التفسير اللغوي
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}
تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)}
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (أبو عمرو {إنما يؤخرهم} بالياء.
السلمي "إنما نؤخرهم" بالنون). [معاني القرآن لقطرب: 776]
تفسير قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {لا يرتدّ إليهم طرفهم...}
رفعت الطرف بيرتد واستأنفت الأفئدة فرفعتها بهواء؛ كما قال في آل عمران {وما يعلم تأويله إلاّ الله والرّاسخون في العلم} استأنفتهم فرفعتهم بيقولون لا بيعلم). [معاني القرآن: 2/78]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {مهطعين} أي مسرعين،
قال الشاعر:
بمهطعٍ سرح كأنّ زمامه= في رأس جذع من أوال مشذّب
وقال:
بمستهطعٍ رسلٍ كأنّ جديله= بقيدوم رعنٍ من صؤام ممنّع
الرّسل الذي لا يكلّفك شيئاً، بقيدوم: قدام، رعن الجبل أنفه، صؤام: جبل،
قال يزيد بن مفرّغ الحميريّ:
بدجلة دارهم ولقد أراهم= بدجلة مهطعين إلى السّماع
{مقنعي رؤوسهم} مجازه: رافعي رؤوسهم،
قال الشّمّاخ بن ضرار:
يباكرن العضاة بمقنعاتٍ= نواجذهن كالحدأ الوقيع
أي بؤوس مرفوعات إلى العضاه ليتناولن منه والعضاة: كل شجرة ذات شوك؛ نواجذهن أضراسهن وقال: الحدأ الفأس وأراه: الذي ليس له خلف، وجماعها حدأ، وحدأه الطير،
الوقيع أي المرققة المحددة، يقال وقع حديدتك، والمطرقة يقال لها ميقعة،
وقال:
أنفض نحوي رأسه وأقنعا= كأنّما أبصر شيئاً أطعما
{وأفئدتهم هواءٌ} أي جوف، ولا عقول لهم،
قال حسان ابن ثابت:
ألا أبلغ أبا سفيان عني=فأنت مجوّفٌ نخبٌ هواءٌ
وقال:
ولا تك من أخذان كل يراعةٍ= هواءٍ كسقب البان جوف مكاسره
اليراعة القصبة، واليراعة هذه الدواب الهمج بين البعوض والذبّان، واليراعة النعامة.
قال الراعيّ:
جاؤا بصكّهم واحدب أخرجت= منه السياط يراعةٌ إجفيلا
أي يذهب فزعاً، كسقب البان عمود البيت الطويل).[مجاز القرآن: 1/344-342]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء}
ونصب {مهطعين} على الحال وكذلك {مقنعي} كأنه قال: "تشخص أبصارهم مهطعين" وجعل "الطرف" للجماعة كما قال: {سيهزم الجمع ويولّون الدّبر} ). [معاني القرآن: 2/61]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {مهطعين مقنعي رءوسهم} فالمهطع في قول ابن عباس: الناظر؛ فأما في اللغة فيقال: أهطع إهطاعًا، وهو الإسراع، ويقال: الأهطع للمسرع.
وقال رؤبة:
عرفت بين القف والكراع = شيهمة سريعة الإهطاع
وقال الآخر:
فلما دنا أقران ظهري بصوته = نسوك الضحى عاري الأشاجع أهطع
وأما "المقنع" فالرافع رأسه؛ وقال بعضهم: المميل رأسه، المصغي به إلى الشيء.
وقال أبو النجم:
[معاني القرآن لقطرب: 781]
كالمقنعات خرجن ثم تمعكت مما اهتنان به من الإجراء
قال الراعي:
زجل الحداء كأن في حيزومه = قصبا ومقنعة الحنين عجولا
وقال ابن عباس {مقنعي رءوسهم} رافعي رؤوسهم أيضًا؛ وعن غير ابن عباس: مادي أعناقهم.
وقوله {وأفئدتهم هواء} قال زهير:
كأن الرحل منها فوق صعل = من الظلمان جؤجؤه هواء
أي حال فارغ؛ وإنما ذلك من هواء الجو وفراغه). [معاني القرآن لقطرب: 782]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله عز وجل {لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء} رفع "هواء" لأنه لم يرفع الأفئدة بـ"يرتد"، ولو رفع لنصب "هواء" على الحال، ولكنه ابتدأ {وأفئدتهم هواء} ). [معاني القرآن لقطرب: 783]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ({مهطعين}: مسرعين. وقال المفسرون: الإهطاع أن يديم النظر فلا يطرف.
{مقنعي رؤوسهم}: رافعي رؤوسهم.
{وأفئدتهم هواء}: جوف منخرقة لا تعي شيئا من الخير). [غريب القرآن وتفسيره: 198]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {مهطعين} أي مسرعين. يقال: أهطع البعير في سيره واستهطع، إذا أسرع.
{مقنعي رؤسهم} والمقنع رأسه: الذي رفعه وأقبل بطرفه على ما بين يديه. والإقناع في الصلاة هو من إتمامها.
{لا يرتدّ إليهم طرفهم} أي نظرهم إلى شيء واحد.
{وأفئدتهم هواءٌ} يقال: لا تعي شيئا من الخير. ونحوه قول الشاعر في وصف الظّليم:
... جؤجؤه هواء
أي ليس لعظمه مخّ ولا فيه شيء.
ويقال: أفئدتهم هواء منخوبة من الخوف والجبن). [تفسير غريب القرآن: 234-233]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} يريد أنها لا تعي خيرا، لأن المكان إذا كان خاليا فهو هواء حتى يشغله الشيء).
[تأويل مشكل القرآن: 139]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء }
{مهطعين} منصوب على الحال، المعنى إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه أبصارهم مهطعين أي مسرعين.
قال الشاعر:
بدجلة أهلها ولقد أرأهم=بدجلة مهطعين إلى السماع
أي مسرعين.
و {مقنعي رءوسهم} رافعيها ملتصقة بأعناقهم، والمقنع الرافع.
والمقنع المرتفع
قال الشاعر:.
يبادرن العضاه بمقنعات= نواجذهنّ كالحدأ الوقيع
يصف إبلا ترعى الشجر وأن أسنانها مرتفعة كالفؤوس.
وقوله: {وأفئدتهم هواء} أي منحرفة لا تعي شيئا من الخوف، وقيل نزعت أفئدتهم من أجوافهم
قال الشاعر:
كأنّ الرّحل منها فوق صعل= من الظّلمان جؤجؤه هواه).
[معاني القرآن: 3/166-165]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقول جل وعز: {مهطعين مقنعي رؤسهم لا يرتد إليهم طرفهم}
قوله: {مهطعين}
قال مجاهد وأبو الضحى أي مديمي النظر
وقال قتادة أي مسرعين
والمعروف في اللغة أن يقال أهطع إذا أسرع
قال أبو عبيدة وقد يكون الوجهان جميعا يعني الإسراع مع إدامة النظر
ثم قال تعالى: {مقنعي رؤوسهم}
قال مجاهد أي رافعيها
وقال قتادة المقنع الرافع رأسه شاخصا ببصره لا يطرف
قال أبو جعفر وهذا قول أهل اللغة إلا أن أبا العباس قال يقال اقنع إذا رفع رأسه وأقنع إذا طأطأ رأسه ذلا وخضوعا قال وقد قيل في الآية القولان جميعا
قال ويجوز أن يرفع رأسه مديما لنظر ثم يطأطئه خضوعا وذلا
قال أبو جعفر والمشهور في اللغة أن يقال للرافع رأسه مقنع
وروي أنهم لا يزالون يرفعون رؤوسهم وينظرون ما يأتي من عند الله جل وعز وأنشد أهل اللغة:
يباكرن العضاه بمقنعات = نواجذهن كالحدإ الوقيع
يصف أبلا وأنهن رافعات رؤوسهن كالفؤوس
ومنه قيل مقنعة لارتفاعها
ومنه قنع الرجل إذا رضي وقنع إذا سال أي أتى ما يتقنع منه
وقوله جل وعز: {لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء}
روى سفيان عن أبي إسحاق عن مرة وأفئدتهم هواء قال متخرقة لا تعي شيئا يعني من الخوف
وروى حجاج عن ابن جريج قال هواء ليس فيها شيء من الخير كما يقال للبيت الذي ليس فيه شيء هواء
وقيل وصفهم بالجبن والفزع أي قلوبهم منخوبة
وأصل الهواء في اللغة المجوف الخالي ومنه قول زهير:
كان الرحل منها فوق صعل = من الظلمان جؤجؤه هواء
أي ليس فيها مخ ولا شيء وقال حسان:
ألا ابلغ أبا سفيان عني = فأنت مجوف نخب هواء).
[معاني القرآن: 3/541-538]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {مهطعين} مسرعين. يقال: أهطع البعير في سيره إذا أسرع، وقيل: هو أن يديم النظر فلا يطرف. [تفسير المشكل من غريب القرآن: 122]
{مقنعي رؤوسهم} المقنع رأسه: الذي رفعه وأقبل بطرفه إلى ما بين يديه.
{لا يرتد إليهم طرفهم} أي نظرهم إلى شيء واحد.
{وأفئدتهم هواء} أي لا تعي شيئا من الخير. وقيل: هواء: منخوبة، من الخوف والجبن). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 123]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {مُهْطِعين}: رافعين رؤوسهم.
{مُقْنِعِي}: قد رفعوا رؤوسهم.
{أَفْئِدَتُهُمْ}: قلوبهم.
{هَوَاءٌ}: في خوف متحرّقة). [العمدة في غريب القرآن: 170]
تفسير قوله تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {يأتيهم العذاب فيقول...}
رفع تابع ليأتيهم وليس بجواب للأمر ولو كان جوابا لجاز نصبه ورفعه،
كما قال الشاعر:
يا ناق سيري عنقاً فسيحا = إلى سليمان فنستريحا
والرفع على الاستئناف.
والاستئناف بالفاء في جواب الأمر حسن، وكان شيخ لنا يقال له: العلاء بن سيابة - وهو الذي علم معاذا الهرّاء وأصحابه - يقول: لا أنصب بالفاء جوابا للأمر). [معاني القرآن: 2/79]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} أي خوفهم
وقوله جل وعز: {أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال}
قال مجاهد أي أقسمتم أنكم لا تموتون لقريش). [معاني القرآن: 3/541]
تفسير قوله تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {وتبيّن لكم...}
وأصحاب عبد الله: {ونبيّن لكم} ). [معاني القرآن: 2/79]
تفسير قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال...}
فأكثر القراء على كسر اللام ونصب الفعل من قوله: {لتزول} يريدون: ما كانت الجبال لتزول من مكرهم. وقرأ عبد الله بن مسعود {وما كان مكرهم لتزول منه الجبال} ... يقال له غالب بن نجيح - وكان ثقة ورعاً - أن عليّا كان يقرأ: {وإن كان مكرهم لتزول منه} بنصب اللام الأولى ورفع الثانية. فمن قرأ: {وإن كان مكرهم لتزول منه} فعلى معنى قراءة عليّ أي مكروا مكراً عظيماً كادت الجبال تزول منه). [معاني القرآن: 2/79]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} أي ما كان مكرهم لتزول منه الجبال، في قول من كسر لام لتزول الأولى ونصب اللام الآخرة ومن فتح اللام الأولى ورفع اللام الآخرة فإن مجازه المثل كأنه قال: وإن كان مكرهم تزول منه الجبال في المثل وعند من لم يؤمن). [مجاز القرآن: 1/345]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (الحسن وأبو عمرو وأهل المدينة {لتزول منه الجبال} المعنى: وإن كان مكرهم، أي ما كان مكرهم لتزول.
قراءة ابن عباس {لتزول منه} بنصب اللام ويرفع؛ وهذه القراءة المعنى فيها: قد كان مكرهم تزول منه؛ كأنه أراد تعظيمه.
ابن مسعود "وإن كاد مكرهم" في موضع كان، ولم يحك عنه في "لتزول" شيء.
قال أبو علي: والقياس فيها "لتزول" أي كادت تزول، كقول الله عز وجل {كدت لتردين} أي قد كدت، و{إن كادت لتبدي به}؛ أي قد كادت لتبدي به؛ وإن كسر فقال: لتزول؛ يريد: وما كاد مكرهم لتزول، وهو بعيد؛ لأن "ما كاد ليفعل" قليلة، وقد قال الأغلب ذلك:
إذا انقضا من شباه صلصلا
[وزاد محمد]:
إذا انقضا قد كاد من عجب بها ليصهلا
فأدخل اللام المكسورة مع كاد؛ وقد فسرنا هذه اللامات كلها في صدر الكتاب). [معاني القرآن لقطرب: 776]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (ومن هذا الباب قول الله عز وجل: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ}
يريد أنهم ينظرون إليك بالعداوة نظرا شديدا يكاد يزلقك من شدّته، أي يسقطك.
ومثله قول الشاعر:
يتقارضون إذا التقوا في موطن = نظرا يزيل مواطئ الأقدام
أي ينظر بعضهم إلى بعض نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء، يزيل الأقدام عن مواطئها.
فتفهّم قول الله عز وجل: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ} أي يقاربون أن يفعلوا ذلك، ولم يفعلوا.
وتفهّم قول الشاعر: (نظرا يزيل) ولم يقل: يكاد يزيل، لأنه نواها في نفسه.
وكذلك قول الله عز وجل: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} إعظاما لقولهم.
وقوله جل وعز: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.
إكبارا لمكرهم. وقرأها بعضهم: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ}.
وأكثر ما في القرآن من مثل هذا فإنه يأتي بكاد، فما لم يأت بكاد ففيه إضمارها، كقوله: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ}، وأي كادت من شدّة الخوف تبلغ الحلوق.
وقد يجوز أن يكون أراد: أنها ترجف من شدّة الفزع وتجف ويتصل وجيفها بالحلوق، فكأنها بلغت الحلوق بالوجيب). [تأويل مشكل القرآن: 171] (م)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجلّ: {وقد مكروا مكرهم وعند اللّه مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}
القراءة بكسر اللام الأولى، من " لتزول " وفتح اللام الأخيرة، هي قراءة حسنة جيدة، والمعنى وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، أي ما كان مكرهم ليزول به أمر النبي -
صلى الله عليه وسلم - وأمر دين الإسلام وثبوته كثبوت الجبال الراسية، لأن الله عزّ وجلّ وعد نبيّه عليه السلام إظهار دينه على كل الأديان فقال: {ليظهره على الدّين كلّه}
ودليل هذا قوله:{فلا تحسبنّ اللّه مخلف وعده رسله إنّ اللّه عزيز ذو انتقام }أي لا يخلفهم ما وعدهم من نصرهم وإظهار نبوتهم وكلمتهم،
ويقرأ {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} على الرفع وفتح اللام الأولى.
ومعناه معنى حسن " صحيح.
والمعنى: وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال، فإن الله ينصر دينه، ومكرهم عنده لا يخفى عليه.
فإن قال قائل: فهل زالت الجبال لمكرهم؛ فقد روي في بعض التفسير قصة التابوت والنّسور، وأن الجبال ظنت أن ذلك أمر من أمر اللّه عظيم فزالت، وقيل هذا في قصة النمرود ابن كنعان؛ ولا أرى لنمرود ههنا ذكرا، ولكنه إذا صحت الأحاديث به فمعناه أن مكر هؤلاء لو بلغ مكر ذاك لم ينتفعوا به، وأمّا ما توحيه اللغة وخطاب العرب فأن يكون المعنى وإن لم يكن جبل قط، زال لمكر المبالغة في وصف الشيء أن يقال: لو بلغ ما لا يظن أنه يبلغ ما انتفع به.
قال الأعشى:
لئن كنت في جبّ ثمانين قامة= ورقّيت أسباب السماء بسلّم
ليستدرجنك الأمر حتى تهرّه= وتعلم أني لست عنك بمحرم
فإنما بالغ في الوصف وهو يعلم أنه لا يرقّى أسباب السماء، ولا يكون في جبّ ثمانين قامة فيستدرجه القول.
فالمعنى على هذا: لو أزال مكرهم الجبال لما زال أمر الإسلام وما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -). [معاني القرآن: 3/168-166]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}
قرأ عمر بن الخطاب رحمه الله عليه وإن كاد بالدال
وقرأ علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال بفتح اللام ورفع الفعل وكاد بالدال هذا المعروف من قراءته
والمشهور من قراءة عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وإن كاد بالدال
وقرأ مجاهد وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال وهي قراءة الكسائي ومجاهد وإن معناها لو أي ولو كان مكرهم لتزول منه الجبال لم يبلغوا هذا ولن يقدروا على الإسلام
وقد شاء الله تبارك وتعالى أن يظهره على الدين كله
قال أبو جعفر وهذا معروف في كلام العرب كما يقال لو بلغت أسباب السماء وهو لا يبلغها فمثله هذا
وروي في قراءة أبي بن كعب رحمه الله ولولا كلمة الله لزال مكرهم الجبال
وقال قتادة وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال قال حين دعوا لله ولد وقد قال سبحانه: {تكاد السموات يتفطرن منه}
ومن قرأ وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ذهب إلى أن المعنى ما كان مكرهم ليزول به القرآن على تضعيفه وقد ثبت ثبوت الجبال
وقال الحسن مكرهم أوهى وأضعف من أن تزول منه الجبال وقرأ بهذه القراءة
وقد قيل في معنى الرفع قول آخر يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن نمروذ لما جوع النسور وعلق لها اللحم في الرماح فاستعلى فيل فقيل له أين تريد أيها الفاسق فاهبط
قال فهو قوله جل وعز: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}
وقال عبد الله بن عباس مكرهم ههنا شركهم وهو مثل قوله تعالى: {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} ). [معاني القرآن: 3/544-541]