قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("لَمَّا" "لما": على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تختص بالمضارع، فتجزمه وتنفيه وتقلبه ماضيا "كلم" إلّا أنّها تفارقها في خمسة أمور:
أحدها: أنّها لا تقترن بأداة شرط، لا يقال إن "لما" تقم، وفي التّنزيل: {وإن لم تفعل}، {وإن لم ينتهوا عما يقولون}.
الثّاني: أن منفيها مستمر النّفي إلى الحال، كقوله:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلّا فأدركني ولما أمزق
ومنفي لم يحتمل الاتّصال، نحو: {ولم أكن بدعائك رب شقيا}، والانقطاع مثل: {لم يكن شيئا مذكورا}، ولهذا جاز "لم" يكن ثمّ كان، ولم يجز "لما" يكن ثمّ كان، بل يقال "لما" يكن، و"قد" يكون، ومثل ابن مالك للنّفي المنقطع بقوله:
وكنت إذ كنت إلهي وحدكا ... لم يك شيء يا إلهي قبلكا
وتبعه ابنه فيما كتب على التسهيل وذلك وهم فاحش.
ولامتداد النّفي بعد "لما" لم يجز اقترانها بحرف التعقيب بخلاف"لم"، تقول: قمت "فلم" تقم؛ لأن معناه: و"ما" قمت عقيب قيامي، ولا يجوز قمت "فلمّا" تقم؛ لأن معناه: و"ما" قمت إلى الآن.
والثّالث: أن منفي "لما" لا يكون إلّا قريبا من الحال، ولا يشترط ذلك في منفي "لم"، تقول: "لم" يكن زيد في العام الماضي مقيما، ولا يجوز "لما" يكن.
وقال ابن مالك لا يشترط كون منفي "لما" قريبا من الحال، مثل: عصى إبليس ربه و"لما" يندم، بل ذلك غالب لا لازم.
والرّابع: أن منفي "لما" متوقع ثبوته بخلاف منفي "لم"، ألا ترى أن معنى: {بل لما يذوقوا عذاب}، أنهم "لم" يذوقوه إلى الآن، وأن ذوقهم له متوقع. قال الزّمخشريّ في: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}، "ما" في "لما" من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد انتهى.
ولهذا أجازوا "لم" يقض مالا يكون، ومنعوه في "لما".
وهذا الفرق بالنّسبة إلى المستقبل، فأما بالنّسبة إلى الماضي فهما سيان في نفي المتوقع وغيره، ومثال المتوقع أن تقول: مالي قمت و"لم" تقم، أو و"لما" تقم، ومثال غير المتوقع أن تقول: ابتداء "لم" تقم أو "لما" تقم.
الخامس: أن منفي "لما" جائز الحذف؛ لدليل كقوله:
فجئت قبورهم بدأ ولما ... فناديت القبور فلم يجبنه
أي: و"لما" أكن بدأ قبل ذلك، أي: سيدا، ولا يجوز وصلت إلى بغداد و"لم" تريد و"لم" أدخلها، فأما قوله: احفظ وديعتك الّتي استودعتها ... يوم الأعازب إن وصلت وان لم
فضرورة، وعلة هذه الأحكام كلها أن "لم" لنفي فعل، و"لما" لنفي قد فعل.
الثّاني من أوجه "لما":
أن تختص بالماضي، فتقتضي جملتين وجدت ثانيتهما عند وجود أولاهما، نحو: "لما" جاءني أكرمته، ويقال فيها حرف وجود لوجود، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب.
وزعم ابن السراج وتبعه الفارسي وتبعهما ابن جني وتبعهم جماعة أنّها ظرف بمعنى "حين"
وقال ابن مالك بمعنى "إذ" وهو حسن؛ لأنّها مختصّة بالماضي، وبالإضافة إلى الجملة.
ورد ابن خروف على مدعي الاسمية بجواز أن يقال "لما" أكرمتني أمس أكرمتك اليوم؛ لأنّها إذا قدرت طرفا كان عاملها الجواب، والواقع في اليوم لا يكون في الأمس.
والجواب أن هذا مثل {إن كنت قلته فقد علمته}، والشّرط لا يكون إلّا مستقبلا، ولكن المعنى إن ثبت أنّي كنت قلته، وكذا هنا المعنى "لما" ثبت اليوم اكرامك لي أمس أكرمتك.
ويكون جوابها فعلا ماضيا اتّفاقًا، وجملة اسمية مقرونة "بإذا" الفجائية أو "بالفاء" عند ابن مالك، وفعلا مضارعا عند ابن عصفور.
دليل الأول: {فلمّا نجاكم إلى البر أعرضتم}.
والثّاني: {فلمّا نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}.
والثّالث: {فلمّا نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد}.
والرّابع: {فلمّا ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا}، وهو مؤول بجادلنا.
وقيل في آية "الفاء" إن الجواب محذوف، أي: انقسموا قسمين فمنهم مقتصد، وفي آية المضارع إن الجواب {جاءته البشرى} على زيادة "الواو"، أو محذوف، أي: أقبل يجادلنا،ومن مشكل "لما" هذه قول الشّاعر:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
فيقال أين فعلاها؟
والجواب: أن سقاؤنا فاعل بفعل محذوف يفسره، وها بمعنى سقط، والجواب محذوف تقديره: قلت، بدليل قوله: أقول وقوله شم أمر من قولك شمت البرق إذا نظرت إليه، والمعنى "لما" سقط سقاؤنا، قلت لعبد الله شمه.
والثّالث: أن تكون حرف استثناء، فتدخل على الجملة الاسمية، نحو: {إن كل نفس لما عليها حافظ}، فيمن شدد "الميم"، وعلى الماضي لفظا لا معنى، نحو: أنشدك الله "لما" فعلت، أي: "ما" أسألك "إلّا" فعلك، قال:
قالت له باللّه يا ذا البردين ... لما غنثت نفسا أو اثنين
وفيه رد لقول الجوهري إن "لما" بمعنى "إلّا" غير معروف في اللّغة.
وتأتي "لما" مركبة من كلمات ومن كلمتين:
فأما المركبة من كلمات، فكما تقدم في {وإن كلا لما ليوفينهم ربك}، في قراءة ابن عامر، وحمزة، وحفص، بتشديد "نون" "إن" و"ميم" "لما" فيمن قال الأصل "لمن" "ما" فأبدلت "النّون" "ميما"، وأدغمت "فلمّا" كثرت "الميمات" حذفت الأولى، وهذا القول ضعيف؛ لأن حذف مثل هذه "الميم" استثقالا لم يثبت، وأضعف منه قول آخر إن الأصل "لما" بالتّنوين بمعنى: "جمعا"، ثمّ حذف التّنوين إجراء للوصل مجرى الوقف؛ لأن استعمال "لما" في هذا المعنى بعيد، وحذف التّنوين من المنصرف في الوصل أبعد وأضعف من هذا، قول آخر إنّه فعلى من اللمم، وهو بمعناه، ولكنه منع الصّرف "لألف" التّأنيث، ولم يثبت استعمال هذه اللّفظة، وإذا كان فعلى "فهلا " كتب "بالياء"، و"هلا" أماله من قاعدته الإمالة.
واختار ابن الحاجب أنّها "لما" الجازمة حذف فعلها، والتّقدير: "لما" يهملوا، أو "لما" يتركوا، لدلالة ما تقدم من قوله تعالى: {فمنهم شقي وسعيد}، ثمّ ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم، قال ولا أعرف وجها أشبه من هذا، وإن كانت النّفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في التّنزيل، والحق ألا يستبعد لذلك انتهى. وفي تقديره نظر.
والأولى عندي أن يقدر "لما" يوفوا أعمالهم، أي: أنهم إلى الآن "لم" يوفوها وسيوفونها.
ووجه رحجانه أمران:
أحدهما: أن بعده {ليوفينهم}، وهو دليل على أن التوفية لم تقع بعد وأنّها ستقع.
والثّاني: أن منفي "لما" متوقع الثّبوت، كما قدمنا والإهمال غير متوقع الثّبوت.
وأما قراءة أبي بكر بتخفيف "إن" وتشديد "لما" فتحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون مخفّفة من الثّقيلة، ويأتي في "لما" تلك الأوجه.
والثّاني: أن تكون "إن" نافية، و"كلا" مفعول بإضمار أرى، و"لما" بمعنى "إلّا".
وأما قراءة النّحويين بتشديد "النّون" وتخفيف "الميم"، وقراءة الحرميين بتخفيفهما فـ "إن" في الأولى: على أصلها من التّشديد ووجوب الإعمال، وفي الثّانية: مخفّفة من الثّقيلة، وأعملت على أحد الوجهين، و"اللّام" من "لما" فيهما "لام" الابتداء، قيل أو هي في قراءة التّخفيف الفارقة بين "إن" النافية والمخففة من الثّقيلة وليس كذلك؛ لأن تلك إنّما تكون عند تخفيف "إن" وإهمالها، و"ما" زائدة للفصل بين "اللامين"، كما زيدت "الألف" للفصل بين "الهمزتين" في نحو: {أأنذرتهم}، وبين "النونات" في نحو: اضربنان يا نسوة. قيل وليست موصولة بجملة القسم لأنّها إنشائية.
وليس كذلك لأن الصّلة في المعنى جملة الجواب، وإنّما جملة القسم مسوقة لمجرّد التوكيد، ويشهد لذلك قوله تعالى: {وإن منكم لمن ليبطئن}، لا يقال "لعلّ" من نكرة، أي: لفريق ليبطئن؛ لأنّها حينئذٍ تكون موصوفة، وجملة الصّفة كجملة الصّلة في اشتراط الخبرية.
وأما المركبة من كلمتين، فكقوله:
لما رأيت أبا يزيد مقاتلًا ... أدع القتال وأشهد الهيجاء
وهو لغز يقال فيه أين جواب "لما"؟ وبم انتصب أدع؟، وجواب الأول: أن الأصل "لن" "ما"، ثمّ أدغمت "النّون" في "الميم" للتقارب، ووصلا خطا للإلغاز، وإنّما حقّهما إن يكبا منفصلين، ونظيره في الإلغاز قوله:
عافت الماء في الشتاء فقلنا ... برديه تصادفيه سخينا
فيقال كيف يكون التبريد سببا لمصادفته سخينا؟ وجوابه: أن الأصل بل رديه، ثمّ كتب على لفظه للإلغاز، وعن الثّاني: أن انتصابه "بلن" و"ما" الظّرفيّة، وصلتها ظرف له فاصل بينه وبين "لن" للضّرورة، فيسأل حينئذٍ كيف يجتمع قوله "لن" أدع القتال؟ مع قوله "لن" أشهد الهيجاء؟ فيجاب بأن أشهد ليس معطوفًا على أدع، بل نصبه "بأن" مضمرة، و"أن" والفعل عطف على القتال، أي: "لن" أدع القتال، وشهود الهيجاء على حد قول ميسون: ولبس عباءة وتقر عيني ... ).
[مغني اللبيب: 3 / 477 - 500]