تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والّذين هاجروا في سبيل اللّه ثمّ قتلوا أو ماتوا ليرزقنّهم اللّه رزقًا حسنًا وإنّ اللّه لهو خير الرّازقين}.
يقول تعالى ذكره: والّذين فارقوا أوطانهم وعشائرهم فتركوا ذلك في رضا اللّه وطاعته، وجهاد أعدائه، ثمّ قتلوا أو ماتوا وهم كذلك، {ليرزقنّهم اللّه} يوم القيامة في جنّاته {رزقًا حسنًا} يعني بالحسن: الكريم؛ وإنّما يعني بالرّزق الحسن: الثّواب الجزيل.
وذكر أنّ هذه الآية نزلت في قومٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اختلفوا في حكم من مات في سبيل اللّه، فقال بعضهم: سواءٌ المقتول منهم والميّت، وقال آخرون: المقتول أفضل. فأنزل اللّه هذه الآية على نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم، يعلّمهم استواء أمر الميّت في سبيله، والمقتول فيها في الثّواب عنده.
- وقد: حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني عبد الرّحمن بن شريحٍ، عن سلامان بن عامرٍ، قال: كان فضالة برودس أميرًا على الأرباع، فخرج بجنازتي رجلين، أحدهما قتيلٌ، والآخر متوفًّى؛ فرأى ميل النّاس مع جنازة القتيل إلى حفرته، فقال: " أراكم أيّها النّاس تميلون مع القتيل، وتفضّلونه على أخيه المتوفّى؟ فقالوا: هذا القتيل في سبيل اللّه. فقال: فوالّذي نفسي بيده ما أبالي من أيّ حفرتيهما بعثت اقرءوا قول اللّه تعالى: {والّذين هاجروا في سبيل اللّه ثمّ قتلوا أو ماتوا}. إلى قوله: {وإنّ اللّه لعليمٌ حليمٌ} ). [جامع البيان: 16/618-619]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم.
أخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن سلمان الفارسي: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن الفتانين وأقرأوا إن شئتم {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا} إلى قوله: {حليم} ). [الدر المنثور: 10/519]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي: - انه كان برودس - فمروا بجنازتين: أحدهما قتيل والآخر متوفى، فمال الناس على القتيل فقال فضالة: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا وتركوا هذا فقالوا: هذا لقتيل في سبيل الله فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت، اسمعوا كتاب الله {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا} ). [الدر المنثور: 10/519]
تفسير قوله تعالى: (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ليدخلنّهم مدخلاً يرضونه وإنّ اللّه لعليمٌ حليمٌ}.
يقول تعالى ذكره: ليدخلنّ اللّه المقتول في سبيله من المهاجرين والميّت منهم {مدخلاً يرضونه} وذلك المدخل هو الجنّة. {وإنّ اللّه لعليمٌ} بمن يهاجر في سبيله ممّن يخرج من داره طلب الغنيمة أو عرضٍ من عروض الدّنيا. {حليمٌ} عن عصاة خلقه، بتركه معاجلتهم بالعقوبة والعذاب). [جامع البيان: 16/619-620]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {مدخلا يرضونه} قال: الجنة). [الدر المنثور: 10/520]
تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثمّ بغي عليه لينصرنّه اللّه إنّ اللّه لعفوٌّ غفورٌ}.
يعني تعالى ذكره بقوله: {ذلك} لهذا، لهؤلاء الّذين هاجروا في سبيل اللّه، ثمّ قتلوا أو ماتوا، ولهم مع ذلك أيضًا أنّ اللّه يعدهم النّصر على المشركين الّذين بغوا عليهم فأخرجوهم من ديارهم.
- كما: حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به} قال: " هم المشركون بغوا على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فوعده اللّه أن ينصره، وقالا في القصاص أيضًا ".
وكان بعضهم يزعم أنّ هذه الآية نزلت في قومٍ من المشركين لقوا قومًا من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم، وكان المسلمون يكرهون القتال يومئذٍ في الأشهر الحرم، فسأل المسلمون المشركين أن يكفّوا عن قتالهم من أجل حرمة الشّهر، فأبى المشركون ذلك، وقاتلوهم فبغوا عليهم، وثبت المسلمون لهم، فنصروا عليهم، فأنزل اللّه هذه الآية: {ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثمّ بغي عليه} بأن بدئ بالقتال وهو له كارهٌ، {لينصرنّه اللّه}.
وقوله: {إنّ اللّه لعفوٌّ غفورٌ} يقول تعالى ذكره: إنّ اللّه لذو عفو، وصفحٍ لمن انتصر ممّن ظلمه من بعد ما ظلمه الظّالم بحقٍّ، غفورٌ لما فعل ببادئه بالظّلم مثل الّذي فعل به، غير معاقبه عليه). [جامع البيان: 16/620-621]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور * ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير * ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير * ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير * له ما في السموات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد.
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله: {ذلك ومن عاقب} الآية، قال: إن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية في ليلتين بقيتا من المحرم فلقوا المشركين فقال المشركون بعضهم لبعض: قاتلوا أصحاب محمد فإنهم يحرمون القتال في الشهر الحرام وان أصحاب محمد: ناشدوهم وذكروهم بالله أن يعرضوا لقتالهم فإنهم لا يستحلون القتال في الشهر الحرام إلا من بادئهم وان المشركين بدأوا وقاتلوهم فاستحل الصحابة قتالهم عند ذلك فقاتلوهم ونصرهم الله عليهم). [الدر المنثور: 10/520]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {ذلك ومن عاقب}، قال: تعاون المشركون على النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فأخرجوه فوعد الله أن ينصره وهو في القصاص أيضا). [الدر المنثور: 10/520]
تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وقال القرظي في قول الله: {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل}، قال: يدخل من ليل الشتاء في نهار الصيف، ويدخل من نهار الصيف في ليالي الشتاء). [الجامع في علوم القرآن: 2/55]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ذلك بأنّ اللّه يولج اللّيل في النّهار ويولج النّهار في اللّيل}.
يعني تعالى ذكره بقوله: {ذلك} هذا النّصر الّذي أنصره على من بغي عليه على الباغي، لأنّي القادر على ما أشاء. فمن قدرته أنّ اللّه {يولج اللّيل في النّهار} يقول: يدخل ما ينقص من ساعات اللّيل في ساعات النّهار، فما نقص من هذا زاد في هذا {ويولج النّهار في اللّيل} ويدخل ما انتقص من ساعات النّهار في ساعات اللّيل، فما نقص من طول هذا زاد في طول هذا، وبالقدرة الّتي يفعل ذلك ينصر محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه على الّذين بغوا عليهم، فأخرجوهم من ديارهم وأموالهم. يقول: وفعل ذلك أيضًا بأنّه ذو سمعٍ لما يقولون من قولٍ، لا يخفى عليه منه شيءٌ، بصيرٌ بما يعملون، لا يغيب عنه منه شيءٌ، كلّ ذلك معه بمرأًى ومسمعٍ، وهو الحافظ لكلّ ذلك، حتّى يجازي جميعهم على ما قالوا وعملوا من قولٍ وعملٍ جزاءه). [جامع البيان: 16/621]
تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ذلك بأنّ اللّه هو الحقّ وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل وأنّ اللّه هو العليّ الكبير}.
يعني تعالى ذكره بقوله {ذلك} هذا الفعل الّذي فعلت من إيلاجي اللّيل في النّهار، وإيلاجي النّهار في اللّيل؛ لأنّي أنا الحقّ الّذي لا مثل لي، ولا شريك، ولا ندّ، وأنّ الّذي يدعوه هؤلاء المشركون إلهًا من دونه هو الباطل الّذي لا يقدر على صنعة شيءٍ، بل هو المصنوع، يقول لهم تعالى ذكره: أفتتركون أيّها الجهّال عبادة من منه النّفع، وبيده الضّرّ، وهو القادر على كلّ شيءٍ، وكلّ شيءٍ دونه، وتعبدون الباطل الّذي لا تنفعكم عبادته.
وقوله: {وأنّ اللّه هو العليّ الكبير} يعني بقوله: {العليّ} أنه ذو العلوّ على كلّ شيءٍ، هو فوق كلّ شيءٍ، وكلّ شيءٍ دونه {الكبير} يعني العظيم، الّذي كلّ شيءٍ دونه، ولا شيء أعظم منه
وكان ابن جريجٍ يقول في قوله: {وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل} ما؛
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ قال: قال ابن جريجٍ، في قوله: {وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل} قال: " الشّيطان ".
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {وأنّ ما يدعون من دونه} فقرأته عامّة قرّاء العراق والحجاز: ( تدعون ) بالتّاء على وجه الخطّاب؛ وقرأته عامّة قرّاء العراق غير عاصمٍ بالياء على وجه الخبر، والياء أعجب القراءتين إليّ، لأنّ ابتداء الخبر على وجه الخطّاب). [جامع البيان: 16/621-622]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله {وأن ما يدعون من دونه هو الباطل} قال: الشيطان). [الدر المنثور: 10/520]