تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد * وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد * ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد * وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد}
هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث والجزاء، و"الخلق" إنشاء الشيء على تقدير وترتيب حكمي، و"الإنسان": اسم الجنس، وقال بعض المفسرين: الإنسان هنا آدم عليه السلام و"توسوس" معناه: تتحدث في فكرتها، وسمي صوت الحلي وسوسة لخفائه، والوسوسة إنما تستعمل في غير الخير.
وقوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} عبارة عن قدرة الله على العبد، وكون العبد في قبضة القدرة والعلم، قد أحيط به، فالقرب هو بالقدرة والسلطان; إذ لا ينحجب عن علم الله تبارك وتعالى باطن ولا ظاهر، وكل قريب من الأجرام فبينه وبين قلب الإنسان حجب، و"الوريد" عرق كبير في العنق، يقال: إنهما وريدان عن يمين وشمال، قال الفراء: هو ما بين الحلقوم والعلباوين، وقال الحسن: الوريد: الوتين، قال الأشرم: هو نهر الجسد، هو في القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر، وفي الذراع والفخذ: الأكحل والنسا، وفي الخنصر: الأسيلم، "والحبل" اسم مشترك فخصصه بالإضافة إلى الوريد، وليس هذا بإضافة الشيء إلى نفسه، بل هي كإضافة الجنس إلى نوعه، كما تقول: لا يجوز حي الطير بلحمه.
وأما قوله تعالى: {إذ يتلقى المتلقيان} فقال المفسرون: العامل في: "إذ" هو "أقرب"، ويحتمل عندي أن يكون العامل فيه فعلا مضمرا تقديره: اذكر إذ يتلقى، ويحسن هذا المعنى لأنه أخبر خبرا مجردا بالخلق، والعلم بخطرات الأنفس، والقرب بالقدرة والملك، فلما تم الإخبار، أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر وتبين وروده عند السامع، فمنها: إذ يتلقى المتلقيان، ومنها مجيء سكرة الموت، ومنها النفخ في الصور، ومنها مجيء كل نفس. و"المتلقيان": الملكان الموكلان بكل إنسان، ملك اليمين الذي يكتب الحسنات، وملك الشمال الذي يكتب السيئات، قال الحسن: الحفظة أربعة: اثنان بالنهار واثنان باليل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ويؤيد ذلك الحديث "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار" ... الحديث بكامله. ويروى أن ملك اليمين أمير على ملك الشمال، وأن العبد إذا أذنب يقول ملك اليمين للآخر: تثبت لعله يتوب، رواه إبراهيم التيمي وسفيان الثوري، و"قعيد" معناه: قاعد، وقال قوم هو بمنزلة "أكيل" فهو بمعنى مقاعد وقال الكوفيون: أراد "قعودا" فجعل الواحد موضع الجنس، والأول أصوب لأن المقاعد إنما يكون عند قعود الإنسان، والقاعد يكون قاعدا على كل هيئات الإنسان، وقال مجاهد: قعيد رصد، ومذهب سيبويه أن التقدير: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، فاكتفى بذكر الآخر عن ذكر الأول، ومثله عنده:
... ... ... ... ..... وعزة ممطول معنى غريمها
ومثله قول الفرزدق:
إني ضمنت لمن أتاني ما جنى ... وأبي فكان وكنت غير غدور
وهذه الأمثلة كثيرة، ومذهب المبرد أن التقدير: عن اليمين قعيد وعن الشمال، فأخر "قعيد" عن مكانه، ومذهب الفراء أن لفظ "قعيد" يدل على الاثنين والجمع فلا يحتاج إلى تقدير غير الظاهر). [المحرر الوجيز: 8/ 38-40]
تفسير قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ما يلفظ من قول} قال الحسن بن أبي الحسن، وقتادة: يكتب الملكان الكلام، فيثبت الله من ذلك الحسنات والسيئات ويمحو غير ذلك، وهذا هو ظاهر الآية. قال أبو الجوزاء، ومجاهد: يكتبان عليه كل شيء حتى أنينه في مرضه، وقال عكرمة: المعنى: ما يلفظ من قول خير أو شر، وأما ما خرج عن هذا فإنه لا يكتب، والأول أصوب، وروي أن رجلا قال لجمله: "حل"، فقال ملك اليمين: لا أكتبها، وقال ملك الشمال: لا أكتبها، فأوحى الله تعالى إلى ملك الشمال أن اكتب ما ترك ملك اليمين، وروي نحوه عن هشام الحمصي، وهذه اللفظة إذا اعتبرت فهي بحسب مشيئته ببعيره، فإن كان في طاعة فإن "حل" حسنة، وإن كان في معصية فهي سيئة، والمتوسط بين هذين عسير الوجود، ولا بد أن يقترن بكل أحوال المرء قرائن تخلصها للخير أو لخلافه، وحكى الثعلبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن مقعد الملكين على الثنيتين، فقلمهما اللسان ومدادهما الريق، وقال الضحاك والحسن: مقعدهما تحت الشعر، وكان الحسن يحب أن ينظف عنفقته لذلك، قال الحسن: حتى إذا مات المرء طويت صحيفته، وقيل له يوم القيامة: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}، عدل والله من جعله حسيب نفسه. و"الرقيب": المراقب، و"العتيد": الحاضر). [المحرر الوجيز: 8/ 40-41]
تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: "وجاءت" عطف عندي- على قوله تعالى: "إذ يتلقى"، فالتقدير: وإذ تجيء سكرة الموت، وجعل الماضي في موضع المستقبل تحقيقا وتثبيتا للأمر، وهو أحث على الاستعداد واستشعار القرب، وهذه طريقة العرب في ذلك، ويبين هذا في قوله: {ونفخ في الصور}، {وجاءت كل نفس} فإنها صيرورة بمعنى الاستقبال. وقرأ أبو عمرو: وجاءت سكرة بإدغام التاء في السين، وسكرة الموت: ما يعتري الإنسان عند نزاعه، والناس فيها مختلفة أحوالهم، لكن لكل واحد سكرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: في "إن للموت لسكرات" وقوله تعالى: "بالحق" معناه: بلقاء الله تبارك وتعالى وفقد الحياة الدنيا، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: "وجاءت سكرة الحق بالموت"، وقرأها ابن جبير، وطلحة، ويروى أن أبا بكر الصديق قالها لابنته عائشة رضي الله عنهما، وذلك أنها قعدت عند رأسه تبكي وهو ينازع فقالت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ففتح أبو بكر رضي الله عنه عينه وقال: لا تقولي هكذا وقولي: "وجاءت سكرة الحق بالموت ذلك ما كنت منه تحيد"، وقد روي هذا الحديث على مشاهير القراء: وجاءت سكرة الموت بالحق فقال أبو الفتح: إن شئت علقت الباء بـ "جاءت" كما تقول: "جئت بزيد"، أي: سقته، وإن شئت كانت بتقدير: ومعها الموت.
واختلف المتأولون في معنى: "وجاءت سكرة الحق بالموت" -فقال الطبري - وحكاه الثعلبي، الحق: الله تعالى، وفي إضافة السكرة إلى اسم الله تعالى بعد، وإن كان ذلك سائغا من حيث هي خلق له، ولكن فصاحة القرآن ورصفه لا يأتي فيه هذا، وقال بعض المتأولين: المعنى: وجاءت سكرة فراق الحياة بالموت، وفراق الحياة حق يعرفه الإنسان ويحيد منه بأمله، ومعنى هذا الحيد أنه يقول: أعيش كذا وكذا، فمتى فكر في قرب الموت حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمن، وأيضا فحذر المرء وتحرزاته ونحو هذا حيد كله). [المحرر الوجيز: 8/ 41-43]
تفسير قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقد تقدم القول في النفخ في الصور مرارا، و"يوم الوعيد" هو يوم القيامة، وأضافه إلى الوعيد تخويفا). [المحرر الوجيز: 8/ 43]
تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد}، قرأ طلحة بن مصرف: "محا" بالحاء مثقلة، و"السائق": الحاث على السير، واختلف الناس في السائق والشهيد، فقال عثمان بن عفان، ومجاهد، وغيرهما: ملكان موكلان بكل إنسان، أحدهما يسوقه، والآخر من حفظته يشهد عليه، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: السائق ملك، والشهيد العمل، وقال منذر بن سعيد: السائق ملك، والشهيد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: وقيل: الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشورا، وقال بعض النظار: "سائق" اسم جنس، و"شهيد" كذلك، فالساقة للناس ملائكة يوكلون بذلك، والشهداء الحفظة في الدنيا وكل ما يشهد، وقال ابن عباس، والضحاك: السائق ملك، والشهيد جوارح الإنسان، وهذا يبعد على ابن عباس رضى الله عنهما لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي، وقوله تعالى: "كل نفس" يعم الصالحين، فإنما معناه: وشهيد بخيره، وشره، ويقوى في: "شهيد" اسم الجنس، فتشهد بالخير الملائكة والبقاع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة"، وكذلك تشهد بالشر
الملائكة والبقاع والجوارح، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: السائق ملك والشهيد العمل، وقال ابن مسلم: السائق شيطان، حكاه عنه الثعلبي، والقول في كتاب منذر بن سعيد، وهو ضعيف). [المحرر الوجيز: 8/ 43-44]
تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد * وقال قرينه هذا ما لدي عتيد * ألقيا في جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد * قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد * قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد}
قرأ الجحدري: "لقد كنت" بكسر التاء على مخاطبة النفس، وكذلك كسر الكافات بعد، وقال صالح بن كيسان، والضحاك، وابن عباس: معنى قوله تعالى: "لقد كنت" الآية أن يقال للكافر الغافل من ذوي التي معها السائق والشهيد إذا حصل بين يدي الرحمن عز وجل، وعاين الحقائق التي كان لا يصدق بها في الدنيا ويتغافل عنها وعن النظر فيها: لقد كنت في غفلة من هذا، فلما كشف الغطاء عنك الآن احتد بصرك، أي: بصيرتك، وهذا كما تقول: "فلان حديد الذهن والفؤاد" ونحوه، وقال مجاهد: هو بصر العين: أي: اشتد التفاته إلى ميزانه وغير ذلك من أهوال القيامة، وقال زيد بن أسلم: قوله تعالى: {ذلك ما كنت منه تحيد}، وقوله تعالى: "لقد كنت" الآية مخاطبة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أنه خوطب بهذا في الدنيا، أي: لقد كنت يا محمد، في غفلة عن معرفة هذا القصص والغيب حتى أرسلناك وأنعمنا عليك وعلمناك فبصرك اليوم حديد.
وهذا التأويل يضعف من وجوه: أحدها أن "الغفلة" إنما تنسب أبدا إلى مقصر، ومحمد صلى الله عليه وسلم لا تقصير له قبل بعثه ولا بعده، وثانيها أن قوله تعالى -بعد هذا- "وقال قرينه" يقتضي أن الضمير إنما يعود على أقرب مذكور، وهذا الذي يقال له: فبصرك اليوم حديد وإن جعلناه عائدا على ذي النفس في الآية المتقدمة، جاء هذا الاعتراض لمحمد صلى الله عليه وسلم بين الكلامين غير متمكن، فتأمله، وثالثها أن معنى توقيف الكافر وتوبيخه على حاله في الدنيا يسقط، وهو أجرى في الآية وأولى بالرصف، والوجه عندي ما قاله الحسن، وسالم بن عبد الله إنها مخاطبة للإنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر.
و{فكشفنا عنك غطاءك} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي الحياة بعد الموت). [المحرر الوجيز: 8/ 45]