قال الحسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (ت: 749هـ): ("منذ"
لفظ مشترك، يكون حرف جر، ويكون اسماً، كما تقدم في "مذ". والمشهور أنهما حرفان، إذا انجر ما بعدهما، واسمان إذا ارتفع ما بعدهما. وقيل: هم اسمان مطلقاً. وعامة العرب على الجر بهما، إن كان ما بعدهما حالاً، نحو: "منذ" الساعة. وإن كان ماضياً، والكلمة "مذ"، فالرفع وقل الجر، أو"منذ" فالجر وقل الرفع.
وفي النهاية: قالوا "منذ" و"مذ" حرفان. وفي هذا نظر، إذ قالوا: أصل "مذ" "منذ". ويلزم على قولهم أن "أن" المخففة من "أن" و"أن" حرفان، و"أن" "رب" باعتبار لغاتها عشرة أحرف. قلت: الذي يظهر أن مرادهم أن "مذ" كان أصلها "منذ" كأختها، فحذفت "نونها"، وتركت أختها على أصلها؛ ألا تراهم قالوا: إن الأغلب على "مذ" الأسمية، والأغلب على "منذ" الحرفية. فلو كانت "مذ" فرع "منذ" هذه لساوتها في الحكم. وتحقيق هذا أن "منذ" تكون اسماً، وتكون حرفاً. فإذا كانت اسماً كثر فيها حرف "النون"، وإذا كانت حرفاً لم تحذف منها "النون" إلا قليلاً.
واختلف في "منذ"، فقال البصريون: بسيطة. وقال الكوفيون: مركبة. ثم اختلفوا، فقال الفراء: أصلها "من""ذو": "من" الجارة، و"ذو" الطائية. وقال غيره منهم: أصلها "من" "إذ": "من" الجارة، و"إذ" الظرفية. وقال محمد بن مسعود الغزني: اصلها "من""ذا" : "من" الجارة، و"ذا" اسم إشارة. ولهم في تقرير هذه الأقوال تكلفات واهية. والصحيح مذهب البصريين. وفيهما لغتان: ضم "الميم"، وهي الفصحى. وكسرها، وهي لغة سليم.
واعلم أن "مذ" و"منذ" لهما ثلاثة أحوال:
الأول: أن يليهما اسم مرفوع نحو: ما رأيته "مذ" يوم الجمعة، أو "منذ" يومان. فهما إذ ذاك اسمان. وفي إعرابهما أربعة مذاهب:
الأول: أنهما مبتدآن، والزمان المرفوع بعدهما خبرهما. ويقدر أن في المعرفة بأول الوقت، وفي النكرة بالأمد فإذا قلت: ما رأيته "مذ" يوم الجمعة، فالتقدير: أول انقطاع الرؤية يوم الجمعة. وإذا قلت: ما رأيته"مذ" يومان، فالتقدير: أمد انقطاع الرؤية يومان. وهذا قول المبرد، وابن السراج والفارسي. ونقله ابن مالك عن البصريين. وليس هو قول جميعهم.
والثاني: أنهما ظرفان منصوبان على الظرفية. وهما في موضع الخبر، والمرفوع بعدهما مبتدأ. والتقدير: بيني وبين لقائه يومان. وهو مذهب الأخفش، والزجاج، وطائفة من البصريين.
والثالث: أن المرفوع بعدهما فاعل بفعل مقدر، وتقديره: "مذ" كان يومان. وهما ظرفان مضافان إلى جملة حذف صدرها. وهذا مذهب الكوفيين. واختاره السهيلي، وابن مالك.
والرابع: أنه خبر مبتدأ محذوف. وهو قول لبعض الكوفيين. وتقديره: ما رأيته "من" الزمان الذي هو يومان. ونقله ابن يعيش عن الفراء. قال: لأن "منذ" مركبة مِن "من" و"ذو" التي بمعنى "الذي"، والذي توصل بالمبتدأ والخبر.
والحال الثاني: أن يليهما اسم مجرور، نحو: ما رأيته "مذ" يومين.
وقول الشاعر: قفا نبك من ذكرى حبيب، وعرفان ... ورسم، عفت آياته منذ أزمان
وفي ذلك مذهبان:
أحدهما: أن "منذ" و"مذ" حرفا جر. وهو الصحيح. وإليه ذهب الجمهور. ولا يجران إلا الزمان. فإن كان معرفة ماضياً فهما بمعنى "من" لابتداء الغاية. نحو: ما رأيته "مذ" يوم الجمعة. وإن كان معرفة حالاً فهما بمعنى "في"، نحو: ما رايته "منذ" الليلة. وإن كان نكرة فهما بمعنى "من" و"إلى"، فيدخلان على الزمان الذي وقع فيه ابتداء الفعل وانتهاؤه. نحو: ما رأيته "مذ" أربعة أيام.
والمذهب الثاني: أنهما ظرفان مضافان، وهما في موضع نصب بالفعل الذي قبلهما. وعلى هذا فهما اسمان في كل موضع.
الحال الثالث: أن يليهما جملة. والكثير أن تكون فعلية، كقول الفرزدق:
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... فسما، فأدرك خمسة الأشبار
وقد تكون اسمية، كقول الشاعر:
وما زلت محمولاً على ضغينة ... ومضطلع الأضغان، مذ أنا يافع
وفي ذلك مذهبان:
أحدهما: أن "منذ" و"مذ" ظرفان مضافان إلى الجملة. وصرح به سيبويه.
والثاني: أنهما مبتدآن، ويقدر زمان مضاف إلى الجملة، يكون خبراً عنهما ولا يدخلان عنده، إلا على زمان ملفوظ به، أو مقدر.
والمختار أن "مذ" و"منذ" إن وليهما مرفوع، أو جملة، فهما ظرفان مضافان إلى الجملة. وإن وليهما مجرور فهما حرفان وهذا اختيار ابن مالك في التسهيل. وقد بينته في شرحه. وهذا القدر كاف هنا. والله أعلم). [الجنى الداني:500 - 504]
"مذ"
قال الحسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (ت: 749هـ): ("مذ" لفظ مشترك؛ يكون حرفاً، واسماً. هذا مذهب الجمهور. وذهب بعض النحويين إلى أنه اسم، في كل موضع، وإذا انجر ما بعده فهو ظرف، منصوب بالفعل قبله. ورد بأنه لو كان ظرفاً لجاز أن يستغني الفعل، الواقع بعده، عن العمل فيه، بإعماله في ضمير يعود عليه. فكنت تقول: "مذ" كم سرت فيه؟ كما تقول: يوم الجمعة سرت فيه. وإن توسعت في الضمير قلت: سرته. وامتناع العرب من التكلم بذلك دليل على أنه حرف جر. وقد استدل على حرفيته، بإيصاله الفعل إلى "كم" و"متى". نحو: "مذ" "كم" سرت؟ كما تقول: "بمن" مررت؟ وهذا الخلاف جار في "منذ" أيضاً.
ومذهب الجمهور أن "مذ" محذوفة "النون"، وأصلها "منذ". واستدلوا على ذلك، بأوجه:
الأول: أن "مذ" إذا صغرت يقال فيها "منيذ" برد "النون".
والثاني: أن "ذال" "مذ" يجوز فيها الضم والكسر، عند ملاقالة ساكن، نحو: "مذ" اليوم. والضم أعرف. وليس ذلك إلا لأن أصلها "منذ".
الثالث: أن بني غني يضمون"ذال" "مذ"، قبل متحرك باعتبار "النون" المحذوفة، لفظاً لا نية.
وذهب ابن ملكون إلى أن "مذ" ليست محذوفة من "منذ". قال: لأن الحذف والتصريف لا يكون في الحروف. ورده الشلوبين بتخفيف "إن" وأخواتها. وقال صاحب رصف المباني: الصحيح أنه إذا كان اسماً فهو مقتطع من "منذ"، وأما إذا كان حرفاً فهو لفظ قائم بنفسه.
وقد أخرت الكلام على معنى "مذ"، وسائر أحكامها، لتذكر مع "منذ" في باب الثلاثي. إن شاء الله تعالى). [الجنى الداني:304 - 305]