم}.
قرأ حمزة وحده {أنعَمْتَ عَلَيْهُمْ} بضم الهاء وجزم الميم، وكذلك: {إليهم} و{لديهم} وهي لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ضم الهاء في أصل الكلمة قبل أن تتصل بها «على كما تقول: (هُمْ)، فلما أدلعت «على» فقلتم {عليهم} بقيت على حالها.
قال ابن مجاهد: إنما خص حمزة هذه الثلاثة الأحرف بالضم دون غيرهن أعني: «عليهم» «ولديهم» «وإليهم» من بين سائر الحروف، لأنهن إذا وليهن ظاهر صارت يا آتهن ألفان، ولا يجوز كسر الهاء إذا كان قبلها ألف، فعامل الهاء مع المكني معاملة الظاهر، إذا كان ما قبل الهاء ياء فإذا صارت ألفًا لم يجز كسر الهاء، فإذا جاوز هذه الثلاثة الأحرف ولقي الهاء والميم ساكن ضمها، فإذا لم يلق الميم ساكن كسر الهاء نحو قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ} و{بربهم يعدلون} وعند الساكن {عن قبلتهم التي} {عليهم
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/50]
الذلة} {وإليهم اثنين} ولو كان مكان الهاء والميم كاف وميم لم يجز كسرهما إلا في لغة قليلة لا تدخل في القراءة لبُعد الكاف من الياء.
وقرأ الباقون {عليهمْ} بكسر الهاء، وإنما كسروها لمجاورة الياء كراهة أن يخرجوا من كسر إلى ضم كما قالوا: مررت بهم وفيهم.
وقرأ ابن كثير: {عليهموا} بالواو على أصل الكلمة؛ لأن الواو علم الجمع، كما كانت الألف علم التثنية، إذا قلت: عليهما، ومثله قاما قاموا.
وكان نافع يخير بين جزم الميم وضمها.
وقرأ الباقون: بإسكان الميم وحذف الواو. فحجة من حذف قال: لأن الواو متطرفة فحذفتها إذ كنت مستغنيًا عنها؛ لأن الألف دلت على التثنية، ولا ميم في الواحد إذا قلت: «عليه» فلما لزمت الميم لجمع حذفتها اختصارًا، فإن حلت هذه الواو عير طرف لم يجز حذفها، كقوله تعالى: {أنلزمكموها} فأما ما رواه الخليل بن أحمد عن ابن كثير {غير الغضوب عليهم} بالنصب، فإنه نصبه على الحال من الهاء والميم في {عليهم} ويكون نصبًا
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/51]
على الاستثناء في قول الأخفش، ومن قرأ {غير} بالخفض فإنه يجعله بدلاً من {الذين} وصفة لهم. والفرق بين «غير» إذا كانت صفة أو كانت استثناءً حسن إلا في مواضعها كقولك: عندي درهم غير دانق، وعندي درهم غير زائف، لأنه لا يحسن أن تقول: عندي درهم إلا زائفًا.
واعلم أن المدة في قوله تعالى: {ولا الضآلين} إنما أتى بها لتحجز بين الساكنين وهي اللام المُدغمة وألف التي قبلها.
وقال الأخفش: المدة عوض من اللامين. وقال ثعلب: لما كانت الألف خفية والمدغم خفي قووهما بالمد.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه: ومن العرب من يجعل المدة همزة فيقول: {ولا الضآلين} وقد قرأ بذلك أيوب السختياني.
أنشدني ابن مجاهد رضي الله عنه:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/52]
لقد رأيت بالقوم عجبا
حمار قبان يسوق أرنبا
خطامها زأمها أن تذهبا
يريد:زامها.
وإنما ذكرتُ هذا الحرف وإن لم تختلف السبعة فيه؛ لأن بعض النحويين يمد هذا ونحوه مدًا مفرطًا، والمد فيه وسط، كذلك كان لفظ ابن مجاهد، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد {ولا جأن} مهموز غير ممدود، والنون مشددة.
حدثني ابن مجاهد قال: روى لي عبد الله بن عمرو قال: حدثني ظفر
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/53]
ابن العباس قال: حدثنا أبو زيد: قال: صلى بنا عمرو بن عبيد الفجر فقرأ {إن ولا جآن} فهمز فلما سلم قلت: لم همزة؟ قال: فررت من اجتماع الساكنين.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه: كان عمرو بن عبيد يؤتي من قلة المعرفة بكلام العرب، وذلك أن العرب لا تكره اجتماع الساكنين، إذا كان أحد الساكنين حرف لين، كقوله تعالى: {وما من دابة في الأرض} وقد كان كلم أبا عمرو بن العلاء في الوعد والوعيد فلم يفرق بينهما حتى فهمه أبو عمرو، وقال: ويحك إن الرجل العربي إذا وعد أن يسئ إلى رجل ثم لم يفعل يقال: عفا وتكرم، ولا يقال: كذب، وأنشد:
وإني إن أوعدته أو وعدته = لمخلف إيعادي ومنجز موعدي). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/54]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضمّ الهاء من (عليهم) [الفاتحة/ 7] فقرأ حمزة وحده (عليهم) بضم الهاء وكذلك (لديهم)، (وإليهم) هذه الثلاثة الأحرف بالضم وإسكان الميم وقرأ الباقون: (عليهم) وأخواتها بكسر الهاء.
واختلفوا في الميم:
فكان عبد الله بن كثير يصل الميم بواو، انضمّت الهاء قبلها أو انكسرت، فيقول: عليهمو غير المغضوب عليهمو ولا الضالين، وعلى قلوبهمو، وعلى سمعهمو، وعلى أبصارهمو غشاوة [البقرة/ 7].
واختلف عن نافع في الميم. فقال إسماعيل بن جعفر وابن جمّاز وقالون والمسيّبي: الهاء مكسورة،
[الحجة للقراء السبعة: 1/57]
والميم مضمومة، أو منجزمة، أنت فيها مخيّر. وقال أحمد بن قالون عن أبيه: كان نافع لا يعيب ضمّ الميم، فهذا يدلّ على أن قراءته كانت بالإسكان. قال أحمد بن موسى: والذي قرأت به الإسكان. وقال ورش: الهاء مكسورة والميم موقوفة إلّا أن تلقى الميم ألف أصلية، فإذا لقيتها ألف أصلية ألحق في اللفظ واوا، مثل قوله: سواء عليهموء أنذرتهمو أم لم تنذرهمو [البقرة/ 6].
وكان أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، والكسائي يكسرون الهاء، ويسكّنون الميم، فإذا لقي الميم حرف ساكن اختلفوا: فكان ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر يمضون على كسر الهاء، ويضمّون الميم إذا لقيها ساكن، مثل قوله:
عليهم الذّلّة [البقرة/ 61، آل عمران/ 112]، ومن دونهم امرأتين [القصص/ 23]، وما أشبه ذلك.
وكان أبو عمرو يكسر الهاء أيضا ويكسر الميم، فيقول: عليهم الذّلّة وإليهم اثنين [يس/ 14] وما أشبهه.
وكان حمزة والكسائي يضمّان الهاء والميم معا، فيقولان: عليهم الذلة ومن دونهم امرأتين وما أشبه ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/58]
وقال أبو بكر أحمد بن موسى: وكل هذا الاختلاف في كسر الهاء وضمها إنّما هو في الهاء التي قبلها كسرة، أو ياء ساكنة، فإذا جاوزت هذين لم يكن في الهاء إلا الضّم. وإذا لم يكن قبل الميم هاء قبلها كسرة أو ياء ساكنة لم يجز في الميم إلّا الضم أو التسكين مثل قوله: (منكم)، و (أنتم).
قال أبو بكر: فيمن قرأ عليهم بكسر الهاء ووصل الميم بالواو - وهو قول ابن كثير ونافع في أحد قوليه-: قال سيبويه: قال بعضهم: (عليهمو) أتبع الياء ما أشبهها، وترك ما لا يشبه الياء ولا الألف على الأصل. وقال أبو حاتم: هي قراءة الأعرج. قال أبو بكر: وقال بعض من احتجّ لذلك:
إن الهاء من جنس الياء، لأنّ الهاء تنقطع إلى مخرج الياء، فوجب لذلك إتباع الهاء الياء.
وحجّة من قرأ عليهم- فكسر الهاء وأسكن الميم - وهو قول عاصم، وأبي عمرو، والكسائي، وابن عامر - أن يقول: إنّه أمن اللبس، إذ كانت الألف في التثنية قد دلّت على
[الحجة للقراء السبعة: 1/59]
الاثنين، ولا ميم في الواحد، فلما لزمت الميم الجمع حذفوا الواو، وأسكنوا الميم طلبا للتخفيف، إذ كان لا يشكل.
قال: وقال: لمّا كانت الهاء في (عليهم) هي الهاء التي كانت في عليه وجب إقرارها على ما كانت عليه من الكسر قبل دخول الميم، إذ كانت العلة واحدة.
وحجة من قرأ عليهم- وهو قول حمزة- أنّهم قالوا: ضمّ الهاء هو الأصل، وذلك أنّها إذا انفردت من حروف تتّصل بها قيل: هم فعلوا. والواو هي القراءة القديمة، ولغة قريش، وأهل الحجاز، ومن حولهم من فصحاء اليمن.
قالوا: وإنّما خصّ حمزة هذه الحروف الثلاثة بالضم- وهي (عليهم) و (إليهم) و (لديهم) - لأنّهنّ إن أولاهنّ ظاهرا صارت ياءاتهنّ ألفات مثل: على القوم، ولدى القوم، وإلى القوم، ولا يجوز كسر الهاء إذا كان قبلها ألف.
وحجّة من ضمّ الميم إذا لقيها ساكن بعد الهاء المكسورة أن يقول: إني لمّا احتجت إلى الحركة رددت الحرف إلى أصله فضممت، وتركت الهاء على كسرها، لأنّه لم تأت ضرورة تحوج إلى ردّها إلى الأصل، ولأنّ الهاء إنّما تبعت الياء، لأنّها شبّهت بها ولم تتبعها الميم لبعدها منها. قال أبو حاتم: وهي لغة فاشية بالحرمين.
[الحجة للقراء السبعة: 1/60]
وحجّة من كسر الميم للساكن الذي لقيها والهاء مكسورة أن يقول: أتبعت الكسر الكسر، لثقل الضم بعد الكسر، كما استثقلوا ضمّ الهاء بعد الكسرة، وكذلك استثقلوا ضمّة الميم بعد الهاء. ألا ترى أنه ليس في كلامهم مثل فعل، وأنّهم يضمون ألف الوصل في مثل: اقتل، فرارا من الضم بعد الكسر.
وحجّة من كسر الهاء إذا لم يلق الميم ساكن، وضمّها إذا لقي الميم ساكن- وهو قول الكسائي- أنّه يقول: إذا ردّ الميم إلى أصلها ردّ الهاء أيضا إلى أصلها، وأتبع الضمّ الضمّ استثقالا للخروج من الكسر إلى الضمّ.
قال: والاختيار (عليهم) بالكسر، لأنّها أخفّ على اللسان، وهي قراءة الأكثر.
قال سيبويه: الهاء تكسر إذا كان قبلها ياء أو كسرة، لأنّها خفيّة، كما أن الياء خفيّة، وهي من حروف الزيادة، كما أن الياء من حروف الزيادة، وهي من موضع الألف، وهي أشبه الحروف بالياء. فكما أمالوا الألف في مواضع استخفافا، كذلك كسروا هذه الهاء وقلبوا الواو ياء، لأنّه لا تثبت واو ساكنة وقبلها كسرة. وذلك قولك: مررت بهي [قبل]، ولديهي مال، ومررت بدارهي قبل، وأهل الحجاز يقولون: مررت بهو قبل، ولديهو مال، ويقرءون: فخسفنا بهو وبدارهو الأرض [القصص/ 81]، فإن لحقت الهاء الميم في علامة الجمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/61]
كسرتها كراهية الضمة بعد الكسرة. ألا ترى أنّهما لا تلزمان حرفا أبدا؟ - يعني أنّه ليس في الكلام مثل فعل- فإذا كسرت الميم قلبت الواو ياء كما فعلت ذلك في الهاء. ومن قال: (وبدارهو الأرض) قال: عليهمو مال.
قال: والاختيار- إذا لقيها ساكن- كسر الميم، وذلك أنه أخفّ، وهذه الكسرة ليست بالكسرة التي تأتي لالتقاء الساكنين، ولا أصل لها في الكلمة، لأن هذا الحرف له حركة في الأصل فحقّه أن يردّ- متى احتيج إلى حركته- إلى الأصل، وكأنّ من يكسر يقدّر أن أصل الحرف: (عليهمي)، روي عن الحسن أنه كان يقرأ (عليهمي) بكسرتين ويثبت الياء في الوصل. وقال أبو حاتم: لم أسمع أحدا يقرأ بكسر الميم إلّا ألحق الياء في الوصل، ولا أحدا يضمّ الميم إلّا ألحق واوا في الوصل، والواو والياء تسقطان في الوقف. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: الحجّة لمن قرأ: (عليهم) بكسر الهاء أن الهاء من مخرج الألف وهي في الخفاء نحوها، فكما أنّ الكسرة أو الياء إذا وقعت إحداهما قبل الألف أميلت الألف نحوها، وقرّبت منها، كذلك إذا وقعت قبل الهاء قرّبت الهاء منها بإبدال ضمّتها كسرة، كإمالتهم الألف نحو الياء. وممّا يؤكّد شبهها بالألف، أنّهم قد قالوا: أخذت أخذه وضربت ضربه،
[الحجة للقراء السبعة: 1/62]
فأمالوا الفتحة التي قبلها نحو الكسرة، كما أمالوها إذا كانت قبل الألف نحو الكسرة، لتميل الألف نحو الياء.
فإن قلت: إنّه لا شيء في قولهم: ضربت ضربه، يوجب الإمالة من كسرة ولا ياء ولا غيرهما مما يوجب الإمالة، فكيف استدللت بقولهم: ضربت ضربه على ما يوجب كسر الهاء في عليهم، وليس في «ضربه» شيء يوجب الإمالة؟ قيل: إنّ ذلك يشبه من الإمالة ما أميل لغير سبب موجب للإمالة، كقولهم في العلم: الحجّاج، والناس، وكقولهم: طلبنا، ورأيت عنتا. فعلى هذا الحد أمالوا في قولهم: ضربت ضربه، ألا ترى أنهم لم يميلوا إذا جاوزت الياء والكسرة حرفا سوى الهاء.
وكان إمالة الفتحة مع الهاء ساكنة أكثر في الاستعمال من باب طلبنا، وأقيس، لأنّ الهاء قد أجريت متحركة مجرى الألف فيما ستراه بعد، إن شاء الله، فإذا كانت ساكنة كانت أن تجرى مجرى الألف أجدر وأسهل.
وممّا يؤكّد شبه الهاء بالألف اجتماعهما في تبيين الحركة نحو: (أنا) و (حيّ هلا) كتبيينهم إيّاها بالهاء في: (كتابيه) و (حسابيه). ولو لفظت بالباء من ضرب، لقلت في قول الخليل إن شئت: به وإن شئت با. فكما جرتا مجرى واحدا في هذا، كذلك جعل في عليهم بمنزلة الألف في أن أبدل من ضمتها كسرة ليوفّق بين الصوتين فيكونا من جهة واحدة.
فإن قلت: ما وجه استجازة الخليل التخيير بين الهاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/63]
والألف في إلحاق الحرف الملفوظ به، وهلّا ألحق الهاء دون الألف، لقلة إلحاق الألف في الوقف، وكثرة إلحاقهم الهاء فيه؟ قيل: جمع بينهما لمشابهة كلّ واحد منهما الآخر فيما ذكرنا، ولقيام كل واحد منهما مقام الآخر، ولأنّهم قد ألحقوا هذه الحروف الألف في قولهم با، تا، ثا ونحوه، فكثر في هذا الباب وإن لم يكثر في غيره.
فإن قلت: فإنّ الهاء لا يجري فيها الصوت كما يجري في الألف وأختيها. فإنّها وإن كانت كذلك، فإنّها توافقها في الخفاء، والضعف، واتّفاق المخرج، فلا ينكر- وإن اختلفا من حيث ذكرت- أن يتفقا في تقريب إحداهما من الأخرى، كما قربت الباء من الميم في قولهم: (اصحب مطرا)، لاتفاقهما في المخرج، وإن كانتا قد اختلفتا في غير ذلك.
ومما يبيّن شبه الهاء بالألف أنّهم قد غيّروا بها بعض الحروف في الوقف، وأبدلوها منه كما فعلوا ذلك بالألف في: رأيت رجلأ.
وممّا يدلّ على خفاء الهاء ومشابهتها الألف والياء أنّها إذا كانت إضمار مذكّر بعد حرف ساكن أو مجزوم، حرّكوا الساكن، أو المجزوم بالضمّ، وذلك قولهم في الوقف: «لم يضربه، وقده، ومنه» وقد كسروا أيضا قبله التاء التي
[الحجة للقراء السبعة: 1/64]
للتأنيث، وذلك قولهم: ضربته. ومثل هذا في قول أبي الحسن قول بعضهم: ادعه، فكسروا العين للساكن الثاني الذي هو هاء الوقف، فإذا وصلت أسكنت كلّ ذلك، لأنّك تحرك هاء الضمير فتبيّن الحركة.
قال أبو زيد: قال- يعني رجلا عربيا-: لم أضربهما، فكسر الهاء مع الباء. قال أبو علي: فهذا على أنّه أجرى الوصل مجرى الوقف نحو: «سبسبّا»، ولا تحمله على أجوءك ونحوه، لأنّ سكون الإعراب مثل حركته، فلا يتبع غيره، كما أن حركة الإعراب لا يبدل منها للإتباع، كما لا تسكن في حال السعة والاختيار، ألا ترى أن من قال: للملائكة اسجدوا [البقرة/ 34] لم يكن مصيبا، ولم يجز كما جاز «منتن» وكما جاز وعذابٍ اركض [ص/ 41 - 42]،
[الحجة للقراء السبعة: 1/65]
وليس قوله: لم أضربهما مثل:
... لم يلده أبوان
لأنّ التحريك لالتقاء الساكنين، وذلك أنّه لمّا أسكن العين التي وليت حرف المضارعة حيث كان مثل: كبد، كما أسكن «تفخا» من قوله: أراك منتفخا، التقى ساكنان فحرّك لذلك، ومثل ذلك قوله سبحانه: ويخش اللّه ويتّقه [النور/ 52] ومثل «لم يلده» ما أنشده أبو زيد:
أجرّه الرّمح ولا تهاله
[الحجة للقراء السبعة: 1/66]
ألا تراه حرّك اللام المنجزمة بالفتح، لالتقاء الساكنين، كما فعل ذلك في «لم يلده». إلّا أنّ اللام في «تهاله» حرّكت للساكن الثاني فكان القياس ألّا تردّ الألف التي هي ردف،
كما لم تردّ فيما حكاه سيبويه من قولهم: لم أبله. وليس قول من قال: (ويتقه) كما أنشده أبو زيد:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا
لأنّ هذا إمّا أن يكون على سبسبّا أو على: لم يك.
ووجه ثالث: وهو أن يجرى الوصل في قوله: اشتر لنا، مجرى الوقف.
ومن ذلك أنّهم حذفوها لاما كما حذفوا الياء وأختها، وذلك نحو: شاة وشفة وسنة فيمن قال: سنهاء، وفم.
فبحسب كثرة الشبه يحسن إجراؤها مجرى ما قام فيها الشبه منه، ألا ترى أنّ الشيء إذا أشبه في كلامهم شيئا من وجهين
[الحجة للقراء السبعة: 1/67]
فقد تجري عليه أيضا أشياء من أحكامه، نحو أبواب ما لا ينصرف، ونحو شبه «ما» ب «ليس». فإذا زاد على ذلك كان تشبيهه بالمشابهة له من جهات كثيرة أجدر.
ومن ذلك أنهم أبدلوها من الياء، كما أبدلوا منها الألف في «طائيّ» ونحوه. وذلك قولهم: ذه أمة الله. في ذي. تسكن في الوصل كما أسكنت ميم عليهم وعليكم فيه، من حيث لزم ما قبلها ضرب واحد من الحركة، وتلحق هذه الهاء التي هي بدل من الياء في الوصل الياء، وذلك قوله تعالى: قل هذهي سبيلي [يوسف/ 108] فإذا وقفت قلت: هذه تحذفها كما حذفتها في عليه وبه في الوقف، وهذا على لغة أهل الحجاز، فأما بنو تميم فإنهم يقولون في الوقف:
هذه، فإذا وصلوا قالوا: هذي فلانة.
ومن ذلك أنهم أبدلوا الياء منها في التضعيف، كما أبدلوا الألف من الياء في حاحيت، وذلك قولهم في دهدهت: دهديت، وقالوا: دهدوهة كدحروجة. وقالوا: دهديّة، فأبدلوا. ومن ذلك أنّهم أبدلوا الهمزة منها لاما كما يبدلونها من حروف اللين، وذلك قولهم: ماء. قال أبو زيد: قالوا: ماهت الركيّة تموه وتميه وأماهها صاحبها إماهة. وأنشد أحمد بن يحيى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/68]
إنّك يا جهضم ماه القلب... ضخم عريض مجرئشّ الجنب
ومما يقوّي شبهها بالألف أنّ ناسا كسروها مع حجز الحرف بينها وبين الكسرة، فقالوا: منهم، كأنّهم لمّا رأوها جارية مجرى الألف جعلوها بمنزلة جلباب وحلبلاب، فإذا كانوا قد كسروا مع هذا الحاجز فأن يكسروا إذا لم يحجز بين الكسرة والياء شيء أجدر، وهذه اللغة وإن كان سيبويه قد سماها اللغة الرديئة فلها من وجه القياس ما ذكرته.
ويقوّيه أيضا من جهة القياس قول الجميع: هو ابن عمي دنيا فقلب من أجل الكسرة، وإن كانت العين قد حجزت، وقولهم: قنية، وزيد من العلية.
ويقويه أيضا ما حكاه أبو زيد من أن رجلا من بني بكر بن وائل قال: أخذت هذا منه ومنهما ومنهمي. قال أبو زيد: فكسر الاسم المضمر في الإدراج والوقف.
[الحجة للقراء السبعة: 1/69]
قال أبو زيد: وقال يعني هذا الرجل: عليكم، فضمّ الكاف.
ومما يؤكد كسر الهاء أن ناسا من بكر بن وائل قالوا:
بكم، و «فضل أحلامكم»، فكسروا تشبيها لها بالهاء من حيث اجتمعا في الهمس وعلامة الضمير، فإذا أجروا هذا مجرى الهاء لقيام شبهين من الهاء فيه، فإتباع الهاء الكسرة للمشابهات التي فيها من حروف اللين وكثرتها أولى، واستجازة غيره أبعد.
ومن ثمّ ألحق الكاف حرف اللين من ألحق، فقال:
أعطيتكاه للمذكّر، وأعطيتكيه للمؤنث، كما ألحقه الهاء في أعطيتهاه، وأعطيتهوه، لاجتماعهما فيما ذكرت لك، فكسرهم للكاف في بكم يدلّ على استحكام الكسرة في الهاء وكثرتها فيها.
فإن قال قائل: إنّ الضمة هي الأصل في عليهم وبهم ونحو ذلك بدلالة أن علامة المضمر المجرور كعلامة المضمر المنصوب المتصل، وأنّ ما جاز فيه الكسر جاز فيه الضمّ، نحو (بهو وبدارهو الأرض) وليس كل ما جاز فيه الضم يجوز فيه الكسر، تقول: هذا له، وسكنت داره، ولا يجوز كسر الهاء في شيء من ذلك. وإذا كان استعمال الضمّ فيه أعمّ وكان الأصل، وجب أن يكون أوجه من الكسر. قيل: إن كون الضمّ الأصل ليس ممّا يجب من أجله أن يختار على الكسر مع مجاورة الكسرة أو الياء، لأنّه قد تحدث أشياء توجب تقديم غير الأصل
[الحجة للقراء السبعة: 1/70]
على الأصل، طلبا للتشاكل وما يوجب الموافقة، ألا ترى أنّ الأصل الذي هو السين في الصراط الصاد أحسن منه، وأن النون التي هي الأصل في شنباء قد رفضت وترك استعمالها، وكذلك الأصل في شقرة ونمر في باب الإضافة قد رفض، وكذلك الأصل في حنيفة وجديلة فيها قد رفض، ولم يستعمل إلّا في أحرف يسيرة. والأصل في يرى قد رفض مع جميع حروف المضارعة في حال السعة والاختيار.
والأصل في عيد كذلك أيضا، ومن ثمّ كسّر على أعياد، ولم يكن كالأرواح. والأصل في الدنيا قد رفض في جميع بابه إلا في القصوى، كما رفض الأصل في تقوى وشروى، والأصل في فاء آدم وآخر أن يكون همزة، وقد ترك ذلك بدلالة أوادم وأواخر، وإجرائهم إيّاه مجرى ضوارب. وكذلك جاء في قولي الخليل والنحويين.
والأصل في قسيّ أن يكون على فعول، وأن يكون في الفاء الضم والكسر مثل حقي وعصيّ. وحقيّ وعصيّ. ولم نعلم أحدا ممّن يوثق بروايته حكى الضمّ في فاء هذه الكلمة، والأصل تقديم حرف العلة على السين التي هي لام، وأن تكون الواو مصحّحة كما صحت في العتوّ ونحوه من المصادر، فترك
[الحجة للقراء السبعة: 1/71]
ذلك إلّا في نحو ونحو ونحوّ. فهذه كلمة قد ترك الأصل فيها في ثلاثة مواضع. وهذا ممّا يقوّي قراءة حمزة في (بيوت) ونحو ذلك على أن سيبويه حكى في تحقير
بيت: بييت، فإذا جاز إبدال الضمة كسرة في التحقير لمكان الياء، فكذلك يجوز أن تبدل من ضمّة فاء فعول، في الجمع، الكسرة من أجل الياء. ألا ترى أنه قد قال: إنّ التحقير والتكسير من واد واحد.
فإذا رأيت هذه الأشياء وغيرها قد تركت فيها الأصول، واطّرحت في كثير منها، واختير عليها غيرها لمشابهات تعرض، أو تخفيف يطلب أو غير ذلك، لم ينكر أن يترك الأصل الذي هو الضمّ في عليهم، ويؤثر عليه الكسر ليتشابه الصوتان ويتّفقا ويكون مع ذلك أخفّ في اللفظ.
فإن قال: إنّ الألف التي شبّهت بها الهاء في عليهم ودارهم لا تكون إلا ساكنة، وهذه الهاء متحركة فكيف وفّقت بينهما مع اختلافها من حيث ذكرنا؟ قيل: إنّ هذا الذي ذكرت من الخلاف بينهما لا يوجب لهما اختلاف حكم بينها وبين الألف فيما ذكرنا، لأنّهم قد جعلوا الهاء متحركة بمنزلة الألف الساكنة، ألا ترى أن قول الأعشى:
رحلت سميّة غدوة أجمالها
اللام فيه حرف الرويّ، والهاء وصل، فجعلت الهاء مع
[الحجة للقراء السبعة: 1/72]
تحركها بمنزلة الألف والواو والياء والهاء والسواكن في نحو:
عاذل والعتابا
ونحو:
حبيب ومنزلي
وإن لام لائمو
والهاء في:
أعارتكهما الظبية
وبكّي النساء على حمزة
[الحجة للقراء السبعة: 1/73]
فكما جرت وهي وصل متحركة مجرى السواكن بدلالة أنّه لا شيء في هذه الحروف يكون متحركا وصلا إلّا إيّاها، وما كان منها متحركا غيرها كان رويّا، ولم يكن وصلا كالواو في قوله:
وعينيك تبدي أنّ قلبك لي دوي
والياء في:
وإنّما يبكي الصّبا الصّبيّ
وكقوله:
فقد كان مأنوسا فأصبح خاليا كذلك يكون في قولهم: بهي وعليهي، وإن كانت متحركة بمنزلة الألف فتتبع الياء أو الكسرة كما تتبعها الألف.
وليست الهاء في قول القائل:
[الحجة للقراء السبعة: 1/74]
شلّت يدا فارية فرتها... وفقئت عين التي أرتها
كالتي في قوله:
غدوة أجمالها:
وإنّما هي بمنزلة التاء فيما أنشده أبو زيد:
ألا آذنتني بالتّفرّق جارتي... وأصعد أهلي منجدين وغارت
فالألف في الأبيات تأسيس، وليست بردف، وإن كان قد لزم الراء التي لا تلزمه [في الأبيات]، ألا ترى أنّه لو قال: عاجت مع غارت كان مستقيما.
ومما يدل على أنّ الهاء وإن كانت متحركة لم تخرج بحركتها عن الخفاء ومشابهة الألف والياء الساكنة: أنّهم لم
[الحجة للقراء السبعة: 1/75]
يعتدّوا بها وهي متحركة، فصلا، بل جعلوا ثباتها كسقوطها.
وذلك قولهم: يريد أن يضربها وينزعها وبيني وبينها، فأمالوا الفتحة التي قبل الهاء كما يميلها إذا قال: يريد أن ينزعا، وعلى هذا قالوا: مهاري فأمالوا فتحة الميم كما يميل إذا قال ماري، فإذا لم يعتدّ بها متحركة في هذا الموضع، فأن تجرى مجرى الألف في دارهم وعليهم وبهم، فتقرّب من الياء أو الكسرة بأن تكسر بعد كل واحد منهما، أسهل من ذلك.
ويدل على ذلك أيضا أنّ من قال: ردّ أو ردّ إذا قال:
ردّها، اجتمعوا على فتح الدال فيما حكى من يوثق به، كما يجمعون على فتحها إذا لم يحل بينها وبين الألف شيء في ردّا، فإذا صنع بها هذا وما ذكرته قبل، علمت أن إجراءها مجرى الألف في السكون أسهل. ومن هاهنا كان الوجه في القراءة:
فيه هدىً [البقرة/ 2]، وخذوه فغلّوه ثمّ [الحاقة/ 30 - 31] أن يحذف الحرف اللّين اللاحق للهاء، لأن الاعتداد في هذين الموضعين لم يقع بها متحركة وفي «أجمالها» لم يقع الاعتداد بحركتها فيحصل من اعتبار كلا الموضعين أنّك كأنّك جمعت بين ساكنين.
فإن قال: فما وجه حذف حرف الليّن بعد الميم واختياره على وصلها بحرف اللين؟ فإن وجه ذلك أن هذه الحروف قد تستثقل فتحذف في مواضع لا يحذف فيها غيرها، ألا ترى أنّهم حذفوا اللام من قولهم: ما باليت به بالة، وحانة. ولا تجد هذا
[الحجة للقراء السبعة: 1/76]
الحذف إلا فيه وفيما جانسه، وأجمعوا على حذف ما انقلب عن اللام في نحو مرامى في الإضافة. وحذفوا الياء عندنا من نحو: جوار وغواشٍ [الأعراف/ 41] وحذفوا الياء والواو من نحو: حنيفة، وشنوءة في الإضافة، وجعلوا الأصل في تحيّة فيها بمنزلتهما، ورفضوا فيها الإتمام الذي هو في الأصل فيمن قلب فقالوا: أسيدي، وحذفوهما في الفواصل والقوافي. ولما استمر ذلك فيها وكثر، جعلوا ما كان اسما بمنزلة غيره في استجازة حذفها. قال:
لا يبعد الله أصحابا تركتهم... لم أدر بعد غداة الأمس ما صنع
وقال:
لو ساوفتنا بسوف من تحيّتها... سوف العيوف لراح الرّكب قد قنع
رواية الكتاب: ساوفتنا، وقد روي: لو ساعفتنا،
[الحجة للقراء السبعة: 1/77]
السوف: الشمّ والعيوف تسوف ولا تشرب. يريد: صنعوا قنعوا. وقال:
يا دار عبلة بالجواء تكلم
فكما حذفوهما في هذه المواضع، كذلك حذفوهما في عليهم ونحوه، للخفّة في اللفظ، وأمن اللبس، ألا ترى أن هذه الميم إنّما تلحقها الألف أو الواو أو الياء المنقلبة عنها [و] الألف لا تحذف كما تحذفان، لأنّ من قال «ما صنع» يريد صنعوا قالوا: ومن قال «تكلم» يريد: تكلمي. يقول:
خليليّ طيرا بالتفرّق أوقعا
فلا يحذف الألف كما حذف الواو والياء، ومن قال:
واللّيل إذا يسر [الفجر/ 4] وذلك ما كنّا نبغ [الكهف/ 64] قال: واللّيل إذا يغشى والنّهار إذا تجلّى [الليل/ 1 - 2] فلا يحذف الألف من الفواصل كما يحذف الياء، وكذلك لا يحذفها من القوافي في نحو:
داينت أروى، والدّيون تقضى... فمطلت بعضا، وأدّت بعضا
[الحجة للقراء السبعة: 1/78]
فكما لا تحذف ألف «بعضا» كذلك لا تحذف ألف «تقضى». فأمّا ما حذفه من قوله:
رهط مرجوم ورهط ابن المعل
فللضّرورة، والتشبيه بالياء لإقامة القافية، وليس ذلك ولا ما أشبهه ممّا يستقيم الاعتراض به. فإذا كانت هذه الميم لا تلحقها إلا الألف أو الواو، أو الياء. والألف لا تحذف، علم أنّ الذي يلحقه الحذف الواو أو الياء المنقلبة عنها من أجل الكسرة، فلم يقع لبس، وحصل التخفيف في اللفظ، ولم تخل هذه الواو أو الياء في عليهم ونحوه من أن تكون بمنزلة ما هو من نفس الكلمة، أو ممّا لحق لمعنى، فإذا كانوا قد حذفوا القبيلين جميعا، وحذفوا التي للضمير، ولم يبق في لفظ الكلمة المحذوف منها شيء يدلّ عليها، كان أن يحذف من نحو: «عليهم» للدلالة عليه أحسن وأولى.
فإن قلت: فإذا حذفت الواو والياء اللتان كانتا تتصلان
[الحجة للقراء السبعة: 1/79]
بالميم فلم حذفت حركة الميم في الوصل من نحو: عليهم وبهم؟ قيل: لمّا حذفت الواو والياء للتخفيف ولما قام على لزوم حذفهما من الدلالة، كره أن تبقى الكسرة أو الضمة، لأنّهما قد يكونان بمنزلة الياء والواو، في باب الدلالة عليهما، ألا ترى أنّك تقول في النداء: يا غلام أقبل، فيكون ثبات الكسرة كثبات الياء وتقول: أنت تغزين يا هذه، فتشمّ الزاي ليكون ذلك دلالة على الواو المحذوفة، فكما كانتا في هذه المواضع بمنزلة الياء والواو، كذلك لو لم تحذفا مع الميم من عليهمي وعليهمو كان إثباتهما بمنزلة إثباتهما، ودالّا عليهما، فيصير بإثباتهما كأنّه لم يحذف الحرفين، كما كان إثباتهما حين ذكرتا بمنزلة إثبات الحرفين.
ويدلّ على وجوب إسكان الميم أنّ الحركة لو أثبتت، ولم تحذف كان فيها استجلاب بإثباتهما للمحذوف، ألا ترى أن الضمة والكسرة إذا ثبتتا قد يشبعان فيلحقهما الواو والياء، فمن إشباع الضمة قول الشاعر- أنشده أحمد بن يحيى-:
وأنّني حوثما يسري الهوى بصري... من حوثما سلكوا أثني فأنظور
[الحجة للقراء السبعة: 1/80]
ومن إشباع الكسرة:
لما نزلنا نصبنا ظلّ أخبية... وفار للقوم باللحم المراجيل
فلو أتيت ما يجلبهما في بعض الأحوال كان ذلك كالنقض لما قصد من التخفيف بحذفهما. وقد جرت الفتحة في ذلك مجرى أختيها، قال ابن هرمة:
وأنت من الغوائل حين ترمى... ومن ذمّ الرجال بمنتزاح
وإذا أسكن أمن هذا، ألا ترى أنهم لم يصلوا القوافي الساكنة، ومن ثم كانت الهاء رويّا في: «فرتها» ولم تكن وصلا كما كانت إيّاه في: «أجمالها».
فإن قلت: فهلّا أثبتت حركتها، كما أثبتت حركة الهاء في
[الحجة للقراء السبعة: 1/81]
عليه ونحوه بعد حذف حرف اللين، ليتفقا في التحرك، كما اتفقا في حذف حرف اللين منهما وكما اتفقا في الحذف في الوقف. قيل: الفصل بينهما أن الميم في عليهم، وعليكم، ودارهم، وبهم، لا يخلو ما قبلها من أن يكون ضما أو كسرا فما يستثقل لازم له، والهاء في الإفراد لا تكون كذلك، لأن ما قبلها قد يكون مفتوحا في نحو: رفعت حجره، وقدت جمله.
وقد يكون ساكنا في نحو: عصاه، وعليه، واضربه، فهذه الهاء إذا تصرف ما قبلها هذا التصرف، علمت أنّها لا تكون بمنزلة هاء الجميع التي لا تخلو من الضمة والكسرة وهما يستثقلان فخفّف بحذف الحركة وإلزامها ذلك كما خفّف نحو: عضد وكتف، ولم يخفّف نحو: جمل.
فأمّا اتّفاقهما في الحذف في الوقف فلأنّهما قد حذفا في الوصل في: عليهم وعليكم، فلما اتفقا في الحذف في الوصل وكان الوقف يحذف فيه ما لا يحذف في الوصل نحو الحركات، وجب أن يلزم فيه الحذف ما يحذف في الوصل، لأنّ الوقف موضع تغيير.
وممّا يقوّي حذف هذه الحركة من الميم في «عليهم» ونحوه أنّها لو أثبتت ولم تحذف لأدّى ذلك إلى اجتماع أربع متحركات وخمس، وذلك ممّا قد كرهوه حتى لم يأخذوا به في أصول أبنيتهم، إلا أن يكون قد حذف منه شيء، ولا في أوزان الشعر إلّا أن يلحقه ذلك أيضا، وقد رفضوا أن تجتمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/82]
خمس متحركات في شيء من أوزان الشعر. ومن ثمّ تعاقبت السين والفاء في مستفعلن التي هي عروض البيت الأول من المنسرح، لأنّهما لو حذفا جميعا وقبلها تاء مفعولات لاجتمع خمس متحركات، فلما كان يؤدّي إلى ما قد تركوه، واطّرحوه، حذفوا الحركة فيه.
ألا ترى أنهم تركوا الابتداء بأنّ الثقيلة المفتوحة لما كان يؤدي إليه من اجتماع حرفين لمعنى وتركوا أن يخرموا من أول الكامل كما خرموا من أول الطويل والوافر ونحوهما لما كان الخرم فيه يؤدّي إلى الابتداء بالساكن؟ فكذلك حذفت الحركة في الميم من «عليهم» ونحوه لمّا كان يؤدّي إلى ما قد رفضوه في كلامهم من توالي المتحركات، وجعل غير اللازم في هذا كاللازم، كما جعل مثله في: فعل لبيد، و (لا تناجوا) ومررت بمال لك، ونحو ذلك.
الحجة لحمزة في قراءته (عليهم):
فأمّا قراءة حمزة: (عليهم) وأختيها بالضم فليس على أنّه لم يتبع الهاء الياء مع المشابهات التي بينهما، ولكنّه لمّا وجد هذه الياءات غير لازمة، وما كان غير لازم من الحروف فقد لا يقع الاعتداد به في الحكم وإن ثبت في اللفظ، وكانت الياء
[الحجة للقراء السبعة: 1/83]
بمنزلة الألف في قرب المخرج والاجتماع في اللين وإبدال إحداهما من الأخرى في نحو:
لنضربن بسيفنا قفيكا
أجرى الياء مجرى الألف، فضمّ الهاء بعد الياء، كما يضمّها بعد الألف، وقوّى ما رآه من ذلك عندنا أن سيبويه حكى عن الخليل: أن قوما يجرونها مع المضمر مجراها مع المظهر، فيقولون: علاك وإلاك. فهذا يقوّي أن الياء لمّا لم تلزم لم يكن لها حكم اللازم، كما أن الواو في ضوء إذا خففت الهمزة فلم تلزم لم يلزمه القلب، كما أن التاء في قائمة وطويلة لمّا لم تلزم لم يكن لها حكم اللازم، والياء لما كانت أقرب مخرجا إلى الألف من الواو إليها أبدلت هي من الألف، كما أبدلت الألف منها، ولم تبدل الألف من الواو على هذا الحدّ.
ألا ترى أنهم قالوا: حاحيت، وعاعيت، وقالوا في النسب إلى طيئ: طائيّ وفي الحيرة: حاريّ، وفي زبينة: زباني،
[الحجة للقراء السبعة: 1/84]
وذهب سيبويه في آية وغاية إلى أن الألف بدل من الياء الساكنة التي كانت في أيّة ولم نعلم الألف أبدلت من الواو على هذه الصورة إلّا قليلا كياجل في بعض اللغات.
فأمّا ما يقوله بعض البغداذيّين من أن الألف في داويّة بدل من الواو في دوّيّة فقد يمكن أن يكون الأمر على خلاف ما ذهب إليه، وذلك أنه يجوز أن يكون بنى من الدوّ فاعلا كالكاهل والغارب، ثم أضاف إليه على من قال: حانيّ، ويقوّي ذلك أن أبا زيد أنشد:
والخيل قد تجشم أربابها الشّقّ * وقد تعتسف الداويه فإن قلت: إنه قد يمكن أن يكون خفف ياء النسب في الداويه لأنّها قد تخفّف في الشعر، كما أنشده أبو زيد:
بكّي بعينك واكف القطر... ابن الحواري العالي الذكر
[الحجة للقراء السبعة: 1/85]
فإن الحمل على القياس والأمر العامّ أولى، حتى يحوج إلى الخروج عنه أمر يضطرّ إلى خلافه، ويخرج عن الشائع الواسع.
وممّا يؤكد ذلك أنّ أبا الحسن قال: زعم أبو زيد أنّه لقي أعرابيا فصيحا: يقول: ضربت يداه، ووضعته علاه. وحكى أبو عثمان عن أبي زيد أنّه سأل الخليل عمن قال: رأيت يداك، فحمله على هذا الوجه.
ومن الدلالة على صحّة ما اعتبره حمزة في ذلك، أنّ الياء في الأواخر في غير هذا الموضع، وقعت موضع الألف في الوصل، والوقف، وذلك لغة طيئ فيما حكاه عن أبي الخطّاب وغيره من العرب، وذلك قولهم في أفعا: أفعي فكما جرت الياء مجرى الألف في هذا عندهم، كذلك أجرى الياء في «عليهم» مجرى الألف، معها، كما ضمّها مع الألف، إذ كانت الياء في حكمها، وإن لم تكن من لفظها.
وتوافق هذه اللغة في إبدال الياء من الألف قول ناس في
[الحجة للقراء السبعة: 1/86]
الإضافة إلى الياء: (يا بشرى). و:
سبقوا هويّ وأعنقوا...
وممّا يثبت هذه اللغة التي استشهدنا له بها من القياس، أنّها على قياس ما اجتمع عليه أهل الحجاز وغيرهم من قيس، وذلك أن بني، تميم يبدلون من الياء الهاء في الوقف في «هذه» فإذا وصلوا قالوا:
فهذي شهور الصيف..
كما أن ناسا يقولون: أفعي في الوقف، فإذا وصلوا قالوا:
رأيت الأفعى، فاعلم.
[الحجة للقراء السبعة: 1/87]
وجعلت طيئ الحرف في الوصل والوقف ياء كما جعل أهل الحجاز وغيرهم من قيس آخر الكلمة في الوصل والوقف هاء فقالوا: هذه وهذهي أمة الله، وقالوا في الوقف: هذه، فاجتمعوا على إبدال الياء هاء كما فعلت طيئ ذلك بالألف فيهما. فإذا عضد ما ذكرنا من السماع الذي وصفناه من القياس، ثبت بذلك توجّه هذه اللغة وتقدّمها، وساغ من أجل ذلك التشبيه بها والترجيح لها على غيرها.
فإن قلت: فقد قال بعضهم: أفعو، فأبدل الواو من الألف، كما أبدل الياء منها. فالقول أن إبدال الواو منها ليس بقويّ من جهة القياس قوة إبدال الياء لما تقدم ذكره، وليس هو أيضا من طريق السماع في كثرة إبدال الياء منها، لأنّ الياء يبدلها من الألف في الوقف فيما حكاه عن الخليل وأبي الخطّاب فزارة وناس من قيس، وفي الوقف والوصل يبدلها منها طيّئ والواو يبدلها منها بعض طيئ، فما كثر في الاستعمال وعضده قياس لم يكن كما كان بخلاف هذا الوصف. على أن مشابهة بعض هذه الحروف لبعض لا تنكر، وإن كانت الألف أقرب إلى الياء منها إلى الواو.
فإن قلت: فإن الياء قد اجتمعت مع الواو في أشياء لم تجتمع الألف فيها معها، كوقوعها في الردف في نحو: صدود وعميد، وامتناع الألف من مشاركتهما، وكاجتماعهما في الإدغام في سيّد ونحو ذلك. فالقول في ذلك أن الشعر يعتبر
[الحجة للقراء السبعة: 1/88]
فيه التعديل في الأجزاء، لما يدخله من الغناء والحداء، فلمّا كان المدّ في الألف أكثر من المدّ الذي في كل واحد منهما لم تجتمع معهما الألف في الردف، كما لم تقع واحدة
منهما مع الألف في التأسيس. ويدلّك على أن امتناع الألف في الاجتماع معهما في الردف لذلك، أنّ الفتحة لمّا لم تكن في مدّ الألف، لم يمتنع أن تقع قبل حرف الروي مع الضمة والكسرة في نحو:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق... تفليل ما قارعن من سمر الطرق
إذا الدليل استاف أخلاق الطرق... ألّف شتّى ليس بالرّاعي الحمق
ألا ترى أن الفتحة لمّا خالفت الألف فيما ذكرنا لم تمتنع في قول أبي الحسن من أن تجتمع مع الضمة والكسرة. ومما يدلّك على زيادة المدّ في الألف، استجازتهم تخفيف الهمزة بعدها في هباءة والمسائل وجزاء أمّه، ولم يفعلوا ذلك بها مع الواو والياء. ولكن قلبوها إلى لفظها في: مقروّ
[الحجة للقراء السبعة: 1/89]
والنسيّ. ومن ثم استجاز يونس إيقاع الخفيفة بعدها في فعل الاثنين وجماعة النساء، وقرأ بعضهم فيما روي لنا: ومحياي ومماتي [الأنعام/ 162].
وأما امتناعها من الإدغام وجوازه فيهما فإن إدغامها لم يجز في واحدة منهما لما فيها من زيادة المد: ألا ترى أن الصاد والسين والزاي لم يدغمن في الطاء والتاء والدال، ولا في الظاء والثاء والذال، لما فيهنّ من زيادة الصوت التي ليست في هذه الستة وهو الصفير، وأدغمن فيهنّ. ولم يجز إدغام الياء والواو في الألف لأنها لا تكون إلا ساكنة والمدغم فيه تلزمه الحركة، ولأن الحروف المجانسة لها يكره فيها الإدغام.
ومما يقوّي قراءته بالضم في هذه الحروف أنّه قد اعتبر في بعض الحروف المنقلبة حكم المنقلب عنه، ألا ترى أن الألف إذا كانت منقلبة عن الياء قرّبت منها فصارت مشابهة لها، ولا يفعل بها ذلك في الأمر العام إذا كانت منقلبة عن غيرها، وكذلك هذه الياء في عليهم إذا كانت منقلبة عن الألف جعلت
[الحجة للقراء السبعة: 1/90]
بمنزلة الألف فضمّت معها الهاء ضمك إيّاها مع الألف، كما قرّبت الألف من الياء لمّا كانت منقلبة عنها. وقد أريتك فيما تقدم أن المقرّب من الحروف قد يكون في حكم الحرف المقرّب منه عندهم بدلالة قولهم اجدرءوا واجدمعوا، وإبدالهم تاء الافتعال مع المقرب إبدالهم إياها مع الحرف المقرّب منه.
ومما يؤكد ذلك أنّهم قالوا. رويا وروية ونوي فجعلوا [حكم الواو] حكم الحرف المنقلب عنه، فلم يدغموه في الأمر العام الشائع، كما لم يدغموا في هذه الياء ما الواو بدل منه، فكذلك يكون حكم الياء في عليهم حكم الحرف المنقلب عنه.
ومن ذلك أنهم قالوا: بيس فلم يحقق الهمزة، وأقرّ مع ذلك كسرة الباء فيها، كما كان يكسرها لو حقق الهمزة، أفلا ترى أنّه جعل حكم الحرف المغير حكمه قبل أن يغيره، فكذلك يضم الهاء مع الياء المنقلبة عن الألف، كما يضمّها مع الألف.
ومن تشابه الياء والألف أنّ الياء قد أجريت مجرى الألف، فأسكنت في موضع النصب، فصارت في الأحوال الثلاث على صورة واحدة، كما أنّ الألف في مثنّى ومعلّى كذلك، وقد كثر هذا في الشعر، وجاء في الكلام منه أيضا.
وذلك قولهم: أيادي سبا، وأيدي سبا، وبادي بدا وبادي بدي
[الحجة للقراء السبعة: 1/91]
وقالي قلا، ومعدي كرب. فالأول من هذه الأشياء في موضع فتح، لأنّه لا يخلو من أن يكون ككفّة كفّة أو كفّة كفّة. فأمّا قولهم: لا أكلمك حيري دهر، فإن شئت قلت: إن الياء للإضافة فلما حذفت المدغم فيها بقيت الأولى على السكون كقوله:
............. أيهما ... عليّ من الغيث استهلّت مواطره
وإن شئت قلت: إنّه لمّا حذف الثانية جعل الأولى كالتي في أيدي سبا، ولم يجعله مثل رأيت يمانيا. وإن شئت جعله فعلي وكان في موضع نصب.
فإن قلت: إنّه قد قال: إن هذا البناء لا يكون إلّا بالهاء فإن شئت جعلته مثل انقحل، وإن شئت قلت:
إن الهاء حذفت للإضافة كما حذفت معها حيث، لم تحذف مع غيرها، وأن تجعلها للنسب أولى، لأنّهم قد شدّدوها. وكما
[الحجة للقراء السبعة: 1/92]
شبّهت الياء بالألف في هذا، كذلك شبّهت الألف بالياء في نحو ما أنشده أبو زيد:
إذا العجوز غضبت فطلّق... ولا ترضّاها ولا تملّق
فهذا إنما هو على تشبيه الألف بالياء، ألا ترى ما قدّر من إثبات الحركة في «ألم يأتيك... » وحذفها للجزم لا يستقيم هاهنا لمنع اللام بانقلابها ألفا من ذلك، من حيث لو لم يقدّر ثبات الحركة لصحّ الحرف ولم ينقلب كما لم ينقلب في نحو كي وأي ولو وأو. فأمّا قول الشاعر:
وتضحك مني شيخة عبشمية... كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا
فإنه ينشد تري وترى. فمن أنشده تري بالياء كان مثل قوله: إيّاك نعبد [الفاتحة/ 4] بعد الحمد لله، وقد يكون على هذا قول الأعشى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/93]
حتى تلاقي محمدا
بعد قوله:
فآليت لا أرثي لها من كلالة.
وقد تكون على: هي تفعل، إلّا أنّه أسكن اللام في موضع نصب. ومن أنشد: كأن لم ترى، كان مثل لا ترضّاها.
فإن قلت: فلم لا يكون على التخفيف على قياس من قال: المراة والكماة. قيل إن التخفيف على ضربين:
تخفيف قياس وتخفيف قلب على غير القياس وهذا الضرب حكم الحرف فيه حكم حروف اللين التي ليست أصولهن الهمز، ألا ترى أن من قال: أرجيت قال: وآخرون مرجون [التوبة/ 106] مثل معطون، ومن لم يقلب جعلها بين بين، فكذلك: «لم ترى» إذا لم يكن تخفيفه تخفيف قياس كان كما قلنا، فلا يجوز لتوالي الإعلالين ألا ترى أنّهم قالوا: طويت وقويت وحييت فأجروا الأول في جميع ذلك مجرى العين من
[الحجة للقراء السبعة: 1/94]
اخشوا، وقالوا: نوا وحيا، فجعلوه بمنزلة قطا، وقالوا: آية. فإن قلت: فقد قالوا: استحيت. فإن ذلك من النادر الذي لا يحمل عليه. فإن قلت: فلم لا تجعله مثل لم يك ولم أبل كأنه حذف أولا اللام للجزم، كما حذف الحركة من يكون، ثم خفف على تخفيف الكماة والمراة، وأقرّ الألف كما أقرّ في «لا ترضّاها». فإن ذلك يعرض فيه ما ذكرنا من توالي الإعلالين، ويدخل فيه شيء آخر لا نظير له، وهو أنّه إذا حذف الألف من «لم ترى» على هذا الحدّ، فقد حذف للجزم حرفين، وليس لم يك ولم أبل كذلك، لأنّه إنّما حذف فيه حركة وحرف. وممّا يبعد التخفيف في «ترى» على حد الكماة والمراة، أنّهم قد حذفوا الألف من هذه الكلمة في قولهم: ولو تر أهل مكّة، لكثرة الاستعمال، كما حذفوها في قول من قرأ:
حاش للّه [يوسف/ 31 - 51]. فإذا حذف الألف كما حذف من حاش لله وجب أن تكون العين في حكم الصحيح والتخفيف القياسي ليكون كحاش لله.
الحجة لابن كثير في قراءته: (عليهمو ولا)
وأما قول ابن كثير: «عليهمو ولا الضالين» فوجهه أنّه أتبع
[الحجة للقراء السبعة: 1/95]
الياء ما أشبهها، والذي يشبهها الهاء، وترك ما لا يشبه الياء والألف- وهو الميم- على أصله وهو الضم، كما أنّ الذين قالوا: شعير، ورغيف، ورجل جئز وماضغ لهم، وشهد.
ولعب أتبعوا الفتحة الكسرة في جميع ذلك لقربها منها كقرب الألف من الياء، وشبهها بها. ولم يتبعوا الفتحة الضمّة فيقلبوها ضمّة في رءوف ورؤف كما أتبعوا الفتحة الكسرة في جئز وشعير حيث لم تقرب الواو من الألف قرب الياء منها، فكذلك أتبع الهاء الياء لما قرب منها، ولم يتبعها الميم لما لم تقرب منها، كما لم يتبع الفتحة في رءوف الضمة حيث لم تقرب الفتحة من الضمة قربها من الكسرة.
فأما قولهم: مغيرة ومغير فليس على حدّ شعير ورغيف، ولكن على قولهم. منتن في منتن وأجوءك في أجيئك.
ومما يقوّي قوله في ذلك، أنّهم قالوا: قرأ يقرأ، وجأر يجأر، فأتبعوا الهمزة وأخواتها ما جانسها من الحركات، وما كان من حيزها، وهي الفتحة، ولم يفعلوا ذلك مع الحروف المرتفعة عن الحلق. حيث لم يقربن من الفتحة قرب الحلقيّة منها.
فكذلك أتبع في قوله: (عليهمو ولا) الياء ما قرب من الياء، وهو الهاء، ولم يتبعه ما لم يقرب منها وهو الميم.
[الحجة للقراء السبعة: 1/96]
ومثل قوله: (عليهمو) - في أنّه أتبع الياء ما يشبهها، وترك ما لا يشبهها على أصله- قولهم (يصدر) فقرّب الصاد من أشبه الحروف من موضعها بالدال وهو الزاي. ألا ترى أنهما يجتمعان في الجهر؟ فلما أراد تقريب الأول من الثاني، ولم يجز ذلك بالإدغام لما يدخل الحرف من انتقاص صوته، قرّبه من هذا الوجه الذي قرّب منه دون الإدغام.
ولو كان موضع الدال في (يصدر) حرف آخر لا يقرب من الصاد قرب الدال منها- كاللام والراء ونحوهما- لم تغيّر الصاد له كما غيرت من أجل الدال لقربها منها، فكذلك قرّب الهاء في عليهمو من الياء، لقربها منها ولم يغير الميم لبعدها منها، كما لم تقرّب الصاد من الزاي مع اللام ونحوها، لمّا لم يقربن منها قربها من الدال.
فإن قلت: هلّا رغب عن ذلك لما يعترض في قراءته من ضم بعد كسر، والضم بعد الكسر في كلامهم مكروه؟ قيل له: إن الضم بعد الكسر على ضربين، أحدهما: أن يكون في بناء الكلمة وأصلها، كالضم بعد الفتح في عضد، (والآخر: أن يكون عارضا في الكلمة غير لازم لها)، فما كان من الضرب الأول فهو مرفوض في أبنية الأسماء والأفعال كما كان فعل في أبنية الأسماء مرفوضا. وما كان من الضرب الثاني فمستعمل، نحو قولهم: فرق، ونزق في الرفع، وقالوا في
[الحجة للقراء السبعة: 1/97]
الوقف على الرّدء في الرفع في قوله: فأرسله معي ردءاً يصدّقني [القصص/ 34] هو الرّدؤ مثل الرّدع، كما قالوا في البطء: من البطىء فحرّكوه- كراهة لالتقاء الساكنين- بالحركة التي كانت تكون للإعراب، كما قال:
... إذ جدّ النّقر.
وقد أعلمتك فيما تقدّم أن كثيرا ممّا لا يلزم الكلمة لا يقع الاعتداد به. فإذا كان الأمر في وقوع الضمة بعد الكسرة على ما ذكرنا لم يصحّ أن يرغب عن قراءته (عليهمو ولا) من حيث لحقت فيها ضمة بعد كسرة. لأن هذه الضمة تشبه ما ذكرنا. من ضمة الإعراب وما استعملوه في الوقف، وذلك أنّها غير لازمة، ألا نرى أنّ الكسرة في الهاء إنّما تكون إذا جاورت الكسرة أو الياء، فإذا زالت هذه المجاورة زالت الكسرة. كما أن ضمّة الإعراب في قولهم: هذا نزق يا فتى إذا زال عاملها زالت. وكما أن الرّدؤ إذا زال الوقف فيه في الرفع زالت الضمة
[الحجة للقراء السبعة: 1/98]
فإن قلت: فإنّ قوما كرهوا أن يقولوا: هو الرّدؤ في الوقف على المرفوع، فقالوا: هو الرّدىء، وقالوا هذا عدل، لكراهة الضمّة بعد الكسرة. فهلّا كره (عليهمو) كما كره هؤلاء ما ذكرت. قيل له: إنّ هؤلاء إنّما عدلوا عن الضمة إلى الكسرة حيث وجدوا عنها مندوحة، بأن أتبعوا الساكن الحركة التي قبله، كما أتبعوه الحركة التي قبله في مدّ ونحوه. والذي يقرأ (عليهمو) لو لم يكسر الهاء هاهنا لم يشاكل بها الياء، والمشاكلة بها واجبة، لما تقدّم من الحجة في ذلك. ولو لم يضمّ الميم لأتبع الياء والكسرة في عليهم ما لا يشبهها من كسرة الميم لو كسرها، وكأنّ ذلك إنّما يجوز على نحو مغيرة وأجوءك، ونحو ذلك ممّا ليس بالكثير في الاستعمال ولا المتّجه في القياس، ألا ترى أنّ القياس تقرير هذه الحركات على أصولها، ومن ثمّ لم يجز في مدير ومغير ما جاز في مغيرة من كسر الأوّل. على أن ما ذكرته من قولهم: هو الرّدء، يشبه ألّا يكون الأكثر، لأنّه قال: وأمّا ناس من بني تميم فيقولون:
هو الرّدىء، كرهوا الضمّة بعد الكسرة، لأنه ليس في الكلام فعل، فتنكّبوه لذلك واستنكروه.
قال أبو علي: والقياس قول الأكثر: لأنّ هذه الحركة في أنّها لا تلزم كقولهم: نزق في الرفع، فكما لا مذهب عن ذلك في الرفع فكذلك ينبغي أن يكون الوقف لاجتماع الوقف مع الإعراب في أنّه لا يلزم الكلمة، فلا ينبغي أن يسام ترك القياس
[الحجة للقراء السبعة: 1/99]
على الأكثر في الاستعمال والأصحّ في القياس إلى ما كان بخلاف هذه الصفة. وكأنّ هؤلاء الذين قالوا: هذا الرّدىء، كراهة الضمة بعد الكسرة شبّهوا الحركة التي تشبه حركات الإعراب بحركة البناء التي لا تفارق، وليس هذا بالمستقيم. ألا ترى أنّهم قالوا: يا زيد العاقل، ولا رجل صاحب امرأة عندك؟
فجعلوا الحركة المشابهة للإعراب بمنزلة الإعراب. وكذلك ينبغي أن تجعل الحركة المشابهة للإعراب في الوقف بمنزلة الإعراب فلا يكره فيه هو الرّدؤ، كما لم يكره فرق، ولا يتبع الأول، لأن إتباع الحركة ليس بمستمرّ استمرار حركة الإعراب التي الحركة في الرّدؤ في قياسها ومشابهة لها من حيث وصفنا.
على أنهم قالوا في الوقف: رأيت الرّدىء، ومن البطؤ، ورأيت العكم، ورأيت الحجر، فأتبعوا الأوسط تحريك الأول، فكذلك يكون قولهم: هذا الرّدؤ على هذا الحدّ، لا لكراهة الضمّة بعد الكسرة، فكما لا يكون في رأيت الحجر إلّا على الإتباع لما قبله، كذلك لا يكون في هذا عدل إلا كذلك، لا لكراهة الضمّة بعد الكسرة. ومثل قوله (عليهمو ولا الضالين) في أنّه جعل حركة البناء بمنزلة الإعراب في وقوع الضمّة بعد الكسرة لمشابهتها حركة الإعراب في أنّها لا تلزم، ويتعاقب على الموضع غيرها قول العرب من غير أهل الحجاز في ردّ، وعضّ، وفرّ، واستعدّ ألا ترى أنهم أدغموا في الساكن المبنيّ كما أدغموا في المعرب نحو: هو يردّ ويستعدّ، لمّا كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/100]
المبنيّ تتعاقب عليه الحركات وإن كن لغير الإعراب كالتحريك لالتقاء الساكنين، وإلقاء حركة الهمزة عليه في التخفيف، وإلحاقهم الثقيلة أو الخفيفة به، والتحريك للإطلاق.
أدغموا كما أدغموا المعرب لمشابهته له في تعاقب هذه الحركات عليه، فكما صار غير المعرب بمنزلة المعرب لاجتماعهما في الشّبه الذي ذكرنا، كذلك استجاز أن يوقع الضمة بعد الكسرة في (عليهمو) كما وقعت بعدها في المعرب، لمشابهته المعرب لتعاقب الحركات عليه، وإن لم يكن لاختلاف عامل.
والدليل على أن الإدغام في باب ردّ ونحوه إنما هو لما ذكرناه من مشابهته المعرب لتعاقب الحركات عليه- وإن كانت لغير الإعراب- امتناعهم من الإدغام حيث عري من هذه المشابهة التي وصفنا. وذلك قولهم: رددت، ورددنا، ويرددن.
فالذين أدغموا ردّ في الأمر بيّنوا هذا الذي وصفناه من التضعيف المتّصل بالضمير لمّا كان موضعا لا تصل الحركة إليه. فأمّا قول بعضهم ردّت وردّنا يريدون. رددت ورددنا فمن النادر الذي إن لم يعتدّ به كان مذهبا. لقلته في الاستعمال. وأنّه غير قويّ في القياس. فهو كالمقارب: لليجدّع.
[الحجة للقراء السبعة: 1/101]
ومن حجّة من قرأ (عليهمو) أن كسرة الهاء أصلها الضمة، وإنّما أبدل منها الكسرة للاعتلال من أجل الإتباع، كما أن الكسرة في التقاضي والترامي والتداعي ونحو ذلك أصلها الضمّ، من حيث كان مصدر تفاعل. فكما أن هذه الكسرة في حكم الضمّة، والضمّة التي هي الأصل تراعى في المعنى بدلالة صرفهم له وامتناعهم من أن يجعلوه من باب حذار: جمع حذرية وغواش، كذلك تكون الضمّة التي هي الأصل في (عليهمو) مراعاة في المعنى. فلا ينبغي أن يكره ذلك كما كره فعل، ولا يكون بمنزلته، كما لم يكن الترامي بمنزلة الغواشي والحذاري، لمّا كان الأصل مراعى في ذلك.
وإذا كانت الضمّة المرفوضة في الاستعمال مراعاة في اللفظ للدليل الذي ذكرنا، فأن تراعى الضمة في (عليهمو) أجدر، لأنّها لم ترفض كما رفضت في باب التفاعل، ألا ترى أنّ أهل الحجاز يستعملونه، وأنّ من قال: بهو، (وبدارهو) قال: (عليهمو)، ومن قال: (عليهمو) ضمّ إذا عدا الياء والكسرة.
ومما يقوّي ذلك أنهم قد اعتبروا الحركات التي هي أصول في غير هذا الموضع، وإن لم تكن في اللفظ مستعملة، فجعلوا الحكم لها. وذلك قولهم: عدت المريض، وقلت الحق، فعدّوه إلى المفعول، وإن كان اللفظ على فعلت، لأن
[الحجة للقراء السبعة: 1/102]
الأصل فعلت. ولولا أن تلك الحركة مراعاة معتبرة لم يتعدّ هذا النحو: ألا ترى أنا لم نعلم شيئا على فعل جاء متعديا إلى المفعول.
ومما يؤكّد ذلك أن النقل وقع بالزيادة منه وذلك نحو:
أقلته إذا جعلته يقول، وأبعت الفرس، وأخفت زيدا. وممّا يدلّ على ذلك أنّهم قالوا: يسع، ويطأ، فحذفوا الواو التي هي فاء كما يحذفونها في باب يعد ويزن، لمّا كان الأصل الكسر، وإنّما فتح لحرف الحلق، فكما أن الفتحة هاهنا في حكم الكسر لمّا لم تكن الأصل، كذلك تكون الكسرة في (عليهمو) في حكم الضمّ، فلا يكون مكروها من حيث لم يجيء فعل ونحوه في أصول الأبنية إذ كان الأصل الضمّ، كما كان الأصل الكسر في يطأ ويسع ونحوه.
ومما يبيّن ذلك أن ما كان على فعل لم يذكر سيبويه منه إلا «إبلا» وإذا جمعت قربة وسدرة ونحوهما قلت: قربات وسدرات، فاستمرّ فيه توالي الكسرتين من أجل الجمع، ولم يرفض ذلك، ولم يكره كما كره في أصل المقرر قبل الجمع. فكذلك (عليهمو) لا تكره فيه الكسرة قبل الضمة من أجل إعلال الإتباع وإن كان قد كره في بناء الآحاد، كما لم يكره توالي الكسرتين في سدرات من أجل الجمع، وإن كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/103]
كره ذلك في الآحاد، لأن الضمة بعد الكسرة ليس من أصل الكلمة وإنما اجتلبه الاعتلال، كما اجتلب توالي الكسرتين الجمع.
ويؤكّد ذلك أنّهم قالوا في شقرة: شقريّ، وفي نمر نمريّ. ولم يجيء في شيء من هذا النحو إلّا فتح العين.
وقالوا: صعقيّ، فكسروا الفاء مع العين لمّا كان للاعتلال، ولم يكن من أصل البناء.
فأمّا وصل ابن كثير الميم بالواو في (عليهمو) فلأن الأصل الواو، وإنّما أتبع الياء ما يشبهها وترك ما لا يشبهها على الأصل، وكان تقرير الأصل أولى عنده من إتباع الكسرة الكسرة، لأنّ إتباع الحركة الحركة على هذا النحر ليس بالمستمرّ.
فإن قلت: فقد جاء في ظلمات وسدرات وحفنات.
قيل: هذا التحريك ليس الغرض فيه الإتباع فقط. ألا ترى أنّه يفصل به بين الاسم والصفة، وكذلك عصيّ وحليّ يفصل به بين الواحد والجميع، ولا يلزم الكسر. ومع ذلك فقد أبدل فيه ناس الفتحة من الضمة، والكسرة، فقالوا: ركبات وسدرات.
وقد أسكن المفتوح في الشعر قال لبيد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/104]
رحلن لشقّة ونصبن نصبا... لوغرات الهواجر والسّموم
وقال ذو الرمة.
أبت ذكر عوّدن أحشاء قلبه... خفوقا ورفضات الهوى في المفاصل
فكأنّه رأى ترك الحرف على أصله أولى من أن يصير به إلى ما لا يطرد. فإن قلت: فقد حكي عن الخليل وهارون، أنّ ناسا يقولون: (مردفين) وقال: فهؤلاء يقولون: مقتّلين، فقاس على قولهم. قيل: قد يمكن أن يقال: إنّ ذلك من قوله لا يدلّ على أنّه يرى القياس عليه، وإنّما أراد أنّ القياس على ما ذكر لو قيس. فأمّا اطّراده فلا يستقيم، بدلالة أن نحو مغيرة ومنتن لا يطّرد، وإنما يقتصر به على ما جاء فكذلك (مردفين).
وإن شئت قلت: إن هذا تحريك لالتقاء الساكنين، كما أن قولهم، مدّ كذلك، فيكون هذا مستمرّا على لغتهم، كما أن ردّ كذلك، وإن كان الساكن في مردّفين متقدما. وقد قال: إنّها أقل اللغات.
ولم يحذف الواو في عليهمو في الوصل كما حذفها
[الحجة للقراء السبعة: 1/105]
غيره، لأنّها الأصل، وليس إثباتها من الأصول المرفوضة المطّرحة عندهم، كالواو إذا وقعت طرفا في الأسماء وقبلها ضمة، لكنه مراد في التقدير وإن كان محذوفا من اللفظ عند قوم.
والدليل على ذلك اتّفاق الجمهور على إثباتها إذا اتّصل الضمير بها. وبذلك جاء التنزيل في قوله: أنلزمكموها [هود/ 28]. وهذا أقوى في القياس، وأشيع في الاستعمال ممّا حكاه عن يونس: من أنه يقول أعطيتكمه، لأن مواضع الضمير وما يتّصل به قد ردّت فيها أشياء إلى أصولها في غير هذا، كقولهم: والله، وحقك. فإذا وصلوه بالضمير قالوا بك لأفعلن. أنشد أبو زيد:
رأى برقا فأوضع فوق بكر... فلا بك ما أسال ولا أغاما
[الحجة للقراء السبعة: 1/106]
ويدلّ على ذلك أيضا أنّ ضمير المؤنث الذي بإزائه على حرفين، وذلك نحو عليكنّ وبكنّ. فالأول من التضعيف بإزاء الميم، والثاني بإزاء حرف اللين. فهذا مما يقوي أنّه لم يحذفه على وجه الاطّراح والرفض، إنّما حذفه للتخفيف معتدّا به في الحكم وإن كان محذوفا في اللفظ.
فأمّا ما انفرد به ورش في روايته عن نافع: من أن الهاء مكسورة والميم موقوفة، إلّا أن تلقى الميم ألف أصليّة مثل:
سواء عليهمو أأنذرتهمو أم لم تنذرهم لا يؤمنون [البقرة/ 6] فالقياس فيها إذا لقيت الألف الأصلية وإذا لقيت غيرها سواء.
وكأنه أحبّ الأخذ باللغتين مثل: (لا يألتكم) و (لا يلتكم). فإن قلت: إنّه لمّا أمن سقوطها لالتقاء الساكنين، كما تسقط إذا كانت بعدها همزة وصل، وكان المد قبل الهمزة مستحبا بدلالة أن القرّاء قد مدّوا نحو: كما آمن النّاس [البقرة/ 13] أكثر مما مدّوا: وما عند اللّه باقٍ [النحل/ 96]- ويقوي ذلك اجتلاب من اجتلب الألف بين الهمزتين في نحو (أاأنت) [الأنبياء/ 62]- فهو قول. وقال أبو الحسن: إنّما وقعت هذه القراءة بالمدّ ليفهّموا المتعلمين فيمدّوا الهمزة إذا كانت
[الحجة للقراء السبعة: 1/107]
قبلها ألف أو ياء [أو واو] نحو: حتّى إذا، ونحو: قالوا أأنت [الأنبياء/ 62] قال: والعرب تفعل هذا في حال التطريب، وإذا أراد أحدهم الرقّة والترتيل.
الحجة لاختلافهم إذا حركوا الميم لساكن يلقاها:
كان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر يضمّون الميم إذا لقيها ساكن، مثل قوله تعالى: عليهمو الذلة [البقرة/ 61]، ومن دونهمو امرأتين [القصص/ 23]، فأمّا ضمّ ابن كثير ونافع لذلك فهو على قولهما بيّن، لأنّ ابن كثير في ذلك يتبع الميم واوا تثبت في اللفظ إذا لم تلق ساكنا، وكذلك نافع في رواية الأكثر عنه، لأن من روى عنه أن الميم مضمومة، فكأنه قد روى عنه إثبات الواو، ألا ترى أنه ليس أحد يضمّ الميم ولا يتبعه الواو في نحو: عليهمو وعليهمو، فإذا لقي الواو ساكن حذفت وبقيت الميم على ضمها.
وأمّا عاصم وابن عامر فكأنهما يريان أن حرف اللين الذي يتبع الميم- الواو، دون الياء- وإن كانا قد حذفاه في اللفظ طلبا للخفة، فإذا لزم التحريك لالتقاء الساكنين ردّا حركة الأصل عندهما، وإن كانا قد حذفا الواو من اللفظ، وأثبتها ابن كثير ونافع، لأن حذف من حذفها ليس على جهة الرفض
[الحجة للقراء السبعة: 1/108]
- بدلالة أن كثيرا منهم يقولون: كنتموا فاعلين [يوسف/ 10] وعليهمو مال- فإذا احتاجا إلى التحريك ردّا حركة الأصل كما رد الجميع حركة الأصل التي هي الضم في قولهم: مذ اليوم لمّا احتيج إلى التحريك لالتقاء الساكنين، ويدل على أن حركة الساكن المحرك في التقاء الساكنين إذا كانت أصلا كانت أولى من الحركة المجتلبة لالتقاء الساكنين أن أحدا لم يقل: إليهم اثنين، [يس/ 14]، فيكسر بعد الضمّ لما لم يقل أحد عليهمي. فلولا أن حركة الأصل أولى من المجتلبة لجاز تحريك هذا النحو
بالكسر، كما حرّك غيره ما لا حركة له في الأصل. ومما يقوي تحريكهم إيّاه بالضم أنه حرف ضمير كما أن الواو في اخشوا كذلك، وكما اتّفق الجمهور على تحريك الواو في اخشووا بالضم وجعلوا مصطفو الله مثله من حيث كان مثل اخشووا فيمن قال: أكلوني البراغيث، مع أن المحرك واو، كذلك حرّكوا الميم بالضمة لأنها مع الميم أسهل منها مع الواو. ومن زعم أن تحريك ذلك بالضمّ لأنه فاعل دخل عليه قول من كسر فقال: اخشوا القوم، وقولهم: اخشي القوم، وفي غير التقاء الساكنين: ذهبت وذهبت.
ومما يقوّي تحريك الواو بالضمّ أنّ قوما شبّهوا التي لغير
[الحجة للقراء السبعة: 1/109]
الضمير بها، فقالوا: لو استطعنا [التوبة/ 42]، فحرّكوها بالضمّ. فأمّا: أو اخرجوا [النساء/ 66] وأو انقص [المزمل/ 3]، فعلى حدّ: وقالت اخرج [يوسف/ 31]، فدلّ قولهم لو استطعنا [التوبة/ 42]، وتشبيه غير الضمير بالضمير على استحكام الضمّة في الواو، كما دلّ قول من قال: منهم وعليكم وأحلامكم على استحكام الكسرة في عليهم وبهم وما أشبه ذلك.
الحجة لأبي عمرو في قراءته: عليهم الذّلّة [البقرة/ 61] ونحوه بكسر الميم:
فأمّا قول أبي عمرو: عليهم الذّلّة [البقرة/ 61] وإليهم اثنين [يس/ 14]، فتحريكه بالكسر ليس على حدّ قوله: قم اللّيل [المزمل/ 2] وأحدن الله [الإخلاص/ 1 - 2]، ولكن كأن الأصل عنده في الوصل عليهمي، فحذف الياء استخفافا، كما حذف عاصم وابن عامر ونافع في إحدى الروايتين لذلك، فلمّا حرّك لالتقاء الساكنين، أتى بحركة الأصل التي هي الكسر، كما أتى أولئك بالضمّ،
[الحجة للقراء السبعة: 1/110]
لأنّ الكسر في قوله: (عليهم الذّلّة) و (إليهم اثنين) على قوله في أنه أصل، نظير الضمّ في قول ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر، فكانت حركة الأصل أولى من أن تجتلب حركة، كما أنّ تحريك مذ بالضمّ أولى. وعلى هذا قال سيبويه: في ترخيم رادّ اسم رجل على قول من قال: يا حار، يا راد أقبل، فحرّك لالتقاء الساكنين بالحركة التي كانت للحرف في الأصل، ولم يجعله بمنزلة ترخيم إسحارّ، لأنّ الراء الأولى فيه لا حركة لها في الأصل كحركة عين رادّ فأتبع الحركة ما قبلها، لأنّ حركة التقاء الساكنين تتبع كثيرا ما قبلها، كقولهم: ردّ وعضّ وفرّ، وكقولهم: انطلق.
فإن قلت: فقد قدّمت أن حركة الإتباع لا تطرّد، ولا يقاس عليها، قيل له: ليس هذا بقياس، ولكنه مسموع، كما أن مغيرة مسموع، وكما أن حليّ وعصيّ ومردّفين كذلك، ومع ذلك فقد اطّردت هذه الحركة في قول من قال: ردّ وعضّ وفرّ والأظهر في مردّفين أنه مطّرد في بابه.
وممّا يقوّي تحريك هذه الميم بالكسر من جهة القياس، أنّهم قد أتبعوا حركة الميم الدالة على اسم الفاعل الكسر، مع أنّ ذلك يزيل صورة دلالتها على ما أريد فيها. فإذا جاز في
[الحجة للقراء السبعة: 1/111]
ذلك كان في حركة علامة الضمير التي لا تتعلق بها دلالة على معنى أجوز. وممّا يقوّي إتباع الميم في الكسر الهاء، أنّ حركة الإتباع قد جاءت عنهم مع حجز حرف بين الحركتين، وذلك قولهم: أجوءك في أجيئك ومنتن.
وأما قولهم: أنبؤك ومنحدر من الجبل، فإن قولهم:
منحدر تبعت الضمة فيه ضمة الإعراب، كقولهم: ابنم وامرو، وأخوك، وفوك، وذو مال. فأمّا قولهم: أنبؤك، فإن شئت أتبعت ضمّة العين ضمّة الإعراب مثل منحدر، وإن شئت أتبعتها ضمة همزة المضارعة، وإن كان الحرف قد حجز مثل منتن.
ومما يقوّي ذلك، أن أبا عثمان قال حدثني محبوب بن الحسن القرشي عن عيسى، قال: كان عبد الله بن أبي إسحاق يقرأ: بين المرء وقلبه [الأنفال/ 24] ويقول: رأيت مرءا وهذا مرء.
[الحجة للقراء السبعة: 1/112]
ومن ذلك أنّهم قد احتملوا من أجل إتباع الحركات ما رفضوه في غيره وذلك قولهم: يخطّف، ويكتّب، فكسروا الياء في المضارعة اتباعا لما بعدها، ولولا ذلك لم تكسر الياء، لأن من يقول: أنت تعلم لا يقول: هو يعلم.
فأمّا ما حكاه من قولهم: هو يئبى، فليس مما يعترض به لشذوذه، فإنّما الكسرة في يخطّف لاستحباب قائله للإتباع، كما أنّ من قال: ييجل، استجاز الكسر في الياء مع امتناعه في يعلم ليتوصل بذلك إلى قلب الواو ياء، فكذلك كسر فيما ذكرنا ليصل به إلى الإتباع.
قال أبو الحسن: من قال يخطّف كسر الخاء لاجتماع الساكنين ثم كسر الياء، أتبع الكسرة الكسرة وهي قبلها، كما أتبعها إيّاها وهي بعدها. وإتباع الآخر الأوّل في كلام العرب كثير، ويتبعون الكسرة الكسرة في هذا الباب. يقولون: قتّلوا وفتّحوا يريدون افتتحوا.
ومما يؤكد ذلك أن أبا الحسن قال: روى عيسى بن عمر أن بعض العرب يثقّل كل اسم أوّله مضموم إذا كان على ثلاثة أحرف، نحو: العسر، واليسر، والحكم، والرّحم. ومن الإتباع قولهم: هذا فوك ورأيت فاك، ومررت بفيك. ومثله قولهم: ذو مال، إلا أن ذو لا يضاف إلى المضمر، لمّا حذفت اللام من فم تبعت الفاء العين التي هي حرف الإعراب عندنا. فإن
[الحجة للقراء السبعة: 1/113]
أضفته إلى المتكلم، قلت: هذا فيّ ورأيت فيّ، وفي فيّ. ولا يجوز في موضع النصب فاي.
وإنما اتّفقت الألفاظ الثلاثة على لفظ واحد إذا أضاف المتكلم إلى نفسه، لأنّ حرف الإعراب ينقلب إلى الحرف المجانس للحركة التي تجب له، ألا ترى أنّه يكون في موضع الرفع واوا، وفي الجرّ ياء، وفي النصب ألفا، ثم تتبعه الفاء؟
فكذلك إذا أضافه إلى نفسه انقلبت ياء؛ لأنّ حركة الحرف الذي يلي الياء في جميع أحواله الكسر، فإذا كان كذلك وجب أن يكون ياء في الأحوال الثلاث إذا أضفته إلى نفسك كما يكون في الجرّ، لاجتماع الحركتين على لفظ واحد، وليس هذا في موضع النصب إذا أضفته إلى نفسك بمنزلة عصاي، لأنّ حرف اللين في عصاي لا ينقلب بحسب الحركة التي تجب له كما ينقلب في فيك.
فأمّا افتراق الحركتين بأن إحداهما حركة إعراب، والأخرى حركة بناء، فليس ممّا يوجب اختلافا فيما ذكرنا، كما لم يوجب في قولهم: ابنم، ألا ترى أنهم أتبعوا النون فتحة التثنية في قولهم:
[الحجة للقراء السبعة: 1/114]
ومنا لقيط وابنماه وحاجب... مؤرّث نيران المكارم لا المخبي
كما أتبعوها فتحة النصب فيما أنشده أبو زيد:
تبزّ عضاريط الخميس ثيابها... فأبأست ربّا يوم ذلك وابنما
وقد قال قائل في قولهم ابنم: إن النون إنما جعلت حركته تابعة لحركة الميم، لأنّها قد كانت تتحرك بهذه الحركات، فزيدت الميم فتبعته لذلك. وليس هذا بمستقيم، لأنّهم قد فعلوا ذلك بامرئ، ولم يحذف منه شيء، ألا ترى أنّ الهمزة في تخفيف امرئ المسكّن الفاء تكون بين بين،
[الحجة للقراء السبعة: 1/115]
ولا تحذف لتحرّك ما قبلها، فيقول: إنّ العين قد تحركت لحذف الهمزة، وجرى الإعراب عليها كما جرى على الباء من الخب. ويدلّ على بعد اعتبار ذلك، أنّهم أتبعوها الفاء فيما حكيناه عن ابن أبي إسحاق، مع أنّها لا يجوز أن تتحرك بحركة إعراب، فتحريك النون من ابنم على حدّ تحريك الفاء من المرء. على أنّهم قد قالوا: غد فحذفوا، وغدو، فأتمّوا، ولم يفعلوا به ما فعلوا بفم، وهو مثله في الزنة، وفي أن نقص مرّة وأتمّ أخرى.
وما ثبت مما ذكرناه من قولهم في فيّ يدلّ على فساد قول من قال: إن هذه الكلم معربة من مكانين. ألا ترى أنهم أتبعوا حركة البناء، كما أتبعوا حركة الإعراب في هذا وفي تثنية ابنم في قوله: وابنماه. والحركة التي تتبع الحركة على ضربين: أحدهما: إتباع حركة ليست للإعراب حركة ليست للإعراب نحو: مغيرة، ومنتن، ويعفر، وظلمات، والآخر: إتباع حركة ليست للإعراب حركة إعراب، وذلك مثل: امرؤ، وابنم، وفوك، وأجوءك، وأنبؤك، والحرف المذكور في الكتاب
[الحجة للقراء السبعة: 1/116]
بعكس هذه القسمة، من النادر الذي لا حكم له. وهو مثل تشبيههم حركة الإعراب بحركة البناء في نحو:
أشرب غير مستحقب شبهه بعضد.
فأمّا ما قيل من قولهم: فلأمّه [النساء/ 11]، فإنّه يذكر في هذا الكتاب في موضعه إن شاء الله.
الحجة لحمزة والكسائي في قراءتهما عليهم الذلة [البقرة/ 61] ومن دونهم امرأتين [القصص/ 23].
فأمّا قول حمزة والكسائي: (عليهم الذلة)، و (من دونهم امرأتين)، فإنّ تحريك حمزة الميم، في: عليهم ولديهم، وإليهم، خاصّة بالضم مستقيم حسن، وذلك أنه يضم الهاء في
[الحجة للقراء السبعة: 1/117]
هذه الأحرف ولا يكسرها، فإذا ضمّها لم يكن في تحريك الميم إلا الضمّ، ولم يجز الكسر، ألا ترى أنّه لم يكسر الميم أحد ممّن ضمّ الهاء، نحو: عليهم الذلة، وإنما يكسر هذه الميم لالتقاء الساكنين من يكسر الهاء فيتبعها حركة الميم؟ واجتماعهم على ذلك يدلّ على أنّ المحرّك لالتقاء الساكنين إذا كانت له حركة أسكن عنها، كان تحريكه بتلك الحركة التي كانت له أولى من اجتلاب حركة لالتقاء الساكنين لم يتحرك الحرف بها في غير التقائهما. وعلى هذا قالوا: مذ اليوم، فحركوا الذال بالضمّ، فكذلك تحريك حمزة هذه الميم في (عليهم) والحرفين الآخرين بالضم.
وأمّا موافقة الكسائيّ له في عليهم ولديهم، واتفاقهما على تحريك الهاء من ضمير المجرور أو المنصوب المجموع بالضم إذا لقيت الميم ساكنا مع كسرهما هذه الهاء في غير هذه المواضع إلّا ما انفرد به حمزة في عليهم وإليهم ولديهم فوجهه أن ذلك لغة، كما أن الكسر لغة، فكأنّهما أحبّا أن يأخذا باللغتين جميعا، كما قرأ غيرهما: وقالوا لولا نزّل عليه آيةٌ من ربّه قل إنّ اللّه قادرٌ على أن ينزّل آيةً [الأنعام/ 37] وكما قرئ: ولتكملوا العدّة [البقرة/ 185] ولتكملوا
[الحجة للقراء السبعة: 1/118]
العدة وكما قال: لا يألتكم من أعمالكم شيئا، ولا يلتكم من أعمالكم [الحجرات/ 14] ونحو ذلك، ممّا قد أخذ فيه بلغتين وأكثر، نحو قوله: فلا تقل لهما أفٍّ [الإسراء/ 23]. وفي ذلك توسعة وتسهيل وأخذ بظاهر الخبر المأثور: «نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف».
ومثل قولهما في هذا من الأخذ باللغتين، ما روي عن نافع من قراءته مرة: (عليهمو) وأخرى (عليهم).
فإن قلت: فإن حركة التقاء الساكنين حركة غير معتدّ بها لأدلة قامت على ذلك، وإذا لم يعتدّ بها وجب ألّا تتبع غيرها، فيلزم ألّا تضمّ الهاء معها كما لا يضمها إذا لم تكن الميم متحركة، فإذا ضمّ الهاء في هذا الموضع دون غيره فكأنّه أتبع حركة الهاء التحريك لالتقاء الساكنين قيل: إنّ هذا الكلام مما يجوز أن يرجّح به قول من خالفهما في ذلك فإذا تؤول قولهما على ما قدمناه لم يدخل هذا السؤال عليه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/119]
فأما الأدلة على أنّ التحريك لالتقاء الساكنين غير معتدّ به، فمنها أنّهم قالوا: رمت المرأة وبغت الأمة. فحذفوا الألف المنقلبة عن اللام لسكونها وسكون تاء التأنيث، ولمّا حركت التاء لالتقاء الساكنين لم يردّ الألف ولم يثبت كما لا يثبت في حال سكون التاء. وكذلك: لم يخف الرجل، ولم يقل القوم، ولم يبع الناس وقم اللّيل [المزمل/ 2].
ولو كانت الحركة معتدا بها لثبتت العين كما ثبتت في: لم يقولا، ولم يخافا. ومن ثم ثبتت العين مع الخفيفة والشديدة، إذا قال: قولن ذاك، وبيعنّ هذا.
فدلّ أن التحريك ليس لالتقاء الساكنين.
فإن قلت: فقد جاء:
أجرّه الرّمح ولا تهاله
فردّ الألف التي كانت حذفت للجزم، واللام التي بعدها متحركة لالتقاء الساكنين، فهلّا دلّ ذلك على الاعتداد بحركة التقاء الساكنين وقوّى ذلك قول من قال: (عليهم الذلة)، و (من دونهم امرأتين)، فضمّ الهاء لمّا انضمت الميم. فالقول: إنّ ذلك من القلّة بحيث إن لم يعتبر به المعتبر كان المذهب على أنّ الألف يجوز أن تكون على حدها في «منتزاح».
[الحجة للقراء السبعة: 1/120]
فإن قلت: فقد اعتد بحركة التقاء الساكنين في موضع آخر، وذلك قوله: لم يكن الّذين كفروا [البينة/ 1]، ألا ترى أنّ من يقول: لم يك زيد منطلقا، إذا تحرك لالتقاء الساكنين لم يحذف. كما أنّه إذا تحرك بحركة الإعراب لم يحذف؟ فالقول: إنّ ذلك أوجه من الأول، من حيث كثر في الاستعمال. وجاء به التنزيل. فالاحتجاج به أقوى.
فأمّا حذف الشاعر له مع تحركها بهذه الحركة كما يحذفها إذا كانت ساكنة فإن هذه الضرورة من ردّ الشيء إلى أصله نحو: «ضننوا» لأنّ الاستعمال فيه الإثبات كما أعلمتك.
فهذا يجري مجرى (استحوذ) في أن القياس كان على نظائره أن يعلّ، كما كان القياس في النون أن يستعمل حذفها في حال السعة إذا كانت الحركة غير لازمة ولكن الاستعمال جاء بغيره.
ومن ذلك قولهم: اضرب الاثنين. واكتب الاسم.
فحركت اللام من افعل بالكسر لالتقاء الساكنين. ثم لمّا حركت لام المعرفة من الاثنين والاسم لم تسكن اللام من افعل كما لم تسكنها في نحو: اضرب القوم، لأن تحريك اللام لالتقاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/121]
الساكنين، فهي في تقدير السكون، فكما أنّ لام افعل إذا وقع بعدها ساكن يحرك ولا يسكن، فكذلك إذا وقعت بعدها حركة لالتقاء الساكنين، تحرك من حيث كانت الحركة غير معتد بها، فصارت من أجل ذلك في حكم السكون.
فإن قلت: فكيف حرّكت لام المعرفة في اضرب الاثنين لالتقاء الساكنين، وهلّا حرّكت الثاء لأنهما في كلمة واحدة، والساكنان إذا التقيا في كلمة واحدة حرّك الثاني منهما، نحو أين وكيف؟. فالقول في ذلك أنّ لام المعرفة، وإن كانت بمنزلة ما هو من نفس الحرف لدخول العامل عليها، وأنّها أشدّ اتصالا بالكلمة التي هي فيها من حرف التنبيه في قولهم: هذا، ونحوه لاكتساب الكلمة بها معنى لم يكن لها إذا لم يدخلها. فالقول: إنها قد جرت مجرى المنفصل منها لمّا لم تكن أصلا فيها كما كان في التذكّر كذلك، وذلك قولهم: ألي، إذا تذكروا، نحو: الخليل، والقوم، ولذلك كرّرت في قوله:
بالشحم إنّا قد مللناه بجل
[الحجة للقراء السبعة: 1/122]
ويدل على أن التحريك للساكنين غير معتدّ به، أنهم قالوا في الجزم: لم يضربا، ولم يضربوا، فحذفوا النون في هذه المواضع، كما حذفوا الألف والياء والواو السواكن إذا كنّ لامات، من حيث عودلن بالحركة، ولو كانت حركة النون معتدّا بها لحذفت هي من دون الحرف، كما فعل ذلك بسائر الحروف المتحرّكة إذا لحقها الجزم. ويدلّ على ذلك أيضا اتفاقهم على أن المثلين إذا تحرّكا ولم يكونا للإلحاق أو شاذا عن الجمهور، أدغموا الأوّل في الآخر، وقالوا: اردد ابنك واشمم الريحان، فلم يدغموا في الثاني إذا تحرك لالتقاء الساكنين، كما لم يدغموه قبل هذا التحريك، فدلّ ذلك على أنّ التحريك لالتقاء الساكنين لا اعتداد به عندهم. ويدلّ على ذلك أيضا أنّ الواوات إذا تحرّكت بالضمّ، جاز أن تبدل منها الهمزة. نحو: أقّتت وأدؤر والنئوور، و:
كأن عينيه من الغئور
[الحجة للقراء السبعة: 1/123]
ولم يبدلوا الهمزة منها إذا تحركت بالضم لالتقاء الساكنين، كما لم يبدلوها منها إذا كانت ساكنة لمّا لم يكن بتحريك الساكنين اعتداد. والذي حكي من همز بعضهم لذلك يجرى مجرى الغلط.
وقد جعلوا ما لم يلزم من الحركات كما لم يلزم من حركة التقاء الساكنين في أن لم يعتدّ به، كما لم يعتدّ بالتحريك لالتقائهما، وذلك لاجتماع الصنفين في أنّ الحركة فيهما غير لازمة. فمن ذلك قولهم: رمتا وغزتا، لما لم تلزم حركة التاء وإنّما هي لمجاورة الألف، لم يعتدّ بها، فلم تردّ الألف المنقلبة عن اللام في فعل كما لم تردّ في رمت المرأة لمّا كانت حركة التاء غير لازمة، كما كانت في رمت المرأة كذلك.
فإن قلت: فقد وقع الاعتداد بها في قوله:
لها متنتان خظاتا
[الحجة للقراء السبعة: 1/124]
فالقول فيه أنّه بمنزلة ما تقدّم من قوله: ولا تهاله. وقد قيل: إنّه حذف منها نون التثنية، وليس ذلك عندنا بأوجه القولين، لأنّ حذف نون التثنية إنّما جاء في الموصولة نحو:
....... إن عمّيّ اللّذا... قتلا .......
ونحو:
الحافظو عورة العشيرة..
والحذوف تخصّص ولا تقاس.
وكذلك قول من ذهب إلى الحذف في قوله:
قد سالم الحيّات منه القدما
[الحجة للقراء السبعة: 1/125]
ولا يقوى ما ذهبوا إليه من قول أبي دواد:
ومتنان خظاتان... كزحلوف من الهضب
لأنّ هذا يكون تثنية والأول مثال ماض كغزا أو رمى ومن ذلك قولهم: اضرب الاجل، لمّا كانت حركة اللام حركة الهمزة ولم تكن لازمة في قول من حقّق، كما لم تلزم حركة التقاء الساكنين، أقررت الكسرة على الباء، كما أقررتها في اضرب الاثنين، لاجتماع الحركتين في أنّهما لا تلزمان.
وعلى هذا تقول: ملآن.
وما أنس م الأشياء...
[الحجة للقراء السبعة: 1/126]
فلا ترد النون التي حذفتها لالتقاء الساكنين، لأنّ اللام في تقدير السكون من حيث كانت متحركة بحركة الهمزة. وعلى هذا تقول: (قال لان جئت بالحق) [البقرة/ 71] فلا تردّ الواو، كما لم تسكّن الباء في قولهم: اضرب الاجل. ومن قال:
((قالوا لان جئت بالحق)) فردّ الواو لحركة اللام فإنّ هذا على قياس قولهم: لحمر، لمّا جعلت الحركة بمنزلة اللازمة حذفت همزة الوصل التي إنّما تجتلب لسكون اللام. وقياس هذا أن يسكن الباء في اضرب لاجل ولا تكسرها كما كسرها من لم يعتدّ بالحركة. وهذا مما يقوي قراءة حمزة والكسائي.
ألا ترى أن الحركة التي ليست بلازمة جعلت بمنزلة اللازمة في أن حذفت همزة الوصل قبلها؟ فكذلك يجعلان الحركة التي لالتقاء الساكنين وإن كانت غير لازمة بمنزلة اللازمة، فيختاران أن يتبعاها المضمومة في ((عليهم الذلة)) و ((من دونهم امرأتين)) وإن لم يختاراها في غير هذا الموضع ليكون الصوت من جنس واحد وضربا واحدا. وقد أخذ أبو عمرو مثل ذلك أيضا معهما. وذلك في قراءته: وأنه أهلك عادلولى [النجم/ 50]، ألا ترى أن حكم المدغم فيه أن يكون متحركا ولا يكون ساكنا، فإنما تجعله على لغة من قال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/127]
لحمر، كما تأوّله أبو عثمان.
فإن قلت: فلم لا تحمله على قول من قال: الحمر، فلم يسقط همزة الوصل لأن الحركة غير لازمة، فلما أدغمت النون في اللام الساكنة حرّكتها، كما حركت غض ونحوه، وإن كان المدغم فيه ساكنا؟ فالقول: إن ذلك لا يمتنع أن تقدر القراءة عليه، وتتأوّل، إلّا أنّه مثل الأول في أن المدغم فيه ساكن، وأن الحركة التي هي بمنزلة المجتلبة لالتقاء الساكنين تنزّلت منزلة الثابتة غير المجتلبة.
ومما يقوي قولهما، أنّهم قالوا: سل ور رأيك، فأسقطوا همزة الوصل لما تحركت الفاء، فكما شبهوها هاهنا بالحركة اللازمة فحذفت همزة الوصل، كذلك تكون في قولهما الحركة غير اللازمة بمنزلة اللازمة، فيحسن أن يضم لذلك الهاء التي كانا يكسرانها لتتبع حركة الميم التي قد تنزّلت منزلة اللازمة في هذه المواضع.
وقد قال أبو الحسن: إنّ ناسا يقولون: اسل، فهؤلاء لم يسقطوا همزة الوصل لما كانت السين في تقدير السكون، إلا أن إسقاط الهمزة مع سل أكثر وإثباتها في قولهم: الحمر، وقولهم: الآن جئت بالحقّ [البقرة/ 71] أكثر، والقياس على ما ذكرت لك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/128]
قال أبو عثمان: ولا يجوز عندي اسل، وإنّما جاز في الألف واللام الحمر لأنّ الألف واللام بمنزلة حرف واحد، ألا ترى أن ألف الاستفهام تلحق ألف اللام فتمدّ ولا تحذف في قولك: آلرجل قال ذاك؟ ويقولون: الحمر، وليس كذا جميع ألفات الوصل، لأنّ الألف واللام بمنزلة قد، كما ذكر سيبويه. قال: ومن أثبت ألف الآن، وقبلها كلام، فقد أخطأ في كل مذهب.
وممّا لم يعتد فيه بالحركة لمّا لم تلزم قولهم: قعدتا وضربتا، لما كانت الحركة من أجل الألف، والألف غير لازمة استجازوا الجمع بين أربع متحركات، ولم يستجيزوا ذلك في ضربت ونحوه. وإنّما استجازوا الموالاة بين هذه الحركات في ضربتا كما قالوا: رمتا وقضتا، فلم يردوا الألف، فكما لم يردوا الألف، حيث كانت الحركة غير لازمة، كذلك لم يكرهوا الموالاة بين أربع متحركات من حيث لم تكن الحركة في التاء لازمة، فكانت من أجل ذلك في تقدير السكون كما كان في تقديره في رمتا.
ومن الحجّة لمن خالفهما ممّن تقدم ذكر قوله، أن يقال:
إنّ التحريك لالتقاء الساكنين لا ينبغي أن يتبع غيره، لأنّهم قد جعلوه تابعا لغيره متقدما ومتأخّرا، ولم يجعلوا غيره يتبعه من حيث كان في تقدير السكون بالأدلّة التي تقدمت. فممّا أتبع ما قبله: انطلق. ولم يلده. فاعلم، لما لزم تحريك اللامين
[الحجة للقراء السبعة: 1/129]
لالتقاء الساكنين أتبعا الفتحة التي قبلهما، ومن ثم قال سيبويه في ترخيم اسم رجل يسمى إسحارّ على من قال يا حار: يا إسحار أقبل. وكذلك قالوا لا تضارّ يا فتى. ومن ذلك مدّ، وفرّ، وعضّ، ومما أتبع ما بعده قول من قال: (وقالت اخرج) [يوسف/ 31] وعذابن. اركض [ص/ 41 - 42]، (أو انقص) [المزمل/ 3]، وعيونن ادخلوها [الحجر/ 45 - 46]. فإذا كان على ذلك بعد أن يتبع غيره لما تقدم من أنّه في تقدير السكون.
فأمّا ما ذكره أبو بكر عن بعض من احتجّ لكسر الهاء في عليهم أنّ الهاء من جنس الياء، لأنّ الهاء تنقطع إلى مخرج الياء- فليس بمستقيم وذلك أنّ قوله: لأن الهاء تنقطع إلى مخرج الياء لا يخلو من أن يريد به أنّه ينقطع إلى الجهة التي تخرج منها الياء، أو يريد بذلك أن الصوت بها يتّصل بمخرج الياء، كما أن صوت الشين استطال حتى خالط أعلى الثنيّتين، وكذلك صوت الهاء استطال حتى اتّصل بمخرج الياء، فصار من أجل ذلك بمنزلة الحروف الخارجة من مخرج الياء، كما صارت الشين بمنزلة الحروف التي تخرج من الموضع الذي بلغه استطالة صوته حتى أدغم فيها كثير من حروف ذلك الموضع، كالطاء وأختيها، والظاء وأختيها.
فإن كان أراد المعنى الأول فليس للهاء به اختصاص ليس
[الحجة للقراء السبعة: 1/130]
لغيره، لمساواتها غيرها ممّا يخرج من مخرجها في ذلك. وإن كان أراد أن الصوت يستطيل حتى يتصل بمخرج الياء كما استطال الصوت بالشين حتى خالط أعلى الثنيّتين، فأنت إذا اعتبرت الهاء في مخرجها لم تجد لها هذه الاستطالة، ولم تجدها تتّصل بمخرج الياء على حدّ ما اتصل صوت الشين بالموضع الذي اتصل به.
ولعلّ الذي حمل هذا القائل على ما قاله من ذلك، كون الهاء مهموسة رخوة. والحروف المهموسة إذا وقف عليها كان الوقف مع نفخ، لأنها لمّا لم تعترض على النّفس اعتراض المجهورة، فتمنعها من أن يجري معها كما منعت المجهورة حين خرجت مع التنفس وانسلّت معه، وهي أيضا حرف رخو، والحروف الرخوة يجوز أن يجري فيها الصوت، وليست الشديدة كذلك، لأنّك لو قلت: ألدّ، والحجّ، لم يجر الصوت فيها إذا مددته كما يجري الصوت في الرخوة، نحو أنقصّ وأيبسّ. فلعل هذا الذي يتبع الصوت في بعض الأحوال من النفخ في المهموسة وإمكان إجراء الصوت في الرخوة، جعله بمنزلة استطالة الشين، وليس هذا من ذلك في شيء، وإنما المشابهة المعتبرة بين الهاء والياء ما ذكرنا من مشابهتها الألف لخفائها، وأنّها قد جعلت متحركة بمنزلة هذه الحروف ساكنة.
والألف تقرّب من الياء بالإمالة، فكذلك قرّبت الهاء منها بأن أبدلت من حركتها الكسرة. وهذه المناسبات التي تكون بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/131]
الحروف توفق بينها، كما يوفّق تقارب المخارج، أو هو آكد في ذلك من تقارب المخارج، ألا ترى أن الواو والياء قد جرتا مجرى المثلين في جواز إدغام كل واحدة منهما في الأخرى، لما اجتمعا فيه من اللين، وأن النون أدغمت في الياء على بعد بين مخارجهما لما ذكرنا.
وأما ما ذكره عن بعض من احتجّ لحمزة من أنّهم قالوا:
ضمّ الهاء هو الأصل، وذلك أنّها إذا انفردت من حروف تتصل بها قيل: هم فعلوا، فليس بمستقيم أيضا، وليست الدلالة على أن ضمير الجميع المجرور أو المنصوب أصله الضمّ انضمام الهاء في هم فعلوا، وذلك أن العلامتين وإن اتفقتا في اللفظ في الجمع، فهما مختلفتان، وليس اتفاقهما في اللفظ بموجب اتفاقهما في التقدير والمعنى.
ألا ترى أن التاء في «أنت» وإن كانت على لفظ التاء في فعلت، فليست إياها ولا مثلها في المعنى، وكذلك الكاف في ذلك، وأرأيتك، والنّجاءك، ونحو ذلك ممّا لحقه الكاف للخطاب مجرّدة من معنى الاسم، ليست كالكاف في أكرمتك، وصادقتك، ولا هو التي للفصل كالتي في قولك للغائب: هو فعل، ولا الواو والألف والنون في قاما أخواك، وقاموا إخوتك، و:
.. يعصرن السّليط... أقاربه
[الحجة للقراء السبعة: 1/132]
بمنزلتها في قولك: أخواك قاما، وإخوتك قاموا، والهندات قمن، فليس الاتفاق في اللفظ بموجب الاتفاق في المعنى، ألا ترى أن الهمزة في الاستفهام على لفظ الهمزة في النداء، وأن هل التي للاستفهام على لفظ هل التي بمنزلة قد؟ وإنّما الدلالة على أنّ أصل الهاء في (عليهم)، [وهذه دارهم] ونحو ذلك الضم، أنّها إذا لم تجاورها الكسرة ولا الياء لم تكن إلا مضمومة، وإذا جاورتها الكسرة أو الياء جاز الكسر فيها للإتباع والتقريب، وجاز الضمّ على الأصل، كقول أهل الحجاز في ذلك، فكلّ موضع جاز فيه الكسر فالضمّ فيه جائز. والمواضع التي تختصّ باستعمال الضم فيها لا يجوز الكسر معها، فبهذا يعلم أنّه الأصل، لا بما ذكره من اتفاق اللفظ.
فأمّا ضمّ الهاء من هم في قوله: هم فعلوا، فلا يدل على أنّ أصل الهاء في عليهم الضمّ، لأنّها ليس بها.
ومما يدلك على اختلافهما، أنّك تقول في واحد «هم» - من قولك هم فعلوا ذلك-: هو قال، كما تقول في واحدة «هنّ فعلن»: هي فعلت، فالواو والياء من نفس الكلمة. فأمّا الواو التي تلحق علامة المضمر المجرور أو المنصوب في نحو
[الحجة للقراء السبعة: 1/133]
هذا له، وضربه، فزيادة لاحقة للكلمة بدلالة سقوطها في نحو:
عليه، ومنه، وإن لم نقف على شيء من ذلك، وأنّه في الغائب نظير الكاف للمخاطب والياء للمتكلم، وبدلالة ما جاء في الشعر عند سيبويه نحو:
له أرقان
وحكى أبو الحسن أنها لغة.
ومما يبيّن أنّ كل واحد من هذه الأسماء التي للضمير ليس الآخر في اللفظ وإن اتفقا في بعض الحروف تحريكك الواو والياء من هو وهي، وحرف المد اللاحق في عليه فيمن أثبت ولم يحذف، وفي داره، وبه، لم يحرّك في موضع.
فإن قلت: فقد أسكنت الياء من هي وهو في الشعر، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/134]
فإذا هي بعظام ودما
فإنّ ذلك لا يؤخذ به في التنزيل وحال السعة والاختيار، وإنّما هذا تشبيه لفظي يستعمله الشاعر للضرورة من وجه بعيد، كأنّه يقول ضمير وضمير حرف لين وحرف لين، وعلى هذا استجاز:
إذه من هواكا
و: بيناه يشري
كأنّه حذفه من هو وهي المسكنتين في الشعر للضرورة، ولا يكون محذوفا من المتحركة لأنّ التشبيه في ذلك لفظيّ،
[الحجة للقراء السبعة: 1/135]
والتحريك يرتفع معه التشبيه الذي يقصده، فلا يصحّ له معه حذف الحرف لتحرّكه، ألا ترى أن الياء إذا كانت لاما أو غيرها فتحرّكت صارت بمنزلة الحروف الصحيحة، ولم يجز فيها الحذف الذي كان يجوز حيث يسكن الحرف؟ وهذا الشّبه اللفظي الذي أعمله الشاعر في اضطراره مرفوض في الكلام، غير مأخوذ به، ومن ثمّ قال سيبويه: ولم يفعلوا هذا بذاهي ومن هي ونحوهما، يريد لم يفعلوه في الكلام لأنّه قد جاء:
فبيناه يشري..
كما قال: فألقى عصاه [الأعراف/ 107]. وجاء:
إذه من هواكا
وجاء الاتفاق بين بعض حروف هذين الاسمين المضمرين، كما جاء ذلك في المظهرة كقولهم: الضّيّاط والضّيطار، والغوغاء فيمن لم يصرف وفيمن صرف، وقاع قرق وقرقوس، ودمث ودمثر وما أشبه ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/136]
فإن قلت فلم لا تستدلّ بثبات الألف في المؤنث في نحو عليها وضربها أن الواو أو الياء في لهو وبهي ليسا بزائدين وإن سقطا في بعض المواضع، لأنّ الأصول قد تسقط أيضا فيه، نحو:
كنواح ريش حمامة نجديّة .... .................
و:............. .... دوامي الأيد يخبطن السّريحا
[الحجة للقراء السبعة: 1/137]
وإذا كان كذلك لم يكن فيما ذكرت من سقوط حرف اللين دلالة على زيادته، وثبات الألف في علامة المؤنث وأنّها لا تحذف دلالة على أنّ الواو والياء في ضمير المذكر في حكم الألف. قيل: لم يستدلّ على زيادتها بالسقوط فقط فيتجه هذا الكلام، فأمّا ثبات الألف في ضمير المؤنث المفرد فليس بدالّ على أنّه من نفس الكلم، وإنّما ألحقت للفصل بين التأنيث والتذكير كما ألحقت السين أو الشين في الوقف في قولهم: أكرمكس، وأكرمكش في بعض اللغات لذلك، فكما أنّهما ليسا مع الكاف كلمة واحدة، وإنّما الأصل الكاف، ولحق هذان الحرفان للفصل بين التأنيث والتذكير، كذلك الألف اللاحقة لهاء الضمير في التأنيث. وقد يكون من الزوائد ما يلزم فلا يحذف نحو نون منطلق، ونحو «ما» في: آثرا ما، ونحو الألف المبدلة من التنوين في النصب في أكثر اللغات.
[الحجة للقراء السبعة: 1/138]
على أنّ ناسا أجازوا حذف هذه الألف في الوقف. قال أبو عثمان: أخبرني أبو محمد التّوّزي قال: أخبرني الفراء قال: قوله:
ونهنهت نفسي بعد ما كدت أفعله
أراد: بعد ما كدت أفعلها، يعني: الخصلة، فحذف الألف وطرح حركة الهاء على اللام. قال: ومن كلام أهل بغداد الكسائي والفرّاء: نحن جئناك به، طرح حركة الهاء على الباء، وهو يريد: نحن جئناك بها.
[قال أبو علي]: وهذا الذي حكاه أبو عثمان عن الكسائي والفراء ليس بالمتسع في الاستعمال، ولا المتّجه في القياس، وذلك أن حركة الحرف التي هي له أولى من المجتلبة، يدلّ على ذلك أنّ من ألقى حركة الحرف المدغم على الساكن الذي قبله في نحو: استعدّ، إذا أمر فقال: امتدّ واعتدّ وانقدّ، أقر الحركة التي للحرف فيه، ولم يحذفها، ويلقي على الحرف حركة الحرف المدغم، فكذلك الحركة التي هي الكسر في به أولى به من نقل حركة الموقوف عليه
[الحجة للقراء السبعة: 1/139]
ولا يشبه هذا قول الشاعر:... إذ جدّ النقر
ولا قولهم: هذا عدل، لأنّ هذا التحريك إنّما هو لكراهة التقاء الساكنين. يدل على ذلك أنّ الساكن قبل الحرف الموقوف عليه إذا كان ياء أو واوا نحو: عون وزيد، لم يحرك لكون ما فيه من المدّ بدلا من الحركة، فاحتمل ذلك كما احتمل الإدغام في نحو: عونّهشل وزيد دّاود وما أشبه ذلك.
فإن قلت: فقد قال بعضهم: ردّ، فألقى حركة الحرف المدغم على الفاء وحذف حركتها التي هي الضمة. فالقول:
أن الذي فعل ذلك إنّما شبهه بباب: قيل، وبيع، حيث وافقه في اعتلال العين بالسكون، فجعله مثلها في نقل الحركة إلى الفاء، كما جعلوها مثلها في الحذف في قولهم: ظلت، ومست.
فكما استجازوا فيه الحذف في العين كما حذف من بنات الياء والواو، كذلك استجازوا نقل حركة العين إلى الفاء.
والأكثر الأشيع في ردّ غير ذلك.
وممّا يدل على أنّ حركة الحرف التي له في الأصل أولى به من الحركة المجتلبة، أنّ «مذ» لمّا حركت لالتقاء الساكنين حركت بالضمّة التي هي حركته في الأصل ولم تكسر، وكذلك: ((عليهم الذلة)).
ومما يبعد ما حكاه أبو عثمان عنهم، من القول في أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/140]
الألف لا تحذف في الوقف كأختيها، حذفهم الألف من علامة الضمير، والألف لا تحذف في الوقف كما تحذف الياء والواو.
فإن قلت: فقد قال بعضهم في الوقف: رأيت زيد، فلم تبدل من التنوين الألف. وقال الأعشى:
وآخذ من كلّ حيّ عصم
وقد قال لبيد:
ورهط ابن المعلّ
وقالوا: ولو تر ما أهل مكة، وقرئ: (حاش للّه) [يوسف/ 31 - 51] وهو فاعل، فإذا حذفت الألف في هذه
[الحجة للقراء السبعة: 1/141]
الأشياء، فلم لا يجوز أن يحذف في قوله: «أن أفعله» و «نحن جئناك به» قيل: لا يشبه هذا قولهم لو تر ما، وحاش لله، لأنّ ذلك إنّما حذف كما حذف لا أبال، ولا أدر، بدلالة أنّهما قد حذفا في الوصل أيضا.
وأما المعل فحذفه لإقامة القافية، وترك إبدال الألف من النون في عصم ليس بالمتسع. ألا ترى أن سيبويه لم يحكه؟
وحذف الأعشى له لإقامة القافية أيضا كحذف ألف معلّى، فحذف الألف من هاء الضمير ليس بالمتجه.
قوله عزّ وجلّ: غير المغضوب عليهم
قرأ: غير المغضوب عليهم- بخفض الراء- نافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي. واختلف عن ابن كثير فروي عنه النصب والجر.
قال أبو بكر في الحجّة في الجر: إنّهم قالوا ينخفض على ضربين: على البدل من الذين، ويستقيم أن يكون صفة للنكرة. تقول: مررت برجل غيرك، وإنما وقع (غير) هاهنا صفة للذين، لأن الذين هاهنا ليس بمقصود قصدهم، فهو بمنزلة قولك: إنّي لأمر بالرجل مثلك فأكرمه. قال: وقالوا يجوز النصب على ضربين. على الحال، والاستثناء.
فأمّا الاستثناء فكأنّك قلت: إلّا المغضوب عليهم.
[الحجة للقراء السبعة: 1/142]
وأما الحال فكأنك قلت: صراط الّذين أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم.
قال: ويجوز عندي النصب أيضا على أعني. وقد حكي عن الخليل نحو هذا، أنّه أجازه على وجه الصفة والقطع من الأول كما يجيء المدح. ومما يحتجّ به لمن يفتح أن يقال:
غير نكرة، فكره أن يوصف به المعرفة.
قال: والاختيار الذي لا خفاء به الكسر، ألا ترى أن ابن كثير قد اختلف عنه. وإذا كان كذلك فأولى القولين به ما لم يخرج به عن إجماع قراء الأمصار؟
ولعل الذي تنكّب الجر، إنما تنكبه فرارا من أن ينعت الذين أنعمت عليهم بغير، وغير إذا أضيفت إلى المعرفة قد توصف بها النكرة.
[قال أبو بكر]: والذي عندي أن (غير) في هذا الموضع مع ما أضيفت إليه معرفة، وهذا شيء فيه نظر ولبس.
فليفهم عني ما أقول: «أعلم أن حكم كل مضاف إلى معرفة أن يكون معرفة، وإنما تنكرت غير، ومثل، مع إضافتهما إلى المعارف من أجل معناهما، وذلك أنك إذا قلت: رأيت غيرك، فكل شيء ترى سوى المخاطب فهو غيره، وكذلك إذا قال: رأيت مثلك، فما هو مثله لا يحصى، يجوز أن يكون مثله في خلقه، وفي خلقه،
[الحجة للقراء السبعة: 1/143]
وفي جاهه، وفي علمه، وفي نسبه. فإنّما صارا نكرتين من أجل المعنى. فأمّا إذا كان شيء معرفة له ضد واحد وأردت إثباته ونفي ضده، وعلم ذلك السامع فوصفته بغير، وأضفت غيرا إلى ضده فهو معرفة، وذلك نحو قولك: عليك بالحركة غير السكون، فغير السكون معرفة، وهي الحركة، فكأنك كرّرت الحركة تأكيدا، فكذلك قوله: الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم. فالذين أنعم عليهم لا عقيب لهم إلا المغضوب عليهم، فكل من أنعم عليه بالإيمان فهو غير مغضوب عليه، وكل من لم يغضب عليه فقد أنعم عليه. فغير المغضوب عليهم هم الذين أنعم عليهم، فهو مساو له في معرفته. هذا الذي يسبق إلى أفئدة الناس وعليه كلامهم. فمتى كانت (غير) بهذه الصفة وقصد بها هذا القصد، فهي معرفة.
وكذلك لو عرف إنسان بأنه مثلك في ضرب من الضروب، فقيل فيه: قد جاء مثلك لكان معرفة إذا أردت المعروف بشبهك، والمعرفة والنكرة بمعانيهما، فكل شيء خلص لك بعينه من سائر أمّته فهو معرفة.
ومن جعل (غير) بدلا فقد استغنى عن هذا الاحتجاج، لأنّ النكرة قد تبدل من المعرفة. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: قوله: غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين قيل: إن المعنيّ بقوله: المغضوب عليهم اليهود، ويدلّ على
[الحجة للقراء السبعة: 1/144]
ذلك قوله تعالى: من لعنه اللّه وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير [المائدة/ 60] فهؤلاء اليهود، بدلالة قوله: ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت، فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين [البقرة/ 65] والضالّون: النصارى، لقوله: ولا تتّبعوا أهواء قومٍ قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السّبيل [المائدة/ 77].
فأمّا الخفض في (غير)، فعلى ما تقدم ذكره: من البدل أو الصفة. والفصل بين البدل والصفة أنّ البدل في تقدير تكرير العامل. وليس كالصفة، ولكن كأنّه في التقدير من جملتين بدلالة تكرير حرف الجر في قوله: قال الملأ الّذين استكبروا من قومه للّذين استضعفوا لمن آمن منهم [الأعراف/ 75] وبدلالة بدل النكرة من المعرفة، والمظهر من المضمر. وهذا مما لا يجوز في الصفة، فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم، فكذلك يكون العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرير. وهو وإن كان كذلك فليس يخرج عن أن يكون فيه تبيين للأول، كما أنّ الصفة كذلك، ولهذا لم يجز سيبويه: بي المسكين كان الأمر، ولا بك المسكين. كما أجاز ذلك في الغائب نحو:
مررت به المسكين. فأما ما ذهب إليه بعض البغداديين في قول الشاعر:
فلأحشأنّك مشقصا... أوسا أويس من الهبالة
[الحجة للقراء السبعة: 1/145]
من أنّ أوسا بدل من كاف الخطاب، فليس الأمر فيه كما ذهب إليه، لأنّ أوسا مصدر، من قولك: أسته إذا أعطيته، وانتصب أوس لأن ما ذكر من قوله: فلأحشأنك يدل على لأؤوسنّك فانتصب المصدر عنه، فإن جعلت الجار متعلقا بالمصدر كان بمنزلة قوله:
فندلا- زريق- المال ندل الثعالب
[الحجة للقراء السبعة: 1/146]
وإنما لم يجز البدل من ضمير المتكلم والمخاطب، لأن ذلك من المواضع التي يستغنى فيها عن التبيين، لوضوحه.
وأنّه لا يعرض التباس كما يعرض في علامة الغيبة.
ولما كان البدل قد حصل فيه شبه من الأجنبي من حيث كان في التقدير من كلامين، وحصل فيه شبه من الصفة من حيث بيّن به كما بيّن بالصفة، ولم يستعمل ما يكون به من كلامين، أجراهما أبو الحسن مجرى واحدا، فقال- فيما روى عنه أبو إسحاق الزيادي - في قولهم: زيد ذهب عمرو أخوه، وقد سأله: أبدل هو أم صفة؟ فقال: ما أبالي أيّهما قلت.
قال أبو إسحاق قلت: أو كذا تقول في المعطوف؟ قال:
نعم. أقول: زيد ذهب عمرو وأخوه. وقال أبو الحسن في هذه المسألة في بعض كتبه: إن جعلت قولك أخوه بدلا لم يجز، وإن جعلته صفة جاز، وإنما لم يجزه في البدل لمّا كان على ما ذكرنا من أنّه في تقدير جملتين، فكأنّه قد انقضى الكلام ولم
[الحجة للقراء السبعة: 1/147]
يعد إلى الأول ذكر. وإذا كان صفة جاز ذلك، لأن الصفة بمنزلة الجزء من الاسم الموصوف. ألا ترى أنهم قالوا: لا رجل ظريف، وهذا زيد بن عمرو. فتنزّلت الصفة مع الموصوف بمنزلة اسم مضاف نحو امرئ القيس وقد جعل يونس صفة المندوب بمنزلة المندوب في استجازته إلحاق علامة الندبة بها، وقد تنزلت الصفة عندهم جميعا منزلة الجزء من الاسم، وذلك إذا كان الموصوف لا يعرف إلا بالصفة، فإذا كان كذلك لم يستغن بالاسم الموصوف دون صفته. ومن ثم جعله سيبويه بمنزلة بعض الاسم في قوله:
إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
فجعل (أشنعا) حالا، ولم يجعله خبرا، لأن فيما تقدم من صفة الاسم ما يدل على الخبر، فيصير الخبر لا يفيد زيادة معنى. فهذا مما تنزّلت فيه الصفة منزلة جزء من الاسم عنده، كما ذكرنا.
[الحجة للقراء السبعة: 1/148]
ومما يدل على مفارقة الصفة للبدل، أنّك تصف بما لا يجوز فيه البدل، نحو الفعل والفاعل والابتداء والخبر، نحو:
مررت برجل قام أخوه، وبرجل أبوه منطلق. ولو جعلت شيئا من ذلك بدلا لم يجز، من حيث لا يستقيم تكرير العامل، وجاز الوصف به، من حيث كان مشابها للوصل، فلم يكن في تقدير تكرير العامل.
فمن جعل (غير) في الآية بدلا كان تأويله بيّنا، وذلك أنّه لا يخلو من أن يجعل غيرا معرفة أو نكرة، فإن جعله معرفة فبدل المعرفة من المعرفة سائغ مستقيم، كقوله: اهدنا
الصّراط المستقيم صراط الّذين أنعمت عليهم
[الفاتحة/ 6] وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلًا [آل عمران/ 97]، وإن جعله نكرة فبدل النكرة من المعرفة في الجواز كذلك، كقوله: بالنّاصية ناصيةٍ كاذبةٍ [العلق/ 15 - 16].
فإن قلت: إن النكرة التي هي بدل في الآية على لفظ المعرفة الذي أبدل منه. وليس (غير) على لفظ الموصول المبدل منه، فهلا امتنع البدل لذلك، كما امتنع عند قوم له؟
قيل: إذا جاز بدل النكرة من المعرفة فيما كان على لفظ الأول، فلا فصل بين ما وافق الأول في لفظه وبين ما خالفه، لاجتماع الضربين في التنكير. ويدل على جواز ذلك قوله:
إنّا وجدنا بني جلّان كلّهم... كساعد الضّبّ لا طول ولا قصر
[الحجة للقراء السبعة: 1/149]
وأنشد أبو زيد:
فلا وأبيك خير منك إني... ليؤذنني التّحمحم والصهيل
[وليؤذنني. يقال: آذنته وأذنته إذا رددته].
فالبدل شائع كثير، وهو الذي يختاره أبو الحسن في الآية، وذلك لأنّ «الذي» إنّما صيغ لأن يتوصّل به إلى وصف المعارف بالجمل، فإذا كان كذلك لم يحسن أن يذهب بها مذهب الأسماء الشائعة التي ليست بمخصوصة.
فإن قلت: فقد جاء: مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً، ثم قال: فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم [البقرة/ 17] فدلّ أنّه يراد به الكثرة، وقال: والّذي جاء بالصّدق وصدّق به، ثم قال أولئك هم المتّقون [الزمر/ 33]. وقد قيل في قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/150]
إنّ الذي حانت بفلج دماؤهم
إنه أفرد، والمراد به الكثرة، ليس أن النون حذفت كما حذفت من قوله:
اللذا قتلا الملوك
فجاءت في هذه المواضع شائعة دالّة على الكثرة، فهلّا جاز أن يكون كالرّجل ونحوه ممّا يجوز وصفه بما يوصف به الأسماء الشائعة نحو: مثلك وخير منك.
قيل: إن هذا قد جاء فيه كما جاء في اسم الفاعل نحو قوله:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلّي... أو تصبحي في الظاعن المولّي
[الحجة للقراء السبعة: 1/151]
ونحو ما أنشده أبو زيد:
باكرني بسحرة عواذلي... ولومهنّ خبل من الخبل
ونحو: نعم القائم أخوك، وبئس الذاهبان صاحباك، إلّا أنّ مجيئه للتخصيص أكثر. وإنّما جاءت في الآي شائعة لمشابهتها «من وما» واجتماعها معهما في الصلة، ألا ترى أنّ تعرف «الذي» بالصلة لا بالألف واللام؟ وإذا كان كذلك كان المعنى المتعرّف به لازما له لا يجوز إلقاؤه، كما جاز عند أبي الحسن إلقاء لام التعريف من قولهم: قد أمرّ بالرجل غيرك فيكرمني، والقوم فيها الجمّاء الغفير، والخمسة العشر درهما ونحو ذلك، وإذا لم يجز ذلك في الذي للزوم المعنى المعرّف للّذي، لم يحسن وصفه بما وصف به الرجل ونحوه، ممّا قد يتنكّر فيتنزّل لذلك منزلة الأسماء الشائعة،
[الحجة للقراء السبعة: 1/152]
ويقدّر إلقاء الألف واللام منه ليحسن بذلك وصفه بما توصف به النكرة، أو تقدّر في الصفة الألف واللام، كما يقدّره الخليل وسيبويه ليصح بذلك كونه وصفا لما فيه الألف واللام.
قال أبو عثمان: يجوز عندي: زيد هو يقول ذاك، وهو فصل، ولا أجيز: زيد هو قال ذاك، لأني أجيز الفصل بين الأسماء والأفعال، ولا يجوز في الماضية كما جاز في المضارعة، وذلك أن سيبويه قد قال: إني لأمر بالرجل خير منك فيكرمني، وبالرجل يكرمني، وهما صفة على توهّم الألف واللام، فكذلك في الفصل أتوهم الألف واللام في الفعل ويكون بمنزلة إلغائه بين المعرفتين، كما أقول: كان زيد هو خيرا منك، على توهّم الألف واللام في خير منك، ولا يجوز كان زيد هو منطلقا، لأني أقدر على الألف واللام، وإنما يجوز هذا فيما لا يقدر فيه على الألف واللام.
وأمّا من قدّر (غير) صفة للّذين، وقدره معرفة لما ذكره أبو بكر، فإن وصفه للذين بغير كوصفه له بالصفات المخصوصة، وقد حمله سيبويه على أنه وصف.
ومن لم يذهب بغير هذا المذهب. ولم يجعله مخصوصا؛ استجاز أن يصف (الّذين) بغير من حيث لم يكن
[الحجة للقراء السبعة: 1/153]
الذين مقصودا قصدهم، فصار مشابها للنكرة، من حيث اجتمع معه في أنّه لم يرد به شيء معيّن. ونظير ذلك ممّا دخله الألف واللام فلم يختصّ بدخولهما عليه لمّا لم يكن مقصودا قصده قولهم: قد أمرّ بالرجل مثلك فيكرمني، عند سيبويه، فوصف الرجل بمثلك لما لم يكن معيّنا، وكذلك أجاز مررت بأبي العشرة أبوه، فترفع أبوه بأبي العشرة، إذا لم تكن العشرة شيئا بعينه لأنّ هذا موضع يحتاج فيه إلى خلاف التخصيص، لعمل الاسم عمل الفعل، ألا ترى أن اسم الفاعل إذا كان لما مضى لم يعمل، وكذلك قال في قوله: إمّا العبيد فذو عبيد: إذا لم يجعلهم عبيدا بأعيانهم جاز أن يقع موقع المصدر، وكذلك قولهم: سير عليه الأبد، والليل والنهار، والشهر والدهر، فلذلك وقعت في جواب كم دون متى في قولهم: سير عليه الليل والنهار، والدهر والأبد، فكما أن هذه الأشياء التي فيها الألف واللام لمّا لم يرد به شيء معيّن جرت مجرى النكرات، كذلك (الّذين) إذا لم يرد به شيء معيّن جاز أن يوصف بما يوصف به ما كان غير معيّن.
ويقوّي هذا الوجه قول من رأى أنّه إذا نصب كان منتصبا على الحال، وهذا النحو إذا انتصب على الحال كان شائعا غير مخصوص، إذا لم يكن كالعراك وجهدك وطاقتك.
وحكم الحال وما انتصب عليها أن يكون نكرة، كما أن ما
[الحجة للقراء السبعة: 1/154]
انتصب على التمييز كذلك، ويكون العامل في الحال أنعمت، كأنّه قال: أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم!، أي في حال انتفاء الغضب عنهم، كما أنّ قولهم: جاءني زيد راكبا تقديره: جاءني زيد في حال الركوب، وهكذا يمثّلونه.
فإن قلت: كيف جاز هذا التقدير وراكب عبارة عن زيد، وهو هو في المعنى، وأنت لو قلت: جاءني زيد في حال نفسه لم يستقم؟ فالقول: إن ترجمة راكب- وإن كان زيدا في المعنى- لا يمتنع أن يكون ما ذكرنا، وإن لم يحسن جاءني زيد في حال نفسه، لأنّ راكبا يدلّ على الركوب، وزيد لا يدلّ عليه، ألا ترى أنهم قد قالوا:
إذا نهي السفيه جرى إليه
أي: إلى السفه، فأضمره لمّا كان قد تقدّم ما يدل عليه؟
فإذا كان في ذكر راكب دلالة على الركوب، لم يمتنع أن تقول في ترجمة جاءني زيد راكبا: جاءني زيد في حال ركوبه،
[الحجة للقراء السبعة: 1/155]
فيجعل الركوب وقتا لفعله، لأنّ المصادر تكون نحو:
مقدم الحاج.
ومن هاهنا قال أبو الحسن وغيره فيها: إنّها وقت، ولمّا كان هذا معناها أجراها العرب مجرى الظرف، وإن كانت عبارة عن زيد ونحوه، فاستجازت أن تعمل فيها المعاني، كما أعملتها في الظروف، ولم تجعله بمنزلة الظروف من حيث كان مفعولا مختصا، فلم تعمل فيها المعاني متقدّمة.
ويؤكد أنّها عندهم بمنزلة الظروف إخلاؤهم إيّاها من الذكر العائد إلى ذي الحال كإخلائهم الظروف من ذلك، وذلك نحو قولهم: أتيتك وزيد قائم، ولقيتك والجيش قادم، فخلا من ذكر عائد، واستغنى بالواو عن ذلك لما فيها من دلالة الاجتماع. ومن ثمّ مثله سيبويه بإذ في قوله: إذ طائفة حيث لم يعد من الجملة التي بعد الواو ذكر إلى من هذه الجملة حال لهم، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا في أمر الحال من أنّه أشبه الظرف والمفعول به فلم يكن بمنزلة المفعول به على حدته، ولا الظرف على انفراده- وجب أن يكون انتصابها على ضرب آخر غيرهما، كما أن حكمها غير حكم كل واحد منهما على انفراده.
[الحجة للقراء السبعة: 1/156]
وكثيرا ما يجتمع في الشيء الواحد الشبه من وجهين وأصلين. فمن ذلك حروف الجر في: مررت بزيد ونحوه، وهو من جهة بمنزلة جزء من الفعل، ومن أخرى بمنزلة جزء من الاسم. أما الجهة التي كان منها بمنزلة جزء من الفعل، فلأنّه قد أنفذ الفعل إلى المفعول، وأوصله، كما أنّ الهمزة في نحو:
أذهبته، قد فعلت ذلك، وكما أنّ تضعيف العين في خرّجته وفرحته، قد فعل ذلك. وأمّا كونه بمنزلة جزء من الاسم فهو أنّك قد عطفت عليه بالنصب في نحو: مررت بزيد وعمرا، لمّا كان موضع الجارّ والمجرور نصبا، ومن ثم قدّمت على الاسم في نحو: بمن تمرر أمرر به، وبمن تمر. وكذلك قولهم: لا أبا لك، هو من وجه منفصل، ومن وجه متصل، فكذلك الحال: من وجه بمنزلة المفعول به، ومن وجه بمنزلة الظرف الذي هو مفعول فيه.
وفيما ذكرناه- من جواز خلوّ الحال من ذكر يعود منها إلى ذي الحال- ما يدلّ على جواز وقوع الأسماء التي ليست بصفات أحوالا، نحو البسر والرطب والقفيز، وما أشبه ذلك من الأسماء التي لا تناسب الفعل. وفي التنزيل: هذه ناقة اللّه لكم آيةً [هود/ 64].
وأمّا من ذهب إلى أن غيرا منتصب بالاستثناء، فإن الاسم المنتصب في الاستثناء ينتصب بالفعل الذي قبله أو بمعناه بتوسّط إلّا. ومما يدل على انتصابه بذلك- بتوسط هذا الحرف- أنّ حروف الجر قد وقعت هذا الموقع في نحو: جاءني القوم حاشا زيد وخلا زيد، فكما أنّ حرف الجر قد أوصل
[الحجة للقراء السبعة: 1/157]
الفعل أو معناه إلى المستثنى، فكذلك إلّا قد أوصلت ذلك إلى ما بعدها.
ونظير إلا في الاستثناء- في إيصالها الفعل إلى ما بعدها، وانتصاب الاسم بذلك- الواو في قولهم: جاء البرد والطيالسة، واستوى الماء والخشبة، فانتصاب الاسم بعد إلا كانتصابه بعد الواو، ألا ترى أنه لولا الواو لم يصل الفعل إلى الاسم المنتصب على أنّه مفعول معه، كما أنّ إلّا في الاستثناء لولا هي لم يصل الفعل، ولا معناه إلى الاسم المستثنى.
وقد يعمل بواسطة الحروف عوامل، لولا توسّطها لم تعمل فيما تعمل فيه مع دخول الحرف، ألا ترى أنّ اسم الفاعل إذا كان لما مضى لم يعمل عمل الفعل عند عامة النحويين، وقد أجازوا جميعا: هذا مارّ بزيد أمس، لمكان حرف الجر. وتقول: أنت أعلم بزيد منك بعمرو. وفي التنزيل: إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله [النجم/ 30] فأما ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
أكرّ وأحمى للحقيقة منهم... وأضرب منا بالسيوف القوانسا
فعلى إضمار فعل يدلّ عليه أضرب، كما أن قوله: إنّ ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله [الأنعام/ 117] على ذلك.
يدلّك على هذا أنّ (من) لا يخلو من أن تكون موصولة
[الحجة للقراء السبعة: 1/158]
أو استفهاما، فإن كان صلة كان مختصّا، والمفعول به إذا كان مختصا لم تعمل فيه المعاني، وإن كان استفهاما فالذي يعلّق قبل الاستفهام- من الأفعال- ما جاز فيه الإلغاء وما شبّه به، وليست المعاني بواقعة موقع الأفعال في هذا الموضع، فعلمت بهذا أنّه على إضمار فعل.
فإن قلت: فإنّ الاسم في هذا الباب قد انتصب من غير أن يتوسّط حرف، وذلك نحو: غير. في قولهم: جاءني القوم غير زيد، فانتصب غير بالاستثناء من غير أن يتوسط الحرف، فهلّا دلّ ذلك على أن الفعل حيث ذكرت لم يصل بتوسط الحرف. قيل: لا يدل هذا على ما ذكرته، وإنّما وصل الفعل إلى «غير» بغير حرف توسّط، ولم يصل إلى زيد ونحوه إلّا بالحرف، لأنّ غيرا مبهم، والأسماء المبهمة تعمل فيها عوامل لا تعمل في المخصوصة، ألا ترى أن خلفك وعندك ونحو ذلك قد عمل فيهما من المعاني ما لا يعمل في المختصّ غير المبهم، وكذلك الحال والتمييز، قد عمل فيهما ما لا يعمل في غيرهما من الأسماء المختصة. فكما لم يحتج إلى توسط الحرف في عمل ما قبل «غير» في غير، كذلك لم يحتج إلى توسطه في عمل ما قبل سوى في الاستثناء في «سوى» لأنّها في الإبهام بمنزلة «غير» فانتصب بأنّه ظرف، والظروف تعمل فيها المعاني. فلمّا اجتمعت «غير» معها في ذلك كان مثلها في الاستغناء عن توسط الحرف معها.
ومما يدل على استغناء الفعل عن الحرف الذي يصل به
[الحجة للقراء السبعة: 1/159]
مع غير أن غيرا في قولك: أتاني القوم غير زيد، هم الآتون.
فإذا كان إيّاهم في هذا المعنى لم يكن بمنزلة المنصوب في باب المفعول معه، ولا بمنزلة الاسم المنتصب بعد إلا في الاستثناء، ولكنه مشابه للحال، من حيث كان المنصوب المرفوع في المعنى، ولم يكن مخصوصا، كما أن الحال غير مخصوص، فلم يحتج فيه إلى توسط الحرف لإيصال الفعل، كما لم يحتج إلى ذلك في الحال.
وممّا جاء (غير) فيه صفة قوله تعالى: لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضّرر [النساء/ 95]، فمن رفع غيرا كان وصفا للقاعدين. والقاعدون غير مقصود قصدهم، كما كان قوله: الّذين أنعمت عليهم كذلك.
والتقدير لا يستوي القاعدون من المؤمنين الأصحّاء والمجاهدون. ومن نصبه كان استثناء من القاعدين، وإن شئت كان من المؤمنين، لأن غيرا واقع بعد الاسمين الموصولين، ولو وقع متقدما على المؤمنين لم يكن استثناؤه إلّا من القاعدين، لأنّ العامل في المستثنى ما في الصلة، فلا يجوز أن يتقدم على الموصول. ومن جر غيرا كان وصفا للمؤمنين، والتقدير لا يستوى القاعدون من المؤمنين الأصحّاء.
فأمّا قوله سبحانه: إلى طعامٍ غير ناظرين إناه [الأحزاب/ 53] «فغير» حال من قوله: إلّا أن يؤذن لكم،
[الحجة للقراء السبعة: 1/160]
ولا يجوز أن يكون وصفا للطعام كما جاز أن يكون «غير» في الأخرى وصفا للقاعدين مرّة، وللمؤمنين أخرى، لأنّ الناظرين هم المخاطبون، فهم غير الطعام. فكما أنّك لو قلت:
إلى طعام لا ناظرين إناه، لم يكن بد من أن تقول: أنتم، لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له فلا بد من إظهار الضمير فيه، فكذلك لو جعلت غيرا صفة غير حال للزم أن تظهر الضمير. وكذلك تقول: هذه شاة ذات حمل مثقلة به هي، فتظهر الضمير، لأنّ اسم الفاعل للشاة، وقد جرى على الحمل. ولو رفعت لم تحتج إلى الإظهار.
وأصل هذا أنّ الفعل، بما يتضمّنه من الضمير، أقوى من اسم الفاعل مع ما يتضمنه [مما يتضمّنه] اسم الفاعل، فإذا أظهر الضمير في الفعل حيث أدّى إلى الإلباس، فأن يظهر الضمير في اسم الفاعل أولى وأوجب. فمن ثم قال أبو الحسن: إن هذا الضمير إذا لم يظهر كان لحنا. وليس قول من قال: إن إظهاره لا يلزم استدلالا بقول الشاعر:
أمسلمتي للموت أنت فميّت... وهل للنفوس المسلمات بقاء
بمستقيم، لأنّ قوله: فميت يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنّه قال: فأنا ميت.
وقال قوم: تقول: أنت غير القائم ولا القاعد، تريد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/161]
وغير القاعد، كما قال: غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين.
قالوا: ولم يجيء هذا في المعرفة العلم، فلا يجوز: أنت غير زيد ولا عمرو. وهذا إن لم يسمع كما قالوا، فإنّه لا يمتنع أن يقاس فيجوز على ما سمع. وذلك أنّ هذا إنّما جاء لما في «غير» من معنى النفي، فكما أجازوا أنا زيدا غير ضارب لمّا كان المعنى معنى النفي، فجعلوه بمنزلة حرفه، ولم يجعل بمنزلة «مثل» وما كان نحوه من الأسماء المضافة، فكذلك يجوز أن يجعل غير بمنزلة حرف النفي في المعرفة المؤقتة، فيكرّر معه لا كما كرّر مع غير العلم.
فإن قلت: فإن من الناس من يحمل انتصاب زيد في: أنا زيدا غير ضارب على مضمر، ولا يحمله على «ضارب» هذا كما لا يحمله عليه إذا قال: أنا زيدا مثل ضارب. قيل: إن حمله على المعنى وعلى ما في اللفظ من هذا العامل الظاهر أبين، لأنّهم قد حملوا الكلام على المعنى في النفي في مواضع غير هذا. ألا ترى أنّهم قالوا: قلّ رجل يقول ذاك إلا زيد؟ فجعلوا قلّ- وإن كان فعلا- بمنزلة الحرف النافي لمّا كان مثله، فكذلك «غير» إذا كان معناه النفي جعل بمنزلة حرف النفي، فلحقت «لا» معه كما تلحق مع حرف النفي.
وقالوا: إنّما سرت حتى أدخلها، فلم يجز الرفع بعد حتى، كما لم يجز بعد حرف النفي، إذا قال: ما سرت حتى أدخلها، وذلك إذا احتقر السير إلى الدخول. ويدل على أن هذا يجري مجرى النفي قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/162]
........... وإنّما... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
وقالوا نشدتك الله إلا فعلت، فإذا جازت في هذه الأشياء أن تجري مجرى النفي فكذلك ما ذكرناه.
ومن جعل (غير) استثناء لم يمتنع على قوله دخول لا بعد الحرف العاطف، كما لم يمتنع في قولهم: أنت غير القاعد ولا القائم. وذلك أن الاستثناء يشبه النفي، ألا ترى أن قولك: جاءني القوم إلا زيدا بمنزلة قولك. جاءني القوم لا زيد.
فيجوز أن تدخل لا حملا على المعنى، ويجوز أن تجعلها زيادة في هذا الوجه، كما تجعلها زيادة في قوله: وما يستوي الأحياء ولا الأموات [فاطر/ 22].
وإذا جاز دخول «لا» مع الاستثناء من هذين الوجهين، فلا وجه لقول من أنكره. وكذلك يجوز زيادة «لا» في قول من جعلها حالا أو صفة أو بدلا.
وقد دخلت «لا» زائدة في مواضع كثيرة في التنزيل وغيره. فمن ذلك قوله تعالى: لئلّا يعلم أهل الكتاب ألّا يقدرون على شيءٍ من فضل اللّه [الحديد/ 29].
[الحجة للقراء السبعة: 1/163]
وقد أجاز سيبويه قياسا على هذا «أمّا أن لا يكون يعلم فهو يعلم» على زيادة لا. وقد جاء زيادتها في الإيجاب كما جاء في النفي، قال:
أفعنك لا برق كأن وميضه... غاب تسنّمه ضرام مثقب
وأنشد أبو عبيدة:
ويلحينني في اللهو ألّا أحبّه
وقال تعالى: ما منعك ألّا تسجد [الأعراف/ 12]، وفي الأخرى: ما منعك أن تسجد [ص/ 75]. ومن ذلك قول جرير:
ما بال جهلك بعد الحلم والدين... وقد علاك مشيب حين لا حين
[الحجة للقراء السبعة: 1/164]
لا فيه زائدة، والتقدير: وقد علاك مشيب حين حين، وإنّما كانت زائدة لأنّك إذا قلت: علاك مشيب حينا فقد أثبت حينا علاه فيه المشيب.
فلو جعلت (لا) غير زائدة لوجب أن تكون نافية على حدّها في قولهم:
جئت بلا مال، وأبت بلا غنيمة، فنفيت ما أثبتّ، من حيث كان النفي ب (لا) عامّا منتظما لجميع الجنس، فلمّا لم يستقم حمله على النفي للتدافع العارض في ذلك حكمت بزيادتها، فصار التقدير: حين حين.
وهذه الإضافة من باب: حلقة فضة، وخاتم حديد، لأنّ الحين يقع على الزمان القليل كالساعة ونحوها، يدل على ذلك قوله:
تطلّقه حينا وحينا تراجع
ويقع على الزمان الطويل كقوله تعالى: هل أتى على الإنسان حينٌ من الدّهر [الدهر/ 1] وعلى ما هو أقصر من
[الحجة للقراء السبعة: 1/165]
ذلك، كقوله: تؤتي أكلها كلّ حينٍ [إبراهيم/ 25]، فصار حين حين كقول الآخر:
ولولا يوم يوم ما أردنا... جزاءك والقروض لها جزاء
وليس هذا كقوله:
حنّت قلوصي حين لا حين محنّ
لأنّه في قوله: لا حين محنّ- ناف حينا مخصوصا لا ينتفي بنفيه جميع الأحيان، كما كان ينتفي بالنفي العامّ جميعها، فلم يلزم أن تكون (لا) زيادة في هذا البيت، كما لزم زيادتها في حين لا حين.
فهذا الحرف يدخل في النكرة على وجهين: أحدهما: أن يكون زائدا كما مر في بيت جرير، والآخر: أن تكون غير زائدة، فإذا لم تكن زائدة كان على ضربين: أحدهما أن يكون لا مع الاسم بمنزلة اسم واحد نحو خمسة عشر، وذلك قولهم:
[الحجة للقراء السبعة: 1/166]
غضبت من لا شيء، وجئت بلا مال. فلا مع الاسم المنكور في موضع جرّ بمنزلة خمسة عشر، ولا ينبغي أن يكون من هذا الباب قوله:
حنّت قلوصي حين لا حين محنّ
لأن (حين) هاهنا منصوب نصبا صحيحا لإضافته، ولا يجوز بناء المضاف مع لا كما جاز بناء المفرد معها. وإنّما (حين) في هذا البيت مضافة إلى جملة، كما أنّها في قوله:
حين لا يكفّون عن وجوههم النّار [الأنبياء/ 39] كذلك، إلا أن الخبر محذوف وخبر (لا) يحذف كثيرا. ونظير هذا في حذف الخبر من الجملة المضاف إليها ظرف الزمان- قولهم:
كان هذا إذ ذاك.
والآخر: ألّا تعمل (لا) في اللفظ، ويراد بها معنى النفي، فتكون صورتها صورة الزيادة، ومعنى النفي فيه مع هذا صحيح. وذلك كقول النابغة:
أمسى ببلدة لا عمّ ولا خال
[الحجة للقراء السبعة: 1/167]
وقال الشمّاخ:
إذا ما أدلجت وصفت يداها... لها إدلاج ليلة لا هجوع
وقال رؤبة:
لقد عرفت حين لا اعتراف
وبيت الكتاب:
تركتني حين لا مال أعيش به... وحين جنّ زمان الناس أو كلبا
وهذا الوجه عكس ما جاء فيما أنشده أبو الحسن من قول الشاعر:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها... إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا
[الحجة للقراء السبعة: 1/168]
ألا ترى أن (لا) في المعنى زيادة، وقد عملت، وفي قوله: ليلة لا هجوع، وبابه معنى النفي فيه صحيح ولم تعمل.
ومما جاءت فيه (لا) زائدة- إنشاد من أنشد:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به... نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
[قال أبو الحسن: فسرته العرب: أبى جوده البخل، وجعلوا (لا) زائدة حشوا وصلوا بها الكلام]. واختلفوا في قول الشماخ:
أعائش ما لأهلك لا أراهم... يضيعون الهجان مع المضيع
[الحجة للقراء السبعة: 1/169]
فروى التّوزيّ عن أبي عبيدة: أنّ (لا) زائدة، وذهب غيره إلى أنّها ليست زائدة.
ومما يجوز أن تكون (لا) فيه زيادة قول الشاعر:
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم... إذا جلسوا منّا ولا من سوائنا
فأمّا القول في (منّا)، فإنّه يجوز أن يتعلق بشيئين:
أحدهما أن يكون: إذا جلسوا منّا، أي: إذا جلسوا مخالطين لنا؛ لأنّ (منّا) قد استعمل في هذا المعنى، ألا ترى أنّه قد قال: وتقول: أنت منّي فرسخين، فالمعنى: أنت مخالطي في هذه المسافة، وملابسي، فيكون التقدير: إذا جلسوا مخالطين لنا ومخالطين سوانا، و (لا) زائدة كما زيدت في قوله: «أفعنك لا برق».
[الحجة للقراء السبعة: 1/170]
والوجه الآخر: (منّا) متعلّقا بما قبل، كأنه، من كان منهم منّا.
فإن قلت: كيف يصحّ أن يكون من كان منهم منّا؟ قيل:
هذا يكون على وجهين:
أحدهما: أن يكون (منّا) في معنى المخالطة والملابسة كما تقدّم، فيكون (منهم) مستقرّا، و (منّا) في موضع حال، ولا يكون (منّا) مستقرّا و (منهم) في موضع حال من قوله (منّا) لأنّ الحال لا تتقدم على العامل إذا كان معنى، فإن جعلت العامل في الحال كان جاز ذلك.
ويجوز أيضا في قوله: (من كان منهم منّا) أن يكون بينهم محالفة، فيجوز للحلف أن يقول: من كان منهم منّا: لأنّه يجوز- وإن كان من معشر آخرين- أن تقول: منا للحلف، أو للولاء.
وقد جاء: «مولى القوم منهم».
وعلى هذا قوله: «الأذنان من الرأس»
وقال تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/171]
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعضٍ [التوبة/ 67]، أي بعضهم يلابس بعضا ويوالي بعضا. وليس المعنى على النسل والولادة، لأنه قد يكون من نسل المنافق مؤمن، ومن نسل المؤمن منافق. فهذا كقوله: المنافقون والمنافقات بعضهم من بعضٍ [التوبة/ 67]. وكذلك قوله: ذرّيّةً بعضها من بعضٍ [آل عمران/ 34] أي بعضها يوالي بعضا، ولا يتبرأ بعضهم من بعض. ويجوز في قوله: بعضها من بعض- أن يكون المعنى: أنّهم في الآخرة متوالون، لا يتبرّأ بعضهم من بعض، كما يتبرأ الكافرون والفاسقون. ألا تراه قال: إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا [البقرة/ 166] وفما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميمٍ [الشعراء/ 100] ونحو ذلك من الآي التي تدلّ على هذا المعنى فقوله: ذرّية بعضها من بعض، أي: هم على خلاف صفة المنافقين والكافرين، لأنّهم إخوان متوالون.
فأمّا قوله: واللّه أعلم بإيمانكم بعضكم من بعضٍ [النساء/ 25] فقد يكون المعنى والله أعلم: بإيمانكم بعضكم من بعض، أي: بعضكم يوالي بعضا ويلابس بعضا في ظاهر الحكم من حيث شملكم الإسلام فاجتمعتم فيه وصرتم متكافئين متماثلين لجمع الإسلام لكم، واستوائكم في حكمه في الديات والقصاص والمناكح والتّوارث ونحو هذا، مما جمعهم الإيمان فيه. وقال:
إذا حاولت في أسد فجورا... فإني لست منك ولست مني
[الحجة للقراء السبعة: 1/172]
وقال جرير:
عرين من عرينة ليس مني... برئت إلى عرينة من عرين
وقال آخر- أظنّه الراعي-:
فقلت ما أنا ممن لا يواصلني... ولا ثوائي إلا ريث أحتمل
وأما قوله: ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم [الحديد/ 22]. فإن موضع قوله: في الأرض يحتمل ضربين: أحدهما: أن يكون مفعولا فيه ظرفا، والآخر: أن يكون وصفا. فإن جعلته ظرفا احتمل أن يكون ظرفا لأصاب، واحتمل أن يكون لمصيبة، ولا ذكر فيه على شيء من هذين التأويلين، كما أنّ قولك: بزيد، من: مررت بزيد، كذلك.
ويؤكد ذلك ويحسنه دخول لا في قوله: (ولا في أنفسكم)، فصار ذلك مثل: ما ضربت من رجل ولا امرأة.
والضرب الآخر: أن يكون صفة للنكرة، ويكون متعلقا بمحذوف وفيه ذكر يعود إلى الموصوف. وقوله: (ولا في أنفسكم) صفة معطوفة على صفة، فإذا كان كذلك احتمل موضعه ضربين: أحدهما أن يكون جرا على لفظ قوله: من مصيبة، والآخر: أن يكون رفعا على موضع من مصيبة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/173]
فإن قلت: فإذا كان كذلك فما وجه دخول لا في قوله:
(ولا في أنفسكم) وليس الكلام على هذا التأويل بنفي؟ فالقول في ذلك أنّه لما كان معطوفا على ما هو منفيّ في المعنى- وإن لم يكن منفيا في اللفظ- جاز أن يحمل الكلام على المعنى، فتدخل «لا» كما حملته على ذلك في قوله:
يحكي علينا إلّا كواكبها
ألا ترى أنّ الضمير في يحكي لمّا كان لأحد المنفي أجريته مجرى المنفي في استجازتك البدل منه، كاستجازتك البدل من نفس المنفيّ فكذلك قوله: في الأرض، لما كان صفة لمنفي أجريته مجرى النفي فاستجزت العطف عليه (بلا). وإن شئت قلت: إنّ (لا) زائدة، والأول أبين، لأنّ الحمل على المعنى في النفي قد جاء في غير شيء، ألا ترى أنّهم قد قالوا: إنّ أحدا لا يقول ذاك إلّا زيد، لمّا كان في المعنى منفيا؟ ومن الحمل على المعنى قولهم: قد علمت زيد أبو من هو، فكذلك يكون ما ذكرنا). [الحجة للقراء السبعة: 1/174]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
ذكر أبو بكر أحمد بن موسى أن فيها سبع قراءات: [علهُمُو]، و[عليهُمُ] بضم الميم من غير إشباع إلى الواو، و[عليهُمْ] بسكون الميم مع ضمة الهاء، و[عليهِمي]، و[عليهِمْ] بكسر الهاء وسكون
[المحتسب: 1/43]
الميم، و[عليهِمُو] بكسر الهاء وواو بعد الميم، و[عليهِمُ] مكسورة الهاء مضمومة الميم من غير واو.
وزاد أبو الحسن سعيد بن مَسعدة الأخفش على ما قال أبو بكر ثلاثة أوجه، فصار الجميع عشرة أوجه؛ والثلاثة: [عليهُمِي] بضم الهاء وميم مكسورة بعدها ياء، و[عليهُمِ] بضمة الهاء وكسرة الميم من غير إشباع إلى الياء، و[عليهِمِ] بكسرة الهاء وكسرة الميم أيضًا من غير بلوغ ياء، فتلك عشرة أوجه: خمسة مع ضم الهاء، وخمسة مع كسرها.
قرأ [عليهُمُو] ابن إبي إسحاق ومسلم بن جندب والأعرج وعيسى الثقفي وعبد الله بن يزيد.
وقرأ: [عليهِمِي] الحسن وعمرو بن فايد، ورُوي عن الأعرج: [عليهِمُ] مكسورة الهاء مضمومة الميم من غير بلوغ واو.
وقرأ: [عليهُمُ] مضمومة الهاء والميم من غير بلوغ واو، رويت عن الأعرج أيضًا.
قال أبو الفتح: أما [عليهُمُو] فهي الأصل؛ لأنها رَسِيلة عليهُما في التثنية؛ أعني: ثبات الواو كثبات الألف، وينبغي أن تعلم أن أصل هذا الاسم المضمر الهاء، ثم زيدت عليها الميم؛ علامة لتجاوز الواحد من غير اختصاص بالجمع، ألا ترى الميم موجودة في التثنية: [عليهُما]؟ وأما الواو فلإخلاص الجمعية.
وأما [عليهِمِي] فطريقه: أنه كسرت الهاء لوقوع الياء قبلها ساكنة وضعف الهاء، فأشبهت لذلك الألف، لا سيما وهي تجاورها في المخرج، لا بل أبو الحسن يَدَّعي أن مخرج الألف هو
[المحتسب: 1/44]
مخرج الهاء ألبتة. فكما أن الياء الساكنة إذا وقعت قبل الألف قلبتها ياء، نحو قولك في تحقير كتاب: كُتيِّب، كذلك كسرت الهاء، فكان انكسار الهاء للياء قبلها تغييرًا لحقها لهما، كما أن انقلاب الألف ياء لمكانها تغيير لحقها من أجلها، فصار اللفظ بها من بعد [عليهِمو]، فكرهوا الخروج من كسر الهاء إلى ضم الميم الواو من بعدها، فكسروا الميم لذلك؛ فصارت [عليهِمِوْ]، فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها؛ فصارت [عليهِمِي].
ومَن كسر الهاء وضم الميم وحذف الواو فقال: [عليهِمُ] فإنه لما انتهت به الصنعة إلى كسر الهاء احتمل الضمة بعد الكسرة؛ لأنها ليست بلازمة، إذ كانت ألف التثنية تفتحها؛ لكنه حذف الواو تفاديًا من ثقلها مع ثقل الضمة التي تجَشَّمها.
ومَن قرأ: [عليهُمُ] بضم الهاء والميم، فإنه حذف الواو استخفافًا، واحتمل الضمة قبلها دليلًا عليها.
لكن من قال: [عليهُمِي] بهاء مضمومة وياء بعد الميم ففيه نظر؛ وذلك أنه كُرِه ضمة الهاء وضمة الميم ووقوع الواو من بعد ذلك كما كُرِه في الاسم المظهر وقوع الواو طرفًا بعد ضمة، وذلك نحو قولهم في دَلْو وحَقْو: أَدْل وأَحْق، وأصلها أَفْعُل أَدْلُوٌ وأَحْقُوٌ، ككلب وأَكْلُبٍ، فأبدلوا من الضمة كسرة تطرقًا إلى قلب الواو، فصارت في التقدير: أَدْلِوٌ وأَحْقِوٌ، فقلبت الواو ياء بعذر قاطع؛ وهو وقوع الكسرة قبلها، فصارت أَدْلِي وأَحْقِي، وكذلك أبدلت ضمة الميم من [عليهُمُو] كسرة فصارت [عليهُمِوْ]، فأبدلت الواو ياء للكسرة قبلها؛ فصارت [عليهُمِي].
وأما [عَلَيْهُمِ] بكسرة الميم من غير ياء، فإنه لما كانت الصنعة فيه إنما طريقها الاستخفاف، اكتفي بالكسرة من الياء.
وكذلك مَن قال: [عَلَيْهِمُ] بكسر الهاء مع ضم الميم اكتفي بالضمة من الواو، وقد ذكرناه.
ومَن قال: [عَلَيْهِمِ] بكسر الهاء والميم من غير ياء، فإنه اكتفى بالكسرة أيضًا من الياء استخفافًا، فأما قول الشاعر ورويناه عن قطرب:
فهمو بطانتهم وهم وزراؤهم ... وهُمِ القضاةُ ومنهم الحكام
وروينا عنه أيضًا:
ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم ... همِ الناسَ لما أَخصبوا وتموَّلوا
[المحتسب: 1/45]
فقوله: وهمِ القضاة، ومنهمِ الحكام، فيتحمل كسر الميم وجهين:
أحدهما: أن يكون حرَّكه لالتقاء الساكنين.
والآخر: أن يكون على لغة مَن قال [عليهُمِي]، فحذف الياء لالتقاء الساكنين من اللفظ، وهو ينويها في الوقف.
ووجه ثالث: أن يكون على لغة مَن قال: [عليهُمِ] بكسر الميم من غير ياء.
وقوله: "همِ الناس" يحتمل أيضًا هذه الأوجه الثلاثة.
وروينا عن قطرب أيضًا: عافكمِ الله، ففيه أيضًا ما فيما قبله، واللغات في هذا ونحوه كثيرة.
ومن ذلك قراءة أيوب السختياني: [وَلا الضَّأَلِّينَ] بالهمز.
قال أبو الفتح: ذكر بعض أصحابنا: أن أيوب سُئل عن هذه الهمزة، فقال: هي بدل من المدة لالتقاء الساكنين، واعلم أن أصل هذه ونحوه: الضاللين، وهو "الفاعلون" من ضلَّ يضل، فكره اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد على غير الصور المحتملة في ذلك، فأسكنت اللام الأولى وأُدغمت في الآخرة، فالتقى ساكنان: الألف واللام الأولى المدغمة فزيد في مدة الألف، واعتُمدت وطأة المد، فكان ذلك نحوًا من تحريك الألف؛ وذلك أن الحرف يزيد صوتًا بحركاته كما يزيد الألف بإشباع مدته.
وحكى أبو العباس محمد بن يزيد عن أبي عثمان عن أبي زيد قال: سمعت عمرو
[المحتسب: 1/46]
ابن عبيد يقرأ: [فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَأَن]، قال أبو زيد: فظننته قد لحن إلى أن سمعت العرب تقول: شَأَبَّه ومَأَدَّه ودَأَبَّة، وعليه قول كثير:
إذا ما العوالي بالعبيط احمَأَرَّت
وقال:
وللأرض أما سودها فتجللت ... بياضًا وأما بِيضُها فادْهَأَمَّت
وقد ذكرنا من هذا الضرب في كتابنا الموسوم بالخصائص ما فيه كفاية عن غيره.
ومن طريف حديث إبدال الألف همزة ما حكاه اللحياني من قول بعضهم في الباز: البأز بالهمزة، ووجه ذلك: أن الألف ساكنة، وهي مجاورة لفتحة الباء قبلها، وقد أَرينا في كتاب الخصائص وغيره من كتبنا: أن الحرف الساكن إذا جاور الحركة فقد تُنْزِله العرب منزلة المتحرك بها، من ذلك قولهم في الوقف على بكر: هذا بَكُر، ومررت ببكِر، ألا ترى حركتي الإعراب لما جاورتا الراء صارتا كأنهما فيها. ومنه قوله جرير:
لَحَبَّ المؤقدان إليَّ مؤسى
[المحتسب: 1/47]
فهمَز الواو في الموضعين جميعًا؛ لأنهما جاورتا ضمة الميم قبلهما، فصارت الضمة كأنها فيهما، والواو إذا انضمت ضمًّا لازمًا فهمزها جائز، نحو: [أُقِّتَت] في [وُقِّتت]، و"أجوه" في "وجوه"، ونظائر ذلك كثيرة.
وكذلك الفتحة قبل الألف في باز لما جاورتها صارت على ما ذكرنا كأنها فيها، والألف إذا حركت هُمزت على ما ذكرنا في [الضَّألِّين] و[جَأن]، فهذا وحهه.
فإن قلت: فقد حكي أيضًا جمعه بئزان بالهمز، فصارت لذلك كَرَأْل ورِئْلان، فما أنكرت أن يكون ذلك لغة في الباز لا على البدل الذي رمته؟
قيل: هذا وجه يُذهب إلى مثله، لكنا لم نسمع الهمز في هذا الحرف أصلًا إلا في هذه الحكاية، والواو فيه هي الشائعة المستفيضة.
حدثنا أبو علي قال: قال أبو سعيد الحسن بن الحسين يقال: بأز، وثلاثة أبواز، فإذا كثرت فهي البيزان.
وقالوا: بازٍ وبَوَازٍ وبُزاة، فباز وبزاة كغازٍ وغزاة، وهو مقلوب الأصل الأول، وأنشدنا لذى الرمة:
كأن على أنيابه كل سُدْقَة ... صياح البوازي من صريف اللوائك
وقالوا في تصريفه: بزا فلان يبزو إذا غلب، فكأن البازي اسم الفاعل في الأصل، ثم خص به هذا الجارح على وجه التسمية به له، كما أن الصاحب في أصله اسم الفاعل من صحب، ثم خص بالتسمية به، ونُسي أصل وصفيته.
وكما أن الوالد كذلك، فقد ترى إلى سَعَة تصرف هذا الأصل على الواو، ولم نسمع في تصرفه شيئًا من الهمز غير هذه الحكاية من هذه الجهة، على ما يقول في صاحبها.
[المحتسب: 1/48]
وحدثني أبو علي قال: قال أبو بكر في نوادر اللحياني: إنه لا يَتَرَقَّى بهما السماع إليه، وعلى أنه قد يمكن في الباز ما ذكرناه فلما سُمع فيه بَأْز بالهمزة أشبه في اللفظ، وإلا فقيل في تكسيره: بئزان، كما قيل: رئلان.
وإذا جاز استمرار البدل في نحو عيد وأعياد، وإجراؤه مجرى قَيْل وأَقْيَال مع أن البدل في حرف المد الذي لا يكاد يعتد البدل فيه للضعف، فأن يجوز استمرار هذا في الهمزة لأنها أقوى، فالأمر لذلك فيها أثبت وأحرى وأجدر، ألا ترى أنهم قالوا في تحقير قائم: قُوَيْئِم، فأثبتوا همزه كما أثبتوا همزة سائل من سأل؟ وقالوا في تحقير أدؤر: أُديئر، فأجروها مجرى همزة أرؤس. ولو كان مكان هذه الهمزة واو مبدلة من ياء لما ثبتت، وذلك قولك في تحقير عُوطَط: عُيَيْطط، ولا تقر الواو وإن كانت عينًا.
وكذلك لو كسرت الطوبي والكوسي على فُعَل، لقلت: الطُّيَب والكُيَس.
ولو كسرتهما على مثيل حُبلى وحبالى لقلت: طَيابى وكياسى.
وعلى هذا قالوا في تكسير ريح: أرواح، فلم يحفلوا بانقلاب العين من ريح؛ لأن العمل إنما هو في الواو ليست لها عصمة الهمزة.
فأما ما حُكي عن عُمارة من قوله في تكسير ريح: أرياح، وعلى أن اللحياني أيضًا قد حكى هذا، فمردود عندنا، ومنعيٌّ عليه في آرائنا.
قال أبو حاتم وقد أغلظ في ذلك: أنكرتها على عمارة، قال: فقال لي: قد قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} قال: ولم يعلم عمارة أن الياء في الرياح بعد كسرة، فهذا أمر قاد إليه همز أيوب {الضَّالِّين}، وفيه أكثر من هذا، ولولا تنكُّب الإطالة كراهية الإملال والسآمة لأتينا به، وعلى أنه مثبت في أماكن من تأليفنا وإملائنا). [المحتسب: 1/49]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ( {صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين}
قرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم بضم الهاء قرأ ابن كثير ونافع في رواية القاضي عن قالون عنه عليهمو وإليهمو
[حجة القراءات: 80]
بكسر الهاء وضم الميم ويصلون بواو في اللّفظ
وقرأ الباقون بكسر الهاء وسكون الميم
واعلم أن الأصل في عليهم: عليهمو بضم الهاء والميم والواو الّتي بعد الميم والدّليل على ذلك أن هذه الهاء للمذكر تضم وتشبع ضمتها فيتولد منها الواو نحو ضربته وإذا فتحت كانت للمؤنث نحو رأيتها وهذه أيضا وإن فتحت فأصلها الضّم بدلالة قولك للاثنين رأيتهما وللجماعة رأيتهن وعلامة الجمع في المذكر إلى هذه الهاء هي الميم المضمومة الّتي بعدها واو كما هي في قولكم ضربتكم وأصله ضربتكمو يتبيّن لك ذلك إذا اتّصل به مضمر آخر ترد معه الواو نحو ضربتكموه ولا تقول ضربتكمه ومنه قول الله عز وجل {أنلزمكموها} فهذا ممّا يبين لك أن الأصل عليهمو بضمّتين وواو
وحجّة من قرأ عليهم بضم الهاء وسكون الميم أن أصلها الضّم فأجري على أصل حركتها وطلب الخفة بحذف الواو والضمة فأتى بأصل هو ضم الهاء وترك أصلا هو إثبات الواو وضم الميم وأما من قرأ عليهم فإنّه استثقل ضمة الهاء بعد الياء فكسر الهاء لتكون الهاء محمولة على الياء الّتي قبلها والميم مضمومة للواو الّتي بعدها فحمل كل حرف على ما يليه وهو أقرب إليه
[حجة القراءات: 81]
وحجّة الباقين أن الهاء إذا وقعت بعد ياء أو كسرة كسرت نحو به وإليه وعليه وإنّما اختير الكسر على الضّم الّذي هو الأصل لاستثقال الضمة بعد الكسرة ألا ترى أنه قد رفض في أصل البناء فلم يجئ بناء على فعل مضمومة العين بعد كسر الفاء وأما حذف الواو فلأن الميم استغني بها عن الواو والواو أيضا تثقل على ألسنتهم فإذا لقيت الميم ألف ولام فإنّهم مختلفون مثل {عليهم الذلة} وبهم الأسباب فقرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم وقرأ حمزة والكسائيّ بضمهما وقرأ الباقون بكسر الهاء وضم الميم وإنّما كسروا الهاء لمجاورة الياء والكسرة وإنّما رفعوا الميم لأنهم لما احتاجوا إلى تحريكها من أجل السّاكن الّذي لقيته رد عليها الحركة الّتي كانت لها في الأصل وهي الضّم لأن أصل الميم الضّم وقد بينا فيما تقدم
وأما أبو عمرو فإنّه لما غير الهاء عن أصلها كراهية الثّقل فعل ذلك في الميم حين أراد تحريكها للساكن بعدها فأتبع الميم كسر ما قبلها كراهية أن يخرج من كسر إلى ضم فأتبع الكسر الكسر ليؤلف بين الحركات عند حاجته إلى تحريك الميم
وحجّة من ضم الهاء والميم هي أن الميم لما احتيج إلى تحريكها من أجل السّاكن رد عليها الحركة الّتي كانت في الأصل وهي الضّم فلمّا انضمت الميم غلبت على الهاء وأخرجتها في حيّز ما قبلها من الكسر فرجعت الهاء إلى أصلها). [حجة القراءات: 82]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (9- قوله: (وعليهم، وإليهم، ولديهم) وبابه، إن سأل سائل فقال: ما علة حمزة في ضم الهاء في هذه الثلاثة، في وصله ووقفه؟
فالجواب أن الهاء والميم من «هم» أصلها الضم، وُصلت واو بالميم، لكن الميم أسكنت استخفافًا، وحذفت الواو اختصارًا؛ لأن المعنى لا يُشكل، فلما دخلت «على والي ولدي» على الهاء أبقاها مضمومة على أصلها قبل دخولهن؛ لأن الداخل عليها عارض، ولأن هذه الياءات في «عليهم وإليهم ولديهم» عارضة أيضًا، إنما أصلهن ألف، وإنما ينقلبن إلى عند اتصالهن بالمضمر، والياء عارضة غير لازمة، فلم يعتد بها وترك الهاء على ضمتها الأصلية.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/35]
وأيضًا فإنه توهم الألف الأصلية قبل الهاء، والألف إذا وقعت قبل هاء المضمر لم تكن الهاء إلا مضمومة، لا يجوز غير ذلك، فأجري الهاء مع الياء العارضة، التي هي بدل من الألف، مجراها مع الألف، فضم على الأصل ثم أجري الوقف على الوصل؛ لأن العلة واحدة، ولئلا تختلف الكلمة، وأيضًا فإنه ألزم الهاء الضم في هذه ثلاث الكلمات، وخصها بذلك ليفرق بين الياء، التي أصلها الألف وبين الياء، التي لا أصل لها في الألف، فكسر الهاء مع الياء، التي لا أصل لها في الألف نحو: «فيهم ويريهم» للياء اللازمة التي قبلها، وضم التي قبلها ياء، وأصلها الألف، نحو: «عليهم وإليهم ولديهم» للفرق وقوي ذلك وحسن للضمة المقدرة في الميم؛ لأن أصلها الضم، وصلتها بواو، فأتبع الضم الضم المقدر في الميم.
10- فإن قيل: فما باله لم يضم الهاء في «عليهن وإليهن» وأصلها الضم في «هن»، والياء عارضة أيضًا؟
فالجواب أن «عليهم وإليهم ولديهم» تقوت ضمة الهاء فيهن، لكون الميم مضمومة في الأصل، فأتبع الهاء أصل ضم الميم، وليس ذلك في «عليهن وإليهن»، لا يقول أحد إن النون أصلها الضم. فلما لم يكن بعد الهاء ما يقوي الضمة فيها كسرها للياء، التي قبلها في اللفظ، والضم فيها جائز على أصلها في الكلام.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/36]
وكذلك الجواب في كسرة الهاء في عليهما، ولم يضم الهاء على أصلها، إذ ليس بعد الهاء ما يقوي الضم فيها، من حرف أصله الضم كالميم، إنما بعدها في «عليهما» فتحة.
11- فإن قيل: فما علة حمزة والكسائي في ضمهما الهاء والميم إذا أتى بعدها ساكن، وقبل الهاء ياء أو كسرة يوجبان كسر الهاء نحو: {يريهم الله} «البقرة 167» و{من دونهم امرأتين} «القصص 23».
فالجواب أنهما لما اضطرا إلى حركة الميم، للساكن الذي أتى بعدها، ردا الميم إلى الضمة التي هي أصلها، وكان ردها إلى أصلها، عند الحاجة، بحركتها أولى من ردها إلى حركة، ليست بأصل لها، فلما وجب ضم الميم أتبعت الهاء حركة الميم، وردت أيضًا إلى أصلها، وهو الضم، وقوي ردها إلى أصلها؛ لأن بعدها ميمًا فردت إلى الضم، الذي هو أصلها، فإذا وقفا انفصل الساكن، وسكنت الميم، فرجعت الهاء إلى الكسر للياء التي قبلها.
وحجة أبي عمرو في كسرة الهاء والميم، إذا أتى بعدهما ساكن وقبل الهاء ياء أو كسرة، أنه لما اضطر إلى حركة الميم، لالتقاء الساكنين كسرها لذلك على أصل الكسر في التقاء الساكنين، وكان ذلك عنده أولى بها لكسرة الهاء قبلها، فأتبع الكسر الكسر، فلما كسر الميم أتبعها كسرة الهاء قبلها، وكان قد كسر الهاء اللياء التي قبلها، وقد يحتمل أنه قدر في الميم الكسر على لغة من يقول: «عليهم»
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/37]
فيكسر الميم لكسر الهاء قبلها، ويبدل من الواو ياء، فيكون قد حذف الياء لالتقاء الساكنين، وأبقى الميم على كسرتها، وقوي ذلك لكسر الهاء قبلها.
12- فإن قيل: من أين كان الكسر أصلًا لالتقاء الساكنين؟
فالجواب أنه لما وجب تحريك الأول لالتقاء الساكنين كان الكسر أولى به في الأسماء؛ إذ ليس فيها كسر يُراد به الإعراب إلا ومعه تنوين، فأمنوا أن يلتبس بالمعرب؛ إذ لو ضموا أو فتحوا لالتقاء الساكنين لالتبس بالمعرب الذي لا ينصرف؛ لأن الضم والفتح يكونان إعرابًا بغير تنوين في الأسماء، ولا يكون الكسر إعرابًا في الأسماء إلا بالتنوين، فدل الكسر، بغير تنوين، أنه ليس بإعراب، وأنه بناء، إذ لو كان إعرابًا لاتبعه التنوين، فأما علة الكسر لالتقاء الساكنين بحركة، لا تشكل بالإعراب؛ إذ لا خفض فيها، ولو حركت بالفتح أو الضم لالتبس بالإعراب، لأن الفتح والضم من إعراب الأفعال.
13- وحجة من قرأ بكسر الهاء وضم الميم إذا أتى بعدها ساكن، وقبل الهاء ياء أو كسرة، أنه لما احتاج إلى حركة الميم ردها إلى أصلها، وهو الضم، وبقيت الهاء على كسرتها، للياء أو الكسرة التي قبلها، ولم يعتد بضمة الميم، لأنها عارضة. وهي قراءة نافع وأكثر القراء.
14- وحجة من قرأ بكسر الهاء وضم الميم، وصلتها بواو، حيث
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/38]
وقعت ما لم يأت بعدها ساكن، وقرأ بضم الميم التي للجمع حيث وقعت، وصلتها بواو، كان قبلها هاء أو غيرها، أنه لما أتى بالميم على أصلها، وأصلها بالضم، وصلها بواو، لأن المضمر الغائب إذا جاوز الواحد، يحتاج إلى حرفين بعد الهاء، كما قالوا في التثنية «عليهما» فزادوا ميمًا وألفًا. فالواو في الجمع بإزاء الألف في التثنية، فأما الهاء فإنه أبقاها على كسرتها للياء أو للكسرة قبلها، وهي قراءة ابن كثير، وخيَّر قالون في ذلك، وإنما حذف الواو التي بعد الميم من حذفها من القراء للاستخفاف، ولأن المعنى لا يشكل بغيره.
15- وحجة من وصل الميم التي للجمع بواو، إذا أتى بعدها همزة خاصة، وهو ورش، أنه لما وجد سبيلًا إلى بيان الواو بالمد، لوقوع همزة بعدها، أثبتها ومدها للهمزة التي بعدها، وإذا لم يأت بعد الميم همزة حذفها، إذ لم يجد سبيلًا من علة، توجب مد الواو وإظهارها.
16- وحجة من أسكن الميم التي للجمع، في كل موضع ما لم يأت
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/39]
بعدها ساكن، وعليه أكثر القراء، أنه آثر التخفيف، فحذف الواو إذ المعنى لا يُشكل، فلما حذفت الواو حذفت ضمة الميم، وأسكنت الميم؛ لأنها إنما انضمت من أجل الواو، فلما زالت الواو زالت الضمة، فسكنت الميم، وقد كنا أملينا أقسام التقاء الساكنين والحكم فيها، وذكرنا أن ذلك ينقسم على تسعة أقسام فيما بعد هذا الموضع، فأغنانا ذلك عن إعادته في هذا الموضع والاختيار ما عليه أكثر القراء من كسر الهاء للياء التي قبلها، وإسكان الميم، إذا لم يأت بعدها ساكن، وضمها إذا أتى بعدها ساكن، فذلك أخف وأفصح وعليه جمهور القراء، وهو الأشهر عن نافع.
17- فإن سأل سائل فقال: ما علة ما ذكرت من كسر الهاء وضمها في وقف حمزة، وبدله ياء من الهمزة في «أنبئهم ونبئهم»؟
فالجواب أن حمزة أصله أن يسهل كل همزة متوسطة أو متطرفة في وقفه، فإذا وقف على «أنبئهم ونبئهم» أبدل من الهمزة ياء للكسرة التي قبلها، فصارت الهاء مضمومة قبلها ياء، فمن القراء من يترك الهاء على ضمتها، لأن الياء عارضة، إنما حذفت في الوقف، والوقف أيضًا عارض، ولأن الهمزة
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/40]
منوية مقدرة، والهاء مع الهمزة لا يجوز فيها إلا الضم، فأبقاها على ضمتها كما فعل في «عليهم» وأختيه، حين نوى الألف التي هي الأصل فضم الهاء، ومنهم من يكسر الهاء، للياء التي حدثت قبلها، كما كسرها في «يريهم، وفيهم»، وكلا القولين قائم بحجته، لكن ترك الهاء على ضمتها أولى؛ لأن الياء غير لازمة، ولأن الوصل بالضم، فإجراء الوقف على الوصل أحسن من مخالفته، ولما ذكرنا من العلل فيها). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/41]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (3- {عَلَيْهِمْ} [آية/ 7]:-
بضم الهاء وإسكان الميم، قرأ يعقوب بضم الهاء فيه وفي أمثاله من كل هاءٍ قبلها ياء ساكنة، وبعدها الميم أو النون المشدّدة نحو: إليهم، وعليهم، وفيهم، وكذلك: فيهن وعليهن.
وهذا لأن الضم في هذه الهاء هو الأصل، بدلالة أنها إذا انفردت كان حركتها الضم نحو: هو وهما وهم.
[الموضح: 231]
وقرأ حمزة بضم الهاء في ثلاثة: عليهم، وإليهم، ولديهم.
لأن ياءاتها غير لازمة، إذ هن مع الظواهر ألفات نحو: على زيد ولد عمرو، فكما أن الهاء مضمومة بعد الألفات نحو: عصاهم، فكذلك بعد هذه الياءات؛ لأن حمزة يجريهن في المضمر مجراهن في المظهر.
والباقون يكسرون الهاء في ذلك وأمثاله.
لأن الهاء يقارب الألف في المخرج، وهي مثلها في الخفاء، فكما أن الألف تمال لوقوع الياء أو الكسرة قبلها، فكذلك الهاء تبدل ضمتها كسرة لوقوع الياء أو الكسرة قبلها.
وأما الميم فإن ابن كثير يضم الميم ويصلها بواوٍ، وكذلك –ن- و- يل- عن نافع.
وإنما ذلك لأن أصل ميم الجمع أن تكون مضمومة وبعدها واوٌ، بدلالة التثنية وجمع المؤنث، وكما أن بعد الهاء في التثنية وجمع المؤنث حرفين نحو: عليهما وعليهن، فكذلك بعدها في جمع المذكر يجب أن يقع حرفان وهما الميم والواو.
والباقون يسكنون الميم، وكذلك يروي –ن- و- يل- عن نافع أيضًا بالتخيير بين الضم والإسكان.
[الموضح: 232]
وعلةُ الإسكان أن الواو حذف للتخفيف، وأسكن الميم؛ لأنه لا لبس هاهنا، إذ الألف في التثنية دلت على الاثنين، ولا ميم في الواحد، فهو مأمون الإشكال موصول فيه إلى التخفيف.
وأما –ش- عن نافع فإنه يسكن الميم مع كسر الهاء، إلا أن يلقى الميم ألف أًلية مثل: (عليهمو أأنذرتهمو أم).
وذلك لأنه أمن سقوط الواو قبل ألف الأصل، فإن ألف الأصل لا يسقط معه الواو لالتقاء الساكنين، كما يسقط مع ألف الوصل، فلمّا أمن سقوطه، وكان المدّ قبل الهمزة يتقوى به على التلفّظ بها بدلالة تطويلهم المدّ في نحو: {كَمَا آمَنَ} وأمثاله حيث تقع بعد المدّة همزة، أثبت ورش الواو في (عليهمو) ليتقوى بالمدَّ على التلفظ بالهمزة.
وأما إذا لقي هذا الميم ساكن:
فإن ابن كثير ونافعًا وعاصمًا وابن عامر يكسرون الهاء ويضمون الميم نحو: {عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} و{إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ}.
وذلك لأنهم لما احتاجوا إلى الحركة لالتقاء الساكنين ردوا الحرف إلى أصله من الضم وركوا الهاء على كسرها؛ لأنه لم تأت ضرورة تحوج إلى ردها إلى الأصل.
[الموضح: 233]
وأبو عمرو يكسر الميم والهاء معًا.
وإنما كسر الميم لثقل الضمة بعد الكسرة، ولهذا لم يأت في كلامهم مثل: فعل، وأصل {عَلَيْهِمْ} عند أبي عمرو: عليهمي؛ لأنه أبدل من ضمة ميم (عليهمو) كسرة فانقلب الواو ياءً استثقالًا للواو الساكنة طرفًا وقبلها ضمة، فلما حذف الياء والكسرة تخفيفًا فقال: عليهم واحتاج عند التقاء الساكنين إلى حركة كانت حركة الأصل وهي الكسرة أولى.
وأما حمزة فإنه يضم الميم في الأحرف الثالثة التي ذكرنا إذا لقيها ساكنٌ؛ لأنه يضم الهاء في هذه الأحرف فيتبعها حركة الميم عند التقاء الساكنين.
والكسائي يكسر الهاء إذا لم يلق الميم ساكنٌ، ويضمها إذا لقيها ساكنٌ.
وكذلك حمزة في غير الأحرف الثلاثة.
لأنهما إذا ردّا الميم إلى أصلها من الضم، ردا الهاء أيضًا إلى أصلها، فأتبعا الضم الضم لئلا يقع الخروج من الكسر إلى الضم.
وأما يعقوب فإنه يضم الميم إن كانت الهاء مضمومة في قراءته، ويكسرُها إن كانت مكسورةً في قراءته.
وهذا على إتباع حركة الميم لحركة الهاء.
[الموضح: 234]
4- {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} [آية/ 7]:
اتفق القراءُ كلهم على الجرّ من {غَيْرِ} إلا ما روى عن عبد الله بن كثير ابنه وهرون الأعور بنصب {غَيْرِ}.
وعلة الجر من وجهين:
أحدهما: أن يكون على البدل من {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}، وجاز ذلك لأن بدل النكرة من المعرفة جائزٌ، فإن {الَّذِينَ} معرفة، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} نكرةٌ، وإن كان مضافًا إلى معرفة؛ لأن غيرًا ومثلًا وشبهًا لا يتعرف بالإضافة.
والثاني: أن يكون صفة لـ {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ويكون ذلك على تأويلين:
أحدهما: أن يجرى {الَّذِينَ} هاهنا مجرى النكرة؛ لأنه واقعٌ على من ليس بمقصود قصدهم فهو بمنزلة قولهم: إني لأمر بالرجل مثلك فأكرمه، والآخر: أن يجعل {الَّذِينَ} معرفة ويوصف بغير على أن غيرًا هاهنا مع ما أضيفت إليه معرفةٌ؛ لأنها مضافةٌ إلى ضد شيءٍ له ضد واحد، فأردت إثباته ونفي ضده، فيكون بمنزلة تكرير الاسم كما تقول: عليك بالحركة غير السكون، فغير السكون معرفةً؛ لأنك ما أردت بها إلا الحركة، فكذلك المنعم عليهم ضدّه
[الموضح: 235]
المغضوب عليهم؛ لأن من أنعم عليه بالإيمان فإنه لم يغضب عليه، ومن لم يغضب عليه فإنه أنعم عليه، وهذا عن ابن السراج.
وأمنا النصب في {غَيْرِ} فيجوز أن يكون على الاستثناء كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم، ويجوز أن يكون حالًا على تقدير: أنعمت عليهم لا مغضوبًا عليهم، ويجوز أن يكون على إضمار أعني.
والمختار هو الجرُّ؛ لاتفاقهم عليه). [الموضح: 236]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين