تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّما حرّم عليكم الميتة، والدّم، ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير اللّه به، فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}.
يقول تعالى ذكره مكذّبًا المشركين الّذين كانوا يحرّمون ما ذكرنا من البحائر وغير ذلك: ما حرّم اللّه عليكم أيّها النّاس إلاّ الميتة، والدّم، ولحم الخنزير، وما ذبح للأنصاب فسمّي عليه غير اللّه، لأنّ ذلك من ذبائح من لا يحلّ أكل ذبيحته، فمن اضطرّ إلى ذلك أو إلى شيءٍ منه لمجاعةٍ حلّت فأكله {غير باغٍ ولا عادٍ، فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} يقول: ذو سترٍ عليه أن يؤاخذه بأكله ذلك في حال الضّرورة، رحيمٌ به أن يعاقبه عليه.
وقد بيّنّا اختلاف المختلفين في قوله: {غير باغٍ ولا عادٍ} والصّواب عندنا من القول في ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {إنّما حرّم عليكم الميتة والدّم} الآية، قال: وإنّ الإسلام دينٌ يطهّره اللّه من كلّ سوءٍ، وجعل لك فيه يا ابن آدم سعةً إذا اضطررت إلى شيءٍ من ذلك " قوله {فمن اضطرّ غير باغٍ ولا عادٍ} غير باغٍ في أكله، ولا عادٍ أن يتعدّى حلالاً إلى حرامٍ، وهو يجد عنه مندوحةً). [جامع البيان: 14/388-389]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 115.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {إنما حرم عليكم الميتة} قال: إن الإسلام دين مطهر طهره الله من كل سوء وجعل لك فيه يا ابن آدم سعة إذا اضطررت إلى شيء من ذلك). [الدر المنثور: 9/128]
تفسير قوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتفتروا على اللّه الكذب، إنّ الّذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون (116) متاعٌ قليلٌ ولهم عذابٌ أليمٌ}.
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الحجاز والعراق {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب} فتكون تصف الكذب بمعنى: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب، فتكون " ما " بمعنى المصدر.
وذكر عن الحسن البصريّ أنّه قرأ: ( ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب ) هذا بخفض الكذب، بمعنى: ولا تقولوا للكذب الّذي تصفه ألسنتكم، {هذا حلالٌ وهذا حرامٌ} فيجعل الكذب ترجمةً عن " ما " الّتي في " لما "، فتخفضه بما تخفض به " ما "
وقد حكي عن بعضهم: ( لما تصف ألسنتكم الكذب ) يرفع " الكذب "، فيجعل الكذب من صفة الألسنة، ويخرج على فعلٍ على أنّه جمع كذوبٍ وكذبٍ، مثل شكورٍ وشكرٍ.
والصّواب عندي من القراءة في ذلك نصب " الكذب " لإجماع الحجّة من القرّاء عليه، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك لما ذكرنا: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب فيما رزق اللّه عباده من المطاعم: هذا حلالٌ، وهذا حرامٌ، كي تفتروا على اللّه بقيلكم ذلك الكذب، فإنّ اللّه لم يحرّم من ذلك ما تحرّمون، ولا أحلّ كثيرًا ممّا تحلّون.
ثمّ تقدّم إليهم بالوعيد على كذبهم عليه، فقال: {إنّ الّذين يفترون على اللّه الكذب} يقول: إنّ الّذين يتخرّصون على اللّه الكذب ويختلقونه، لا يخلّدون في الدّنيا ولا يبقون فيها، إنّما يتمتّعون فيها قليلاً). [جامع البيان: 14/389-390]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيمنا آدم ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام يعني في البحيرة والسائبة ونحو هذا). [تفسير مجاهد: 354]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 116 - 117.
أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} قال: هي البحيرة والسائبة). [الدر المنثور: 9/128-129]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال: قرأت هذه الآية في سورة النحل {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} إلى آخر الآية فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا). [الدر المنثور: 9/129]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: عسى رجل أن يقول إن الله أمر بكذا ونهى عن كذا فيقول الله عز وجل له: كذبت، ويقول: إن الله حرم كذا وأحل كذا فيقول الله عز وجل له: كذبت). [الدر المنثور: 9/129]
تفسير قوله تعالى: (مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وقال: {متاعٌ قليلٌ} فرفع، لأنّ المعنى الّذي هم فيه من هذه الدّنيا متاعٌ قليلٌ، أو لهم متاعٌ قليلٌ في الدّنيا.
وقوله: {ولهم عذابٌ أليمٌ} يقول: ثمّ إلينا مرجعهم ومعادهم، ولهم على كذبهم وافترائهم على اللّه بما كانوا يفترون عذابٌ عند مصيرهم إليه أليمٌ.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى: وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه تعالى: " {لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلالٌ وهذا حرامٌ} في البحيرة والسّائبة "
- حدّثنا القاسم قال: حدّثنا الحسين قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قال: " البحائر والسّيب "). [جامع البيان: 14/390-391]
تفسير قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل قال هو الذي في سورة الأنعام وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم الآية). [تفسير عبد الرزاق: 1/360]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وعلى الّذين هادوا حرّمنا ما قصصنا عليك من قبل، وما ظلمناهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
يقول تعالى ذكره: وحرّمنا من قبلك يا محمّد على اليهود ما أنبأناك به من قبل في سورة الأنعام، وذاك كلّ ذي ظفرٍ، ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومهما إلاّ ما حملت ظهورهما، أو الحوايا أو ما اختلط بعظمٍ.
{وما ظلمناهم} بتحريمنا ذلك عليهم، {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} فجزيناهم ذلك ببغيهم على ربّهم وظلمهم أنفسهم بمعصيهم اللّه، فأورثهم ذلك عقوبة اللّه.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن أبي رجاءٍ، عن الحسن، في قوله: {وعلى الّذين هادوا حرّمنا ما قصصنا عليك من قبل} قال: " في سورة الأنعام "
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن أيّوب، عن عكرمة، في قوله: " {وعلى الّذين هادوا حرّمنا ما قصصنا عليك من قبل} قال: في سورة الأنعام "
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وعلى الّذين هادوا حرّمنا ما قصصنا عليك من قبل} قال: " ما قصّ اللّه تعالى في سورة الأنعام حيث يقول: {وعلى الّذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظفرٍ} الآية "). [جامع البيان: 14/391-392]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 118 - 119.
أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} قال: في سورة الأنعام). [الدر المنثور: 9/129]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} قال: ما قص الله ذكره في سورة الأنعام حيث يقول: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر) إلى قوله: (وإنا لصادقون) (الأنعام آية 146) ). [الدر المنثور: 9/129]
تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ثمّ إنّ ربّك للّذين عملوا السّوء بجهالةٍ، ثمّ تابوا من بعد ذلك وأصلحوا، إنّ ربّك من بعدها لغفورٌ رحيمٌ}.
يقول تعالى ذكره: إنّ ربّك يا محمد للّذين عصوا اللّه فجهلوا بركوبهم ما ركبوا من معصية اللّه، وسفهوا بذلك، ثمّ راجعوا طاعة اللّه، والنّدم عليها، والاستغفار، والتّوبة منها من بعد ما سلف منهم ما سلف من ركوب المعصية، وأصلح، فعمل بما يحبّ اللّه ويرضاه، {إنّ ربّك من بعدها} يقول: إنّ ربّك يا محمّد من بعد توبتهم لهم {لغفورٌ رحيمٌ} ). [جامع البيان: 14/392]