أسماء الله أعلام دالة على معان هي بها أوصاف
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( [الثامنُ]: ([أنَّ] أسماءَ الربِّ تعالى... أعلامٌ دالَّةٌ على مَعَانٍ هيَ بها أوصافٌ فلا تُضادُّ فيها العَلَمِيَّةُ الوَصْفَ، بخِلافِ غيرِها مِنْ أسماءِ المخلوقينَ؛ فهوَ: اللهُ الخالقُ البارئُ الْمُصَوِّرُ، القَهَّارُ. فهذه أسماءٌ لهُ دَالَّةٌ على مَعَانٍ هيَ صفاتُهُ ([17])... و[مِمَّا يُبَيِّنُ ذلكَ أنَّ]... أسماءَ الربِّ تعالى كلَّها أسماءُ مَدْحٍ، فلوْ كانتْ أَلْفَاظاً مُجَرَّدةً، لا معانيَ لها لَمْ تَدُلَّ على الْمَدْحِ، وقدْ وَصَفَها اللهُ سُبحانَهُ بأنَّها حُسْنَى كلَّها فقالَ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180] فهيَ لم تكنْ حُسْنَى لِمُجَرَّدِ اللَّفظِ, بلْ لدَلالتِها على أوصافِ الكمالِ، ولهذا لَمَّا سَمِعَ بعضُ العربِ قَارِئاً يَقرأُ [المائدة: 38]:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} -واللهُ غفورٌ رحيمٌ - قالَ: ليسَ هذا كلامَ اللهِ تعالى، فقالَ القارئُ: أَتُكَذِّبُ بِكَلامِ اللهِ تعالى؟ فقالَ: لا، ولكنْ ليسَ هذا بكلامِ اللهِ، فعادَ إلى حِفْظِهِ وقَرَأَ: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)} فقالَ الأعرابيُّ: صَدَقْتَ، عَزَّ فَحَكَمَ فَقَطَعَ، وَلَوْ غَفَرَ وَرَحِمَ لَمَا قَطَعَ.
ولهذا إذا خُتِمَتْ آيَةُ الرحمةِ باسمِ عذابٍ أوْ بالعكسِ، ظَهَرَ تَنَافُرُ الكلامِ وعَدَمُ انتظامِهِ. وفي السُّنَنِ مِنْ حديثِ أُبَيِّ بنِ كعبٍ حديثُ:((قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ)) ثُمَّ قالَ:((لَيْسَ مِنْهَا إِلاَّ شَافٍ كَافٍ إِنْ قُلْتَ سَمِيعاً عَلِيماً عَزِيزاً حَكِيماً مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ))([18]). ولوْ كانت هذهِ الأسماءُ أَعلاماً مَحْضَةً لا مَعْنَى لها لم يكنْ فَرْقٌ بينَ خَتْمِ الآيَةِ بهذا أوْ بهذا.
(([و] لوْ كانت ألفاظاً لا مَعانِيَ فيها لم تكنْ حُسْنَى، ولا كانتْ دَالَّةً على مَدْحٍ ولا كمالٍ. ولَسَاغَ وُقوعُ أسماءِ الانتقامِ والغضَبِ في مَقامِ الرحمةِ والإحسانِ، وبالعكسِ. فيقالُ: اللَّهمَّ إني
ظَلمتُ نفسِي، فاغْفِرْ لي إنكَ أنتَ المنتقِمُ، واللَّهمَّ أَعْطِنِي، فإنكَ أنتَ الضارُّ المانعُ، ونحوَ ذلكَ)) ([19])
- وأيضاً فإنَّهُ سبحانَهُ يُعَلِّلُ أحكامَهُ وأفعالَهُ بأسمائِهِ، ولوْ لم يكنْ لها معنًى لَمَا كانَ التعليلُ صحيحاً كقولِهِ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)} [نوح: 10]) ([20]).
(وفي هذا أَظهرُ الدَّلالةِ على أنَّ أسماءَ الربِّ تعالى مُشْتَقَّةٌ مِنْ أوصافٍ وَمَعَانٍ قامَتْ بهِ، وأنَّ كلَّ اسمٍ يُناسِبُ ما ذُكِرَ مَعَهُ، واقْتَرَنَ بِهِ، مِنْ فِعْلِهِ وَأَمْرِهِ). ([21])
- (وأيضاً فإنَّهُ سُبحانَهُ يُسْتَدَلُّ بأسمائِهِ على توحيدِهِ ونَفْيِ الشريكِ عنهُ - ولوْ كانتْ أسماءً لا مَعْنَى لها لم تَدُلَّ على ذلكَ - كقولِ هارونَ لِعَبَدَةِ العِجْلِ: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ}[طه: 90] وقولِهِ سُبحانَهُ في القِصَّةِ: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)} [طه: 98] وقولـِهِ تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}[البقرة: 163] وقولـِهِ سُبحانَهُ في آخِرِ سُورةِ الحشْرِ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر: 22-23] فسَبَّحَ نفسَهُ عنْ شِرْكِ المشركينَ بهِ عَقِبَ تَمَدُّحِهِ بأسمائِهِ الْحُسْنَى الْمُقْتَضِيَةِ لتوحيدِهِ واستحالةِ إثباتِ شريكٍ لهُ.
ومَنْ تَدَبَّرَ هذا المعنى في القرآنِ هَبَطَ بهِ على رِياضٍ مِن العلْمِ حَمَاهَا اللهُ عنْ كلِّ أَفَّاكٍ مُعْرِضٍ عنْ كتابِ اللهِ واقتباسِ الْهُدَى منهُ. ولوْ لم يكنْ في كتابِنا هذا إلاَّ هذا الفضْلُ وحدَهُ لكَفَى مَنْ لهُ ذَوقٌ ومَعرفةٌ، واللهُ الموَفِّقُ للصوابِ) ([22]).
- (وأيضاً: لوْ لم تكنْ أسماؤُهُ مُشتمِلَةً على مَعَانٍ وصِفَاتٍ لم يَسُغْ أن يُخْبَرَ عنهُ بأفعالِها. فلا يقالُ: يَسْمَعُ ويَرَى، ويَعْلَمُ ويُقَدِّرُ ويُريدُ. فإنَّ ثُبوتَ أحكامِ الصِّفَاتِ فرْعُ ثبوتِها. فإذا انْتَفَى أَصْلُ الصفةِ استحالَ ثُبوتُ حُكْمِها.
- وأيضاً فلوْ لم تكنْ أسماؤُهُ ذواتِ معانٍ وأوصافٍ لكانتْ جامدةً كالأعلامِ الْمَحضةِ التي لم تُوضَعْ لِمُسَمَّاهَا باعتبارِ معنًى قامَ بهِ. فكانتْ كلُّها سواءً، ولم يكنْ فرْقٌ بينَ مدلولاتِها. وهذا مكابَرَةٌ صريحةٌ، وبُهْتٌ بَيِّنٌ. فإنَّ مَنْ جَعَلَ معنى اسمِ ((القديرِ)) هوَ معنى اسمِ ((السميعِ، البصيرِ)) ومعنى اسمِ ((التوَّابِ)) هوَ مـــعنَى اسـمِ ((المنتقِمِ)) ومـعـنى اسمِ ((المعـطِي)) هوَ معـنى اسمِ ((المانـعِ)) فقدْ كابَرَ العقلَ واللغةَ والفطرةَ) ([23]).
- (وأيضاً فإنَّ اللهَ سُبحانَهُ يُعَلِّقُ بأسمائِهِ المعمولاتِ مِن الظروفِ والجارِّ والمجرورِ وغيرِهما, ولوْ كانتْ أعلاماً مَحْضَةً لم يَصِحَّ فيها ذلكَ كقولِهِ: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}[النور: 35]{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)}[التوبة: 47]، {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)} [آل عمران: 63]،{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)} [الأحزاب: 43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} [التوبة: 117]، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة: 284]، {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)}[البقرة: 19]، {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)} [النساء: 39]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)}[الكهف: 45]، {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}[هود: 111]، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}[الحجرات: 18]، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)} [الشورى: 27] ونظائرُهُ كثيرةٌ.
- وأيضاً فإنَّهُ سبحانَهُ يَجعلُ أسماءَهُ دَليلاً على ما يُنكرُهُ الجاحدونَ مِنْ صفاتِ كمالِهِ كقولِهِ تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]). ([24])
[والمقصودُ] أنَّ أسماءَهُ الْحُسْنَى... أعلامٌ وأوصافٌ والوصفُ بها لا يُنافِي العَلَمِيَّةَ بخلافِ أوصافِ العِبادِ فإنَّها تُنافِي عَلَمِيَّتَهم؛ لأنَّ أوصافَهم مُشترِكَةٌ فنافَتْها العَلَميَّةُ المُخْتَصَّةُ بخلافِ أوصافِهِ تعالى). [المرتبع الأسنى: ؟؟]
(17) وقال -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في القصيدةِ النُّونِيَّةِ (210- 211):
وَالْوَصْفُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالذَّاتِ وَالْـ = أَسْمَاءُ أَعْلامٌ لَهُ بِوِزَانِ
أَسْمَاؤُهُ دَلَّتْ عَلَى أَوْصَافِهِ = مُشْتَقَّةٌ مِنْهَا اشْتِقَاقَ مَعَانِ
وصِفَاتُهُ دَلَّتْ عَلَى أَسْمَائِهِ = والفِعْلُ مُرْتَبِطٌ بِهِ الأَمْرَانِ
وَالْحُكْمُ نِسْبَتُهَا إِلَى مُتَعَلِّقَا= تٍ تَقْتَضِي آثَارَهَا بِبَيَانِ
وَلَرُبَّمَا يَعْنِي بِهِ الإِخْبَارَ عَنْ = آثارِهَا يُعْنَى بِهِ أَمْرَانِ
والفِعْلُ إِعطاءُ الإِرادَةِ حُكْمَهَا = مَعَ قُدْرَةِ الأَفْعَالِ وَالإِمْكَانِ
فإذا انتَفَتْ أَوْصَافُهُ سُبْحَانَهُ = فَجَمِيعُ هَذَا بَيِّنُ البُطْلانِ)
([18]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (20646)، ومسلمٌ في صلاةِ المسافرينَ / بابُ بيانِ أنَّ القرآنَ على سَبْعةِ أحرفٍ (1903)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ الصلاةِ / بابُ جامعِ ما جاءَ في القرآنِ (938،939،940) بدون هذه الزيادةِ، وهي عند أبي داودَ في سُننِه في كتابِ الصلاةِ / بابُ: أُنْزِلَ القرآنُ على سَبْعَةِ أحرفٍ (1478).
([19]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/ 52).
([20]) جلاءُ الأَفْهَامِ (88).
([21]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/ 60).
([22]) جلاءُ الأَفْهَامِ (90).
([23]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/ 53).
([24]) جلاءُ الأَفْهَامِ (90-91).