(فصل) "هل"
قال جمال الدين محمد بن علي الموزعي المعروف بابن نور الدين (ت: 825هـ): ((فصل) "هل": استفهام عن الحكم لا المحكوم عليه، كقولك: "هل" قام زيد، و"هل" زيد قام؟ فالسؤال عن حصول القيام المحكوم به على زيد، ولا يجوز "هل" زيدًا ضربت؟ لأن تقدم الاسم مشعر حينئذٍ بأن الضرب واقع، وإنما السؤال عن محل الضرب لا عن الضرب، ولا يجوز: "هل" زيد قام أم عمرو؟ لأن السؤال حينئذٍ عن حقيقة القائم، وأما القيام فهو واقع، وأم موضوعة للسؤال عن تصور المحكوم عليه لا عن الحكم، ولأجل هذا قلنا: "هل" لا تعادل "أم"، وإنما تعادل "أو".
وأما "الهمزة" فإنها تصلح في الاستفهام عن الحكم وعن المحكوم به كقولك: أقام زيد "أم" عمرو؟ وكقولك: أقام زيد "أو" عمرو؟ وسائر أدوات الاستفهامات إنما تصلح للسؤال عن حقيقة المحكوم عليه.
ومختصر القول: أن "هل" موضوعة للاستفهام عن التصديق والإيجاب الذي هو معرفة المركبات، الذي هو إسناد الحكم إلى المحكوم عليه وسائر الأدوات غير "الهمزة" موضوعة للتصور الذي هو معرفة حقائق المفردات التي هي محكوم عليها، و"الهمزة" صالحة للأمرين.
ولها مع الاستفهام أربعة معان:
أحدها: النفي، كقوله تعالى: {فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}، وقوله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}، وقوله تعالى: {فهل على الرسل إلا البلاغ}، قال الفرزدق:
هل ابنك إلا ابنٌ من الناس فاصطبر .... فلن يرجع الموتى حنين المآتم
وقال ابن قيس الرقيات:
لا بارك الله في الغواني هل .... يصبحن إلا لهن مطلبُ
الثاني: تكون بمعنى "إن" في التوكيد والتحقيق، ذكره جماعة من النحويين وحملوا عليه قوله تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حجر}، قال ابن هشام وهو بعيد.
الثالث: تكون بمعنى "قد"، وبذلك فسر قوله سبحانه: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر}، جماعة منهم ابن عباس، والكسائي والفراء، والمبرد رضي الله تعالى عنهم، وبالغ الزمخشري فزعم أنها تأتي أبدًا بمعنى "قد" وأن الاستفهام بها إنما هو مستفاد من "همزة" مقدرة معها، ونقله في المفصل عن سيبويه واحتج لدخولها عليها وأنشد قول الشاعر:
سائل فوارس يربوع بشدتنا .....أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
وأنكر ابن هشام ما نقله عن سيبويه، وادعى أن الموجود في كتاب سيبويه خلافه، كما زعم.
وعكس قوم مقالة الزمخشري فزعموا أنها لا تأتي بمعنى "قد"، قال ابن هشام: وهو الصواب عندي؛ إذ لا متمسك لمن أثبت ذلك إلا أحد ثلاثة أمور:
أحدها: تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولعله إنما أراد أن الاستفهام في الآية للتقرير، وليس باستفهام حقيقي، وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين قال بعضهم: "هل" هنا للاستفهام التقريري، والمقرر به: من أنكر البعث، وقد علم أنهم يقولون: نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه، فيقال: والذي أحدث الإنسان بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إعادته بعد موته.
والدليل الثاني: نص سيبويه الذي شافه العرب وفهم مقاصدهم وقد مضى أن سيبويه لم يقل ذلك، وإنما قال في عدة ما يكون الكلم ما نصه: و"هل" وهي للاستفهام، ولم يزد على ذلك.
والدليل الثالث: البيت المذكور، والرواية الصحيحة:
أم هل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
و"أم" هذه منقطعة بمعنى: "بل"، فلا دليل فيه، وبتقدير ثبوته: فالبيت شاذ لاجتماع حرفين بمعنى واحد كقوله:
ولا للمابهم أبدًا دواءُ
والذي يظهر في البيت أسهل لاختلاف اللفظين، وفي تسهيل ابن مالك: أنه تعين مرادفة "هل" "لقد" إذا دخلت عليها "الهمزة" يعني كما في البيت، ومفهوم كلامه: أنها لا تتعين عند عدم "الهمزة"، بل قد تأتي لذلك والله أعلم.
الرابع: التمني، وحمل عليه قوله تعالى حكاية عن الكفار: {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} ). [مصابيح المغاني: 506 - 510]