جمهرة تفاسير السلف
تفسير قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وحدّثني سعيد بن عبد اللّه المعافريّ عن موسى بن عليٍّ عن أبيه أنّ عقبة بن عامرٍ بينا يقرئ رجلا يومًا هذه الآية: {الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيّمًا}، فقال الرّجل: ولم يجعل له عوجٌ قيمٌ، فقال عقبة: قل {عوجاً قيماً}، فقال: عوجٌ قيمٌ؛ فردّد عليه مرارًا؛ فقال الرّجل: إنّي أقول كما تقول غير أنّي لا أقول؛ فقال له عقبة: فقل ذلك، فإنّه من تمامها). [الجامع في علوم القرآن: 3/39-40]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله تعالى ولم يجعل له عوجا قيما قال أنزل الله الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا). [تفسير عبد الرزاق: 1/396]
قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحمدَ بنِ نَصْرٍ الرَّمْلِيُّ (ت:295هـ): (ثنا أحمد بن محمّدٍ القوّاس المكّيّ، قال: ثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله عزّ وجلّ: {أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً} هذا من التّقديم والتّأخير، أنزل على عبده الكتاب قيّمًا ولم يجعل له عوجًا). [جزء تفسير مسلم بن خالد الزنجي: 53]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا (1) قيّمًا}.
قال أبو جعفرٍ: يقول تعالى ذكره: الحمد للّه الّذي خصّ برسالته محمّدًا وانتخبه لبلاغها عنه، فابتعثه إلى خلقه نبيًّا مرسلاً، وأنزل عليه كتابه قيّمًا، {ولم يجعل له عوجًا}.
وعنى بقوله عزّ ذكره: {قيّمًا} معتدلاً مستقيمًا.
وقيل: عنى به: أنّه قيّمٌ على سائر الكتب يصدّقها ويحفظها
ذكر من قال: عنى به معتدلاً مستقيمًا:
- حدّثني عليّ بن داود، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {ولم يجعل له عوجًا قيّمًا} يقول: أنزل الكتاب عدلاً قيّمًا، ولم يجعل له عوجًا.
فأخبر ابن عبّاسٍ بقوله هذا مع بيانه معنى القيّم أنّ القيّم مؤخّرٌ بعد قوله، ولم يجعل له عوجًا، ومعناه التّقديم بمعنى: أنزل الكتاب على عبده قيّمًا.
- حدّثت عن محمّد بن يزيدٍ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، في قوله {قيّمًا} قال: مستقيمًا.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، {ولم يجعل له عوجًا قيّمًا} أي معتدلاً لا اختلاف فيه.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {ولم يجعل له عوجًا (1) قيّمًا} قال: أنزل اللّه الكتاب قيّمًا، ولم يجعل له عوجًا.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، في قوله {الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا (1) قيّمًا} قال: وفي بعض القراءة: " ولكن جعله قيّمًا ".
والصّواب من القول في ذلك عندنا ما قاله ابن عبّاسٍ، ومن قال بقوله في ذلك، لدلالة قوله: {ولم يجعل له عوجًا} فأخبر جلّ ثناؤه أنّه أنزل الكتاب الّذي أنزله إلى محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم {قيّمًا} مستقيمًا لا اختلاف فيه ولا تفاوت، بل بعضه يصدّق بعضًا، وبعضه يشهد لبعضٍ، لا عوج فيه، ولا ميل عن الحقّ.
وكسرت العين من قوله {عوجًا} لأنّ العرب كذلك تقول في كلّ اعوجاجٍ كان في دينٍ، أو فيما لا يرى شخصه قائمًا، فيدرك عيانًا منتصبًا كالعوج في الدّين، ولذلك كسرت العين في هذا الموضع، وكذلك العوج في الطّريق، لأنّه ليس بالشّخص المنتصب. فأمّا ما كان من عوجٍ في الأشخاص المنتصبة قيامًا، فإنّ عينها تفتح كالعوج في القناة، والخشبة، ونحوها.
وكان ابن عبّاسٍ يقول في معنى قوله {ولم يجعل له عوجًا} ولم يجعل له ملتبسًا
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا عليٌّ، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، {ولم يجعل له عوجًا (1) قيّمًا} ولم يجعل له ملتبسًا.
ولا اختلاف أيضًا بين أهل العربيّة في أنّ معنى قوله {قيّمًا} وإن كان مؤخّرًا، التّقديم إلى جنب الكتاب.
وقيل: إنّما افتتح جلّ ثناؤه هذه السّورة بذكر نفسه بما هو له أهلٌ، وبالخبر عن إنزال كتابه على رسوله أخبارًا منه للمشركين من أهل مكّة، بأنّ محمّدًا رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وذلك أنّ المشركين كانوا سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أشياء علّمهموها اليهود من قريظة والنّضير، وأمروهم بمسألتهموها، وقالوا: إن أخبركم بها فهو نبيّ، وإن لم يخبركم بها فهو متقوّلٌ، فوعدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للجواب عنها موعدًا، فأبطأ الوحي عنه بعض الإبطاء، وتأخّر مجيء جبرائيل عليه السّلام عنه عن ميعاده القوم، فتحدّث المشركون بأنّه أخلفهم موعده، وأنّه متقوّلٌ، فأنزل اللّه هذه السّورة جوابًا عن مسائلهم، وافتتح أوّلها بذكره، وتكذيب المشركين في أحدوثتهم الّتي قد تحدّثوها بينهم.
ذكر الروايه بذلك:
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا يونس بن بكيرٍ، عن محمّد بن إسحاق، قال: حدّثني شيخٌ من أهل مصر، قدم منذ بضعٍ وأربعين سنةً، عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال أبو جعفرٍ: فيما أرى أنا قال: بعثت قريشٌ النّضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيطٍ إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمّدٍ، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتّى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنّكم أهل التّوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاثٍ نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسلٌ، وإن لم يفعل فالرّجل متقوّلٌ، فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتيةٍ ذهبوا في الدّهر الأوّل، ما كان من أمرهم فإنّه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ. وسلوه عن رجلٍ طوّافٍ، بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الرّوح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك، فإنّه نبيّ فاتّبعوه، وإن هو لم يخبركم، فهو رجلٌ متقوّلٌ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النّضر وعقبة حتّى قدما مكّة على قريشٍ، فقالا: يا معشر قريشٍ: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّدٍ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله، عن أمورٍ، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: يا محمّد أخبرنا، فسألوه عمّا أمروهم به، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " أخبركم غدًا بما سألتم عنه " ولم يستثن فانصرفوا عنه، فمكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خمس عشرة ليلةً، لا يحدث اللّه إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبرائيل عليه السّلام، حتّى أرجف أهل مكّة، وقالوا: وعدنا محمّدٌ غدًا، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيءٍ ممّا سألناه عنه. وحتّى أحزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكث الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلّم به أهل مكّة. ثمّ جاءه جبرائيل عليه السّلام، من اللّه عزّ وجلّ، بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إيّاه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرّجل الطّواف، وقول اللّه عزّ وجلّ {ويسألونك عن الرّوح قل الرّوح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً} قال ابن إسحاق: فبلغني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم افتتح السّورة فقال {الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب} يعني محمّدًا أنّك رسولي في تحقيق ما سألوا عنه من نبوّته {ولم يجعل له عوجًا (1) قيّمًا} أي معتدلاً، لا اختلاف فيه). [جامع البيان: 15/140-144]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 1 - 5.
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق علي عن ابن عباس في قوله: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما} قال: أنزل الكتاب عدلا قيما ولم يجل له عوجا ملتبسا). [الدر المنثور: 9/483]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} قال: هذا من التقديم والتأخير أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا). [الدر المنثور: 9/483]
تفسير قوله تعالى: (قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وحدّثني سعيد بن عبد اللّه المعافريّ عن موسى بن عليٍّ عن أبيه أنّ عقبة بن عامرٍ بينا يقرئ رجلا يومًا هذه الآية: {الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيّمًا}، فقال الرّجل: ولم يجعل له عوجٌ قيمٌ، فقال عقبة: قل {عوجاً قيماً}، فقال: عوجٌ قيمٌ؛ فردّد عليه مرارًا؛ فقال الرّجل: إنّي أقول كما تقول غير أنّي لا أقول؛ فقال له عقبة: فقل ذلك، فإنّه من تمامها). [الجامع في علوم القرآن: 3/39-40] (م)
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله تعالى ولم يجعل له عوجا قيما قال أنزل الله الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا). [تفسير عبد الرزاق: 1/396] (م)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا (1) قيّمًا}.
قال أبو جعفرٍ: يقول تعالى ذكره: الحمد للّه الّذي خصّ برسالته محمّدًا وانتخبه لبلاغها عنه، فابتعثه إلى خلقه نبيًّا مرسلاً، وأنزل عليه كتابه قيّمًا، {ولم يجعل له عوجًا}.
وعنى بقوله عزّ ذكره: {قيّمًا} معتدلاً مستقيمًا.
وقيل: عنى به: أنّه قيّمٌ على سائر الكتب يصدّقها ويحفظها
ذكر من قال: عنى به معتدلاً مستقيمًا:
- حدّثني عليّ بن داود، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {ولم يجعل له عوجًا قيّمًا} يقول: أنزل الكتاب عدلاً قيّمًا، ولم يجعل له عوجًا.
فأخبر ابن عبّاسٍ بقوله هذا مع بيانه معنى القيّم أنّ القيّم مؤخّرٌ بعد قوله، ولم يجعل له عوجًا، ومعناه التّقديم بمعنى: أنزل الكتاب على عبده قيّمًا.
- حدّثت عن محمّد بن يزيدٍ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، في قوله {قيّمًا} قال: مستقيمًا.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، {ولم يجعل له عوجًا قيّمًا} أي معتدلاً لا اختلاف فيه.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {ولم يجعل له عوجًا (1) قيّمًا} قال: أنزل اللّه الكتاب قيّمًا، ولم يجعل له عوجًا.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، في قوله {الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا (1) قيّمًا} قال: وفي بعض القراءة: " ولكن جعله قيّمًا ".
والصّواب من القول في ذلك عندنا ما قاله ابن عبّاسٍ، ومن قال بقوله في ذلك، لدلالة قوله: {ولم يجعل له عوجًا} فأخبر جلّ ثناؤه أنّه أنزل الكتاب الّذي أنزله إلى محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم {قيّمًا} مستقيمًا لا اختلاف فيه ولا تفاوت، بل بعضه يصدّق بعضًا، وبعضه يشهد لبعضٍ، لا عوج فيه، ولا ميل عن الحقّ.
وكسرت العين من قوله {عوجًا} لأنّ العرب كذلك تقول في كلّ اعوجاجٍ كان في دينٍ، أو فيما لا يرى شخصه قائمًا، فيدرك عيانًا منتصبًا كالعوج في الدّين، ولذلك كسرت العين في هذا الموضع، وكذلك العوج في الطّريق، لأنّه ليس بالشّخص المنتصب. فأمّا ما كان من عوجٍ في الأشخاص المنتصبة قيامًا، فإنّ عينها تفتح كالعوج في القناة، والخشبة، ونحوها.
وكان ابن عبّاسٍ يقول في معنى قوله {ولم يجعل له عوجًا} ولم يجعل له ملتبسًا
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا عليٌّ، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، {ولم يجعل له عوجًا (1) قيّمًا} ولم يجعل له ملتبسًا.
ولا اختلاف أيضًا بين أهل العربيّة في أنّ معنى قوله {قيّمًا} وإن كان مؤخّرًا، التّقديم إلى جنب الكتاب.
وقيل: إنّما افتتح جلّ ثناؤه هذه السّورة بذكر نفسه بما هو له أهلٌ، وبالخبر عن إنزال كتابه على رسوله أخبارًا منه للمشركين من أهل مكّة، بأنّ محمّدًا رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وذلك أنّ المشركين كانوا سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أشياء علّمهموها اليهود من قريظة والنّضير، وأمروهم بمسألتهموها، وقالوا: إن أخبركم بها فهو نبيّ، وإن لم يخبركم بها فهو متقوّلٌ، فوعدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم للجواب عنها موعدًا، فأبطأ الوحي عنه بعض الإبطاء، وتأخّر مجيء جبرائيل عليه السّلام عنه عن ميعاده القوم، فتحدّث المشركون بأنّه أخلفهم موعده، وأنّه متقوّلٌ، فأنزل اللّه هذه السّورة جوابًا عن مسائلهم، وافتتح أوّلها بذكره، وتكذيب المشركين في أحدوثتهم الّتي قد تحدّثوها بينهم.
ذكر الروايه بذلك:
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا يونس بن بكيرٍ، عن محمّد بن إسحاق، قال: حدّثني شيخٌ من أهل مصر، قدم منذ بضعٍ وأربعين سنةً، عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال أبو جعفرٍ: فيما أرى أنا قال: بعثت قريشٌ النّضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيطٍ إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمّدٍ، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتّى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهود عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنّكم أهل التّوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاثٍ نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسلٌ، وإن لم يفعل فالرّجل متقوّلٌ، فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتيةٍ ذهبوا في الدّهر الأوّل، ما كان من أمرهم فإنّه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ. وسلوه عن رجلٍ طوّافٍ، بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الرّوح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك، فإنّه نبيّ فاتّبعوه، وإن هو لم يخبركم، فهو رجلٌ متقوّلٌ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النّضر وعقبة حتّى قدما مكّة على قريشٍ، فقالا: يا معشر قريشٍ: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّدٍ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله، عن أمورٍ، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: يا محمّد أخبرنا، فسألوه عمّا أمروهم به، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " أخبركم غدًا بما سألتم عنه " ولم يستثن فانصرفوا عنه، فمكث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خمس عشرة ليلةً، لا يحدث اللّه إليه في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبرائيل عليه السّلام، حتّى أرجف أهل مكّة، وقالوا: وعدنا محمّدٌ غدًا، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيءٍ ممّا سألناه عنه. وحتّى أحزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكث الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلّم به أهل مكّة. ثمّ جاءه جبرائيل عليه السّلام، من اللّه عزّ وجلّ، بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إيّاه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرّجل الطّواف، وقول اللّه عزّ وجلّ {ويسألونك عن الرّوح قل الرّوح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً} قال ابن إسحاق: فبلغني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم افتتح السّورة فقال {الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب} يعني محمّدًا أنّك رسولي في تحقيق ما سألوا عنه من نبوّته {ولم يجعل له عوجًا (1) قيّمًا} أي معتدلاً، لا اختلاف فيه). [جامع البيان: 15/140-144] (م)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشّر المؤمنين الّذين يعملون الصّالحات أنّ لهم أجرًا حسنًا (2) ماكثين فيه أبدًا}.
يقول تعالى ذكره: أنزل على عبده القرآن معتدلاً مستقيمًا لا عوج فيه لينذركم أيّها النّاس بأسًا من اللّه شديدًا. وعنى بالبأس العذاب العاجل، والنّكال الحاضر والسّطوة.
وقوله: {من لدنه} يعني: من عند اللّه.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا يونس بن بكيرٍ، عن محمّد بن إسحاق، {لينذر بأسًا شديدًا} عاجل عقوبةٍ في الدّنيا وعذابًا في الآخرة {من لدنه} أي من عند ربّك الّذي بعثك رسولاً.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، بنحوه.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {من لدنه}: أي من عنده.
فإن قال قائلٌ: فأين مفعول قوله {لينذر} فإنّ مفعوله محذوفٌ اكتفي بدلالة ما ظهر من الكلام عليه من ذكره، وهو مضمرٌ متّصلٌ بينذر قبل البأس، كأنّه قال: لينذركم بأسًا، كما قيل: {يخوّف أولياءه} إنّما هو: يخوّفكم أولياءه.
وقوله: {ويبشّر المؤمنين} يقول: ويبشّر المصدّقين اللّه ورسوله {الّذين يعملون الصّالحات} وهو العمل بما أمر اللّه بالعمل به، والانتهاء عمّا نهى اللّه عنه {أنّ لهم أجرًا حسنًا} يقول: ثوابًا جزيلاً لهم من اللّه على إيمانهم باللّه ورسوله، وعملهم في الدّنيا الصّالحات من الأعمال، وذلك الثّواب: هو الجنّة الّتي وعدها المتّقون). [جامع البيان: 15/144-146]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في قوله: {قيما} قال: مستقيما). [الدر المنثور: 9/483]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {لينذر بأسا شديدا} قال: عذابا شديدا). [الدر المنثور: 9/483]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {من لدنه} أي من عنده). [الدر المنثور: 9/483]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا} يعني الجنة، وفي قوله: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا} قال: هم اليهود والنصارى). [الدر المنثور: 9/483]
تفسير قوله تعالى: (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقوله: {ماكثين فيه أبدًا} يقول: لابثين فيه أبداً خالدين، لا ينتقلون عنه، ولا ينقلون.
ونصب ماكثين على الحال من قوله: {أنّ لهم أجرًا حسنًا} في هذه الحال في حال مكثهم في ذلك الأجر.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، ويبشّر المؤمنين الّذين يعملون الصّالحات أنّ لهم أجرًا حسنًا ماكثين فيه أبدًا أي في دار خلدٍ لا يموتون فيها، الّذين صدّقوك بما جئت به عن اللّه، وعملوا بما أمرتهم). [جامع البيان: 15/146]
تفسير قوله تعالى: (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) )
قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا أبو أسامة، عن عوفٍ، عن غالب بن عجردٍ، قال: حدّثني رجلٌ من فقهاء أهل الشّام في مسجد منًى، قال: إنّ اللّه خلق الأرض، وخلق ما فيها من الشّجر، ولم يكن أحدٌ من بني آدم يأتي شجرةً من تلك الشّجر إلاّ أصاب منها خيرًا، أو كان له خيرٌ، فلم يزل الشّجر كذلك حتّى تكلّمت فجرة بني آدم بالكلمة العظيمة قولهم {اتّخذ اللّه ولدًا} فاقشعرّت الأرض فشاك الشّجر). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 358]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وينذر الّذين قالوا اتّخذ اللّه ولدًا (4) ما لهم به من علمٍ ولا لآبائهم كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذبًا}.
يقول تعالى ذكره: ويحذّر أيضًا محمّدٌ القوم {الّذين قالوا اتّخذ اللّه ولدًا} من مشركي قومه وغيرهم بأس اللّه وعاجل نقمته، وآجل عذابه، على قيلهم ذلك، كما؛
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، {وينذر الّذين قالوا اتّخذ اللّه ولدًا} يعني قريشًا في قولهم: إنّما نعبد الملائكة، وهنّ بنات اللّه). [جامع البيان: 15/146-147]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا} يعني الجنة، وفي قوله: {وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا} قال: هم اليهود والنصارى). [الدر المنثور: 9/483] (م)
تفسير قوله تعالى: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقوله: {ما لهم به من علمٍ} يقول: ما لقائلي هذا القول، يعني قولهم {اتّخذ اللّه ولدًا} {به} يعني باللّه من علمٍ.
والهاء في قوله {به} من ذكر اللّه. وإنّما معنى الكلام: ما لهؤلاء القائلين هذا القول باللّه أنّه يجوز أن يكون له ولدٌ من علمٍ، فلجهلهم باللّه وعظمته قالوا ذلك.
وقوله {ولا لآبائهم} يقول: ولا لأسلافهم الّذين مضوا قبلهم على مثل الّذي هم عليه اليوم، كان لهم باللّه وبعظمته علمٌ.
وقوله: {كبرت كلمةً تخرج من أفواههم} اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء المدنيّين والكوفيّين والبصريّين: {كبرت كلمةً} بنصب كلمةٍ بمعنى: كبرت كلمتهم الّتي قالوها كلمةً على التّفسير، كما يقال: نعم رجلاً عمرٌو، ونعم الرّجل رجلاً قام، ونعم رجلاً قام.
وكان بعض نحويّي أهل البصرة يقول: نصبت كلمةً لأنّها في معنى: أكبر بها كلمةً، كما قال جلّ ثناؤه {وساءت مرتفقًا} وقال: هي في النّصب مثل قول الشّاعر:
ولقد علمت إذا اللّقاح تروّحت = هدج الرّئال تكبّهنّ شمالا
أي تكبّهنّ الرّياح شمالاً. فكأنّه قال: كبرت تلك الكلمة.
وذكر عن بعض المكّيّين أنّه كان يقرأ ذلك: ( كبرت كلمةٌ ) رفعًا، كما يقال: عظم قولك وكبر شأنك. وإذا قرئ ذلك كذلك لم يكن في قوله {كبرت كلمةً} مضمرٌ، وكان صفةً للكلمة.
والصّواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ: {كبرت كلمةً} نصبًا لإجماع الحجّة من القرّاء عليها، فتأويل الكلام: عظمت الكلمة كلمةً تخرج من أفواه هؤلاء القوم الّذين قالوا: اتّخذ اللّه ولدًا، والملائكة بنات اللّه، كما؛
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، {كبرت كلمةً تخرج من أفواههم} قولهم: إنّ الملائكة بنات اللّه.
وقوله: {إن يقولون إلاّ كذبًا} يقول عزّ ذكره: ما يقول هؤلاء القائلون اتّخذ اللّه ولدًا بقيلهم ذلك إلاّ كذبًا وفريةً افتروها على اللّه). [جامع البيان: 15/147-148]