التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)}
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (قوله عزّ وجلّ: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه} [سبأ: 20]، يعني: جميع المشركين.
{فاتّبعوه إلا فريقًا من المؤمنين} [سبأ: 20] وذلك أنّه كان يطيف بجسد آدم قبل أن ينفخ فيه الرّوح، فلمّا رأوه أجوف عرف أنّه لا يتمالك، ثمّ وسوس بعد إلى آدم، فأكل من الشّجرة، فقال في نفسه: إنّ نسل هذا سيكون مثله في الضّعف، فلذلك قال: {لأحتنكنّ ذرّيّته إلا قليلا} [الإسراء: 62] وقال: {فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين} [ص: 82] قال: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} [الأعراف: 17] وأشباه ذلك.
وبعضهم يقول: إنّ إبليس قال: خلقت من نارٍ، وخلق آدم من طينٍ، والنّار تأكل الطّين، فلذلك ظنّ أنّه سيضلّ عامّتهم.
وحدّثني سليمان بن أرقم، عن الحسن أنّه كان يقرأ هذا الحرف ولقد صدق عليهم إبليس ظنّه، أي: ولقد صدق عليهم ظنّ إبليس فيها تقديمٌ، ثمّ قال: ظنّ ظنّه ولم يقل ذلك بعلمٍ، يقول: فصدق ظنّه فيهم.
قرّة بن خالدٍ، عن عبد اللّه بن القاسم: ولقد صدق عليهم إبليس ظنّه.
وكان مجاهدٌ يقرأها: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه} [سبأ: 20] يقول: صدّق إبليس ظنّه فيهم حيث جاء أمرهم على ما ظنّ). [تفسير القرآن العظيم: 2/756]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه...}
نصبت الظن , بوقوع التصديق عليه, ومعناه أنه قال : {فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين}, قال الله : صدّق عليهم ظنّه لأنه إنما قاله بظنّ لا بعلمٍ.
وتقرأ : {ولقد صدق عليهم إبليس ظنّه} , نصبت الظن على قوله: ولقد صدق عليهم في ظنّه. ولو قلت: ولقد صدق عليه إبليس ظنّه , ترفع إبليس والظنّ , كان صواباً على التكرير: صدق عليهم ظنّه، كما قال : {يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه} : يريد: عن قتالٍ فيه، وكما قال {ثمّ عموا وصمّوا كثيرٌ منهم} , ولو قرأ قارئ :ولقد صدق عليهم إبليس ظنّه : يريد: صدقه ظنّه عليهم , كما تقول صدقك ظنّك الظنّ يخطئ ويصيب.). [معاني القرآن: 2/360]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه }: مخفف , ومثقل , ومجازه : أنه وجد ظنه بهم صادقاً.). [مجاز القرآن: 2/147]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه}: وذلك أنه قال: لأضلنهم , ولأغوينهم , ولأمنينهم, ولآمرنهم بكذا، فلما اتبعوه وأطاعوه, صدق ما ظنه، أي: فيهم, وقد فسرت هذا في كتاب «المشكل»). [تفسير غريب القرآن: 356]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : ({ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتّبعوه إلّا فريقا من المؤمنين (20)}
{ولقد صدق عليهم إبليس ظنّه}: ويقرأ : {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه}:برفع إبليس , ونصب الظن.
وصدقه في ظنه : أنه ظن بهم إذا أغواهم : اتبعوه , فوجدهم كذلك , فقال:
{فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين (82) إلّا عبادك منهم المخلصين}:فمن قال :{صدّق} نصب الظن لأنه مفعول به، ومن خفّف فقال: " صدق " نصب الظنّ مصدرا .
على معنى : صدق عليهم إبليس ظنّا ظنّه، وصدق في ظنه.
وفيها وجهان آخران: أحدهما :{ولقد صدق عليهم إبليس ظنه}: ظنه بدل من إبليس، كما قال تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه.}
ويجوز :{ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه}, على معنى : صدق ظن إبليس باتباعهم إيّاه , وقد قرئ بهما.). [معاني القرآن: 4/251-452]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه} : وهي قراءة الهجهاج , ويجوز :{ولقد صدق عليهم إبليس ظنه في ظنه }.
روى عن ابن عباس أنه قال: (قال إبليس : خلقت من نار , وخلق آدم صلى الله عليه من طين ضعيفا , لأحتنكن ذريته إلا قليلاً).
ويروى : أنه قال : قد أعويت آدم على موضعه وعلمه , فأنا على ولده أقدر , فصدق ظنه.
ويبين هذا قوله تعالى: {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين}
وقوله جل وعز: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}: فإنما قال : هذا ظنا , فصدق ظن.ه
ومن قرأ : صدق : صير الظن مفعولا
ومن رفع الظن , ونصب إبليس أراد: ولقد صدق ظن إبليس حين اتبعوه.). [معاني القرآن: 5/413-414]
تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (قال: {وما كان له عليهم من سلطانٍ} [سبأ: 21] كقوله: {فإنّكم} [الصافات: 161]، أي: يا بني إبليس {فإنّكم وما تعبدون {161} ما أنتم عليه بفاتنين {162}} [الصافات: 161-162] لستم بمضلّي أحدٍ {إلا من هو صال الجحيم} [الصافات: 163].
قال يحيى: حدّثني به أبو الأشهب، عن الحسن.
قال: {إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة} [سبأ: 21] وهذا علم الفعال.
{ممّن هو منها} [سبأ: 21] من الآخرة.
{في شكٍّ} [سبأ: 21] وإنّما جحد المشركون الآخرة ظنًّا منهم، وذلك منهم على الشّكّ.
قال: {وربّك على كلّ شيءٍ حفيظٌ} [سبأ: 21] حتّى يجازيهم في الآخرة). [تفسير القرآن العظيم: 2/757]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {وما كان له عليهم مّن سلطانٍ...}
يضلّهم به حجّة، إلاّ أنّا سلّطناه عليهم , لنعلم من يؤمن بالآخرة.
فإن قال قائل: إنّ الله يعلم أمرهم بتسليط إبليس , وبغير تسليطه. قلت: مثل هذا كثير في القرآن, قال الله : {ولنبلونّكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصّابرين}, وهو يعلم المجاهد, والصّابر بغير ابتلاء، ففيه وجهان: أحدهما : أنّ العرب تشترط للجاهل إذا كلّمته بشبه هذا شرطاً تسنده إلى أنفسها , وهي عالمة؛ ومخرج الكلام كأنه لمن لا يعلم. , من ذلك أن يقول القائل: النّار تحرق الحطب فيقول الجاهل: بل الحطب يحرق النار.
ويقول العالم: سنأتي بحطب , ونارٍ لنعلم أيّهما يأكل صاحبه , فهذا وجه بيّن.
والوجه الآخر : أن تقول : {لنبلونّكم حتّى نعلم} معناه: حتى نعلم عنكم , فكأن الفعل لهم في الأصل, ومثله مما يدلّك عليه قوله: {وهو الذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده هو أهون عليه}: عندكم يا كفرة؛ ولم يقل: {عندكم}: يعني: وليس في القرآن: {عندكم}, وذلك معناه, ومثله قوله: {ذق إنّك أنت العزيز الكريم} , عند نفسك إذ كنت تقوله في دنياك., ومثله ما قال الله لعيسى: {أأنت قلت للنّاس}: وهو يعلم ما يقول وما يجيبه به؛ فردّ عليه عيسى , وهو يعلم أن الله لا يحتاج إلى إجابته, فكما صلح أن يسأل عمّا يعلم , ويلتمس من عبده ونبيّه الجواب , فكذلك يشرط من فعل نفسه ما يعلم، حتى كأنه عند الجاهل لا يعلم.). [معاني القرآن: 2/361]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ إلاّ لنعلم من يؤمن بالآخرة }: مجازه: إلاّ لنميز.). [مجاز القرآن: 2/147]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({وما كان له عليهم مّن سلطان إلاّ لنعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شكٍّ وربّك على كلّ شيءٍ حفيظٌ}
وقال: {إلاّ لنعلم}: على البدل , كأنه قال: ما كان ذلك الابتلاء إلاّ لنعلم.). [معاني القرآن: 3/33]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ( {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ}.
تأويله: أن إبليس لما سأل الله تبارك وتعالى النّظرة فأنظره قال: لأغوينّهم ولأضلّنّهم ولأمنّينّهم ولآمرنّهم فليبتّكنّ آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيّرنّ خلق الله ولأتّخذنّ منهم نصيبا مفروضا وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقنا أنّ ما قدّره الله فيهم يتمّ، وإنما قاله ظانا، فلما اتبعوه وأطاعوه، صدق ما ظنّه عليهم أي فيهم، ثم قال الله: وما كان تسليطنا إيّاه إلا لنعلم من يؤمن، أي المؤمنين من الشاكين.
وعلم الله تعالى نوعان:
أحدهما: علم ما يكون من إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين، وذنوب العاصين، وطاعات المطيعين قبل أن تكون.
وهذا علم لا تجب به حجة ولا تقع عليه مثوبة ولا عقوبة.
والآخر: علم هذه الأمور ظاهرة موجودة فيحق القول ويقع بوقوعها الجزاء.
فأراد جل وعز: ما سلطناه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهرا موجودا، وكفر الكافرين ظاهرا موجودا.
وكذلك قوله سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}، أي يعلم جهاده وصبره موجودا يجب له به الثواب). [تأويل مشكل القرآن: 311-312] (م)
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (السلطان: الملك والقهر، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} . وقال: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ}). [تأويل مشكل القرآن: 504] (م)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ)
: (وقوله جلّ وعزّ: {وما كان له عليهم من سلطان إلّا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شكّ وربّك على كلّ شيء حفيظ (21)}
أي: ما كان له عليهم من حجة , كما قال: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان}
{إلّا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شك}:أي: إلا لنعلم ذلك علم وقوعه منهم، وهو الذي يجازون عليه, واللّه يعلم الغيب , ويعلم من يؤمن ممن يكفر قبل أن يؤمن المؤمن , ويكفر الكافر , ولكن ذلك لا يوجب ثوابا ولا عقابا، إنما يثابون ويعاقبون بما كانوا عاملين.). [معاني القرآن: 4/252]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (وقوله جل وعز: {وما كان له عليهم من سلطان}: أي : من حجة إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة , أي: ما امتحناهم به إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة علم شهادة , فأما علم الغيب , فالله جل وعز عالم به قبل أن يكون.). [معاني القرآن: 5/414]