قال جمال الدين محمد بن علي الموزعي المعروف بابن نور الدين (ت: 825هـ): ((فصل) "كلا" ونقيضها،
أما "كلا" فزعم ثعلب أن أصلها: "كاف" التشبيه دخلت على "لا" وذلك أن العرب إذا قللت شيئًا قالت: هو "كلا" و"لا"، قال الشاعر:
أصاب خصاصة فبدا كليلًا .... كلا وانغل سائره انغلالا
وإنما شددت "لامها" ليقوى المعنى وليندفع توهم بقاء معنى الكلمتين، وقال غيره: هي بسيطة، ثم اختلفوا في معناها فقال الخليل وسيبويه والمبرد والزجاج وأكثر البصريين: إنها كلمة موضوعة للنفي والنهي فمعناها الزجر والردع والنفي لدعوى مدع، لا معنى لها عندهم إلا ذلك حتى إذا أبدا يجيزون الوقف عليها والابتداء بما بعدها، وحتى قال جماعة منهم: متى سمت، "كلا" في سورة فاحكم بأنهما مكية، لأن فيها معنى التهديد والوعيد، وأكثر ما نزل ذلك بمكة؛ لأن أكثر العتو كان بها.
قال ابن هشام: وفيه نظر؛ لأن لزوم المكية إنما يكون عن اختصاص العتو بها لا عن غلبتها، ثم لا يمتنع الإشارة إلى عتو سابق.
وما ذكره من النظر ففيه نظر، لأن هذا القائل لم يرد حقيقة التلازم ولهذا لم يقل: وكل سورة لم تذكر فيها فليست بمكية، وإنما أراد الاستدلال على أن معناها الزجر لكونها لا تقع إلا في مظان الزجر والتهديد دون شرع الأحكام.
وهذه المقالة محكية عن بعض علماء التفسير والعلم بالناسخ والمنسوخ فاستدل بها هؤلاء على إثبات معنى "كلا".
ورأى الكسائي وأبو حاتم ومن وافقهما أن معنى الردع والزجر ليس مستمرًا فيها، وإن كان غالبًا عليها فزادوا معنى ثانيًا يصح أن يوقف عليه دونها ويبتدأ بها.
ثم اختلفوا في تعيين ذلك المعنى على ثلاثة أقوال:
أحدها: للكسائي ومتابعيه أنها تكون بمعنى "حقًا" وهو قول المفسرين.
والثاني: وهو قول أبي حاتم ومتابعيه: أنها تكون بمعنى "ألا" الاستفتاحية.
والثالث: وهو قول النضر بن شمبل، والفراء ومن وافقهما: أنها تكون حرف جواب بمعنى: "إي" و"نعم"، وحملوا عليه {كلا والقمر}، قالوا: معناه: "إي" والقمر.
قال ابن هشام: وقول أبي حاتم عندي أولى من قول الكسائي وقول النضر؛ لأنه أكثر اطرادًا، فإن قول الكسائي لا يتأتى في نحو: {كلا إن كتاب الأبرار} {كلا إن كتاب الفجار}، {كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون}؛ لأن "أن" تكسر بعد "ألا" الاستفتاحية ولا تكسر بعد "حقًا"، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم.
وقول النضر لا يتأتى في آيتي المؤمنين والشعراء، قوله تعالى: {قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت كلا إنها كلمة}، وقوله تعالى: {قال أصحاب موسى إنما لمدركون قال كلا إن معي ربي}؛ لأن نعم بعد الطلب والخبر تصديق.
وزعم الأولون أن معنى الزجر مستمر فيها، وحيث لا يظهر كقوله تعالى: {في أي صورةٍ ما شاء ركبك}، {يوم يقومُ الناس لرب العالمين}، {ثم إن علينا بيانه} بقدر فيها الزجر فالمعنى: انته عن ترك الإيمان بالتصوير في أي صورة شاء الله، وبالبعث، وعن العجلة بالقرآن، ورد بأن فيه تعسفًا لأنه لم يتقدم في الأوليين حكاية في ذلك عند أحد، وأما في الثالثة فلطول الفصل بين "كلا" وذكر العاجلة.
وإذا صلح الموضوع للردع وغيره جاز الوقف عليها والابتداء بها على اختلاف التقديرين، والأرجح حملها على الردع؛ لأنه الغالب فيها، كقوله تعالى: {اطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا كلَّا سنكتب ما يقول}، وقوله تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزًّا كلا سيكفرون بعبادتهم}، وقد تتعين للردع والاستفتاح كآيتي المؤمنين والشعراء، وقد تتعين للاستفتاح والجواب ويمتنع الردع كقوله تعالى: {كلا والقمر}، وما أشبهها؛ إذ ليس قبلها ما يصح رده، قال ابن هشام: وقول الطبري وجماعة أنه لما نزل في عدد خزنة جهنم {عليها تسعة عشر}، قال بعض المشركين: اكفوني اثنين، وأنا أكفيكم سبعة عشر، فنزلت {كلا} زجرًا له، قول متعسف؛ لأن الآية لم تتضمن ذلك.
وأما نقيض "كلا" فقال بعض أهل العلم: إن «ذلك» و«هذا» نقيضان "كلا"، وإن كذلك نقيض"لكلا"، قال: فقوله تعالى: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم}، على معنى ذلك كما قلنا وكما فعلنا، ومثله: {هذا وإن للطاغين لشر مآب}، قال: ويدل على هذا المعنى دخول "الواو" بعد قوله: «ذلك» و«هذا» لأن ما بعد "الواو" منسوق على ما قبلها بها وإن كان مضمرًا، قال الله سبحانه وتعالى: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة}، ثم قال: {كذلك}، أي: كذلك فعلناه ونفعله من التنزيل، ومثل هذا في القرآن كثير). [مصابيح المغاني: 364 - 369]