تفسير قوله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: { مثل الجنّة الّتي وعد المتّقون تجري من تحتها الأنهار، أكلها دائمٌ وظلّها، تلك عقبى الّذين اتّقوا، وعقبى الكافرين النّار }.
اختلف أهل العلم بكلام العرب في مرافع " المثل "، فقال بعض نحويّي الكوفيّين الرّافع للمثل قوله: { تجري من تحتها الأنهار } في المعنى، وقال: هو كما تقول حلية فلانٍ أسمر وكذا وكذا، فليس الأسمر بمرفوعٍ بالحلية، إنّما هو ابتداءٌ، أي هو أسمر هو كذا، قال: ولو دخل أنّ في مثل هذا كان صوابًا قال: ومثله في الكلام مثلك أنّك كذا وأنّك كذا وقوله: { فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا } من وجّه: { مثل الجنّة الّتي وعد المتّقون فيها } ومن قال: { أنّا صببنا الماء } أظهر الاسم، لأنّه مردودٌ على الطّعام بالخفض، ومستأنفٌ، أي: طعامه أنّا صببنا ثمّ فعلنا. وقال: معنى قوله: { مثل الجنّة }: صفات الجنّة.
وقال بعض نحويّي البصريّين معنى ذلك: صفة الجنّة، قال: ومنه قول اللّه تعالى { وله المثل الأعلى } معناه: وللّه الصّفة العليا. قال: فمعنى الكلام في قوله: { مثل الجنّة الّتي وعد المتّقون تجري من تحتها الأنهار } أو فيها أنهارٌ، كأنّه قال: وصف الجنّة صفةً تجري من تحتها الأنهار، أو صفةً فيها أنهارٌ واللّه أعلم.
قال: ووجهٌ آخر: كأنّه إذا قيل: مثل الجنّة قيل: الجنّة الّتي وعد المتّقون، قال وكذلك قوله: { وإنّه بسم اللّه الرّحمن الرّحيم } كأنّه قال: باللّه الرّحمن الرّحيم، واللّه أعلم.
قال: وقوله: { على ما فرّطت في جنب اللّه } في ذات اللّه، كأنّه عندنا قيل: في اللّه، قال: وكذلك قوله: { ليس كمثله شيءٌ } إنّما المعنى: ليس كشيءٍ، وليس مثله شيءٌ، لأنّه لا مثل له، قال: وليس هذا كقولك للرّجل: ليس كمثلك أحدٌ، لأنّه يجوز أن يكون له مثلٌ، واللّه لا يجوز ذلك عليه. قال: ومثله قول لبيدٍ:
إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما
قال: وفسّر لنا أنّه أراد: السّلام عليكما. قال: وقال أوس بن حجرٍ:
وقتلى كرامٍ كمثل الجذوع = تغشّاهم سبلٌ منهمر
قال: والمعنى عندنا: كالجذوع، لأنّه لم يزد أن يجعل للجذوع مثلاً ثمّ يشبّه القتلى به قال: ومثله قول أميّة:
رجلٌ وثورٌ تحت رجل يمينه = والنّسر للأخرى وليثٌ مرصد
قال: فقال تحت رجل يمينه، كأنّه قال: تحت رجله أو تحت رجله اليمنى قال: وقول لبيدٍ:
أضلّ صواره وتضيّفته = نطوفٌ أمرها بيده الشّمال
كأنّه قال: أمرها بالشّمال وإلى الشّمال، وقول لبيدٍ أيضًا:
حتّى إذا ألقت يدًا في كافرٍ
فكأنّه قال: حتّى وقعت في كافرٍ.
وقال آخر منهم: هو المكفوف عن خبره، قال: والعرب تفعل ذلك قال: وله معنًى آخر: { للّذين استجابوا لربّهم الحسنى } مثل الجنّة موصولٌ صفةٌ لها على الكلام الأوّل.
قال أبو جعفرٍ: وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب: أن يقال ذكر المثل، فقال مثل الجنّة، والمراد الجنّة، ثمّ وصفت الجنّة بصفتها، وذلك أنّ مثلها إنّما هو صفتها وليست صفتها شيئًا غيرها وإذا كان ذلك كذلك، ثمّ ذكر المثل، فقيل: مثل الجنّة، ومثلها صفتها وصفة الجنّة، فكان وصفها كوصف المثل، وكان كأنّ الكلام جرى بذكر الجنّة، فقيل: الجنّة تجري من تحتها الأنهار، كما قال الشّاعر:
أرى مرّ السّنين أخذن منّي = كما أخذ السّرار من الهلال
فذكر المرّ، ورجع في الخبر إلى السّنين
وقوله: { أكلها دائمٌ وظلّها } يعني: ما يؤكل فيها، يقول: هو دائمٌ لأهلها، لا ينقطع عنهم، ولا يزول ولا يبيد، ولكنّه ثابتٌ إلى غير نهايةٍ، { وظلّها }: يقول: وظلّها أيضًا دائمٌ، لأنّه لا شمس فيها. { تلك عقبى الّذين اتّقوا } يقول: هذه الجنّة الّتي وصف جلّ ثناؤه عاقبة الّذين اتّقوا اللّه، فاجتنبوا معاصيه، وأدّوا فرائضه
وقوله: { وعقبى الكافرين النّار } يقول: وعاقبة الكافرين باللّه النّار). [جامع البيان: 13/552-555]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 35.
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة - رضي الله عنه - في قوله {مثل الجنة} قال: نعت الجنة ليس للجنة مثل). [الدر المنثور: 8/463]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم التيمي - رضي الله عنه - في قوله {أكلها دائم} قال: لذتها دائمة في أفواههم). [الدر المنثور: 8/464]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن خارجة بن مصعب - رضي الله عنه - قال: كفرت الجهمية بآيات من القرآن قالوا: إن الجنة تنفد ومن قال تنفد فقد كفر بالقرآن، قال الله تعالى (إن هذا لرزقنا ما له من نفاد) (سورة ص آية 54) وقال: (لا مقطوعة ولا ممنوعة) (سورة الواقعة آية 33) فمن قال أنها تنقطع فقد كفر، وقال: عطاء غير مجذوذ فمن قال أنها تنقطع فقد كفر، وقال {أكلها دائم وظلها} فمن قال أنها لا تدوم فقد كفر). [الدر المنثور: 8/464]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن مالك بن أنس - رضي الله عنه - قال: ما من شيء من ثمار الدنيا أشبه بثمار الجنة من الموز لأنك لا تطلبه في صيف ولا شتاء إلا وجدته، قال الله تعالى {أكلها دائم}). [الدر المنثور: 8/464]
تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله تعالى وإليه مآب قال إليه مصير كل عبد). [تفسير عبد الرزاق: 1/337]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] {وإليه مآب}: مرجع [الآية: 36]). [تفسير الثوري: 154]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: { والّذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك، ومن الأحزاب من ينكر بعضه، قل إنّما أمرت أن أعبد اللّه ولا أشرك به، إليه أدعو وإليه مآب }.
يقول تعالى ذكره: والّذين أنزلنا إليهم الكتاب ممّن آمن بك واتّبعك يا محمّد { يفرحون بما أنزل إليك } منه، { ومن الأحزاب من ينكر بعضه } يقول: ومن أهل الملل المتحزّبين عليك، وهم أهل أديانٍ شتّى، من ينكر بعض ما أنزل إليك، فقل لهم: { إنّما أمرت } أيّها القوم { أن أعبد اللّه } وحده دون ما سواه { ولا أشرك به } وأجعل له شريكًا في عبادتي، فأعبد معه الآلهة والأصنام، بل أخلص له الدّين حنيفًا مسلمًا { إليه أدعو } يقول: إلى طاعته، وإخلاص العبادة له أدعو النّاس { وإليه مآب } يقول: وإليه مصيري، وهو مفعلٌ من قول القائل: آب يئوب أوبًا ومآبًا.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: { والّذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك } " أولئك أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، فرحوا بكتاب اللّه وبرسوله وصدّقوا به. قوله: { ومن الأحزاب من ينكر بعضه } يعني اليهود والنّصارى "
- حدّثنا الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا شبابة، قال: حدّثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: " { ومن الأحزاب من ينكر بعضه } قال: " من أهل الكتاب ".
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا إسحاق قال: حدّثنا عبد اللّه، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قوله: { والّذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك، ومن الأحزاب من ينكر بعضه } " من أهل الكتاب، والأحزاب أهل الكتب، تفريقهم تحزبهم. قوله: { وإن يأت الأحزاب } قال: " لتحزّبهم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- قال ابن جريجٍ، وقال عن مجاهدٍ: { ينكر بعضه } قال: " بعض القرآن "
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة: { وإليه مآب }. قال: " وإليه مصير كلّ عبدٍ ".
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: { والّذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك } قال: " هذا من آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أهل الكتاب فيفرحون بذلك، وقرأ: { ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به } وفي قوله: { ومن الأحزاب من ينكر بعضه } قال: " الأحزاب: الأمم، اليهود والنّصارى والمجوس، منهم من آمن به، ومنهم من أنكره "). [جامع البيان: 13/555-557]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم نا آدم ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ومن الأحزاب من ينكر بعضه قال بعض القرآن). [تفسير مجاهد: 329]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 36 – 40
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة - رضي الله عنه - في قوله {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} قال: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرحوا بكتاب الله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وصدقوا به {ومن الأحزاب من ينكر بعضه} يعني اليهود والنصارى والمجوس). [الدر المنثور: 8/464]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن زيد - رضي الله عنه - في قوله {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} قال: هذا من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يفرحون بذلك، وقرأ (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به) (سورة يونس آية 40) {ومن الأحزاب من ينكر بعضه} قال: الأحزاب الأمم اليهود والنصارى والمجوس منهم من آمن به ومنهم من أنكره). [الدر المنثور: 8/464-465]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد - رضي الله عنه - في قوله {ومن الأحزاب} قال: من أهل الكتاب {من ينكر بعضه} قال: بعض القرآن). [الدر المنثور: 8/465]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة - رضي الله عنه - في قوله {وإليه مآب} قال: إليه مصير كل عبد). [الدر المنثور: 8/465]
تفسير قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: { وكذلك أنزلناه حكمًا عربيًّا، ولئن اتّبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من اللّه من وليٍّ ولا واقٍ }.
يقول تعالى ذكره: وكما أنزلنا عليك الكتاب يا محمّد، فأنكره بعض الأحزاب، كذلك أيضًا أنزلنا الحكم والدّين حكمًا عربيًّا، وجعل ذلك عربيًّا، ووصفه به لأنّه أنزل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو عربيٌّ، فنسب الدّين إليه إذ كان عليه أنزل، فكذّب به الأحزاب، ثمّ نهاه جلّ ثناؤه عن ترك ما أنزل إليه واتّباع الأحزاب، وتهدّده على ذلك إن فعله، فقال: ولئن اتّبعت يا محمّد أهواءهم، أهواء هؤلاء الأحزاب ورضاهم ومحبّتهم، وانتقلت من دينك إلى دينهم، ما لك من يقيك من عذاب اللّه إن عذّبك على اتّباعك أهواءهم، وما لك من ناصرٍ ينصرك فيستنقذك من اللّه إن هو عاقبك، يقول: فاحذر أن تتّبع أهواءهم). [جامع البيان: 13/557]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك - رضي الله عنه - في قوله {ما لك من الله من ولي ولا واق} قال: من أحد يمنعك من عذاب الله تعالى). [الدر المنثور: 8/465]