تفسير قوله تعالى: (ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله تعالى {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} قال اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع فقال أحدهم هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية قال فقال الثلاثة كذبت ثم قال اثنان منهم للثالث قل فقال هو ابن الله وهم النسطورية فقال اثنان كذبت ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه قال هو ثالث ثلاثة الله وهو إله وأمه إله وهم الإسرائيلية وهم ملوك النصارى قال الرابع كذبت هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون فكانت لكل رجل منهم أتباع على ما قال فاقتتلوا فظهر على المسلمين وذلك قول الله {ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس} قال قتادة وهم الذين قال الله فيهم {فاختلف الأحزاب من بينهم} فاختلفوا فيه فصاروا أحزابا). [تفسير عبد الرزاق: 2/8]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ الّذي فيه يمترون}.
يقول تعالى ذكره: هذا الّذي وصفت لكم أيها صفته، وأخبرتكم خبره، من أمر الغلام الّذي حملته مريم، هو عيسى ابن مريم، وهذه الصّفّة صفته، وهذا الخبر خبره، وهو {قول الحقّ} يعني أنّ هذا الخبر الّذي قصصته عليكم، والكلام الّذي تلوته عليكم قول اللّه وكلامه وخبره، لا خبر غيره، الّذي يقع فيه الوهم والشّكّ، والزّيادة والنّقصان، على ما كان يقول اللّه تعالى ذكره: فقولوا في عيسى أيّها النّاس هذا القول الّذي أخبركم اللّه به عنه، لا ما قالته اليهود الّذين زعموا أنّه لغير رشدةٍ، وأنّه كان ساحرًا كذّابًا، ولا ما قالته النّصارى، من أنّه كان للّه ولدًا، فإنّ اللّه لم يتّخذ ولدًا، ولا ينبغي ذلك له.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل
- ذكر من قال ذلك:
حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قوله {ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ} قال: اللّه الحقّ.
- حدّثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ، قال حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يقولون في هذا الحرف في قراءة عبد اللّه، قال: {الّذي فيه يمترون} قال: كلمة اللّه.
ولو وجّه تأويل ذلك إلى ذلك عيسى ابن مريم القول الحقّ، بمعنى ذلك القول الحقّ، ثمّ حذفت الألف واللاّم من القول، وأضيف إلى الحقّ. كما قيل: {إنّ هذا لهو حقّ اليقين} وكما قيل: {وعد الصّدق الّذي كانوا يوعدون} كان تأويلاً صحيحًا.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الحجاز والعراق: ( قول الحقّ ) برفع القول. على ما وصفت لك من المعنى. وجعلوه في إعرابه تابعًا لعيسى، كالنّعت له، وليس الأمر في إعرابه عندي على ما قاله الّذين زعموا أنّه رفع على النّعت لعيسى، إلاّ أن يكون معنى القول الكلمة، على ما ذكرنا عن إبراهيم، من تأويله ذلك كذلك، فيصحّ حينئذٍ أن يكون نعتًا لعيسى، وإلاّ فرفعه عندي بمضمرٍ، وهو هذا قول الحقّ على الابتداء، وذلك أنّ الخبر قد تناهى عن قصّة عيسى وأمّه عند قوله {ذلك عيسى ابن مريم} ثمّ ابتدىء الخبر بأنّ الحقّ فيما فيه تمتري الأمم من أمر عيسى، هو هذا القول، الّذي أخبر اللّه به عنه عباده، دون غيره.
وقرأ ذلك عاصم بن أبي النّجود وعبد اللّه بن عامرٍ بالنّصب، وكأنّهما أرادا بذلك المصدر: ذلك عيسى ابن مريم قولاً حقًّا، ثمّ أدخلت فيه الألف واللاّم.
وأمّا ما ذكر عن ابن مسعودٍ من قراءته: " ذلك عيسى ابن مريم قال الحقّ " فإنّه بمعنى قول الحقّ، مثل العاب والعيب، والذّام والذّيم.
والصّواب من القراءة في ذلك عندنا: الرّفع، لإجماع الحجّة من القرّاء عليه.
وأمّا قوله تعالى ذكره: {الّذي فيه يمترون} فإنّه يعني: الّذي فيه يختصمون ويختلفون، من قولهم: ماريت فلانًا: إذا جادلته وخاصمته:
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله {ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ الّذي فيه يمترون} امترت فيه اليهود والنّصارى، فأمّا اليهود فزعموا أنّه ساحرٌ كذّابٌ، وأمّا النّصارى فزعموا أنّه ابن اللّه، وثالث ثلاثةٍ، وإلهٌ، وكذبوا كلّهم، ولكنّه عبد اللّه ورسوله، وكلمته وروحه.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قوله: {الّذي فيه يمترون} قال: اختلفوا، فقالت فرقةٌ: هو عبد اللّه ونبيّه، فآمنوا به، وقالت فرقةٌ: بل هو اللّه، وقالت فرقةٌ: هو ابن اللّه، تبارك وتعالى عمّا يقولون علوًّا كبيرًا. قال: فذلك قوله {فاختلف الأحزاب من بينهم} والّتي في الزّخرف. قال دقيوس ونسطور ومار يعقوب، قال أحدهم حين رفع عيسى: هو اللّه، وقال الآخر: ابن اللّه، وقال الآخر: كلمة اللّه وعبده، فقال المفتريان: إنّ قولي هو أشبه بقولك، وقولك بقولي من قول هذا، فهلمّ فلنقاتلهم، فقاتلوهم وأوطئوهم وغلبهم حتى خرج النبى صلى الله عليه وسلم، وهم مسلمة أهل الكتاب.
حدّثنا الحسن، قال أخبرنا عبد الرازق، قال أخبرنا معمر، عن قتاده فى قوله {ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ الّذي فيه يمترون} قال: أجتمع بنو إسرائيل، فأخرجوا منهم أربعة نفرٍ، أخرج كلّ قومٍ عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع، فقال أحدهم: هو اللّه هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثمّ صعد إلى السّماء، وهم اليعقوبيّة، فقال الثّلاثة: كذبت، ثمّ قال اثنان منهم للثّالث، قل أنت فيه، قال: هو ابن اللّه، وهم النّسطوريّة، فقال الاثنان: كذبت، ثمّ قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، قال: هو ثالث ثلاثةٍ: اللّه إلهٌ، وهو إلهٌ، وأمّه إلهٌ، وهم الإسرائيليّة ملوك النّصارى، قال الرّابع: كذبت، هو عبد اللّه ورسوله وروحه وكلمته، وهم المسلمون، فكان لكلّ رجلٍ منهم أتباعٌ على ما قال، فاقتتلوا، فظهر على المسلمين، وذلك قول اللّه: {ويقتلون الّذين يأمرون بالقسط من النّاس} قال قتادة: هم الّذين قال اللّه: {فاختلف الأحزاب} اختلفوا فيه فصاروا أحزابًا). [جامع البيان: 15/534-538]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {واذكر في الكتاب مريم} يقول: قص ذكرها على اليهود والنصارى ومشركي العرب {إذ انتبذت} يعني خرجت {من أهلها مكانا شرقيا} قال: كانت خرجت من بيت المقدس مما يلي المشرق {فاتخذت من دونهم حجابا} وذلك أن الله لما أراد أن يبتدئها بالكرامة ويبشرها بعيسى وكانت قد اغتسلت من المحيض فتشرفت وجعلت بينها وبين قومها {حجابا} يعني جبلا فكان الجبل بين مجلسها وبين بيت المقدس {فأرسلنا إليها روحنا} يعني جبريل {فتمثل لها بشرا} في صورة الآدميين {سويا} يعني معتدلا شابا أبيض الوجه جعدا قططا حين اخضر شاربه فلما نظرت إليه قائما بين يديها، {قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} وذلك أنها شبهته بشاب كان يراها ويمشي معها يقال له يوسف من بني إسرائيل وكان من خدم بيت المقدس فخافت أن يكون الشيطان قد استزه فمن ثم قالت: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} يعني إن كنت تخاف الله، قال جبريل: وتبسم {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} يعني لله مطيعا من غير بشر، {قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر} يعني زوجا {ولم أك بغيا} أي مومسة، قال جبريل: {كذلك} يعني هكذا {قال ربك هو علي هين} يعني خلقه من غير بشر، {ولنجعله آية للناس} يعني عبرة والناس هنا للمؤمنين خاصة ورحمة لكمن صدق بأنه رسول الله، {وكان أمرا مقضيا} يعني كائنا أن يكون من غير بشر، فدنا جبريل فنفخ في جيبها فدخلت النفخة جوفها فاحتملت كما تحمل النساء في الرحم والمشيمة ووضعته كما تضع النساء فأصابها العطش فأجرى الله لها جدولا من الأردن فذلك قوله: {قد جعل ربك تحتك سريا} والسري الجدول، وحمل الجذع من ساعته {رطبا جنيا} فناداها من تحتها جبريل {وهزي إليك بجذع النخلة} لم يكن على رأسها سقف وكانت قد يبست منذ دهر طويل فأحياها الله لها وحملت فذلك قوله: {تساقط عليك رطبا جنيا} يعني طريا بغباره {فكلي} من الرطب {واشربي} من الجدول {وقري عينا} بولدك، فقال: فكيف بي إذا سألوني من أين هذا،، قال لها جبريل: {فإما ترين} يعني فإذا رأيت {من البشر أحدا} فأعنتك في أمرك {فقولي إني نذرت للرحمن صوما} يعني صمتا في أمر عيسى {فلن أكلم اليوم إنسيا} في أمره، حتى يكون هو الذي يعبر عني وعن نفسه، قال: ففقدوا مريم من محرابها فسألوا يوسف فقال: لا علم لي بها وإن مفتاح محرابها مع زكريا، فطلبوا زكريا وفتحوا الباب وليست فيه فاتهموه فأخذوه ووبخوه فقال رجل: إني رأيتها في موضع كذا فخرجوا في طلبها فسمعوا صوت عقيق في رأس الجذع الذي مريم من تحته فانطلقوا إليه فذلك قول الله: {فأتت به قومها تحمله} قال ابن عباس: لما رأت بأن قومها قد اقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به فذلك قوله: {فأتت به قومها تحمله} أي لا تخاف ريبة ولا تهمة فلما نظروا إليها شق أبوها مدرعته وجعل التراب على رأسه وأخوتها وآل زكريا {قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا} يعني عظيما {يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} يعني زانية، فأنى أتيت هذا الأمر مع هذا الأخ الصالح والأب الصالح والأم الصالح {فأشارت إليه} تقول لهم: أن كلموه فإنه سيخبركم {إني نذرت للرحمن صوما} أن لا أكلمكم في أمره فإنه سيعبر عني فيكون لكم آية وعبرة {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} يعني من هو في الخرق طفلا لا ينطق فأنطقه الله فعبر عن أمه وكان عبرة لهم فقال: {إني عبد الله} فلما أن قالها ابتدأ يحيى وهو ابن ثلاث سنين فكان أول من صدق به فقال: إني أشهد أنك عبد الله ورسوله، لتصديق قول الله: {مصدقا بكلمة من الله} فقال عيسى: {آتاني الكتاب وجعلني نبيا} إليكم {وجعلني مباركا أين ما كنت} قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البركة التي جعلها الله لعيسى أنه كان معلما مؤدبا حيثما توجه {وأوصاني بالصلاة والزكاة} يعني وأمرني {وبرا بوالدتي} فلا أعقها، قال ابن عباس حين قال: {وبرا بوالدتي} قال: زكريا: الله أكبر فأخذه فضمه إلى صدره فعلموا أنه خلق من غير بشر {ولم يجعلني جبارا شقيا} يعني متعظما سفاكا للدم، {والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} يقول الله: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون} يعني يشكون بقوله لليهود ثم أمسك عيسى عن الكلام حتى بلغ مبلغ الناس). [الدر المنثور: 10/42-45] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن نوف قال: كانت مريم عليها السلام فتاة بتولا وكان زكريا زوج أختها كفلها فكانت معه فكان يدخل عليه يسلم عليها فتقرب إليه فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء فدخل عليها زكريا مرة فقربت إليه بعض ما كانت تقرب (قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب هنالك دعا زكريا ربه) (آل عمران آية 38 - 39) إلى قوله: (آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا زمرا) (آل عمران آية 42) {سويا} صحيحا، {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم} كتب لهم {أن سبحوا بكرة وعشيا} قال: فبينما هي جالسة في منزلها إذا رجل قائم بين يديها قد هتك الحجب فلما أن رأته قالت: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} قال فلما ذكرت الرحمن فزع جبريل عليه السلام قال: {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} إلى قوله: {وكان أمرا مقضيا} فنفخ في جيبها جبريل فحملت حتى إذا أثقلت وجعت ما يجع النساء وكانت في بيت النبوة فاستحيت وهربت حياء من قومها فأخذت نحو المشرق وأخذ قومها في طلبها فجعلوا يسألون رأيتم فتاة كذا وكذا فلا يخبرهم أحد، وأخذها {المخاض إلى جذع النخلة} فتساندت إلى النخلة قالت: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} قال: حيضة من حيضة {فناداها من تحتها} قال: جبريل من أقصى الوادي {ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا} قال: جدولا {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} فلما قال لها جبريل: اشتد ظهرها وطابت نفسها فقطعت سرته ولفته في خرقة وحملته فلقي قومها راعي بقر وهم في طلبها، قالوا: يا راعي هل رأيت فتاة كذا وكذا قال: لا وكن رأيت الليلة من بقري شيئا لم أره منها قط فيما خلا قال: رأيتها باتت سجدا نحو هذا الوادي فانطلقوا حيث وصف لهم فلما رأتهم مريم جلست وجعلت ترضع عيسى فجاؤوا حتى وقفوا عليها {قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا} قال: أمرا عظيما: {فأشارت إليه} أن كلموه فعجبوا منها: قالوا: {كيف نكلم من كان في المهد صبيا} {قال إني عبد الله آتاني الكتاب} والمهد حجرها فلما قالوا ذلك: ترك عيسى ثديها واتكأ على يساره ثم تكلم {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} {وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (32) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} قال: واختلف الناس فيه). [الدر المنثور: 10/46-48] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 34 - 37.
أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق} قال: الله عز وجل الحق). [الدر المنثور: 10/71]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {الذي فيه يمترون} قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر أخرج من كل قوم عالمهم فتشاوروا في عيسى حين رفع فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيى من أحيى وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية فقالت الثلاثة: كذبت، ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، فقال: هو ابن الله وهم النسطورية، فقال اثنان: كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، قال: هو ثالث ثلاثة: الله إله وعيسى إله وأمه إله، وهم الإسرائيلية وهم ملوك النصارى، فقال الرابع: كذبت، هو عبد الله ورسوله وروحه من كلمته وهم المسلمون فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قول الله: (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط بين الناس) (آل عمران آية 21) قال قتادة: وهم الذين قال الله: {فاختلف الأحزاب من بينهم} قال: اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فاختلف القوم فقال المر يسلم: أنشدكم، هل تعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام وأن الله لا يطعم الطعام قالوا: اللهم نعم، قال: فهل تعلمون أن عيسى كان ينام وأن الله لا ينام قالوا: اللهم نعم، فخصمهم المسلمون فانسل القوم فذكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذ وأصيب المسلمون فأنزل الله في ذلك القرآن (فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) (آل عمران آية 21) ). [الدر المنثور: 10/71-72]
تفسير قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى {ما كان للّه أن يتّخذ من ولدٍ سبحانه إذا قضى أمرًا فإنّما يقول له كن فيكون (35) وإنّ اللّه ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيمٌ}.
يقول تعالى ذكره: لقد كذب الّذين قالوا: إنّ عيسى ابن اللّه، وأعظموا الفرية عليه، فما ينبغي للّه أن يتّخذ ولدًا، ولا يصلح ذلك له ولا يكون، بل كلّ شيءٍ دونه فخلقه، وذلك نظير قول عمرو بن أحمر:
في رأس خلقاء من عنقاء مشرفةٍ = لا ينبغى دونها سهلٌ ولا جبل
وإنّ من قوله {أن يتّخذ} في موضع رفعٍ بكان.
وقوله: {سبحانه} يقول: تنزيهًا للّه وتبرئةً له أن يكون له ما أضاف إليه الكافرون القائلون: عيسى ابن اللّه.
وقوله: {إذا قضى أمرًا فإنّما يقول له كن فيكون} يقول جلّ ثناؤه: إنّما ابتدأ اللّه خلق عيسى ابتداءً، وأنشأه إنشاءً من غير فحلٍ افتحل أمّه، ولكنّه قال له: كن فكان لأنّه كذلك يبتدع الأشياء ويخترعها، إنّما يقول: إذا قضى خلق شيءٍ أو إنشاءه: كن فيكون موجودًا حادثًا، لا يعظم عليه خلقه، لأنّه لا يخلقه بمعاناةٍ وكلفةٍ، ولا ينشئه بمعالجةٍ وشدّةٍ). [جامع البيان: 15/538-539]
تفسير قوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقوله: {وإنّ اللّه ربّي وربّكم فاعبدوه} اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة: ( وأنّ اللّه ربّي وربّكم ).
واختلف أهل العربيّة في وجه فتح " أنّ " إذا فتحت، فقال بعض نحويّي الكوفة: فتحت ردًّا على عيسى وعطفًا عليه، بمعنى: ذلك عيسى ابن مريم، وذلك أنّ اللّه ربّي وربّكم. وإذا كان ذلك كذلك كانت أنّ رفعًا، قال: وتكون بتأويل خفضٍ، كما قال: {ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلمٍ} قال: ولو فتحت على قوله: {وأوصاني} بأنّ اللّه، كان وجهًا.
وكان بعض البصريّين يقول: وذكر ذلك أيضًا عن أبي عمرو بن العلاء، وكان ممّن يقرؤه بالفتح إنّما فتحت أنّ بتأويل {وقضى} أنّ اللّه ربّي وربّكم.
وكانت عامّة قرّاء الكوفيّين يقرءونه: {وإنّ اللّه} بكسر إنّ بمعنى النّسق على قوله: {فإنّما يقول له}
وروى عن أبيّ بن كعبٍ أنّه كان يقرؤه: " فإنّما يقول له كن فيكون إنّ اللّه ربّي وربّكم " بغير واو.
والقراءة الّتي نختار في ذلك: الكسر على الابتداء. وإذا قرئ كذلك لم يكن لها موضعٌ، وقد يجوز أن يكون عطفًا على " إنّ " الّتي مع قوله {قال إنّي عبد اللّه آتاني الكتاب}، {وإنّ اللّه ربّي وربّكم} ولو قال قائلٌ ممّن قرأ ذلك نصبًا: نصب على العطف على الكتاب، بمعنى: أتاني الكتاب، وأتاني أنّ اللّه ربّي وربّكم، كان وجهًا حسنًا.
ومعنى الكلام: وإنّي وأنتم أيّها القوم جميعًا للّه عبيدٌ، فإيّاه فاعبدوا دون غيره.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمّن لا يتّهم، عن وهب بن منبّهٍ، قال: عهد إليهم حين أخبرهم عن نفسه، ومولده، وموته، وبعثه، {إنّ اللّه ربّي وربّكم فاعبدوه هذا صراطٌ مستقيمٌ} أي إنّي وإيّاكم عبيد اللّه، فاعبدوه ولا تعبدوا غيره.
وقوله: {هذا صراطٌ مستقيمٌ} يقول: هذا الّذي أوصيتكم به، وأخبرتكم أنّ اللّه أمرني به هو الطّريق المستقيم، الّذي من سلكه نجا، ومن ركبه اهتدى، لأنّه دين اللّه الّذي أمر به أنبياءه). [جامع البيان: 15/539-541]