تفسير قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : ({ولقد مننّا عليك مرّةً أخرى} يقول تعالى ذكره: ولقد تطوّلنا عليك يا موسى قبل هذه المرّة مرّةً أخرى، وذلك حين أوحينا إلى أمّك). [جامع البيان: 16/56]
تفسير قوله تعالى: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وذلك حين أوحينا إلى أمّك، إذ ولدتك في العام الّذي كان فرعون يقتل كلّ مولودٍ ذكرٍ من قومك ما أوحينا إليها، ثمّ فسّر تعالى ذكره ما أوحى إلى أمّه، فقال: هو أن اقذفيه في التّابوت، فأنّ في موضع نصبٍ ردًّا على " ما " الّتي في قوله: {ما يوحى} وترجمةً عنها). [جامع البيان: 16/56]
تفسير قوله تعالى: (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله ولتصنع على عيني قال هو غذاؤه يقول ولتغدى على عيني). [تفسير عبد الرزاق: 2/17]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : («اليمّ البحر»). [صحيح البخاري: 6/96] (م)
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله اليمّ البحر وصله بن أبي حاتمٍ من طريق أسباط بن نصرٍ عن السّدّيّ وذكر حديث بن عبّاسٍ في صيام عاشوراء وقد سبق شرحه في كتاب الصّيام مستوفى). [فتح الباري: 8/434] (م)
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (قوله: (واليم البحر) ، إنّما أورد هذا في آخر الحديث إشارة إلى تفسير ما وقع في كتاب الله تعالى من قوله: {فاقذفيه في اليم} (طه: 39) وفسّر بأن المراد من اليم هو البحر، وقال الثّعلبيّ: اليم نهر النّيل، قيل: وموضع ذكر هذا في الباب الآتي وذكره هنا ليس بموجه. قلت: المراد باليم في الباب الآتي هو بحر القلزم والّذي ذكره هنا هو النّيل أطلق عليه البحر لتبحره أيّام الزّيادة، والله أعلم). [عمدة القاري: 19/61]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({أليمٌ}) في قوله تعالى: {فاقذفيه في الميم} [طه: 39] هو (البحر) أي اطرحيه فيه). [إرشاد الساري: 7/238-239] (م)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أن اقذفيه في التّابوت فاقذفيه في اليمّ فليلقه اليمّ بالسّاحل يأخذه عدوٌّ لي وعدوٌّ له وألقيت عليك محبّةً منّي}.
يقول تعالى ذكره: ولقد مننّا عليك يا موسى مرّةً أخرى حين أوحينا إلى أمّك أن اقذفي ابنك موسى حين ولدتك في التّابوت {فاقذفيه في اليمّ} يعني باليمّ: النّيل {فليلقه اليمّ بالسّاحل} يقول: فاقذفيه في اليمّ، يلقه اليمّ بالسّاحل، وهو جزاءٌ أخرج مخرج الأمر، كأنّ اليمّ هو المأمور، كما قال جلّ ثناؤه: {اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} يعني: اتّبعوا سبيلنا نحمل عنكم خطاياكم، ففعلت ذلك أمّه به فألقاه اليمّ بمشرعة آل فرعون.
- كما: حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لمّا ولدت موسى أمّه أرضعته، حتّى إذا أمر فرعون بقتل الولدان من سنته تلك عمدت إليه، فصنعت به ما أمرها اللّه تعالى، جعلته في تابوتٍ صغيرٍ، ومهّدت له فيه، ثمّ عمدت إلى النّيل فقذفته فيه، وأصبح فرعون في مجلسٍ له كان يجلسه على شفير النّيل كلّ غداةٍ، فبينا هو جالسٌ، إذ مرّ النّيل بالتّابوت فقذف به وآسية ابنة مزاحمٍ امرأته جالسةٌ إلى جنبه، فقال: إنّ هذا لشيءٌ في البحر، فأتوني به، فخرج إليه أعوانه حتّى جاءوا به، ففتح التّابوت فإذا فيه صبيّ في مهده، فألقى اللّه عليه محبّته، وعطف عليه نفسه.
وعنى جلّ ثناؤه بقوله: {يأخذه عدوٌّ لي وعدوٌّ له} فرعون هو العدو، كان للّه ولموسى.
- حدّثنا موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في قوله: {فاقذفيه في اليمّ} وهو البحر، وهو النّيل.
واختلف أهل التّأويل في معنى المحبّة الّتي قال اللّه جلّ، ثناؤه {وألقيت عليك محبّةً منّي} فقال بعضهم: عنى بذلك أنّه حبّبه إلى عباده.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني الحسين بن عليٍّ الصّدائيّ، والعبّاس بن محمّدٍ الدّوريّ، قالا: حدّثنا حسين الجعفيّ، عن موسى بن قيسٍ الحضرميّ، عن سلمة بن كهيلٍ في قول اللّه: {وألقيت عليك محبّةً منّي} قال عبّاسٌ: حبّبتك إلى عبادي، وقال الصّدائيّ: حبّبتك إلى خلقي.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أي حسّنت خلقك.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني إبراهيم بن مهديٍّ، عن رجلٍ، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، قوله: {وألقيت عليك محبّةً منّي} قال: حسنًا وملاحةً.
قال أبو جعفرٍ: والّذي هو أولى بالصّواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ اللّه ألقى محبّته على موسى، كما قال جلّ ثناؤه {وألقيت عليك محبّةً منّي} فحبّبه إلى آسية امرأة فرعون، حتّى تبنّته وغذّته وربّته، وإلى فرعون، حتّى كفّ عنه عاديته وشرّه. وقد قيل: إنّما قيل: وألقيت عليك محبّةً منّي، لأنّه حبّبه إلى كلّ من رآه. ومعنى {وألقيت عليك محبّةً منّي} حبّبتك إليهم، يقول الرّجل لآخر إذا أحبّه: ألقيت عليك رحمتي: أي محبّتي). [جامع البيان: 16/57-59]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولتصنع على عيني (39) إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمّك كي تقرّ عينها ولا تحزن وقتلت نفسًا فنجّيناك من الغمّ وفتنّاك فتونًا فلبثت سنين في أهل مدين ثمّ جئت على قدرٍ يا موسى}.
اختلف أهل التّأويل في تأويل قوله {ولتصنع على عيني} فقال بعضهم: معناه: ولتغذّى وتربّى على محبّتي وإرادتي.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {ولتصنع على عيني} قال: هو غذاؤه، ولتغذّى على عيني.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله {ولتصنع على عيني} قال: جعله في بيت الملك ينعم ويترف غذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصّنعة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنت بعيني في أحوالك كلّها.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، {ولتصنع على عيني} قال: أنت بعينيّ إذ جعلتك أمّك في التّابوت، ثمّ في البحر، و{إذ تمشي أختك}.
وقرأ ابن نهيكٍ: " ولتصنع على عينى " بفتح التّاء وتأوّله كما؛
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، قال: حدّثنا عبد المؤمن، قال: سمعت أبا نهيكٍ، يقرأ " ولتصنع على عيني " فسألته عن ذلك، فقال: ولتعمل على عيني.
قال أبو جعفرٍ: والقراءة الّتي لا أستجيز القراءة بغيرها {ولتصنع} بضمّ التّاء، لإجماع الحجّة من القرّاء عليها. وإذا كان ذلك كذلك، فأولى التّأويلين به التّأويل الّذي تأوّله قتادة، وهو: {وألقيت عليك محبّةً منّي} ولتغذّى على عيني، ألقيت عليك المحبّة منّي.
وعنى بقوله: {على عيني} بمرأًى منّي ومحبّةً وإرادةً). [جامع البيان: 16/59-60]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه في قوله: {فاقذفيه في اليم} قال هو النيل). [الدر المنثور: 10/185]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وألقيت عليك محبة مني} قال: كان كل من رآه ألقيت عليه منه محبة). [الدر المنثور: 10/186]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل - رضي الله عنه - في قوله: {وألقيت عليك محبة مني} قال: حببتك إلى عبادي). [الدر المنثور: 10/186]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله: {وألقيت عليك محبة مني} قال: حيث نظرت آسية وجه موسى فرأت حسنا وملاحة فعندها قالت لفرعون: (قرة عين لي ولك لا تقتلوه) (القصص آية 9) ). [الدر المنثور: 10/186]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي رجاء في قوله: {وألقيت عليك محبة مني} قال: الملاحة والحلاوة). [الدر المنثور: 10/186]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن عساكر عن قتادة في قوله: {وألقيت عليك محبة مني} قال: حلاوة في عيني موسى لم ينظر إليه خلق إلا أحبه). [الدر المنثور: 10/186]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر عن مجاهد - رضي الله عنه - قال: كنت مع عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - فتلقاه الناس يسلمون عليه ويحيونه ويثنون عليه ويدعون له - فيضحك ابن عمر - فإذا انصرفوا عنه أقبل علي فقال: إن الناس ليجيئون حتى لو كنت أعطيهم الذهب والفضة ما زادوا عليه ثم تلا هذه الآية {وألقيت عليك محبة مني} ). [الدر المنثور: 10/186-187]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نهيك - رضي الله عنه - في قوله: {ولتصنع على عيني} قال: ولتعمل على عيني). [الدر المنثور: 10/187]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني رضي الله عنه في قوله: {ولتصنع على عيني} قال: تربى بعين الله). [الدر المنثور: 10/187]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ولتصنع على عيني} قال: ولتغذى على عيني). [الدر المنثور: 10/187]
تفسير قوله تعالى: (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله تعالى على قدر يا موسى قال على قدر الرسالة والنبوة). [تفسير عبد الرزاق: 2/17]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] في قوله: {فنجيناك من الغم} قال: القتل [الآية: 40]). [تفسير الثوري: 194]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن رجلٍ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {فتناك فتونا} ابتلاك بيلا [الآية: 40]). [تفسير الثوري: 194]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : ({على قدرٍ} [طه: 40] : «موعدٍ»). [صحيح البخاري: 6/95]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله بملكنا بأمرنا سوى منصّفٌ بينهم يبسًا يابسًا على قدرٍ على موعدٍ سقط هذا كلّه لأبي ذرٍّ وقد تقدّم في قصّة موسى أيضًا). [فتح الباري: 8/434] (م)
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قوله فيه
وقال ابن عبّاس {هضما} لا يظلم فيهضم من حسناته {عوجا} واديا {أمتا} رابية {سيرتها} حالتها الأولى {النهى} التقى {ضنكا} الشّقاء {هوى} شقي {المقدّس} المبارك {طوى} اسم الوادي {بملكنا} بأمرنا وقال مجاهد {مكانا سوى} منتصف بينهم {يبسا} يابسا {على قدر} على موعد {ولا تنيا} تضعفا {يفرط} عقوبة
قال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح عن علّي ابن أبي طلحة عن ابن عبّاس في قوله 112 طه {فلا يخاف ظلما} قال لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم فيزاد في سيئاته
وبه في قوله 107 طه {لا ترى فيها عوجا} يقول واديا
وفي قوله 107 طه {ولا أمتا} يقول رابية
وبه في قوله 121 طه {سيرتها الأولى} يقول حالتها الأولى
وقال ابن جرير ثنا علّي هو ابن داود ثنا عبد الله بن صالح ثنا معاوية عن علّي عن عبّاس في قوله 54 طه {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} قال التقي
وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح عن علّي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في قوله 124 طه {معيشة ضنكا} قال الشّقاء
وبه في قوله 81 طه {هوى} يقول شقي
وبه في قوله 12 طه {المقدّس} يقول المبارك
وبه في قوله 12 طه {طوى} يقول اسم الوادي
وبه في قوله 87 طه {بملكنا} قال بأمرنا
وأما تفاسير مجاهد فقال الفريابيّ ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله 58 طه {مكانا سوى} قال منتصف بينهم
وفي قوله 77 طه {فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا} قال يابسا
وفي قوله 40 طه {ثمّ جئت على قدر يا موسى} قال على موعد). [تغليق التعليق: 4/255-256] (م)
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (على قدرٍ على موعدٍ
أشار به إلى قوله تعالى: {ثمّ جئت على قدر يا موسى} (طه: 40) وفسره بقوله: على موعد على القدر الّذي قدر لك أنّك تجيء، وعن عبد الرّحمن ابن كيسان: على رأس أربعين سنة، وهو القدر الّذي يوحى فيه إلى الأنبياء). [عمدة القاري: 19/59]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({على قدر}) في قوله: ({ثم جئت على قدر يا موسى} [طه: 40] أي (موعد) قدرته لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم ولا مستأخر قال أبو البقاء وهو متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل جئت أي جئت موافقًا لما قدر لك قال في الدر وهو تفسير معنى والتفسير الصناعي ثم جئت مستقرًّا أو كائنًا على مقدار معين كقوله:
نال الخلافة أو جاءت على قدر = كما أتى ربه موسى على قدر). [إرشاد الساري: 7/238]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله عزّ وجلّ: {وفتنّاك فتونًا}
حديث الفتون
- أخبرنا عبد الله بن محمّدٍ، حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا أصبغ بن زيدٍ، حدّثنا القاسم بن أبي أيّوب، أني سعيد بن جبيرٍ، قال: سألت عبد الله بن عبّاسٍ عن قول الله عزّ وجلّ لموسى عليه السّلام: {وفتنّاك فتونًا} [طه: 40]، فسألته عن الفتون ما هو؟ قال: استأنف النّهار يا ابن جبيرٍ، فإنّ لها حديثًا طويلًا، فلمّا أصبحت غدوت على ابن عبّاسٍ لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله عزّ وجلّ وعد إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل في ذرّيّته أنبياء وملوكًا، فقال بعضهم: إنّ بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكّون فيه، وكانوا يظنّون أنّه يوسف بن يعقوب عليهما السّلام، فلمّا هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السّلام، فقال فرعون: فكيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالًا معهم الشّفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلّا ذبحوه، ففعلوا ذلك، فلمّا رأوا أنّ الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصّغار يذبحون قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيروا أن تباشروا من الأعمال والخدمة الّذي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عامًا كلّ مولودٍ ذكرٍ، فيقلّ نباتهم، ودعوا عامًا فلا تقتلوا منهم أحدًا، فينشأ الصّغار مكان من يموت من الكبار، فإنّهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إيّاكم، ولن يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أمّ موسى بهارون في العام الّذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانيةً آمنةً، فلمّا كان من قابلٍ حملت بموسى، فوقع في قلبها الهمّ والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ، ما دخل عليه في بطن أمّه ممّا يراد به، فأوحى الله جلّ ذكره إليها أن {لا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين} [القصص: 7] فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوتٍ وتلقيه في اليمّ، فلمّا ولدت فعلت ذلك، فلمّا توارى عنها ابنها أتاها الشّيطان، فقالت في نفسها: ما فعلت بابني، لو ذبح عندي فواريته وكفّنته كان أحبّ إليّ أن ألقيه إلى دوابّ البحر وحيتانه، فانتهى الماء به حتّى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون، فلمّا رأينه أخذنه فهممن أن يفتحن التّابوت، فقال بعضهنّ: إنّ في هذا مالًا، وإنّا إن فتحناه لم تصدّقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئًا حتّى دفعنه إليها، فلمّا فتحته رأت فيه غلامًا، فألقي عليها منه محبّةٌ لم يلق منها على أحدٍ قطّ {وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغًا} [القصص: 10] من ذكر كلّ شيءٍ إلّا من ذكر موسى، فلمّا سمع الذّبّاحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ، فقالت لهم: أقرّوه، فإنّ هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، حتّى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت فرعون فقالت: {قرّة عينٍ لي ولك} فقال فرعون: يكون لك، فأمّا لي فلا حاجة لي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والّذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرّة عينٍ كما أقرّت امرأته لهداه الله كما هداها، ولكنّ الله حرمه ذلك» فأرسلت إلى من حولها إلى كلّ امرأةٍ لها لبنٌ تختار له ظئرًا، فجعل كلّما أخذته امرأةٌ منهنّ لترضعه لم يقبل على ثديها، حتّى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللّبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السّوق ومجمع النّاس ترجو أن تجد له ظئرًا تأخذه منها، فلم يقبل، فأصبحت أمّ موسى والهًا، فقالت لأخته: قصّي أثره واطلبيه، هل تسمعين له ذكرًا، أحيٌّ ابني أم أكلته الدّوابّ، ونسيت ما كان الله وعدها فيه، فبصرت به أخته عن جنبٍ - والجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى الشّيء البعيد وهو إلى ناحيةٍ لا يشعر به - فقالت من الفرح حين أعياهم الظّئورات: أنا {أدلّكم على أهل بيتٍ يكفلونه لكم وهم له ناصحون} [القصص: 12] فأخذوها فقالوا: ما يدريك ما نصحهم؟ هل تعرفونه؟ حتّى شكّوا في ذلك - وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ - فقالت: نصيحتهم له، وشفقتهم عليه، رغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك، فأرسلوها فانطلقت إلى أمّها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمّه، فلمّا وضعته في حجرها ثوى إلى ثديها فمصّه حتّى امتلأ جنباه ريًّا، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشّرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرًا، فأرسلت إليها فأتت بها وبه، فلمّا رأت ما يصنع قالت: امكثي ترضعي ابني هذا، فإنّي لم أحبّ شيئًا حبّه قطّ، قالت أمّ موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي، لا آلوه خيرًا فعلت، فإنّي غير تاركةٍ بيتي وولدي، وذكرت أمّ موسى ما كان الله وعده، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أنّ الله منجزٌ موعوده، فرجعت إلى بيتها من يومها، فأنبته الله نباتًا حسنًا، وحفظ لما قد قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين من السّخرة والظّلم ما كان فيهم، فلمّا ترعرع قالت امرأة فرعون لأمّ موسى: أزيريني ابني، فوعدتها يومًا تزيرها إيّاه فيه، وقالت امرأة فرعون لخازنها وقهارمتها: لا يبقينّ أحدٌ منكم إلّا استقبل ابني اليوم بهديّةٍ وكرامةٍ، لأرى ذلك فيه، وأنا باعثةٌ أمينًا يحصي كلّ ما يصنع كلّ إنسانٍ منكم، فلم تزل الهدايا والكرامة والنّحل تستقبله من حين خرج من بيت أمّه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلمّا دخل عليها نحلته وأكرمته، وفرحت به، ونحلت أمّه بحسن أثرها عليه، ثمّ قالت: لآتينّ فرعون فلينحلنّه وليكرمنّه، فلمّا دخلت به عليه جعله في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدّها إلى الأرض، قال الغواة من أعداء الله لفرعون: ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيّه، إنّه زعم أن يربّك ويعلوك ويصرعك؟ فأرسل إلى الذّبّاحين ليذبحوه - وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ - بعد كلّ بلاءٍ ابتلي به وأريد به فتونًا، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الّذي وهبته لي؟ فقال: ألا ترينه، إنّه يزعم سيصرعني ويعلوني، قالت: اجعل بيني وبينك أمرًا يعرف فيه الحقّ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقرّبهنّ إليه، فإن بطش باللّؤلؤ واجتنب الجمرتين عرفت أنّه يعقل، وإن تناول الجمرتين، ولم يرد اللّؤلؤتين علمت أنّ أحدًا لا يؤثر الجمرتين على اللّؤلؤتين وهو يعقل، فقرّب ذلك إليه فتناول الجمرتين، فنزعوهما منه مخافة أن يحرقا يديه، فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد همّ به، وكان الله بالغًا فيه أمره، فلمّا بلغ أشدّه وكان من الرّجال لم يكن أحدٌ من آل فرعون يخلص إلى أحدٍ من بني إسرائيل معه بظلمٍ ولا سخرةٍ، امتنعوا كلّ الامتناع، فبينما موسى عليه السّلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعونيٌّ والآخر إسرائيليٌّ، فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ، فغضب موسى عليه السّلام غضبًا شديدًا، لأنّه تناوله وهو يعلم منزله من بني إسرائيل، وحفظه لهم، لا يعلم النّاس إلّا أنّما ذلك من الرّضاع إلّا أمّ موسى، إلّا أن يكون الله سبحانه أطلع موسى عليه السّلام من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، ووكز موسى الفرعونيّ فقتله، وليس يراهما أحدٌ إلّا الله عزّ وجلّ والإسرائيليّ، فقال موسى حين قتل الرّجل: {هذا من عمل الشّيطان إنّه عدوٌّ مضلٌّ مبينٌ} [القصص: 15] ثمّ قال: {ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرّحيم} [القصص: 16] فأصبح في المدينة خائفًا يترقّب الأخبار، فأتي فرعون فقيل له: إنّ بني إسرائيل قتلوا رجلًا من آل فرعون، فخذ لنا بحقّك، ولا ترخّص لهم، فقال: ابغوني قاتله من شهد عليه، فإنّ الملك وإن كان صفوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بيّنةٍ ولا ثبتٍ، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقّكم، فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتًا إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيليّ يقاتل رجلًا من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه، وكره الّذي رأى، فغضب الإسرائيليّ وهو يريد أن يبطش بالفرعونيّ، فقال للإسرائيليّ لما فعل أمس واليوم: إنّك لغويٌّ مبينٌ، فنظر الإسرائيليّ إلى موسى عليه السّلام، بعدما قال له ما قال، فإذ هو غضبان كغضبه بالأمس الّذي قتل فيه الفرعونيّ فخاف أن يكون بعدما قال له: إنّك لغويٌّ مبينٌ أن يكون إيّاه أراد، ولم يكن أراده وإنّما أراد الفرعونيّ، فخاف الإسرائيليّ وقال: يا موسى، أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس، وإنّما قال له مخافة أن يكون إيّاه أراد موسى ليقتله، فتتاركا وانطلق الفرعونيّ فأخبرهم بما سمع من الإسرائيليّ من الخبر حين يقول: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس، فأرسل فرعون الذّبّاحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون الطّريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى، وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجلٌ من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقًا حتّى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر - وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ - فخرج موسى متوجّهًا نحو مدين لم يلق بلاءً قبل ذلك، وليس له علمٌ إلّا حسن ظنّه بربّه تعالى، فإنّه قال: {عسى ربّي أن يهديني سواء السّبيل ولمّا ورد ماء مدين وجد عليه أمّةً من النّاس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان} [القصص: 23] يعني بذلك حابستين عنهما، فقال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع النّاس؟ فقالتا: ليس لنا قوّةٌ نزاحم القوم، وإنّما ننتظر فضول حياضهم، فسقى لهما، فجعل يغترف في الدّلو ماءً كثيرًا، حتّى كان أوّل الرّعاء، وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى عليه السّلام، فاستظلّ بشجرةٍ وقال: {ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقيرٌ} [القصص: 24] واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفّلًا بطانًا، فقال: إنّ لكما اليوم لشأنًا، فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه، فأتت موسى فدعته، فلمّا كلّمه، قال: لا تخف نجوت من القوم الظّالمين، ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطانٌ، ولسنا في مملكته، فقالت إحداهما: يا أبت استأجره، إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين، فاحتملته الغيرة على أن قال لها: ما يدريك ما قوّته وما أمانته؟ قالت: أمّا قوّته، فما رأيت منه في الدّلو حين سقى لنا لم أر رجلًا قطّ أقوى في ذلك السّقي منه، وأمّا الأمانة، فإنّه نظر إليّ حين أقبلت إليه، وشخصت له، فلمّا علم أنّي امرأةٌ صوّب رأسه فلم يرفعه حتّى بلّغته رسالتك، ثمّ قال لي: امشي خلفي، وانعتي لي الطّريق، فلم يفعل هذا الأمر إلّا وهو أمينٌ، فسرّي عن أبيها وصدّقها، وظنّ به الّذي قالت، فقال له: هل لك {أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حججٍ فإن أتممت عشرًا فمن عندك وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء الله من الصّالحين} [القصص: 27] ففعل، فكانت على نبيّ الله موسى ثماني سنين واجبةً وكانت سنتان عدةً منه، فقضى الله عنه عدته فأتمّها عشرًا، قال سعيدٌ: فلقيني رجلٌ من أهل النّصرانيّة من علمائهم، قال: هل تدري أيّ الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا، وأنا يومئذٍ لا أدري، فلقيت ابن عبّاسٍ فذكرت ذلك له فقال: أما علمت أنّ ثمانيًا كانت على نبيّ الله واجبةً، لم يكن نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم لينقص منها شيئًا، وتعلم أنّ الله كان قاضيًا عن موسى عدته الّتي وعده فإنّه قضى عشر سنين، فلقيت النّصرانيّ فأخبرته ذلك، فقال: الّذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك، قلت: أجل وأولى، فلمّا سار موسى بأهله كان من أمر النّاس والعصا ويده ما قصّ الله عليك في القرآن، فشكا إلى الله سبحانه ما يتخوّف من آل فرعون في القتيل، وعقدة لسانه، فإنّه كان في لسانه عقدةٌ تمنعه من كثير الكلام، وسأل ربّه أن يعينه بأخيه هارون، يكون له ردءًا، ويتكلّم عنه بكثيرٍ ممّا لا يفصح به لسانه، فآتاه الله سؤله وحلّ عقدةً من لسانه، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتّى لقي هارون عليه السّلام، فانطلقا جميعًا إلى فرعون فأقاما على بابه حينًا لا يؤذن لهما، ثمّ أذن لهما بعد حجابٍ شديدٍ، فقالا: إنّا رسولا ربّك، قال: فمن ربّكما؟ فأخبراه بالّذي قصّ الله عليك في القرآن، قال: فما تريدان؟ وذكّره القتيل فاعتذر بما قد سمعت قال: أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه وقال: ائت بآيةٍ إن كنت من الصّادقين، فألقى عصاه فإذا هي حيّةٌ عظيمةٌ فاغرةٌ فاها مسرعةٌ إلى فرعون، فلمّا رآها فرعون قاصدةً إليه خافها، فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفّها عنه، ففعل ثمّ أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوءٍ، يعني من غير برصٍ، ثمّ ردّها فعادت إلى لونها الأوّل، فاستشار الملأ حوله فيما رأى، فقالوا له: هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى، يعني ملكهم الّذي هم فيه والعيش، فأبوا على موسى أن يعطوه شيئًا ممّا طلب وقالوا له: اجمع لهما السّحرة، فإنّهم بأرضك كثيرٌ حتّى يغلب سحرك سحرهما، فأرسل في المدائن فحشر له كلّ ساحرٍ متعالمٍ، فلمّا أتوا فرعون قالوا: بم يعمل هذا السّاحر؟ قالوا: يعمل بالحيّات، قالوا: فلا والله ما أحدٌ في الأرض يعمل بالسّحر بالحيّات والحبال والعصيّ الّذي نعمل، وما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصّتي، وأنا صانعٌ إليكم كلّ شيءٍ أحببتم، فتواعدوا يوم الزّينة، وأن يحشر النّاس ضحًى، قال سعيدٌ: فحدّثني ابن عبّاسٍ أنّ يوم الزّينة اليوم الّذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسّحرة، هو يوم عاشوراء، فلمّا اجتمعوا في صعيدٍ قال النّاس بعضهم لبعضٍ: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر، لعلّنا نتّبع السّحرة إن كانوا هم الغالبين، يعنون موسى وهارون استهزاءً بهما، فقالوا يا موسى - لقدرتهم بسحرهم - إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين، قال: بل ألقوا، {فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون} [الشعراء: 44] فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفةً، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك، فلمّا ألقاها صارت ثعبانًا عظيمًا فاغرةً فاها، فجعلت العصا تلبّس بالحبال حتّى صارت جرزًا على الثّعبان تدخل فيه، حتّى ما أبقت عصًا ولا حبلًا إلّا ابتلعته، فلمّا عرف السّحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحرًا لم يبلغ من سحرنا كلّ هذا، ولكنّه أمرٌ من الله، آمنّا بالله وبما جاء به موسى، ونتوب إلى الله ممّا كنّا عليه، فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأتباعه، وظهر الحقّ وبطل ما كانوا يعملون {فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} [الأعراف: 119] وامرأة فرعون بارزةٌ تدعو الله بالنّصر لموسى على فرعون وأشياعه، فمن رآها من آل فرعون ظنّ أنّها إنّما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنّما كان حزنها وهمّها لموسى، فلمّا طال مكث موسى بمواعد فرعون الكاذبة، كلّما جاءه بآيةٍ وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف موعده وقال: هل يستطيع ربّك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله عزّ وجلّ على قومه {الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم آياتٍ مفصّلاتٍ} [الأعراف: 133] كلّ ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفّها عنه، ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كفّ ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده، حتّى أمر موسى بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلًا، فلمّا أصبح فرعون فرأى أنّهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين، فتبعه بجنودٍ عظيمةٍ كثيرةٍ، وأوحى الله تعالى إلى البحر: إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفرق اثنتي عشرة فرقةً حتّى يجاوز موسى ومن معه، ثمّ التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا، فانتهى إلى البحر وله قصيفٌ مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافلٌ فيصير عاصيًا للّه، فلمّا تراءى الجمعان تقاربا، قال قوم موسى: إنّا لمدركون، افعل ما أمرك به ربّك، فإنّه لم يكذب، ولم تكذب، قال: وعدني ربّي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقةً حتّى أجاوزه، ثمّ ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربّه، وكما وعد موسى، فلمّا أن جاز موسى وأصحابه كلّهم البحر، ودخل فرعون وأصحابه، التقى عليهم البحر كما أمر، فلمّا جاوز موسى البحر قال أصحابه: إنّا نخاف ألّا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربّه فأخرجه له ببدنه حتّى استيقنوا هلاكه، ثمّ مرّوا بعد ذلك {على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهةٌ قال إنّكم قومٌ تجهلون إنّ هؤلاء متبّرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون} [الأعراف: 138] قد رأيتم من العبر، وسمعتم ما يكفيكم، ومضى فأنزلهم موسى منزلًا وقال لهم: أطيعوا هارون فإنّي قد استخلفته عليكم، فإنّي ذاهبٌ إلى ربّي، وأجّلهم ثلاثين يومًا أن يرجع إليهم فيها، فلمّا أتى ربّه أراد أن يكلّمه في ثلاثين يومًا، وقد صامهنّ ليلهنّ ونهارهنّ، وكره أن يكلّم ربّه وريح فيه ريح فم الصّائم، فتناول موسى من نبات الأرض شيئًا فمضغه، فقال له ربّه حين أتاه: لم أفطرت؟، وهو أعلم بالّذي كان، قال: يا ربّ، إنّي كرهت أن أكلّمك إلّا وفمي طيّب الرّيح، قال: أوما علمت يا موسى أنّ ريح فم الصّائم أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشرًا ثمّ ائتني، ففعل موسى عليه السّلام ما أمره به، فلمّا رأى قوم موسى أنّه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال: إنّكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع، ولكم فيهم مثل ذلك، وأنا أرى أن تحتسبوا ما لكم عندهم، ولا أحلّ لكم وديعةً استودعتموها ولا عاريةً، ولسنا برادّين إليهم شيئًا من ذلك، ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيرًا وأمر كلّ قومٍ عندهم من ذلك من متاعٍ أو حليةٍ أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثمّ أوقد عليه النّار فأخرجه، فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السّامريّ من قومٍ يعبدون البقر جيرانٍ لبني إسرائيل، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضي له أن رأى أثرًا فأخذ منه قبضةً، فمرّ بهارون، فقال له هارون عليه السّلام: يا سامريّ، ألا تلقي ما في يدك؟ وهو قابضٌ عليه لا يراه أحدٌ طوال ذلك، فقال: هذه قبضةٌ من أثر الرّسول الّذي جاوز بكم البحر، فلا ألقيها بشيءٍ إلّا أن تدعو الله إذا ألقيت أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال: أريد أن تكون عجلًا، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاعٍ أو حليةٍ أو نحاسٍ أو حديدٍ، فصار عجلًا أجوف ليس فيه روحٌ له خوارٌ، قال ابن عبّاسٍ: لا والله، ما كان له صوتٌ قطّ، إنّما كانت الرّيح تدخل من دبره وتخرج من فيه، فكان ذلك الصّوت من ذلك، فتفرّق بنو إسرائيل فرقًا، فقالت فرقةٌ: يا سامريّ، ما هذا وأنت أعلم به؟ قال: هذا ربّكم، ولكنّ موسى أضلّ الطّريق، فقالت فرقةٌ: لا نكذّب بهذا حتّى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربّنا لم نكن ضيّعناه وعجزنا فيه حين رأينا، وإن لم يكن ربّنا فإنّا نتّبع قول موسى، وقالت فرقةٌ: هذا عمل الشّيطان، وليس بربّنا، ولن نؤمن به ولا نصدّق، وأشرب فرقةٌ في قلوبهم الصّدق بما قال السّامريّ في العجل، وأعلنوا التّكذيب به، فقال لهم هارون: يا قوم إنّما فتنتم به، وإنّ ربّكم الرّحمن، هكذا قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يومًا ثمّ أخلفنا؟ هذه أربعون قد مضت، فقال سفهاؤهم: أخطأ ربّه، فهو يطلبه ويتبعه، فلمّا كلّم الله موسى عليه السّلام، وقال له ما قال، أخبره بما لقي قومه من بعده، فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا، قال لهم ما سمعتم في القرآن، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، وألقى الألواح من الغضب، ثمّ إنّه عذر أخاه بعذره له، فانصرف إلى السّامريّ فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قبضت قبضةً من أثر الرّسول، وفطنت إليها، وعمّيت عليكم، فقذفتها {وكذلك سوّلت لي نفسي قال فاذهب فإنّ لك في الحياة أن تقول لا مساس وإنّ لك موعدًا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الّذي ظلت عليه عاكفًا لنحرّقنّه ثمّ لننسفنّه في اليمّ نسفًا} [طه: 96] ولو كان إلهًا لم نخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة واغتبط الّذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، فقالوا لجماعتهم: يا موسى، سل لنا ربّك أن يفتح لنا باب توبةٍ نصنعها، فيكفّر عنّا ما عملنا، فاختار موسى قومه سبعين رجلًا لذلك، لا يألوا الخير، خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم يسأل لهم التّوبة، فرجفت بهم الأرض، واستحيا نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل، فقال: {لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا} [الأعراف: 155] وفيهم من كان الله اطّلع منه على ما أشرب قلبه من حبّ العجل وإيمانٍ به، فلذلك رجفت بهم الأرض، فقال: {رحمتي وسعت كلّ شيءٍ فسأكتبها للّذين يتّقون ويؤتون الزّكاة والّذين هم بآياتنا يؤمنون الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل} [الأعراف: 156] فقال: يا ربّ، سألتك التّوبة لقومي فقلت: إنّ رحمتي كتبتها لقومٍ غير قومي، فليتك أخّرتني حتّى تخرجني في أمّة ذلك الرّجل المرحومة، فقال له: إنّ توبتهم أن يقتل كلّ رجلٍ منهم كلّ من لقي من والدٍ وولدٍ، فيقتله بالسّيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن، ويأتي أولئك الّذين كان خفي على موسى وهارون واطّلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا، وغفر الله للقاتل والمقتول، ثمّ سار بهم موسى صلّى الله عليه وسلّم متوجّهًا نحو الأرض المقدّسة، وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالّذي أمر به أن يبلّغهم من الوظائف، فثقل ذلك عليهم، وأبوا أن يقرّوا بها، فنتق الله عليهم الجبل كأنّه ظلّةٌ، ودنا منهم حتّى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصطفّون ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم، وهو من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثمّ مضوا حتّى أتوا الأرض المقدّسة، فوجدوا مدينةً فيها قومٌ جبّارون، خلقهم خلقٌ منكرٌ، وذكر من ثمارهم أمرًا عجيبًا من عظمها، فقالوا: يا موسى إنّ فيها قومًا جبّارين لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون، قال رجلان من الّذين يخافون - قيل ليزيد: هكذا قرأه؟ قال: نعم - من الجبّارين: آمنا بموسى وخرجا إليه فقالوا: نحن أعلم بقومنا، إن كنتم إنّما تخافون من ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنّهم لا قلوب لهم، ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنّكم غالبون، ويقول أناسٌ: إنّهما من قوم موسى، فقال الّذين يخافون بنو إسرائيل: {قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] فأغضبوا موسى عليه السّلام، فدعا عليهم وسمّاهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتّى كان يومئذٍ فاستجاب الله تعالى له، وسمّاهم كما سمّاهم موسى: فاسقين، فحرّمها عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض، يصبحون كلّ يومٍ فيسيرون ليس لهم قرارٌ، ثمّ ظلّل عليهم الغمام في التّيه، وأنزل عليهم المنّ والسّلوى، وجعل لهم ثيابًا لا تبلى ولا تتّسخ، وجعل بين أظهرهم حجرًا مربّعًا، وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، في كلّ ناحيةٍ ثلاثة أعينٍ، وأعلم كلّ سبطٍ عينهم الّتي يشربون منها، فلا يرتحلون من منقلةٍ إلّا وجدوا ذلك الحجر بالمكان الّذي كان فيه بالأمس، رفع ابن عبّاسٍ هذا الحديث إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وصدّق ذلك عندي أنّ معاوية سمع ابن عبّاسٍ حدّث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعونيّ الّذي أفشى على موسى أمر القتيل الّذي قتل، فقال: كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلّا الإسرائيليّ الّذي حضر ذلك؟ فغضب ابن عبّاسٍ، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالكٍ الزّهريّ فقال له: يا أبا إسحاق، هل تذكر يومًا حدّثنا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتيل موسى الّذي قتل من آل فرعون؟ آلإسرائيليّ أفشى عليه أم الفرعونيّ؟ قال: أنّما أفشى عليه الفرعونيّ، ما سمع من الإسرائيليّ شهد على ذلك وحضره). [السنن الكبرى للنسائي: 10/172-183]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقوله: {إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله} يقول تعالى ذكره: حين تمشي أختك تبتغيك حتّى وجدتك، ثمّ تأتي من يطلب المراضع لك، فتقول: هل أدلّكم على من يكفله؟ وحذف من الكلام ما ذكرت بعد قوله {إذ تمشي أختك} استغناءً بدلالة الكلام عليه.
وإنّما قالت أخت موسى ذلك لهم لما؛
- حدّثنا موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: لمّا ألقته أمّه في اليمّ {قالت لأخته قصّيه} فلمّا التقطه آل فرعون، وأرادوا له المرضعات، فلم يأخذ من أحدٍ من النّساء، وجعل النّساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرّضاع، فأبى أن يأخذ، فقالت أخته: {هل أدلّكم على أهلٍ بيتٍ يكفلونه لكم وهم له ناصحون} فأخذوها وقالوا: بل قد عرفت هذا الغلام، فدلّينا على أهله، قالت: ما أعرفه، ولكن إنّما قلت هم للملك ناصحون.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: قالت، يعني أمّ موسى لأخته: قصّيه فانظري ماذا يفعلون به، فخرجت في ذلك {فبصرت به عن جنبٍ وهم لا يشعرون} وقد احتاج إلى الرّضاع والتمس الثّدي، وجمعوا له المراضع حين ألقى اللّه محبّتهم عليه، فلا يؤتى بامرأةٍ، فيقبل ثديها، فيرمضهم ذلك، فيؤتى بمرضعٍ بعد مرضعٍ، فلا يقبل شيئًا منهن، فقالت لهم أخته حين رأت من وجدهم به وحرصهم عليه {هل أدلّكم على أهل بيتٍ يكفلونه لكم وهم له ناصحون} أي لمنزلته عندكم وحرصكم على مسرّة الملك.
وعنى بقوله: {هل أدلّكم على من يكفله} هل أدلّكم على من يضمّه إليه فيحضنه ويرضعه ويربّيه.
وقيل: معنى {وكفّلها زكريّا} ضمّها
وقوله: {فرجعناك إلى أمّك كي تقرّ عينها ولا تحزن} يقول تعالى ذكره: فرددناك إلى أمّك بعد ما صرت في أيدي آل فرعون، كيما تقرّ عينها بسلامتك ونجاتك من القتل والغرق في اليمّ، وكيلا تحزن عليك من الخوف من فرعون عليك أن يقتلك.
- كما: حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لمّا قالت أخت موسى لهم ما قالت، قالوا: هات، فأتت أمّه فأخبرتها، فانطلقت معها حتّى أتتهم، فناولوها إيّاه، فلمّا وضعته في حجرها أخذ ثديها، وسرّوا بذلك منه، وردّه اللّه إلى أمّه كي تقرّ عينها، ولا تحزن، فبلغ لطف اللّه لها وله، أن ردّ عليها ولدها وعطف عليها نفع فرعون وأهل بيته مع الأمنة من القتل الّذي يتخوّف على غيره، فكأنّهم كانوا من أهل بيت فرعون في الأمان والسّعة، فكان على فرش فرعون وسرره.
وقوله: {وقتلت نفسًا} يعني جلّ ثناؤه بذلك: قتله القبطيّ الّذي قتله حين استغاثه عليه الإسرائيليّ، فوكزه موسى.
وقوله: {فنجّيناك من الغمّ} يقول تعالى ذكره: فنجّيناك من غمّك بقتلك النّفس الّتي قتلت، إذ أرادوا أن يقتلوك بها فخلّصناك منهم، حتّى هربت إلى أهل مدين، فلم يصلوا إلى قتلك وقودك.
وكان قتله إيّاه فيما ذكر خطأً.
- كما: حدّثني واصل بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن فضيلٍ، عن أبيه، عن سالمٍ، عن عبد اللّه بن عمر، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: " إنّما قتل موسى الّذي قتل من آل فرعون خطأً، فقال اللّه له: {وقتلت نفسًا فنجّيناك من الغمّ وفتنّاك فتونًا} ".
- حدّثني زكريّا بن يحيى بن أبي زائدة، ومحمّد بن عمرٍو، قالا: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {فنجّيناك من الغمّ} قال: من قتل النّفس.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، {فنجّيناك من الغمّ} النّفس الّتي قتل.
واختلف أهل التّأويل في تأويل قوله {وفتنّاك فتونًا} فقال بعضهم: ابتليناك ابتلاءً واختبرناك اختبارًا.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني عليٌّ، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وفتنّاك فتونًا} يقول: اختبرناك اختبارًا.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ {وفتنّاك فتونًا} قال: ابتليت بلاءً.
- حدّثني العبّاس بن الوليد الآمليّ، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أصبغ بن زيدٍ الجهنيّ، قال: أخبرنا القاسم بن أًبي أيّوب، قال: حدّثني سعيد بن جبيرٍ، قال: سألت عبد اللّه بن عبّاسٍ عن قول اللّه، لموسى {وفتنّاك فتونًا} فسألته عن الفتون ما هي؟ فقال لي: استأنف النّهار يا ابن جبيرٍ فإنّ لها حديثًا طويلاً، قال فلمّا أصبحت غدوت على ابن عبّاسٍ لأنتجز منه ما وعدني، قال فقال ابن عبّاسٍ: تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد اللّه إبراهيم من أن يجعل في ذرّيّته أنبياء وملوكًا، فقال بعضهم: إنّ بني إسرائيل ينتظرون ذلك وما يشكّون فيه، ولقد كانوا يظنّون أنّه يوسف بن يعقوب، فلمّا هلك قالوا: ليس هكذا كان وعد اللّه إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ قال: فأتمروا بينهم وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشّفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلاّ ذبحوه، فلمّا رأوا أنّ الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأنّ الصّغار يذبحون، قالوا: توشكون أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيرون إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة الّتي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عامًا كلّ مولودٍ ذكرٍ، فيقلّ أبناؤهم، ودعوا عامًا فلا تقتلوا منهم أحدٌ، فتشبّ الصّغار مكان من يموت من الكبار، فإنّهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافون مكاثرتهم إيّاكم، ولن يقلّوا بمن تقتلون، فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أمّ موسى بهارون في العام المقبل الّذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانيةً آمنةً، حتّى إذا كان العام المقبل حملت بموسى فوقع في قلبها الهمّ والحزن وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ ممّا دخل عليه في بطن أمّه ممّا يراد به، فأوحى اللّه تبارك وتعالى إليها أن {لا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين} وأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوتٍ، ثمّ تلقيه في اليمّ، فلمّا ولدته فعلت ما أمرت به، حتّى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما صنعت بابنٍ، لو ذبح عندي فواريته وكفّنته كان أحبّ إليّ من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودورانه، فانطلق به الماء حتّى أوفى به عند فرضة مستقى جواري آل فرعون، فلمّا رأينه أخذنه، فهممن أن يفتحن التّابوت، فقال بعضهنّ لبعض: إنّ في هذا مالاً وإنّا إن فتحناه لم تصدّقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يحرّكن منه شيئًا حتّى دفعنه إليها، فلمّا فتحته رأت فيه غلامًا فألقي عليه منها محبّةً لم يلق مثلها منها على أحدٍ من النّاس، فأصبح فؤاد أمّ موسى فارغًا من ذكر كلّ شيءٍ إلاّ من ذكر موسى. فلمّا سمع الذّبّاحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم، يريدون أن يذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ فقالت للذّبّاحين: انصرفوا عنّي، فإنّ هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، فآتي فرعون فأستوهبه إيّاه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فلمّا أتت به فرعون قالت: {قرّة عينٍ لي ولك} قال فرعون: يكون لك، فأمّا أنا فلا حاجة لي فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والّذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرّة عينٍ كما أقرّت به، لهداه اللّه به كما هدى به امرأته، ولكنّ اللّه حرمه ذلك. فأرسلت إلى من حولها من كلّ أنثى لها لبنٌ، لتختار له ظئرًا، فجعل كلّما أخذته امرأةٌ منهنّ لترضعه لم يقبل ثديها، حتّى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللّبن فيموت، فحزّنها ذلك، فأمرت به فأخرج إلى السّوق مجمع النّاس ترجو أن تصيب له ظئرًا يأخذ منها، فلم يقبل من أحدٍ. وأصبحت أمّ موسى، فقالت لأخته: قصّيه واطلبيه، هل تسمعين له ذكرًا؟ أحيّ ابني، أو قد أكلته دوابّ البحر وحيتانه؟ ونسيت الّذي كان اللّه وعدها، فبصرت به أخته عن جنبٍ وهم لا يشعرون، فقالت من الفرح حين أعياهم الظّئورات: أنا أدلّكم على أهل بيتٍ يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فأخذوها وقالوا: وما يدريك ما نصحهم له؟ هل يعرفونه؟ حتّى شكّوا في ذلك وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه، رغبتهم في ظئورة الملك، ورجاء منفعته، فتركوها، فانطلقت إلى أمّها فأخبرتها الخبر، فجاءت، فلمّا وضعته في حجرها نزا إلى ثديها حتّى امتلأ جنباه، فانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشّرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرًا، فأرسلت إليها، فأتيت بها وبه، فلمّا رأت ما يصنع بها قالت: امكثي عندي ترضعين ابني هذا فإنّي لم أحبّ حبّه شيئًا قطّ، قال: فقالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي، فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرًا فعلت، وإلاّ فإنّي غير تاركةٍ بيتي وولدي وذكرت أمّ موسى ما كان اللّه وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أنّ اللّه تبارك وتعالى منجزٌ وعده، فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها، فأنبته اللّه نباتًا حسنًا، وحفظه لما قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية المدينة يمتنعون به من الظّلم والسّخرة الّتي كانت فيهم. فلمّا ترعرع، قالت امرأة فرعون لأمّ موسى: أزيريني ابني. فوعدتها يومًا تزيرها إيّاه فيه، فقالت لحواضنها وظئورتها وقهارمتها: لا يبقين أحدٌ منكم إلاّ استقبل ابني بهديّةٍ وكرامةٍ ليرى ذلك، وأنا باعثةٌ أمينةً تحصي كلّ ما يصنع كلّ إنسانٍ منكم، فلم تزل الهديّة والكرامة والتّحف تستقبله من حين خرج من بيت أمّه إلى أن دخل على امرأة فرعون. فلمّا دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به، وأعجبها ما رأت من حسن أثرها عليه، وقالت: انطلقن به إلى فرعون، فلينحله وليكرمه. فلمّا دخلن به عليه جعلنه في حجره، فتناول موسى لحية فرعون حتّى مدّها، فقال عدوٌّ من أعداء اللّه: ألا ترى ما وعد اللّه إبراهيم أنّه سيصرعك ويعلوك، فأرسل إلى الذّبّاحين ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ بعد كلّ بلاءٍ ابتلي به وأريد به.
فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون، فقالت: ما بدا لك في هذا الصّبيّ الّذي قد وهبته لي؟ قال: ألا ترين يزعم أنّه سيصرعني ويعلوني، فقالت: اجعل بيني وبينك أمرًا تعرف فيه الحقّ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقرّبهنّ إليه، فإن بطش باللّؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت أنّه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللّؤلؤتين فاعلم أنّ أحدًا لا يؤثر الجمرتين على اللّؤلؤتين وهو يعقل، فقرّب ذلك إليه، فتناول الجمرتين، فنزعوهما منه مخافة أن تحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه اللّه عنه بعد ما كان قد همّ به، وكان اللّه بالغًا فيه أمره.
فلمّا بلغ أشدّه، وكان من الرّجال، لم يكن أحدٌ من آل فرعون يخلص إلى أحدٍ من بني إسرائيل معه بظلمٍ ولا سخرةٍ، حتّى امتنعوا كلّ امتناعٍ، فبينما هو يمشي ذات يومٍ في ناحية المدينة، إذ هو برجلين يقتتلان، أحدهما من بني إسرائيل، والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ، فغضب موسى واشتدّ غضبه، لأنّه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل، وحفظه لهم، ولا يعلم النّاس إلاّ أنّما ذلك من قبل الرّضاعة غير أمّ موسى، إلاّ أن يكون اللّه أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره، فوكز موسى الفرعونيّ فقتله وليس يراهما أحدٌ إلاّ اللّه والإسرائيليّ، فقال موسى حين قتل الرّجل: {هذا من عمل الشّيطان إنّه عدوٌّ مضلٌّ مبينٌ} ثمّ قال: {ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرّحيم} {فأصبح في المدينة خائفًا يترقّب} الأخبار، فأتي فرعون، فقيل له: إنّ بني إسرائيل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون، فخذ لنا بحقّنا ولا ترخّص لهم في ذلك، فقال: ابغوني قاتله ومن شهد عليه، لأنّه لا يستقيم أن يقضى بغير بيّنةٍ ولا ثبتٍ، فطلبوا له ذلك، فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتًا، إذ مرّ موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيليّ يقاتل فرعونيًّا، فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس وكره الّذي رأى، فغضب موسى، فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعونيّ، قال للإسرائيليّ لما فعل بالأمس واليوم {إنّك لغويّ مبينٌ} فنظر الإسرائيليّ إلى موسى بعد ما قال ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الّذي قتل فيه الفرعونيّ، فخاف أن يكون بعد ما قال له {إنّك لغويّ مبينٌ} أن يكون إيّاه أراد، ولم يكن أراده، إنّما أراد الفرعونيّ فخاف الإسرائيليّ فحاجز الفرعونيّ فقال: {يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس} وإنّما قال ذلك مخافة أن يكون إيّاه أراد موسى ليقتله، فتتاركا، فانطلق الفرعونيّ إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيليّ من الخبر حين يقول: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس؟ فأرسل فرعون الذّبّاحين، فسلك موسى الطّريق الأعظم، فطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم، وكان رجلٌ من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقًا قريبًا حتّى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر، وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {فتونًا} قال: بلاءٌ، إلقاؤه في التّابوت، ثمّ في البحر، ثمّ التقاط آل فرعون إيّاه، ثمّ خروجه خائفًا. قال محمّد بن عمرٍو، وقال أبو عاصمٍ: خائفًا، أو جائعًا " شكّ أبو عاصمٍ "، وقال الحارث فى حديثه: خائفًا يترقّب، ولم يشكّ.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، مثله وقال: {خائفًا يترقّب} ولم يشكّ.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وفتنّاك فتونًا} يقول: ابتليناك بلاءً.
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {وفتنّاك فتونًا} هو البلاء على إثر البلاء.
وقال آخرون: معنى ذلك: أخلصناك.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {وفتنّاك فتونًا} أخلصناك إخلاصًا.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن يعلى بن مسلمٍ، قال: سمعت سعيد بن جبيرٍ، يفسّر هذا الحرف: {وفتنّاك فتونًا} قال: أخلصناك إخلاصًا.
وقد بيّنّا فيما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة، وأنّها الابتلاء والاختبار بالأدلّة المغنية عن الإعادة في هذا الموضع.
وقوله: {فلبثت سنين في أهل مدين} وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تمامه اكتفاءً بدلالة ما ذكر عمّا حذف. ومعنى الكلام: وفتنّاك فتونًا، فخرجت خائفًا إلى أهل مدين، فلبثت سنين فيهم.
وقوله: {ثمّ جئت على قدرٍ يا موسى} يقول جلّ ثناؤه: ثمّ جئت للوقت الّذي أردنا إرسالك إلى فرعون رسولاً ولمقداره.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {ثمّ جئت على قدرٍ يا موسى} يقول: لقد جئت لميقاتٍ يا موسى.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبى نجيح، عن مجاهدٍ، قال: {على قدرٍ يا موسى} قال: موعدٌ.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: على ذي موعدٍ.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {على قدرٍ يا موسى} قال: قدر الرّسالة والنّبوّة.
والعرب تقول: جاء فلانٌ على قدرٍ: إذا جاء لميقات الحاجة إليه، ومنه قول الشّاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرًا = كما أتى ربّه موسى على قدر). [جامع البيان: 16/60-72]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله فنجيناك من الغم قال يعني من غم قتل النفس). [تفسير مجاهد: 396]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله وفتناك فتونا قال يعني البلاء إلقاؤه في التابوت ثم في البحر ثم التقاط آل فرعون إياه ثم خروجه من المدينة يخشى الطلب خائفا يترقب). [تفسير مجاهد: 396]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله ثم جئت على قدر يا موسى قال يعني على موعد). [تفسير مجاهد: 396]
قال عليُّ بنُ أبي بكرٍ بن سُليمَان الهَيْثَميُّ (ت: 807هـ) : (قوله تعالى: {وفتنّاك فتونًا} [طه: 40].
- عن سعيد بن جبيرٍ «عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {وفتنّاك فتونًا} [طه: 40] سألته عن الفتون ما هو؟ قال: استأنف النّهار يا ابن جبيرٍ، فإنّها حديثةٌ طويلةٌ. فلمّا أصبحت غدوت إلى ابن عبّاسٍ لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون، قال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان اللّه وعد إبراهيم من أن يجعل من ذرّيّته أنبياء وملوكًا، فقال بعضهم: إنّ بني إسرائيل لينظرون ذلك ما يشكّون فيه، وقد كانوا يظنّون أنّه يوسف بن يعقوب، فلمّا هلك قالوا: ليس كذلك إنّ اللّه - عزّ وجلّ - وعد إبراهيم. قال فرعون: كيف ترون؟ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالًا معهم الشّفار، يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلّا ذبحوه. ففعلوا ذلك، فلمّا رأوا أنّ الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصّغار يذبّحون قالوا: يوشك أن تفنوا بني إسرائيل، فتضطرّوا أن تباشروا من الأعمال الّذي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عامًا كلّ مولودٍ ذكرٍ فيقلّ نباتهم، ودعوا عامًا فلا يقتل منهم [أحدٌ]، فينشأ الصّغار مكان من يموت من الكبار، فإنّهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافون مكاثرتهم إيّاكم، ولن يفنوا بمن تقتلون فتحتاجون إلى ذلك. فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أمّ موسى بهارون في العام الّذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانيةً آمنةً، فلمّا كان من قابلٍ حملت بموسى، فوقع في قلبها الهمّ والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ بما دخل منه في قلب أمّه ممّا يراد به، فأوحى اللّه - تبارك وتعالى - إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين وأمرها إن ولدت أن تجعله في تابوتٍ ثمّ تلقيه في اليمّ، فلمّا ولدته فعلت ذلك به. فلمّا توارى عنها ابنها أتاها الشّيطان فقالت في نفسها: ما صنعت بابني! لو ذبح عندي فواريته وكفّنته كان خيرًا لي من أن ألقيه بيدي إلى زفرات البحر وحيتانه، فانتهى الماء به إلى فرضة مستقى جواري امرأة فرعون، فلمّا رأينه أخذنه، فهممن أن يفتحن التّابوت، فقال بعضهنّ: إنّ في هذا مالًا وإنّا إن فتحناه لم تصدّقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه. فحملنه بهيئته لم يحرّكن منه شيئًا حتّى دفعنه إليها، فلمّا فتحته رأت فيه غلامًا، فألقي عليه منها محبّةٌ لم تجد مثلها على أحدٍ من البشر قطّ، فأصبح فؤاد أمّ موسى فارغًا من ذكر كلّ شيءٍ إلّا [من] ذكر موسى، فلمّا سمع الذّبّاحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ، فقالت لهم: اتركوه، فإنّ هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتّى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألمكم، فأتت به فرعون فقالت: قرّة عينٍ لي ولك قال فرعون: يكون لك، فأمّا لي فلا حاجة لي في ذلك.
قال رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم -: " والّذي نفسي بيده، لو أقرّ فرعون كما أقرّت امرأته لهداه اللّه كما هدى امرأته، ولكن حرمته ذلك ". فأرسلت إلى من حولها من كلّ امرأةٍ لها لبنٌ لتختار له ظئرًا، فجعل كلّما أخذته امرأةٌ منهنّ لترضعه لم يقبل ثديها حتّى أشفقت عليه امرأة فرعون أن يمتنع من اللّبن فيموت، فأحزنها ذلك، فأخرج إلى السّوق ومجمع النّاس ترجو أن تجد له ظئرًا يأخذ منها، فلم يقبل. فأصبحت أمّ موسى والهةً، فقالت لأخته: قصّيه، قصّي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرًا؟ حيٌّ ابني أم أكلته الدّوابّ؟ ونسيت ما كان اللّه وعدها منه، فبصرت به أخته عن جنبٍ وهم لا يشعرون - والجنب: أن يسمو بصر الإنسان إلى الشّيء البعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به - فقالت من الفرح حين أعياهم الظّؤار: أنا أدلّكم على أهل بيتٍ يكفلونه لكم وهم له ناصحون. فأخذوها فقالوا: ما يدريك ما نصحهم له؟ هل تعرفونه؟ حتّى شكّوا في ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ، فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبةً في صهر الملك ورجاء منعته. فأرسلوها فانطلقت إلى أمّها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمّه فلمّا وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصّه حتّى امتلأ جنباه ريًّا. فانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشّرها أن قد وجدنا لابنك ظئرًا، فأرسلت إليها فأتيت بها وبه، فلمّا رأت ما يصنع بها قالت لها: امكثي عندي ترضعين ابني هذا، فإنّي لم أحبّ حبّه شيئًا قطّ. قالت أمّ موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرًا، وإلّا فإنّي غير تاركةٍ بيتي وولدي. وذكرت أمّ موسى ما كان اللّه - عزّ وجلّ - وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أنّ اللّه منجزٌ وعده، فرجعت إلى بيتها بابنها. [فأصبح أهل] القرية مجتمعين يمتنعون من السّخرة والظّلم ما كان بينهم. قال: فلمّا ترعرع قالت امرأة فرعون لأمّ موسى: أن تريني ابني، فوعدتها يومًا تريها إيّاه، فقالت امرأة فرعون لخزّانها وقهارمتها وظؤورها: لا يبقينّ أحدٌ منكم إلّا استقبل ابني اليوم بهديّةٍ وكرامةٍ لأرى ذلك فيه، وأنا باعثةٌ أمينًا يحصي كلّ ما يصنع [كلّ] إنسانٌ منكم. فلم تزل الهدايا والكرامة والنّحل تستقبله من حين خرج من بيت أمّه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلمّا دخل عليها بجّلته وأكرمته وفرحت به، وبجّلت بأمّه لحسن أثرها عليه، ثمّ قالت: لآتينّ فرعون فليبجّلنّه وليكرمنّه. فلمّا دخلت به عليه جعلته في حجره، فتناول موسى لحية فرعون فمدّها إلى الأرض، فقال الغواة أعداء اللّه لفرعون: ألا ترى إلى ما وعد اللّه إبراهيم نبيّه أنّه يربك ويعلوك ويصرعك! فأرسل إلى الذّبّاحين ليذبحوه. وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ بعد كلّ بلاءٍ ابتلي به وأربك به فتونًا. فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الّذي وهبته لي؟ قال: ترينه يزعم أنّه يصرعني ويعلوني! قالت: اجعل بيني وبينك أمرًا تعرف الحقّ فيه، ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقرّبهنّ إليه، فإن بطش باللّؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنّه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يردّ اللّؤلؤتين علمت أن أحدًا لا يؤثر الجمرتين على اللّؤلؤتين وهو يعقل. فقرّب ذلك، فتناول الجمرتين ولم يرد اللّؤلؤتين، علمت، فانزعوهما من يده مخافة أن يحرقانه، فقالت امرأة فرعون: ألا ترى؟ فصرفه اللّه عنه بعد ما قد كان همّ به، وكان اللّه - عزّ وجلّ - بالغًا فيه أمره. فلمّا بلغ أشدّه وكان من الرّجال لم يكن أحدٌ من آل فرعون يخلص إلى أحدٍ من بني إسرائيل معه بظلمٍ ولا سخرةٍ حتّى امتنعوا به كلّ الامتناع، فبينما موسى في ناحية المدينة فإذا هو برجلين يقتتلان، أحدهما فرعونيٌّ والآخر إسرائيليٌّ، فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ، فغضب موسى غضبًا شديدًا لأنّه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم، لا يعلم النّاس ألا إنّما ذلك من الرّضاع إلّا أمّ موسى، إلّا أن يكون اللّه قد أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره. فوكز موسى الفرعونيّ فقتله، وليس يراهما أحدٌ إلّا اللّه والإسرائيليّ، فقال موسى حين قتل الرّجل: هذا من عمل الشّيطان إنّه عدوٌّ مضلٌّ مبينٌ ثمّ قال: ربّ اغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرّحيم وأصبح في المدينة خائفًا يترقّب الأخبار، فأتي فرعون فقيل له: إنّ بني إسرائيل قتلوا رجلًا من آل فرعون فخذ لنا بحقّنا ولا ترخّص لهم، فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه، فإنّ الملك وإن كان صفوه مع قومٍ لا يستقيم لهم أن يقيّد بغير بيّنةٍ ولا تثبّتٍ، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقّكم. فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتًا إذا موسى قد رأى من الغد ذلك الإسرائيليّ يقاتل رجلًا من آل فرعون آخر، فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ، فصادف موسى قد ندم على ما فعل وكان منه فكره الّذي رأى لغضب الإسرائيليّ وهو يريد أن يبطش بالفرعونيّ، فقال للإسرائيليّ لما فعل أمس واليوم: إنّك لغويٌّ مبينٌ أن يكون إيّاه أراد وما أراد الفرعونيّ، ولم يكن أراده إنّما أراد الفرعونيّ، فخاف الإسرائيليّ فحاجّ للفرعونيّ وقال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس وإنّما قال ذلك مخافة أن يكون إيّاه أراد موسى ليقتله، وتنازعا وتطاوعا، وانطلق الفرعونيّ إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيليّ من الخبر حيث يقول: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس فأرسل فرعون الذّبّاحين ليقتلوا موسى، فأخذ رسل فرعون الطّريق الأعظم يمشون على هيئتهم، يطلبون لموسى، وهم لا يخافون أن يفوتهم، إذ جاءه رجلٌ من شيعة موسى من أقصى المدينة، اختصر طريقًا قريبًا حتّى سبقهم إلى موسى فأخبره الخبر. وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ. فخرج موسى متوجّهًا نحو مدين، لم يلق بلاءً قبل ذلك وليس له بالطّريق علمٌ إلّا حسن ظنّه بربّه - عزّ وجلّ - فإنّه قال: عسى ربّي أن يهديني سواء السّبيل ولمّا ورد ماء مدين وجد عليه أمّةً من النّاس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان - يعني بذلك حابستين غنمهما - فقال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع النّاس؟ قالتا: ليس بنا قوّةٌ نزاحم القوم وإنّما ننتظر فضول حياضهم. فسقى لهما، فجعل يغرف من الدّلو ماءً كثيرًا حتّى كان أوّل الرّعاء فراغًا. فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى فاستظلّ بشجرةٍ فقال ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خيرٍ فقيرٌ، فاستنكر سرعة صدورهما بغنمهما حفلًا بطانًا فقال: إنّ لكما اليوم لشأنًا. فأخبرتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما تدعوه له، فأتت موسى فدعته. فلمّا كلّمه قال: لا تخف نجوت من القوم الظّالمين ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطانٌ ولسنا في مملكته. قال: فقالت إحداهما: يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين. قال: فاحتملته الغيرة إلى أن قال: وما يدريك ما قوّته وما أمانته؟ قالت: أمّا قوّته فما رأيت منه في الدّلو حين سقى لنا لم أر رجلًا أقوى في ذلك السّقي منه، وأمّا أمانته فإنّه نظر إليّ حين أقبلت إليه وشخصت له، فلمّا علم أنّي امرأةٌ صوّب رأسه ولم يرفعه ولم ينظر إليّ حتّى بلّغته رسالتك، ثمّ قال: امشي خلفي وابغيني الطّريق، فلم يفعل هذا الأمر إلّا وهو أمينٌ. فسرّي عن أبيها فصدّقها فظنّ به الّذي قالت. فقال له: هل لك أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حججٍ فإن أتممت عشرًا فمن عندك وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء اللّه من الصّالحين، ففعل، فكانت على نبيّ اللّه موسى - صلّى اللّه عليه وسلّم - ثمان سنين واجبةً، وكانت سنتان عدةً منه. فقضى اللّه عدته فأتمّها عشرًا. قال سعيدٌ: فلقيني رجلٌ من أهل النّصرانيّة من علمائهم فقال: هل تدري أيّ الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا - وأنا يومئذٍ لا أدري - فلقيت ابن عبّاسٍ فذكرت له ذلك، فقال: أما علمت أنّ ثمانيًا كانت على موسى واجبةً، ولم يكن نبيّ اللّه لينقص منها شيئًا، وتعلم أنّ اللّه قاضٍ عن موسى عدته الّذي وعد، فإنّه قضى عشر سنين. فلقيت النّصرانيّ فأخبرته ذلك، فقال: الّذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك؟ قال: قلت: أجل وأولى. فلمّا سار موسى بأهله كان من أمر النّار والعصا ويده ما قصّ [اللّه] عليك في القرآن. فشكا إلى ربّه - تبارك وتعالى - ما يتخوّف من آل فرعون في القتل وعقدة لسانه فإنّه كان في لسانه عقدةٌ تمنعه من كثيرٍ من الكلام، وسأل ربّه أن يعينه بأخيه هارون ليكون له ردءًا ويتكلّم عنه [بكثيرٍ ممّا لا يفصح به لسانه]. فآتاه اللّه سؤله، فعبّر عنه بكثيرٍ ممّا لا يفصح به لسانه وحلّ عقدة لسانه، فأوحى اللّه إلى هارون وأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتّى لقي هارون، فانطلقا جميعًا إلى فرعون، فأقاما على بابه حينًا لا يؤذن لهما، ثمّ أذن لهما بعد حجابٍ شديدٍ فقالا: إنّا رسولا ربّك فقال: من ربّكما يا موسى؟ فأخبره بالّذي قصّ اللّه عليك في القرآن، فقال: فما تريد؟ وذكّره القتيل فاعتذر بما قد سمعت، وقال: إنّي أريد أن تؤمن باللّه وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه ذلك وقال: ائت بآيةٍ إن كنت من الصّادقين. فألقى عصاه فإذا هي حيّةٌ عظيمةٌ فاغرةٌ فاها مسرعةٌ إلى فرعون. فلمّا رآها فرعون قاصدةً إليه خافها، فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفّها عنه ففعل، ثمّ أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوءٍ - يعني من غير برصٍ - ثمّ ردّها فعادت إلى لونها الأوّل. فاستشار الملأ حوله فيما رأى فقالوا له: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى - يعني ملكهم الّذي هم فيه والعيش - فأبوا أن يعطوه شيئًا ممّا طلب وقالوا له: اجمع لنا السّحرة، فإنّهم بأرضك كثيرٌ حتّى يغلب سحرهم سحرهما، فأرسل في المدينة، فحشر له كلّ ساحرٍ متعالمٍ. فلمّا أتوا فرعون قالوا: بم يعمل هذا السّاحر؟ قالوا: بالحيّات. قالوا: فلا واللّه ما أحدٌ في الأرض يعمل السّحر بالحيّات والعصيّ الّتي نعمل، فما أجرنا إن نحن غلبنا؟ فقال لهم: إنّكم أقاربي وخاصّتي، وأنا صانعٌ إليكم كلّما أحببتم. فتواعدوا يوم الزّينة وأن يحشر النّاس ضحًى.
قال سعيدٌ: حدّثني ابن عبّاسٍ أنّ يوم الزّينة اليوم الّذي أظهر اللّه فيه موسى على فرعون والسّحرة، وهو يوم عاشوراء. فلمّا اجتمعوا في صعيدٍ قال النّاس بعضهم لبعضٍ: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر لعلّنا نتّبع السّحرة إن كانوا هم الغالبين يعنون موسى وهارون استهزاءً بهما. فقالوا: يا موسى - لقدرتهم بسحرهم - إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين قال: بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفةً، فأوحى اللّه - تبارك وتعالى - إليه أن ألق عصاك فلمّا ألقاها صارت ثعبانًا عظيمًا فاغرةً فاها، فجعلت العصا بدعوة موسى تلبس الحبال حتّى صارت جدرًا إلى الثّعبان يدخل فيه حتّى ما أبقت عصًا ولا حبلًا إلّا ابتلعته. فلمّا عرف السّحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحرًا لم تبتلع من سحرنا هذا، ولكنّه أمرٌ من اللّه - تبارك وتعالى - آمنّا باللّه وبما جاء به موسى، ونتوب إلى اللّه - عزّ وجلّ - ممّا كنّا عليه. وكسر اللّه ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه وأظهر الحقّ وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وامرأة فرعون بارزةٌ مبتذلةٌ تدعو اللّه - تعالى - بالنّصر لموسى على فرعون، فمن رآها من آل فرعون ظنّ أنّها ابتذلت للشّفقة على فرعون وأشياعه، وإنّما كان حزنها وهمّها لموسى. فلمّا طال مكث موسى لمواعيد فرعون الكاذبة جاءه بآيةٍ وعده عندها أن يرسل بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف مواعيده وقال: هل يستطيع ربّك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل عليه وعلى قومه الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم آياتٍ مفصّلاتٍ. كلّ ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إلى موسى أن يكفّها عنه ويواثقه أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كفّها عنه أخلف موعده ونكث عهده، حتّى أمر موسى بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلًا، فلمّا أصبح فرعون ورأى أنّهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين يتبعهم بجنودٍ عظيمةٍ كثيرةٍ. فأوحى اللّه إلى البحر أن إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفرق اثنتي عشرة فرقةً حتّى يجوز موسى ومن معه، ثمّ التق على من بقي بعده من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا، فانتهى إلى البحر وله قصيفٌ مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافلٌ فيصير عاصيًا، فلمّا تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى: إنّا لمدركون افعل ما أمرك ربّك فإنّك لن تكذب ولن تكذّب، فقال: وعدني إذا أتيت البحر يفرق لي اثنتي عشرة فرقةً حتّى أجاوز. ثمّ ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحر بعصاه فانفرق له حتّى دنا أوائل جند فرعون من أوّل جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربّه وكما وعد موسى. فلمّا أن جاوز موسى وأصحابه كلّهم، ودخل فرعون وأصحابه كلّهم التقى عليهم كما أمره اللّه، فلمّا أن جاوز موسى البحر قالوا: إنّا نخاف أن لا يكون فرعون غرق فلا نؤمن بهلاكه. فدعا ربّه فأخرجه له بيديه حتّى استيقنوا بهلاكه. ثمّ مرّوا على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهةٌ قال إنّكم قومٌ تجهلون إنّ هؤلاء متبّرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون قد رأيتم من الغير وسمعتم ما يكفيكم، ومضى، فأنزلهم موسى منزلًا ثمّ قال لهم: أطيعوا هارون، فإنّي قد استخلفته عليكم، فإنّي ذاهبٌ إلى ربّي، وأجّلهم ثلاثين يومًا أن يرجع إليهم. فلمّا أتى ربّه أراد أن يكلّمه في ثلاثين وقد صامهنّ ليلهنّ ونهارهنّ، كره أن يكلّم ربّه ويخرج من فمه ريح فم الصّائم، فتناول موسى شيئًا من نبات الأرض فمضغه، فقال له ربّه حين أتاه: أفطرت؟ - وهو أعلم بالّذي كان - قال: ربّ كرهت أن أكلّمك إلّا وفمي طيّب الرّيح. قال: أوما علمت يا موسى أنّ ريح فم الصّائم أطيب عندي من ريح المسك؟ ارجع حتّى تصوم عشرًا ثمّ ائتني. ففعل موسى ما أمر. فلمّا رأى قوم موسى أنّه لم يرجع إليهم للأجل قال: بينما هم كذلك وكان هارون قد خطبهم فقال: إنّكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عوارٍ وودائع، ولكم فيها مثل ذلك، وأنا أرى أن تحبسوا مالكم عندهم، ولا أحلّ لكم وديعةً ولا عاريةً، ولسنا برادّين إليهم شيئًا من ذلك ولا ممسكين لأنفسنا. فحفر حفيرًا وأمر كلّ قومٍ عندهم شيءٌ من ذلك من متاعٍ أو حليةٍ أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثمّ أوقد عليه النّار فأحرقه، فقال: لا يكون لنا ولا لهم. وكان السّامريّ رجلًا من قومٍ يعبدون البقر جيرانٍ لهم، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثرًا فأخذ منه قبضةً، فمرّ بهارون، فقال له [هارون]: يا سامريّ ألا تلقي ما في يدك؟ وهو قابضٌ عليه لا يراه أحدٌ طوال ذلك. قال: هذه قبضةٌ من أثر الرّسول الّذي جاوز بكم البحر، فما ألقيها بشيءٍ إلّا أن تدعو اللّه إذا ألقيتها أن يكون ما أريد. فألقاها ودعا له هارون وقال: أريد أن تكون عجلًا فاجتمع ما كان في الحفرة من متاعٍ أو حليةٍ أو نحاسٍ أو حديدٍ فصار عجلًا أجوف ليس فيه روحٌ له خوارٌ.
قال ابن عبّاسٍ: ولا واللّه، ما كان له صوتٌ قطّ، إنّما كانت الرّيح تدخل من دبره فتخرج من فيه، وكان ذلك الصّوت من ذلك. فتفرّق بنو إسرائيل فرقًا، فقالت فرقةٌ: يا سامريّ ما هذا، فأنت أعلم به؟ قال: هذا ربّكم، ولكنّ موسى أضلّ الطّريق. وقالت فرقةٌ: لا نكذّب بهذا حتّى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربّنا لم نكن ضيّعناه وعجزنا فيه حين رأيناه، وإن لم يكن ربّنا فإنّا نتّبع قول موسى. وقالت طائفةٌ: هذا من عمل الشّيطان وليس بربّنا ولا نؤمن به ولا نصدّق. وأشرب فرقةٌ في قلوبهم التّصديق بما قال السّامريّ في العجل وأعلنوا التّكذيب به، فقال لهم هارون: يا قوم إنّما فتنتم به وإنّ ربّنا الرّحمن ليس هكذا. قالوا: فما بال موسى وعد ثلاثين يومًا ثمّ أخلفنا؟ فهذه الأربعون قد مضت. فقال سفهاؤهم: أخطأ ربّه فهو يطلبه ويبتغيه. فلمّا كلّم اللّه موسى وقال له ما قال أخبره بما لقي قومه من بعده فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا فقال لهم ما سمعتم في القرآن وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه وألقى الألواح، ثمّ إنّه عذر أخاه فاستغفر له وانصرف إلى السّامريّ، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قبضت قبضةً من أثر الرّسول وفطنت لها وعميت عليكم فقذفتها وكذلك سوّلت لي نفسي قال فاذهب فإنّ لك في الحياة أن تقول لا مساس وإنّ لك موعدًا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الّذي ظلت عليه عاكفًا لنحرّقنّه ثمّ لننسفنّه في اليمّ نسفًا، ولو كان إلهًا لم يخلص إلى ذلك منّا، فاستيقن بنو إسرائيل، واغتبط الّذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون وقالوا - جماعتهم - لموسى: سل لنا ربّك أن يفتح لنا باب توبةٍ نصنعها ويكفّر لنا ما عملنا. فاختار قومه سبعين رجلًا لذلك - لإتيان الجبل - ممّن لم يشرك في العجل. فانطلق بهم ليسأل لهم التّوبة، فرجعت بهم الأرض، فاستحيا من اللّه من قومه ووفده حين فعل بهم ما فعل قال: ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا وفيهم من كان اللّه اطّلع على ما أشرب من حبّ العجل وإيمانًا به، فلذلك رجفت بهم الأرض فقال: ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ فسأكتبها للّذين يتّقون ويؤتون الزّكاة والّذين هم بآياتنا يؤمنون الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل فقال: ربّ سألتك التّوبة فقلت: إنّ رحمتك كتبتها لقومٍ غير قومي، فليتك أخّرتني حتّى تخرجني حيًّا في أمّة ذلك الرّجل المرحومة، فقال اللّه - عزّ وجلّ - له: إنّ توبتهم أن يقتل كلّ رجلٍ منهم كلّ من لقي من والدٍ وولدٍ، فيقتله بالسّيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن. ويأبى أولئك الّذين خفي على موسى وهارون ما اطّلع اللّه عليه من ذنوبهم واعترفوا بها وفعلوا ما أمروا به فغفر اللّه للقاتل والمقتول. ثمّ سار بهم موسى متوجّهًا نحو الأرض المقدّسة، وأخذ الألواح بعدما سكن عنه الغضب، وأمرهم بالّذي أمرهم به أن يبلّغهم من الوظائف، فثقل وأبوا أن يقرّوا بها، فنتق اللّه عليهم الجبل كأنّه ظلّةٌ، ودنا منهم حتّى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون إلى الجبل والأرض، والكتاب بأيديهم، وهم ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثمّ مضوا حتّى أتوا الأرض المقدّسة، فوجدوا فيها مدينةً فيها قومٌ جبّارون، خلقهم خلقٌ منكرٌ، وذكر من ثمارهم أمرًا عجيبًا، فقالوا يا موسى إنّ فيها قومًا جبّارين لا طاقة لنا بهم ولا ندخلها ما داموا فيها فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون، قال رجلان من الّذين يخافون أنعم اللّه عليهما من الجبّارين: آمنّا بموسى، فخرجا إليه، فقالا: نحن أعلم بقومنا، إن كنتم إنّما تخافون من أجسامهم وعدّتهم فإنّهم لا قلوب لهم ولا منعة عليهم، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنّكم غالبون. ويقول ناسٌ: إنّهما من قوم موسى، وزعم سعيد بن جبيرٍ أنّهما من الجبابرة آمنا بموسى، يقول: من الّذين يخافون إنّما عني بذلك الّذين يخافهم بنو إسرائيل، قالوا: يا موسى، اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون. فأغضبوا موسى، فدعا عليهم وسمّاهم: فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك، لمّا رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتّى كان يومئذٍ فاستجاب اللّه له فيهم، وسمّاهم فاسقين، وحرّمها عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض، يصبحون كلّ يومٍ فيسيرون ليس لهم قرارٌ، ثمّ ظلّل عليهم الغمام في التّيه، وأنزل عليهم المنّ والسّلوى، وجعل لهم ثيابًا لا تبلى ولا تنسج، وجعل بينهم حجرًا مربّعًا، وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا في كلّ ناحيةٍ ثلاث أعينٍ، وأعلم كلّ سبطٍ عينهم الّتي يشربون منها، لا يرتحلون من منقلةٍ إلّا وجدوا ذلك الحجر فيهم بالمكان الّذي بالأمس».
رفع ابن عبّاسٍ هذا الحديث إلى النّبيّ - صلّى اللّه عليه وسلّم - وصدّق ذلك عندي أنّ معاوية سمع ابن عبّاسٍ حدّث هذا الحديث، فأنكره عليه أن يكون هذا الفرعونيّ أفشى على موسى أمر القتيل الّذي قتل، فكيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلّا الإسرائيليّ الّذي حضر ذلك [وشهده]؟ فغضب ابن عبّاسٍ، وأخذ بيد معاوية فذهب به إلى سعد بن مالكٍ الزّهريّ فقال: يا أبا إسحاق، هل تذكر يوم حدّثنا رسول اللّه - صلّى اللّه عليه وسلّم - عن قتيل موسى الّذي قتله [من آل فرعون] الإسرائيليّ الّذي أفشى عليه أم الفرعونيّ؟ فقال: إنّما أفشى عليه الفرعونيّ بما سمع من الإسرائيليّ الّذي شهد ذلك وحضره.
رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصّحيح غير أصبغ بن زيدٍ والقاسم بن أبي أيّوب وهما ثقتان). [مجمع الزوائد: 7/56-66]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (وقال أحمد بن منيعٍ: ثنا يزيد بن هارون، أبنا أصبغ بن زيد الجهني، ثنا القاسم ابن أبي أيّوب، ثنا سعيد بن جبيرٍ قال: "سألت عبد اللّه بن عبّاسٍ- رضي اللّه عنهما- عن قول اللّه- عزّ وجلّ- لموسى صلى الله عليه وسلم: (وفتناك فتوناً) فسألته عن الفتون فقال: استأنف النّهار يا ابن جبيرٍ؟ فإنّ لها حديثًا طويلًا قال: فغدوت على ابن عباس لأنجز ما وعدني من حديث الفتون، فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان اللّه- عزّ وجلّ- وعد إبراهيم قيل من أن يجعل في ذرّيّته أنبياءً وملوكًا، فقال بعضهم: إنّ بني إسرائيل لينتظرون ذلك ما يشكّون فيه، وقد كانوا يظنّون أنّه يوسف بن يعقوب- عليهما الصّلاة والسّلام- فلمّا هلك قالوا: ليس هكذا كان، إنّ اللّه- عزّ وجلّ- وعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم. قال فرعون: فكيف ترون؟ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلّا ذبحوه ففعلوا ذلك، فلمّا أن رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصّغار يذبحون قالوا: توشكوا أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى-، أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي، كانوا يكفونكم، فاقتلوا عامًا كلّ مولودٍ ذكرٍ فيقلّ نباتهم، ودعوا عامًا فلا تقتلوا منهم أحداً فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون فتخافوا، مكاثرتهم إياكم ولن يفنوا بمن تقتلون فتحتاجون إليهم، فأجمعوا أمرهم على ذلك، فحملت أمّ موسى بهارون- عليهما السلام- في العام الذي لايذبح فيه الغلمان فولدته علانيةً، فلمّا كان من قابلٍ حملت بموسى- عليه السّلام- فوقع في قلبها-، من الهم والحزن، فذلك من الفتون يا ابن جبير ما دخل عليه في دهو بطن أمّه ممّا يراد به فأوحى اللّه- تعالى- إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين، وأمرها أن إذا ولدت أن تجعله في تابوتٍ، ثمّ تلقيه في اليمّ، فلمّا ولدت فعلت ذلك به فألقته في اليمّ، فلمّا توارى عنها ابنها أتاها الشّيطان فقالت في نفسها: ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفّنته كان أحبّ إليّ من أن ألقيه بيدي إلى دوابّ البحر وحيتانه. وانتهى الماء به حتّى أرفأ به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون، فلمّا رأينه أخذنه، فهممن أن يفتحن التابوت، فقال بعضهنّ: إنّ في هذا مالًا وإنّا إن فتحناه لم تصدّقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه. فحملنه بهيئته لم يحركن منه شيئاً حتى دفعنه إليها، فلمّا فتحته رأت فيه غلامًا فألقي عليه منها محبة لم يلق مثلها على البشر قطّ، وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغًا من ذكر كلّ شيءٍ إلّا من ذكر موسى- عليه السّلام- فلمّا سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه- وذلك من الفتون يا ابن جبير- فقالت للذباحين: أقروه، فإنّ هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتّى آتي فرعون فأستوهبه منه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم وإن أمر بذبحه لم ألمكم. فأتت به فرعون فقالت: قرّة عينٍ لي ولك. قال فرعون: يكون لك فأمّا لي فلا حاجة لي في ذلك. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: والّذي أحلف به لو أقرّ فرعون بأن يكون له قرّة عينٍ كما أقرّت امرأته لهداه اللّه به كما هدى به امرأته، ولكنّ اللّه حرمه ذلك. فأرسلت إلى من حولها من كلّ امرأةٍ لها لبنٌ تختار لها ظئرًا، فجعل كلّما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها حتّى أشفقت عليه امرأة فرعون أن يمتنع من اللّبن فيموت، فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع النّاس ترجو أن تجد له ظئرًا يأخذ منها فلم يقبل، وأصبحت أمّ موسى والهةً فقالت لأخته: قصيه- تعني أثره- واطلبيه، هل تسمعين له ذكرًا؟ أحيٌّ، ابني أم قد أكلته الدّوابّ؟ ونسيت ما كان الله- عز وجل- وعدها فيه فبصرت به أخته عن جنبٍ وهم لا يشعرون- والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشّيء البعيد وهو إلى جنبه لايشعر به- فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤارت،: أنا أدلّكم على أهل بيتٍ يكفلونه لكم وهم له ناصحون فأخذوها. فقالوا: ما يدريك مانصحهم له، هل تعرفونه حتّى شكّوا في ذلك- فذلك من الفتون يا ابن جبير- فقالت: نصحتهم له وشفقتهم عليه رغبة في صهر الملك ورجاء منفعته، فأرسلوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت أمّه فلمّا وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصّه حتّى امتلأ جنباه ريًّا، وانطلق البشير، إلى امرأة فرعون: إنا قد وجدنا لابنك ظئراً، فأرسلت إليها فأتت بها وبه، فلمّا رأت ما يصنع قالت لها: امكثي عندي ترضعي ابني هذا، فإنّي لم أحب حبه شيئًا قطّ. فقالت أمّ موسى: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى منزلي فيكون معي لا آلوه خيرًا فعلت، وإلّا فإنّي غير تاركةٍ بيتي وولدي. وذكرت أمّ موسى- عليه السّلام- ما كان اللّه- عزّ وجلّ- وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت بأنّ اللّه- عزّ وجل- منجز موعوده، فرجعت إلى بيتها بابنها من يومها فأنبته اللّه نباتًا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه، فلم تزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين، يمتنعون به من السّخرة ما كان فيهم، فلمّا ترعرع قالت امرأة فرعون لأمّ موسى: أريد أن تريني ابني، فوعدتها يومًا تريها فيه إيّاه، فقالت امرأة فرعون لخزّانها وظئورتها وقهارمتها: لا يبقينّ أحدٌ منكم إلّا استقبل ابني اليوم بهديّةٍ وكرامةٍ لأرى ذلك فيه وأنا باعثة أميناً يحصي ما يصنع كلّ إنسانٍ منكم. فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمّه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلمّا دخل عليها بجلته، وأكرمته وفرحت به وأعجبها ونحلت أمّه لحسن أثره ثمّ قالت: لآتينّ به فرعون فلينحلنّه وليكرمنّه فلمّا دخلت به عليه جعله في حجره فتناول موسى لحية فرعون فمدّها إلى الأرض فقال الغواة من أعداء اللّه لفرعون: ألا ترى إلى ما وعد اللّه- عزّ وجلّ- إبراهيم نبيّه- عليه السّلام- أنّه يرثك ويعلوك ويصرعك، فأرسل إلى الذّبّاحين- وذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ بعد كلّ بلاءٍ ابتلي به أو أريد به فتونًا- فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت: ما بدا لك في هذا الغلام الّذي وهبته لي؟ قال: ألا ترينه يزعم أنّه يصرعني ويعلوني؟ قالت: أجعل بيني وبينك أمرًا تعرف فيه الحقّ ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقرّبهما إليه فإن بطش باللّؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنّه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللّؤلؤتين علمت أنّ أحدًا لا يؤثر الجمرتين على اللّؤلؤتين وهو يعقل. فقرّب ذلك إليه فتناول الجمرتين فانتزعوهما من يده مخافة أن تحرقا يديه، فقالت المرأة: ألا ترى. فصرفه اللّه عنه بعد ما كان قد همّ به، وكان اللّه- عزّ وجلّ- بالغًا فيه أمره، فلمّا بلغ أشدّه وصار من الرّجال لم يكن أحدٌ من آل فرعون يخلص إلى أحدٍ من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع، فبينا موسى- عليه السّلام- يمشي في ناحية المدينة إذ هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعونيٌّ والآخر إسرائيليٌّ، فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ فغضب موسى- عليه السلام- غضباً شديداً؟ لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى- عليه السّلام- من بني إسرائيل وحفظه لهم لا يعلم النّاس إلّا أنّما ذلك من الرّضاع إلّا أمّ موسى إلّا أن يكون اللّه- عزّ وجلّ- أطلع موسى- عليه السّلام- من ذلك على ما لم يطلعه عليه غيره، فوكز موسى- عليه السّلام- الفرعونيّ فقتله وليس يراهما أحدٌ إلّا اللّه- عزّ وجل- والإسرائيلي. فقال موسى- عليه السّلام- حين قتل الرّجل (هذا من عمل الشّيطان إنّه عدوٌّ مضلٌّ مبين) ثم قال (رب إني ظلمت) إلى قوله (إنه هو الغفور الرحيم) فأصبح في المدينة خائفًا يترقّب الأخبار فأتي فرعون فقيل: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلًا من آل فرعون فخذ لنا بحقّنا ولا ترخّص لهم. فقال: ابغوني قاتله ومن شهد عليه "فإنّ الملك وإن كان صفوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت فانظروا في علم ذلك آخذ لكم بحقّكم. فبينا هم يطوفون، لا يجدون ثبتاً، إذا موسى- عليه السلام- قد رأى من الغد ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلًا من آل فرعون آخر فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ فصادف موسى- عليه السّلام- قد ندم على ما كان منه فكره الّذي رأى فغضب الإسرائيليّ وهو يريد أن يبطش بالفرعوني فقال للإسرائيلي لما فعل أمس واليوم: (إنّك لغويٌّ مبينٌ) . فنظر الإسرائيليّ إلى موسى- عليه السّلام- بعدما قال له ما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الّذي قتل به الفرعونيّ؟ فخاف أن يكون بعد ما قال له: (إنك لغوي مبين) إيّاه أراد، ولم يكن أراده إنّما أراد الفرعونيّ فخاف الإسرائيليّ فحاجز الفرعونيّ فقال: يا موسى، أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس. وإنّما قال ذلك مخافة أن يكون إيّاه أراد موسى- عليه السّلام- أن يقتله فتنازعا فانطلق الفرعونيّ إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيليّ من الخبر حين يقول: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس. فأرسل فرعون الذّبّاحين ليقتلوا موسى- عليه السّلام- فأخذ رسل فرعون الطّريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى- عليه السّلام- وهم لا يخافون أن يفوتهم، فجاء رجلٌ من شيعة موسى- عليه السّلام- من أقصى المدينة فاختصر، طريقًا قريبًا حتّى سبقهم إلى موسى- عليه السّلام- فأخبره الخبر- فذلك من الفتون يا ابن جبيرٍ - فخرج موسى- عليه السّلام- متوجّهًا نحو مدين لم يلق بلاءً قبل ذلك، وليس له علمٌ بالطّريق إلّا حسن الظّنّ بربّه- عزّ وجلّ- فإنّه قال: (عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل ولمّا ورد ماء مدين وجد عليه أمّةً من الناس يسقون) إلى تذودان - يعني بذلك حابستين غنمهما- فقال لهما: ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع النّاس؟ قالتا: ليس لنا قوّةٌ نزاحم القوم وإنّما ننتظر فضول حياضهم. فسقى لهما فجعل يغرف بالدّلو ماءً كثيرًا حتّى كانتا أول الرعاء فراغاً، فانصرفا بغنمهما إلى أبيهما، وانصرف موسى- عليه السّلام- فاستظلّ بشجرةٍ وقال: (ربّ إنّي لما أنزلت إلي من خير فقير) . فاستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطاناً. فقال: إن لكما اليوم لشأن فأخبرتاه، بما صنع موسى- عليه السّلام- فأمر إحداهما أن تدعوه له، فأتت موسى- عليه السّلام- فدعته فلمّا كلّمه قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين، ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطانٌ ولسنا في مملكته. قال: فقالت إحداهما: يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين. فاحتملته الغيرة على أن قال: وما يدريك ما قوّته وما أمانته؟ قالت: أمّا قوّته: فما رأيت في الدلو وحين سقى لنا لم أر رجلًا قطّ في ذلك المسقى منه، وأمّا أمانته فإنّه نظر إليّ حين أقبلت إليه وشخصت له، فلمّا علم أنّي امرأة صوب رأسه، فلم يرفعه ولم ينظر إليّ حتّى بلّغته رسالتك، ثمّ قال لي: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، فلم يفعل هذا إلّا وهو أمينٌ. فسرّي عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت، فقال له: هل لك أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) إلى قوله (من الصالحين) ففعل فكانت على نبيّ اللّه موسى- عليه السلام- ثماني سنين واجبةٌ، وكانت سنتان عدّةٌ منه فقضى اللّه- عزّ وجلّ- عنه عدّته، فأتمّها عشرًا- قال سعيدٌ: فلقيني رجلٌ من أهل النّصرانيّة من علمائهم فقال: هل تدري أيّ الأجلين قضى موسى- عليه السلام قلت: لا، وأنا يومئذٍ لا أدري، فلقيت ابن عبّاسٍ فذكرت ذلك له فقال: أما علمت أنّ ثمانيًا كانت على نبيّ اللّه- عليه السّلام- واجبةً، لم يكن نبيّ اللّه لينقص منها شيئاً وتعلم أن الله- عز وجل- كان قاضيًا عن موسى - عليه السّلام- عدّته الّتي وعد؟ فإنّه قضى عشر سنين. فلقيت النّصرانيّ فأخبرته بذلك. فقال: الّذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك. قلت: أجل وأولى. فلمّا سار موسى- عليه السّلام- بأهله كان من أمر الناس ما قصّ اللّه عليك في القرآن وأمر العصا ويده فشكا إلى ربّه- عزّ وجلّ- ما يتخوّف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فأتاه اللّه- عزّ وجلّ- سؤله وحلّ عقدةً من لسانه وأوحى اللّه- عزّ وجلّ - إلى هارون- عليه السّلام- وأمره أن يلقاه، واندفع موسى- عليه السّلام- بعصاه حتّى لقي هارون- عليه السلام- فانطلقا جميعًا إلى فرعون فأقاما حينًا على بابه لا يؤذن لهما، ثم أذن لهما، فقالا: إنا رسولا ربك. قال: فمن ربكما يا موسى؟ فأخبراه بالّذي قصّ اللّه - عزّ وجلّ- عليك في القرآن. قال: فما تريدان؟ وذكّره القتيل واعتذر بما قد سمعت. وقال: أريد أن تؤمن باللّه وأن ترسل معي بني إسرائيل. فأبى عليه، وقال: ائت بآيةٍ إن كنت من الصّادقين. فألقى عصاه، فإذا هي حيّةٌ عظيمة فارعة فاغرةٌ فاها مسرعةٌ إلى فرعون، فلمّا رآها فرعون قاصدةً إليه خافها، فاقتحم عن سريره، واستغاث بموسى- عليه السّلام- أن يكفّها عنه، ففعل، ثمّ أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوءٍ- يعني من غير برصٍ- فردّها فعادت إلى لونها الأوّل، فاستشار الملأ حوله فيما رأى، فقالوا له: (هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم ... ) الآية، والمثلى ملكهم الذي هم فيه والعيش، فأبوا على موسى- عليه السّلام- أن يعطوه شيئًا ممّا طلب، وقالوا له: اجمع لهما السّحرة فإنّهم بأرضك كثيرٌ حتّى تغلب بسحرهما وأرسل في المدائن فحشر له كلّ ساحرٍ متعالم، فلما أتوا على فرعون قالوا: بم يعمل هذا السّاحر؟ قالوا: يعمل الحيّات. قالوا: واللّه ما أحدٌ في الأرض يعمل السّحر والحيّات والحبال والعصيّ الّذي نعمل، فما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم فتواعدوا يوم الزّينة وأن يحشر النّاس ضحًى- قال سعيدٌ: فحدّثني ابن عبّاسٍ أنّ يوم الزّينة اليوم الّذي أظهر اللّه- عزّ وجلّ- فيه موسى- عليه السّلام- على فرعون والسّحرة هو يوم عاشوراء- فلمّا اجتمعوا في صعيدٍ، قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر لعلّنا نتّبع السّحرة إن كانوا هم الغالبين- يعنون موسى وهارون عليهما السّلام- استهزاءً بهما. فقالوا: يا موسى- لقدرتهم في أنفسهم بسحرهم- إما أن تلقي وإما نكون نحن الملقين قال: بل ألقوا. فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا: بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون. فرأى موسى- عليه السّلام- من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفةً، فأوحى اللّه - عزّ وجلّ- إليه أن ألق عصاك. فلمّا ألقاها صارت ثعبانًا عظيمًا فاغرةً فاها فجعلت العصيّ بدعوة موسي- عليه السّلام- تلتبس بالحبال حتى صارت جرزاً إلى الثعبان تدخل فيه، حتّى ما أبقت عصا ولا حبلًا إلّا ابتلعته، فلمّا عرف السّحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كلّ هذا، ولكنّه أمر من الله، آمنا بالله وبما جاء به موسى- عليه السّلام- ونتوب إلى اللّه- عزّ وجلّ- ممّا كنّا عليه، وكسر اللّه ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، وأظهر الحقّ وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وامرأة فرعون بارزةٌ متبذّلةٌ تدعو بالنّصر لموسى- عليه السّلام- على فرعون، فمن رآها من آل فرعون ظنّ أنّها إنّما تبذّلت لشفقةٍ على فرعون وأشياعه، وإنّما كان حزنها وهمّها لموسى- عليه السّلام- فلمّا طال مكث موسى- عليه السّلام- لمواعيد فرعون الكاذبة كلّما جاءه بآيةٍ وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا مضت أخلف موعده وقال: أهل، يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل اللّه عليه وعلى قومه الطّوفان، والجراد، والقمّل، والضّفادع آياتٍ مفصّلاتٍ، كلّ ذلك يشكو إلى موسى- عليه السّلام- ويطلب إليه أن يكفّها عنه، ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كفّ ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده فأمر موسى- عليه السّلام- بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلًا، فلمّا أصبح فرعون ورأى أنّهم قد مضوا، أرسل في المدائن حاشرين فتبعهم بجنودٍ عظيمةٍ كثيرةٍ، وأوحى اللّه- عزّ وجلّ- إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفرق له اثنتي عشرة فرقةً حتّى يجوز موسى - عليه السلام- ومن معه، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي موسى- عليه السّلام- أن يضرب البحر بالعصا، فانتهى إلى البحر وله قصيفٌ، مخافة أن يضربه موسى- عليه السّلام- وهو غافلٌ، فيصير عاصيًا لله- عزّ وجلّ- فلمّا تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى: إنّا لمدركون افعل ما أمرك به ربّك- عزّ وجلّ- فإنّك لم تكذب ولم تكذب. فقال: وعدني ربّي- عزّ وجلّ- إذا أتيت البحر انفرق لي اثنتي عشرة فرقةً حتّى أجاوزه، ثمّ ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى- عليه السّلام- فانفرق البحر كما أمره اللّه- عزّ وجلّ- وكما وعد موسى- عليه السّلام- فلمّا أن جاوز موسى- عليه السّلام- وأصحابه البحر، ودخل فرعون وأصحابه، التقى عليهم البحر كما أمر، فلمّا جاوز موسى- عليه السّلام- البحر، قال أصحابه: إنّا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه- عز وجل- فأخرجه له ببدنه، حتّى استيقنوا بهلاكه، ثمّ مرّوا بعد ذلك على قومٍ يعكفون على أصنامٍ لهم قالوا: (يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهةً) إلى (وباطلٌ ما كانوا يعملون) . قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم ومضى فأنزلهم موسى- عليه السّلام- منزلًا، ثمّ قال لهم: أطيعوا هارون- عليه السّلام- فإنّي قد استخلفته عليكم، وإنّي ذاهبٌ إلى ربّي- عزّ وجلّ- وأجّلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه ثلاثين يوماً وقد صامهن ليلهن ونهارهن، كره أن يكلمّ ربّه- عزّ وجلّ - وريح فمه ريح فم الصّائم، فتناول موسى- عليه السّلام- من نبات الأرض شيئًا فمضغه. فقال له ربّه- عزّ وجلّ- حين لقاه: لم أفطرت- وهو أعلم بالّذي كان؟ قال: يا ربّ، إنّي كرهت أن أكلّمك إلّا وفمي طيّب الرّيح. قال: أو ما علمت يا موسى أنّ ريح فم الصّائم أطيب عندي من ريح المسك ارجع حتى تصوم عشراً، ثمّ ائتني. ففعل موسى- عليه السّلام- ما أمر به، فلمّا رأى قوم موسى- عليه السّلام- أنّه لم يرجع إليهم للأجل ساءهم ذلك، وكان هارون- عليه السّلام- قد خطبهم فقال: إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندي عواري وودائع، ولكم فيهم مثل ذلك، وأنا أرى أن تحتسبوا ما لكم عندهم، ولا أحل لكم وديعةً استودعتموها ولا عاريةً، ولسنا برادّي إليهم شيئًا من ذلك، ولا ممسكيه لأنفسنا- فحفر حفيراً، وأمر كل قوم عندهم شيء من ذلك من متاعٍ أو حليةٍ أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثمّ أوقد عليه النّار فأحرقه فقال: لا يكون لنا ولا لهم. وكان السّامريّ رجلٌ من قومٍ يعبدون البقر جيرانٍ لهم، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى- عليه السّلام- وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثرًا، فأخذ منه بقبضته، فمرّ بهارون، فقال له هارون- عليه السّلام- يا سامريّ ألا تلقي ما في يديك؟ وهو قابضٌ عليه لا يراه أحدٌ طوال ذلك. فقال: هذه قبضةٌ من أثر الرّسول الّذي جاوز بكم البحر ولا ألقيها، لشيء إلّا أن تدعو اللّه إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاه ودعا له هارون- عليه السلام-. فقال: أريد أن تكون عجلًا، واجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حليةٍ أو نحاسٍ أو حديدٍ فصار عجلا أجوف ليس فيه روحٌ له خوارٌ- قال ابن عبّاسٍ: لا واللّه ما كان له صوتٌ قطّ، إنّما كانت الرّيح تدخل من دبره وتخرج من فيه، فكان ذلك الصّوت من ذلك- فتفرّق بنو إسرائيل فرقًا. فقالت فرقةٌ: يا سامريّ، ما هذا فأنت أعلم به؟ قال: هذا ربّكم- عزّ وجلّ- ولكنّ موسى- عليه السّلام- أضلّ الطريق. وقالت فرقة: لا نكذب بهذا، حتّى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربّنا الم نكن ضيعناه، وعجزنا فيه حتّى رأيناه، وإن لم يكن ربّنا فإنّا نتّبع قول موسى عليه السّلام. وقالت فرقة: هذا عمل الشّيطان، وليس بربّنا، ولا نؤمن ولا نصدّق، وأشرب فرقةٌ في قلوبهم التّصديق بما قال السّامريّ في العجل، وأعلنوا التّكذيب، فقال لهم هارون- عليه السّلام- يا قوم إنّما فتنتم به وإنّ ربّكم ليس هكذا. قالوا: فما بال موسى- عليه السّلام- وعدنا ثلاثين يومًا ثمّ أخلفنا، فهذه أربعون قد مضت. فقال سفهاؤهم: أخطأ ربّه فهو يطلبه ويتّبعه. فلمّا كلّم اللّه- عزّ وجلّ- موسى- عليه السّلام- وقال له ما قال، أخبره بما لقي قومه بعده فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا وقال لهم ما سمعتم في القرآن وأخذ برأس أخيه وألقي الألواح من الغضب، ثمّ عذر أخاه بعذره، واستغفر له، وانصرف إلى السّامريّ، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قبضت قبضةً من أثر الرّسول، وفطنت لها وعمّت عليكم فقذفتها وكذلك سوّلت لي نفسي (قال فاذهب فإنّ لك في الحياة أن تقول لا مساس وإنّ لك موعدًا لن تخلفه وانظر إلى إلهك) إلى قوله: (نسفاً) ولو كان إلهاً لم تخلص إلى ذلك منه، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة، واغتبط الّذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون- عليه السّلام- فقالوا بجماعتهم لموسى- عليه السّلام-: سل لنا ربّك- عزّ وجلّ- أن يفتح لنا باب توبةٍ نصنعها فيكفّر عنّا ما عملنا فاختار موسى- عليه السّلام- قومه سبعين رجلًا لذلك لا يألوا الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل. فانطلق بهم ليسأل لهم التّوبة، فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من قومه ووفده حين فعل بهم ما فعل، فقال: (ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) وفيهم من قد كان اللّه- عزّ وجلّ- اطّلع على ما أشرب قلبه من حبّ العجل وإيمانه به، لذلك رجفت بهم الأرض. فقال: (ورحمتي وسعت كلّ شيء فسأكتبها للذين يتقون) إلى (في التوراة والإنجيل) فقال: ربّ سألتك التّوبة لقومي فقلت: إنّ رحمتي كتبتها لقوم غير قومي فليتك أخرتني، حتى تخرجني حيّاً في أمّة ذلك الرّجل المرحومة. فقال اللّه له: إنّ توبتهم أن يقتل كلّ رجلٍ منهم من لقي من والدٍ أو ولدٍ فيقتله بالسّيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن وتاب أولئك الّذين كان خفي على موسى وهارون- عليهما السّلام - ما اطّلع اللّه عليهم من ذنوبهم، فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا وغفر اللّه للقاتل والمقتول. ثمّ سار بهم موسى- عليه السّلام- متوجّهًا نحو الأرض المقدّسة وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب وأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف، فثقل ذلك عليهم، وأبوا أن يقرّوا بها فنتق اللّه عليهم الجبل كأنّه ظلّةٌ ودنا منهم حتّى خافوا أن يقع عليهم، فأخذوا الكتاب بأيمانهم، وهم يصغون، ينظرون إلى الجبل والأرض والكتاب بأيديهم وهم ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم. ثمّ مضوا إلى الأرض المقدّسة فوجدوا مدينة قوم جبارين خلقهم خلق منكرٌ، وذكر من ثمارهم أمرًا عجبًا من عظمها، فقالوا: يا موسى إنّ فيها قومًا جبارين لا طاقة لنا بهم ولا ندخلها ما داموا فيها فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون من الجبّارين: آمنّا بموسى- عليه السّلام- فخرجا إليه، فقالا: نحن أعلم بقومنا، إن كنتم إنّما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم، فإنّهم لا قلوب لهم، ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنّكم غالبون. ويقول أناس: إنها من قوم موسى- عليه السّلام- وزعم سعيد بن جبيرٍ: أنّهما من الجبّارين آمنا بموسى فقوله: (من الّذين يخافون) إنّما عنى بذلك من الذين يخافون بني إسرائيل (قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) فأغضبوا موسى- عليه السّلام- فدعا عليهم وسمّاهم: فاسقين. ولم يدع عليهم قبل ذلك لمّا رأى، منهم من المعصية وإساءتهم حتّى كان يومئذٍ، فاستجاب اللّه - عزّ وجلّ- له فسمّاهم كما سماهم موسى- عليه السلام-: فاسقين وحرمها عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض يصبحون كلّ يومٍ فيسيرون ليس لهم قرارٌ، ثمّ ظلّل عليهم الغمام في التّيه، وأنزل عليهم المنّ والسّلوى، وجعل لهم ثيابًا لا تبلى ولا تتّسخ، وجعل بين ظهرهم حجرًا مربّعًا، وأمر موسى- عليه السلام- فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا في كلّ ناحيةٍ ثلاثة أعينٍ، وأعلم كلّ سبطٍ عينهم الّتي يشربون منها، فلا يرتحلون من منزلة إلّا وجدوا ذلك الحجر منهم بالمكان الّذي كان منه أمس. رفع ابن عبّاسٍ هذا الحديث إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وصدق ذلك عندي أنّ معاوية سمع من ابن عبّاسٍ هذا الحديث فأنكره عليه أن يكون الفرعونيّ هو الّذي أفشى على موسى- عليه السّلام- أمر القتيل الّذي قتل. قال: كيف يفشي عليه ولم يكن علم به، ولا ظهر عليه إلّا الإسرائيليّ الّذي حضر ذلك وشهده. فغضب ابن عبّاسٍ فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالكٍ الزّهريّ، فقال له: يا أبا إسحاق، هل تذكر يوم حدّثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قتيل موسى- عليه السّلام- الذي قتل من آل فرعون الإسرائيلي أفشى عليه أم الفرعونيّ؟ قال: إنّما علم الفرعونيّ لما سمع من الإسرائيليّ الّذي شهد ذلك وحضره".
- رواه أبو يعلى الموصليّ: ثنا أبو خيثمة، ثنا يزيد بن هارون، ثنا أصبغ بن زيدٍ ... فذكره بتمامه.
هذا إسنادٌ صحيحٌ، القاسم بن أبي أيّوب وثّقه ابن سعدٍ وأبو داود، وذكره ابن حبّان في الثّقات، وأصبغ بن زيدٍ وثّقه أحمد وابن معينٍ والنّسائيّ، وباقي رجال الإسناد على شرط الشّيخين). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/234-244]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية يقول: أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت ثم في البحر {إذ تمشي أختك} ). [الدر المنثور: 10/187]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه والخطيب عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ.
يقول الله: {وقتلت نفسا فنجيناك من الغم} ). [الدر المنثور: 10/187-188]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {فنجيناك من الغم} قال: من قتل النفس {وفتناك فتونا} قال: أخلصناك إخلاصا). [الدر المنثور: 10/188]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وفتناك فتونا} قال: ابتليناك ابتلاء). [الدر المنثور: 10/188]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وفتناك فتونا} قال: ابتليناك ببلاء نعمة). [الدر المنثور: 10/188]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وفتناك فتونا} قال: اختبرناك اختبارا). [الدر المنثور: 10/188]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله: {وفتناك فتونا} قال: بلاء إلقاؤه في التابوت ثم في اليم ثم التقاط آل فرعون إياه ثم خروجه خائفا يترقب). [الدر المنثور: 10/188]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي عمر العدني في مسنده، وعبد بن حميد والنسائي وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى لموسى عليه السلام: {وفتناك فتونا} فسألت عن الفتون ما هو فقال: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثا طويلا فلما أصبحت غدوت على ابن عباس لأتنجز ما وعدني من حديث الفتون فقال: تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله عز وجل - وعد إبراهيم عليه السلام - من أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه ولقد كانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب فلما هلك قالوا: ليس هذا كان وعد الله إبراهيم، قال فرعون: فكيف ترون فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا - معه الشفار - يطوفون في بني إسرائيل: فلا يجدون مولودا إلا ذبحوه ففعلوا فلما رأوا أن الكبار يموتون بآجالهم وأن الصغار يذبحون قالوا: يوشك أن يفني بنو إسرائيل فتصيروا تباشروا الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقل أبناؤهم، ودعوا عاما لا تقتلوا منهم أحدا فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا فتخافون مكاثرتهم إياكم ولن يفنوا بمن تقتلون فتحتاجون إليهم فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهرون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدت علانية آمنة حتى إذا كان في قابل حملت بموسى فوقع في قلبها الهم والحزن فذلك من الفتون يا ابن جبير لما دخل عليه في بطن أمه ما يراد به فأوحى الله إليها أن: (لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) (القصص آية 7) وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم فلما ولدت فعلت ما أمرت به حتى إذا توارى عنها ابنها - أتاها الشيطان - وقالت في نفسها: ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه، فانطلق به الماء حتى أوفى به عند مستقى جواري امرأة فرعون فرأينه فأخذنه فهممن أن يفتحن الباب فقال بعضهن لبعض: إن في هذا لمالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه فحملنه بهيئته لم يحركن منه شيئا حتى دفعنه إليها فلما فتحته رأت فيه الغلام فألقي عليها محبة لم تلق منها على أحد من البشر قط (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) (القصص آية 10) من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم يريدون أن يذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير فقالت للذباحين: إن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل وإني آتي فرعون فأستوهبه منه فإن وهبه لي فقد أحسنتم وأجملتم وإن أمر بذبحه لم ألمكم فلما أتت به فرعون قالت: (قرة عين لي ولك لا تقتلوه) (القصص آية 9) قال فرعون: يكون لك وأما لي فلا حاجة لي فيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون قرة عين له كما قالت امرأته لهداه الله به كما هدى به امرأته ولكن الله عز وجل - حرمه ذلك فأرسلت إلى من حولها من كل امرأة لها لبن لتختار له ظئرا فكلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمنتع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا يأخذ منها فلم يفعل وأصبحت أم موسى والها فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا أحي أم قد أكلته الدواب ونسيت الذي كان وعد الله، (فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون) والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به (فقالت) - من الفرح حين أعياهم الظوائر - (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) فأخذوها فقالوا: وما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه حتى شكوا في ذلك وذلك من الفتون يا ابن جبير، فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في جانب الملك رجاء شفقته، فتركوها فانطلقت إلى أمه فأخبرتها الخبر فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشرى إلى امرأة فرعون يبشرونها: إنا قد وجدنا لابنك ظئرا، فأرسلت إليها فأتيت بها وبه فلما رأت ما يصنع قالت لها: امكثي عندي أرضعني [ أرضعي ] ابني هذا - فإني لم أحب حب شيئا قط - قالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي، فذكرت أم موسى ما كان الله عز وجل وعدها فتعاسرت على امرأة فرعون لذلك وأيقنت أن الله عز وجل منجز وعده، فرجعت بابنها من يومها فأنبته الله نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه فلم يزل بنو إسرائيل - وهم يجتمعون في ناحية القرية - يمتنعون به من الظلم والسخرة منذ كان فيهم فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى: أريد أن تريني ابني فوعدتها يوما تزورها فيه به، فقالت لخزانها وجواريها وقهارمتها: لا يبقى منكم اليوم واحد إلا استقبل ابني بهدية وكرامة أرى ذلك فيه وأنا باعثة أمينا يحضر ما صنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والنحل والكرامة تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل عليها فلما دخل عليها أكرمته ونحلته وفرحت به وأعجبها ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ثم قالت لأنطلقن به إلى فرعون فلينحله وليكرمنه، فلما دخلت به عليه وجعلته في حجره فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض فقالت له الغواة - من أعداء الله -: ألا ترى إلى ما وعد الله إبراهيم إنه يرثك ويصرعك ويعلوك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جبير بعد كل بلاء ابتلي به وأريد به فتونا، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت: ما بدا لك في هذا الصبي الذي وهبته لي قال: ألا ترينه يزعم أنه سيصرعني ويعلوني قالت له: اجعل بيني وبينك أمرا تعرف فيه الحق ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقربهن إليه فإن بطش بالؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت أن يعقل وإن هو تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين فاعلم أن أحد لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فلما قرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين أخذ الجمرتين فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا بدنه، فقال للمرأة: لا يذبح، وصرفه الله عنه بعد أن كان هم به وكان الله بالغ أمره فيه فلما بلغ أشده - وكان من الرجال - لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا بسخرة حتى امتنعوا كل الإمتناع، فبينما هو يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان - أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون - فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى واشتد غضبه لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم: لا يعلم إلا أن ذلك من الرضاع من أم موسى إلا أن يكون الله تعالى أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع غيره عليه فوكز موسى الفرعوني فقتله وليس يراهما أحد إلا الله وموسى والإسرائيلي، (فقال) موسى: حين قتل الرجل (هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين) (القصص آية 15) ثم (قال ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له وأصبح في المدينة خائفا يترقب) (القصص آية 17) الأخبار فأتى فرعون فقيل له: إن بني إسرئيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم، فقال ائتوني به ومن شهد عليه فإن الملك - وإن كان صفوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت فاطلبوا علم ذلك آخذ لكم بحقكمز فبينما هم يطوفون فلا يجدون بينة ولا ثبتا إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيا آخر فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان من وكزه الذي رأى فغضب من الإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم وقال: (إنك لغوي مبين) (القصص آية 18) فنظر الإسرائيلي إلى موسى حين قال له ما قال - فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس - فخاف بعدما قال له: (إنك لغوي مبين) أن يكون إياه أراد وإنما أراد الفرعوني (فقال: يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس) (القصص آية 19) وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فيتداركا فانطلق الفرعوني إلى قومه فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي حين يقول: (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس) (القصص آية 19) فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم (وجاء رجل) من شيعة موسى (من أقصى المدينة) (القصص آية 20) فاختصر طريقا قريبا حتى سبقهم إلى موسى فأخبره الخبر، وذلك من الفتون يا ابن جبير.
فخرج موسى متوجها نحو مدين لم يلق بلاء مثل ذلك وليس له بالطريق علم الأحسن ظنه بربه فإنه (قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) (القصص آية 22) (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان) (القصص آية 23) يعني فلم تسقيا غنمهما قال: (ما خطبكما) (القصص آية 23) معتزلتين لا تسقيان مع الناس قالتا: ليست لنا قوة نزاحم القوم وإنما ننتظر فضول حياضهم (فسقى لهما) (القصص آية 24) فجعل يغرف في الدلو ماء كثيرا حتى كانتا أول الرعاة فراغا - فانصرفتا إلى أبيهما بغنمهما وانصرف موسى إلى شجرة فاستظل بها (فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) ز فاستنكر أبو الجاريتين سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا وقال: إن لكما اليوم لشأنا: فحدثتاه بما صنع موسى، فأمر إحداهما أن تدعوه له فأتته فدعته، فلما كلمه (قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين) (القصص آية 25) ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطانا ولسنا في مملكته، قالت ابنته: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) (القصص آية 26) فحملته الغيرة أن قال: وما يدريك ما قوته وما أمانته قالت: أما قوته: فما رأيت منه حين سقى لنا لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه حين سقى لنا: وأمانته: فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له فلما علم أني امرأة صوب رأسه ولم يرفعه ولم ينظر إلي حين أقبلت إليه حتى بلغته رسالتك، فقال لي: امشي خلفي وانعتي لي الطريق فلم يقل هذا إلا وهو أمين، فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت، فقال: هل لك (أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك) (القصص آية 27) ففعل وكانت على موسى ثماني حجج واجبة وكانت سنتان عدة منه فقضى الله عدته فأتمها عشرا، قال سعيد: فسألني رجل من أهل النصرانية من علمائهم: هل تدري أي الأجلين قضى موسى قلت: لا، وأنا يومئذ لا أعلم، فلقيت ابن عباس فذكرت له الذي قال النصراني فقال: أما كنت تعلم أن ثمانيا واجبة لم يكن موسى لينتقص منها وتعلم أن الله تعالى كان قاضيا عن موسى عدته التي وعد فإنه قضى عشرا فأخبرت النصراني فقال: الذي أخبرك بهذا هو أعلم منك، قلت: أجل وأولى (سار موسى بأهله) ورأى من أمر النار ما قص الله عليك في القرآن وأمر العصا ويده فشكا إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه - فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام - فسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون ليكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به فأتاه الله سؤله فحل عقدة من لسانه وأوحى إلى هارون وأمره أن يلقى موسى.
فاندفع موسى بالعصا ولقي هارون فانطلقا جميعا إلى فرعون فأقاما ببابه حينا لا يؤذن لهما ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا: {إنا رسولا ربك} فقال: {فمن ربكما يا موسى} فأخبراه بالذي قص الله في القرآن، قال: فما تريدان وذكره بالقتيل فاعتذر بما قد سمعت قال: أريد أن تؤمن بالله وترسل معي بني إسرائيل، فأبى عليه ذلك وقال: ائت بآية إن كنت من الصادقين فألقى بعصاه فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون - فلما رأى فرعون أنها قاصدة إليه - خافها فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى: أن يكفها عنه ففعل). [الدر المنثور: 10/188-198]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج يده من جيبه بيضاء من غير سوء) يعني برص ثم أعادها إلى كمه فصارت إلى لونها الأول، فاستشار الملأ فيما رأى فقالوا له: {هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى} يعنون ملكهم الذي هم فيه والعيش فأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب، وقالوا له: اجمع لهم السحرة - فإنهم بأرضنا كثير - حتى تغلب بسحرهم سحرهما (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين) (الشعراء آية 54) فحشر له كل ساحر متعالم فلما أتوا فرعون قالوا: بم يعمل هذا الساحر، قالوا: يعمل بالحيات والحبال، قال: فلا والله ما في الأرض قوم يعملون بالحيات والحبال والعصي بالسحر ما نعمل به فما أجرنا إن غلبناه قال لهم: أنتم أقاربي وخاصتي وأنا صانع بكم كل شيء أحببتم فتواعدوا ليوم الزينة {وأن يحشر الناس ضحى} قال سعيد: فحدثني ابن عباس: إن يوم الزينة - اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة - وهو يوم عاشوراء فلما اجتمعوا في صعيد واحد، قال الناس لبعضهم لبعض: اذهبوا بنا فلنحضر هذا الأمر و(نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين) (الشعراء آية 40) - يعنون بذلك موسى وهارون استهزاء بهما - فقالوا: يا موسى - لقدرتهم بسحرهم - (إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين) (الأعراف آية 115) قال: ألقوا {فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون}) (الأعراف آية 44) فرأى موسى من سحرهم ما أوجس منه خيفة، فأوحى الله إليه (أن ألق عصاك) (القصص آية 31) فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فاغرة فاها فجعل العصا بدعوة موسى تلتبس بالحبال حتى صارت جردا إلى الثعبان حتى تدخل فيه حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته فلما عاين السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحرا لم تبتلع من سحرنا كل هذا ولكن هذا من أمر الله عز وجل، فآمنا بالله وبما جاء به موسى ونتوب إلى الله عز وجل مما كنا فيه فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه فظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون (فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين) (الأعراف الآية 119) وامرأة فرعون بارزة مبتذلة - تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون - فمن رآها - من آل فرعون ظن أنها تبذلت شفقة على فرعون وأشياعه وإنما كان حزنها وهمها لموسى، فلما طال مكث موسى لمواعد فرعون الكاذبة كلما جاء بآية وعد عندها أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا كشف ذلك عنه نكث عهده واختلف وعده حتى أمر موسى بقومه فخرج بهم ليلا، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا بعث في المدينة وحولها حاشرين فتبعتهم جنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر: إذا ضربك عبدي موسى فانفرق له اثني عشر فرقا حتى يجوز موسى ومن معه ثم التق بعد على من بقي من قوم فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب بعصاه فدفع إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا (فلما تراءى الجمعان) وتقاربا (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) (الشعراء الآية 61) فافعل ما أمرك به ربك فإنك لم تكذب ولم تكذب، قال: وعدني ربي إذا انتهيت إلى البحر أن ينفرق لي حتى أجوز ثم ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحر - حين دنا أوائل جند فرعون - من أواخر جند موسى فانفرق البحر - كما أمره الله وكما وعد موسى فلما جاز أصحاب موسى كلهم ودخل أصحاب فرعون كلهم التقى البحر عليهم كما أمره الله عز وجل فما أن جاوز البحر (قال أصحاب موسى: إنا لمدركون) (الشعراء الآية 61) إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نأمن هلاكه فدعا ربه فأخرجه له ببدنه من البحر حتى استيقنوا، ثم مروا بعد ذلك (على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) (الأعراف آية 138) قد رأيتم من العبر ما يكفيكم وسمعتم به فمضى حتى أنزلهم منزلا ثم قال لهم: أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم وإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما - فصامهن ليلهن ونهارهن - كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه، فقال له ربه: - حين أتاه - لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان، قال: يا رب إني كرهت أن أكلمك إلا فمي طيب الريح، قال: وما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ارجع حتى تصوم عشرة أيام ثم ائتني، ففعل موسى الذي أمره الله به فلما رأى قوم موسى أنه لم يأتهم للأجل ساءهم ذلك وقد كان هارون خطبهم وقال لهم: إنكم خرجتم من مصر وعندكم ودائع لقوم فرعون وعوار ولكم فيهم مثل ذلك وأنا أرى أن تحتسبوا ما كان لكم عندهم ولا أحل لكم وديعة استودعتموها أو عارية ولسنا نرى أداء شيء من ذلك إليهم ولا ممسكيه، فحفر حفرة وأمر كل قوم عندهم شيء من ذلك من متاع أو حلية بأن يدفنوه في الحفرة ثم أوقد عليه النار فأحرقه وقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري رجلا من قوم يعبدون البقر ليس من بني إسرائيل جار لهم فاحتمل مع بني إسرئيل حين احتملوا فقضى له أن رأى أثر الفرس فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون: يا سامري، ألا تلقي ما في يديك - وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك - فقال: هذه بضة [ قبضة ] من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر فلا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، قال: فألقاها ودعا له هارون، قال: أريد أن يكون عجلا فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع: نحاس أو حديد أو حلى فصار عجلا أجوف ليس فيه روح له خوار، فقال ابن عباس: والله ما كان له صوت ولكن الريح كانت تدخل في دبره وتخرج من فيه فكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فقالت فرقة: يا سامري ما هذا فإنك أنت أعلم به فقال: هذا ربكم ولكن موسى أخطأ الطريق، فقالوا: لا نكذب بهذا {حتى يرجع إلينا موسى} طه آية 91 فإن يك ربنا لم يكن ضيعنا وعجزنا حين رأيناه وإن لم يكن ربنا فإننا نتبع قول موسى، وقال فرقة: هذا من عمل الشيطان وليس ربنا ولا نصدق به ولا نؤمن به، وأشرب فرقة في قلوبهم التصديق بما قال السامري في العجل: وأعلنوا التكذيب و{قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن} وليس بهكذا، قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين ليلة ثم أخلفنا فهذه أربعون ليلة: فقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه، فلما كلم الله موسى وقال ما قال له وأخبره بما لقي قومه من بعده (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) فقال لهم ما سمعتم في القرآن (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه) (الأعراف آية 150) من الغضب غير أنه عذر أخاه واستغفر ربه ثم انصرف إلى السامري فقال له: ما حملك على ما صنعت فقال: {فقبضت قبضة من أثر الرسول} وفطنت وعميت عليكم {فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي} {قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس} إلى قوله: {في اليم نسفا} ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة واغتبط الذين كان رأيهم رأي هارون فقالوا: يا موسى سل ربك أن يفتح لنا باب توبة نعملها ونكفر عنا ما عملنا (فاختار موسى من قومه سبعين رجلا) (الأعراف آية 155) لذلك لا يألوا لخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل فانطلق بهم ليسأل ربهم التوبة فرجفت الأرض بهم فاستحيا موسى عليه السلام من قومه ووفده حين فعل بهم ذلك فقال: ({رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء} الأعراف آية 155 الآية، ومنهم من قد اطلع الله منه على ما أشرب قلبه العجل والإيمان به فلذلك رجفت بهم الأرض، فقال: (رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون) إلى قوله: (والإنجيل) (الأعراف آية 156) فقال: رب سألتك التوبة لقومي فقلت: إن رحمت [ رحمتك ] كتبتها لقوم غير قومي فليتك أخرتني حتى أخرج في أمة ذلك الرجل المرحومة، قال الله عز وجل: فإن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من والد أو ولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قبل ذلك الموطن، فتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون وما طلع الله عابهم من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل والمقتول، ثم سار بهم موسى متوجها نحو الأرض المقدسة فأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب وأمرهم بالذي أمره الله أن يبلغهم من الوظائف فثقلت عليهم وأبوا أن يقروا بها حتى نتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون الأرض والكتاب الذي أخذوه بأيديهم وهم ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا فيها مدينة جبارين خلقهم خلق منكر وذكروا من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها فقالوا: يا موسى (إن فيها قوم جبارين) (المائدة آية 22) لا طاقة لنا اليوم بهم ولا ندخلها ما داموا فيها (فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) قال رجلان من الجبارين: آمنا بموسى فخرجا إليه فقالا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم ليس لهم قلوب ولا منعة عندهم (فادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) (المائدة آية 23) ويقول أناس إنهما من قوم موسى وزعم سعيد أنهما من الجبارين آمنا بموسى، يقول: (من الذين يخافون أنعم الله عليهما) (المائدة آية 33) وإنما يعني بذلك الذين يخافهم بنو إسرائيل، فقالوا: (يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) (المائدة آية 24) فأغضبوا موسى فدعا عليهم فسماهم فاسقين ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى فيهم من المعصية وإساءتهم - حتى كان يومئذ - فدعا عليهم فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين (فحرمها عليهم أربعين يتيهون في الأرض) (المائدة آية 26) يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا وأمر موسى فضربه بعصاه (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) (البقرة آية 60) في كل ناحية ثلاث عيون وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها لا يرتحلون بها من مرحلة إلا وجدوا ذلك الحجر منهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول.
رفع الحديث ابن عباس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم - وصدق ذلك عندي: أن معاوية بن أبي سفيان سمع من ابن عباس هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني هو الذي أفشى على موسى أمر القتيل وقال: إنما أفشى عليه الإسرائيلي، فأخذ ابن عباس بيده فانطلق إلى سعد بن مالك الزهري فقال: أرأيت يوم حدثنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم - عن قتيل موسى من آل فرعون من أفشى عليه الإسرائيلي أو الفرعوني قال: أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد ذلك وحضره). [الدر المنثور: 10/198-206]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {فلبثت سنين في أهل مدين} قال: عشر سنين {ثم جئت على قدر يا موسى} طه آية 40 قال على موعد). [الدر المنثور: 10/206]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ثم جئت على قدر} قال: الميقات). [الدر المنثور: 10/206]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ثم جئت على قدر} قال: على موعد). [الدر المنثور: 10/207]