تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {وقال قرينه هذا ما لدي عتيد}، قال جماعة من المفسرين: قرينه من زبانية جهنم، أي قال: هذا العذاب الذي لهذا الإنسان الكافر حاضر عتيد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ففي هذا تحريض على الكافر واستعجال به.
وقال قتادة، وابن زيد: بل قرينه الملك الموكل بسوقه، فكأنه قال: هذا الكافر الذي جعل إلى سوقه، فهو لدي حاضر، وقال الزهراوي: "وقال قرينه" شيطانه، وهذا ضعيف، وإنما أوقع فيه أن القرين في قوله: "ربنا ما أطغيته" هو شيطانه في الدنيا ومغويه بلا خلاف، ولفظة القرين اسم جنس، فسائقه قرين، وصاحبه من الزبانية قرين، وكاتب سيئاته في الدنيا قرين، وتحتمله هذه الآية، أي: هذا الذي أحصيته عليه عتيد لدي، وموجب عذابه. ومماشي الإنسان في طريقه قرين، وقال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
والقرين الذي في هذه الآية غير القرين الذي في قوله تعالى: {قال قرينه ربنا ما أطغيته} إذ المقارنة تكون على أنواع، وقال بعض العلماء: قرينه في هذه الآية عمله قلبا وجوارحا). [المحرر الوجيز: 8/ 45]
تفسير قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: "ألقيا في جهنم" معناه: يقال: ألقيا في جهنم، واختلف الناس، لمن يقال ذلك؟ فقالت جماعة من المفسرين: هو قول لملكين من ملائكة العذاب، وقال عبد الرحمن بن زيد في كتاب الزهراوي: هو قول للسائق والشهيد، وحكى الزهراوي أن المأمور بإلقاء الكافر في النار اثنان، وعلى هذين القولين لا نظر في قوله تعالى: "ألقيا"، وقال مجاهد وجماعة من المتأولين: هو قول للقرين، إما السائق وإما الذي هو من الزبانية حسبما تقدم، واختلف أهل هذه المقالة في معنى قوله تعالى: "ألقيا" وهى مخاطبة لواحد، فقال المبرد: معناه: ألق ألق، فإنما أراد تثنية الأمر مبالغة وتأكيدا فرد التثنية إلى الضمير اختصارا كما قال:
... ... ... ... ..... لفتك لأمين على نابل
يريد: ارم ارم. وقال بعض المتأولين: المراد: "ألقين"، فعوض من النون ألفا كما تعوض من التنوين، وقال جماعة من أهل العلم بكلام العرب: هذا جرى على عادة العرب، وذلك أنها كان الغالب عندها أن يترافق في الأسفار ونحوها ثلاثة، فكل واحد منهم يخاطب اثنين، فكثر ذلك في كلامها وأشعارها حتى صار عرفا في المخاطبة، فاستعمل في الواحد، ومن هذا قولهم في الأشعار: خليلي، وصاحبي، وقفا نبك ونحوه، وقد جرى المحدثون على هذا الرسم، فيقول الواحد: حدثنا، -وإن كان قد سمع وحده-، ونظير هذه الآية في هذا القول قول الزجاج: يا حرسي اضربا عنقه، وهو دليل على عادة العرب، ومنه قول الشاعر:
فإن تزجراني بابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: "ألقيا" بتنوين "ألقيا". و"كفار" بناء مبالغة، و"عنيد" معناه: عاند عن الحق أي: منحرف عنه). [المحرر الوجيز: 8/ 45-47]
تفسير قوله تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: "مناع للخير" لفظ عام للمال والكلام الحسن والتعاون على الأشياء، وقال قتادة، ومجاهد، وعكرمة: معناه: الزكاة المفروضة، وهذا التخصيص ضعيف، و"معتد" معناه: بلسانه ويده، و"مريب" معناه: متلبس بما يرتاب به، أراب الرجل إذا أتى بريبة ودخل فيها. قال الثعلبي: قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقال الحسن: "مريب": شاك في الله تعالى ودينه). [المحرر الوجيز: 8/ 47]
تفسير قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {الذي جعل مع الله} الآية، يحتمل أن يكون "الذي" بدلا من "كفار" ويحتمل أن يكون صفة له من حيث تخصص "كفار" بالأوصاف المذكورة فجاز وصفه بهذه المعرفة، ويحتمل أن يكون "الذي" ابتداء وخبره في قوله تعالى: "فألقياه"، ودخلت الفاء للإبهام الذي في "الذي" فحصل الشبه بالشرط، وفي هذا نظر، ويقوى عندي أن يكون "الذي" ابتداء، ويتضمن القول حينئذ بني آدم والشياطين المغوين لهم في الدنيا، ولذلك تحرك القرين الشيطان المغوي في الدنيا فرام أن يبرئ نفسه ويخلصها بقوله لربه: {ربنا ما أطغيته}، وقوله: {ربنا ما أطغيته} ليست بحجة لأنه كذب في نفي الإطغاء عن نفس جملة، والحقيقة أنه أطغاه بالوسوسة والتزين، وأطغاه الله تعالى بالخلق، والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه لا رب غيره، ويوصف بالضلال البعيد مبالغة، أي لتعذر رجوعه إلى الهدى).[المحرر الوجيز: 8/ 47-48]
تفسير قوله تعالى: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {لا تختصموا لدي} معناه: قال الله تعالى لا تختصموا لدي بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئا إذ قد استوجب جميعكم النار. وقد أخبر تعالى بأنه تقع الخصومة لديه في الظلامات ونحوها مما فيه اقتصاص واقتضاء، فأيده تعالى بقوله: {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون}، وجمع الضمير في قوله تعالى:"لا تختصموا" يريد تعالى بذلك مخاطبة جميع القرناء; إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط، وهذا كما يقول الحاكم لخصمين: لا تغلظوا علي، يريد الخصمين ومن هو في حكمهما، وتقدمته إلى الناس بالوعيد هو ما جاءت به الرسل عليهم السلام والكتب من تعذيب الكفرة). [المحرر الوجيز: 8/ 48]
تفسير قوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد * يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد * وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد * هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ * من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب * ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود * لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}
المعنى: قد قدمت بالوعيد أني أعذب الكفار في ناري فلا يبدل القول لدي ولا ينقص ما أبرمه كلامي، ثم أزال موضع الاعتراض بقوله: {وما أنا بظلام للعبيد}، أي: هذا عدل فيهم; لأني أعذرت وأمهلت وأنعمت بالإدراكات وهديت السبيل والنجدين وبعثت الرسل. وقال الفراء: معنى قوله تعالى: {ما يبدل القول لدي} أي: ما يكذب لدي لعلمي بجميع الأمور، فتكون الإشارة -على هذا- إلى كذب الذي قال: "مآأطغيته"). [المحرر الوجيز: 8/ 48]
تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {يوم نقول لجهنم}، يجوز أن يعمل في الظرف قوله تعالى: "بظلام للعبيد"، ويجوز أن يعمل فيه فعل مضمر، وقرأ الجمهور من القراء وحفص عن عاصم: "نقول" بالنون، وهي قراءة الحسن، وأبي رجاء، وأبي جعفر، والأعمش، ورجحها أبو علي بما تقدم من قوله تعالى: "قدمت" وقوله سبحانه: "وما أنا"، وقرأ نافع، وعاصم -في رواية أبي بكر - "يقول"، على معنى: يقول الله، وهي قراءة الأعرج، وشيبة، وأهل المدينة، وقرأ الحسن، وابن مسعود، والأعمش أيضا: "يقال" على بناء الفعل للمفعول.
وقوله: "هل امتلأت" تقرير وتوقيف، واختلف الناس هل وقع هذا التقرير فامتلأت أو هي لم تمتلئ؟ فقال بكل وجه جماعة من المتأولين، وبحسب ذلك تأولوا قولها: "هل من مزيد"، فمن قال إنها امتلأت جعل قولها: {هل من مزيد} على معنى التقرير ونفي المزيد، أي: وهل عندي موضع يزاد فيه شيء؟ ونحو هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل منزلا"، وهو تأويل الحسن، وعمرو، وواصل. ومن قال إنها كانت غير ملأى جعل قولها: "هل من مزيد" على معنى السؤال والرغبة في الزيادة، قال الرماني: وقيل: المعنى وتقول خزنتها، والقول إنها القائلة أظهر.
واختلف الناس في قول جهنم، هل هو حقيقة أو مجاز؟ أي: حالها حال من لو نطق لقال كذا وكذا، فيجري هذا مجرى:
شكا إلي جملي طول السرى
ومجرى قول ذي الرمة:
... ... ... ... .... تكلمني أحجاره وملاعبه.
والذي يترجح في قول جهنم: هل من مزيد أنها حقيقة، وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى، وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه، ويبين ذلك الحديث الصحيح المتواتر، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله لجهنم: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط، قط، وينزوي بعضها إلى بعض"، وقد اضطرب الناس في معنى هذا الحديث، وذهبت جماعة من المتكلمين إلى أن "الجبار" اسم جنس، وأنه يريد المتجبرين من بني آدم، وروي أن الله تعالى يعد من الجبابرة طائفة يملأ بهم جهنم آخرا، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جلدة الكافر يصير غلظها أربعين ذراعا، ويعظم بدنه على هذه النسبة، وهذا كله من ملء جهنم، وذهب الجمهور إلى أن الجبار اسم الله تبارك وتعالى، وهذا هو الصحيح، فإن في الحديث الصحيح "فيضع رب العالمين فيها قدمه"، وتأويل هذا أن "القدم" ما قدم لها من خلقه وجعلهم في علمه من ساكنيها، ومنه قوله تعالى: {وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم}، فالقدم ما قدم من شيء، ومنه قول الشاعر:
صل لربك واتخذ قدما ... ينجيك يوم العثار والزلل
ومنه قول العجاج:
... ... ... ... .... وينشئ الملك لملك ذي قدم
أي: ذي شرف متقدم، وهذا التأويل مروي عن ابن المبارك، وعن النضر بن شميل، وهو قول الأصوليين، وفي كتاب مسلم بن الحجاج: "فيضع الجبار فيها رجله"، ومعناه الجمع الذي أعد لها، يقال للجمع الكثير من الناس: "رجل" تشبيها برجل الجراد، قال الشاعر:
فمر بها رجل من الناس وانزوى ... إليهم من الحي اليماني أرجل.
وملاك النظر في هذا الحديث أن الجارحة والتشبيه وما جرى مجراه منتف كل ذلك، فلم يبق إلا إخراج ألفاظ على هذه الوجوه السائغة في كلام العرب). [المحرر الوجيز: 8/ 48-52]