قال عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن هشام الأنصاري (ت: 761هـ): ("إذا"
"إذا": على وجهين:
1 - أحدهما: أن تكون للمفاجأة، فتختص بالجمل الاسمية، ولا تحتاج لي جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال لا الاستقبال، نحو: خرجت "فإذا" الأسد بالباب، ومنه: {فإذا هي حيّة تسعى}،{إذا لهم مكر}، وهي حرف عند الأخفش، ويرجحه قولهم: خرجت "فإذا" "إن" زيدا بالباب، كسر "إن"؛ لأن "إن" لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وظرف مكان عند المبرد، وظرف زمان عند الزّجاج، واختار الأول ابن مالك، والثّاني ابن عصفور، والثّالث الزّمخشريّ، وزعم أن عاملها فعل مقدّر مشتقّ من لفظ المفاجأة، قال في قوله تعالى: {ثمّ إذا دعاكم دعوة} الآية، إن التّقدير "إذا" دعاكم فاجأتم الخروج في ذلك الوقت ولا يعرف هذا لغيره، وإنّما ناصبها عندهم الخبر المذكور، في نحو: خرجت "فإذا" زيد جالس، أو المقدر في نحو: "فإذا" الأسد، أي: حاضر، وإذا قدرت أنّها الخبر فعاملها مستقر أو استقر، ولم يقع الخبر معها في التّنزيل إلّا مصرحًا به، نحو: {فإذا هي حيّة تسعى}،{فإذا هي شاخصة}،{فإذا هم خامدون}،{فإذا هي بيضاء}،{فإذا هم بالساهرة}، وإذا قيل خرجت "فإذا" الأسد صحّ كونها عند المبرد خبرا، أي: فبالحضرة الأسد، ولم يصح عند الزّجاج؛ لأن الزّمان لا يخبر به عن الجثة، ولا عند الأخفش؛ لأن الحرف لا يخبر به ولا عنه، فإن قلت: فإذا القتال صحت خبريتها عند غير الأخفش، وتقول: خرجت "فإذا" زيد جالس أو جالسا، فالرفع على الخبرية، و"إذا" نصب به والنّصب على الحالية، والخبر "إذا" إن قيل بأنّها مكان وإلّا فهو محذوف، نعم يجوز أن تقدرها خبرا عن الجثة مع قولنا إنّها زمان "إذا" قدرت حذف مضاف كأن تقدر في نحو: خرجت "فإذا" الأسد، "فاذا" حضور الأسد.
مسألة
قالت العرب: قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور "فإذا" هو هي، وقالوا أيضا: "فإذا" هو إيّاها، وهذا هو الوجه الّذي أنكره سيبويه لما سأله الكسائي، وكان من خبرهما أن سيبويه قدم على البرامكة فعزم يحيى بن خالد على الجمع بينهما فجعل لذلك يومًا، فلمّا حضر سيبويه تقدم إليه الفراء وخلف، فسأله خلف عن مسألة فأجاب فيها، فقال له أخطأت، ثمّ سأله ثانية وثالثة وهو يجيبه ويقول له أخطأت، فقال له سيبويه هذ سوء أدب، فأقبل عليه الفراء فقال له: إن في هذا الرجل حدة وعجلة، ولكن ما تقول فيمن قال هؤلاء أبون، ومررت بأبين، كيف تقول على مثال ذلك من وأيت أو أويت، فأجابه فقال: أعد النّظر، فقال: لست أكلمكما حتّى يحضر صاحبكما، فحضر الكسائي فقال له الكسائي: تسألني أو أسألك؟ فقال له سيبويه: سل أنت، فسأله عن هذا المثال، فقال سيبويه "فاذا" هو هي ولا يجوز النصب، وسأله عن أمثال ذلك، نحو: خرجت "فإذا" عبد الله القائم أو القائم، فقال له: كل ذلك بالرّفع، فقال الكسائي: العرب ترفع كل ذلك وتنصب، فقال يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد سمع منهم أهل البلدين فيحضرون ويسألون، فقال يحيى وجعفر: أنصفت، فأحضروا فوافقوا الكسائي، فاستكان سيبويه فأمر له يحيى بعشرة آلاف درهم، فخرج إلى فارس فأقام بها حتّى مات، ولم يعد إلى البصرة، فيقال: إن العرب قد رشوا على ذلك أو إنّهم علموا منزلة الكسائي عند الرشيد، ويقال: إنّهم إنّما قالوا القول قول الكسائي، ولم ينطقوا بالنّصب، وإن سيبويه قال ليحيى مرهم أن ينطقوا بذلك فإن ألسنتهم لا تطوع به.
ولقد أحسن الإمام الأديب أبو الحسن حازم بن محمّد الأنصاريّ القرطاجني إذ قال في منظومته في النّحو حاكيا هذه الواقعة والمسألة: والعرب قد تحذف الأخبار بعد إذا ... إذا عنت فجأة الأمر الّذي دهما
وربما نصبوا للحال بعد إذا ... وربما رفعوا من بعدها ربما
فإن توالى ضميران اكتسى بهما ... وجه الحقيقة من إشكاله غمما
لذاك أعيت على الأفهام مسألة ... أهدت إلى سيبويه الحتف والغمما
قد كانت العقرب العوجاء أحسبها ... قدما أشد من الزنبور وقع حما
وفي الجواب عليها هل إذا هو هي ... أو هل إذا هو إيّاها قد اختصما
وخطأ ابن زياد وابن حمزة في ... ما قال فيها أبا بشر وقد ظلما
وغاظ عمرا عليّ في حكومته ... يا ليته لم يكن في أمره حكما
وفجَّع ابنُ زياد كلَّ منتجب ... من أهله إذ غدا منه يفيض دمًا
وأصبحت بعده الأنفاسُ باكية ... في كل طرس كدمع سح وانسجما
وليس يخلو امرؤ من حاسد أضم ... لولا التنافس في الدّنيا لما أضما
والغبن في العلم أشجى محنة علمت ... وأبرح النّاس شجوا عالم هضما
وقوله وربما نصبوا إلخ، أي: وربما نصبوا على الحال بعد أن رفعوا ما بعد "إذا" على الابتداء، فيقولون "فإذا" زيد جالسا، وقوله ربما في آخر البيت بالتّخفيف توكيد لربما في أوله بالتّشديد، وغمما في آخر البيت الثّالث بفتح "الغين" كناية عن الإشكال والخفاء، وغمما في آخر البيت الرّابع بضمها جمع غمّة، وابن زياد هو الفراء، واسمه يحيى، وابن حمزة هو الكسائي، واسمه عليّ، وأبو بشر سيبويه، واسمه عمرو، و"ألف" ظلما للتثنية إن بنيته للفاعل، وللإطلاق إن بنيته للمفعول، وعمرو وعلي الأوّلان سيبويه والكسائيّ، والآخران ابن العاص وابن أبي طالب رضي الله عنهما، وحكما الأول اسم، والثّاني فعل أو بالعكس دفعا للإيطاء، وزياد الأول والد الفراء، والثّاني زياد ابن أبيه، وابنه المشار إليه هو ابن مرجانة المرسل في قتلة الحسين رضي الله عنه، وأضم كغضب وزنا ومعنى وإعجام "الضّاد"، والوصف منه أضم كفرح، وهضم مبنيّ للمفعول، أي: لم يوف حقه، وأما سؤال الفراء فجوابه أن أبون جمع أب وأب فعل بفتحتين، وأصله أبو، فإذا بنينا مثله من أوى أو من وأى، قلنا: أوى كهوى، أو قلنا وأي كهوى أيضا، ثمّ تجمعه "بالواو" و"النّون"، فتحذف "الألف" كما تحذف "ألف" مصطفى، وتبقى الفتحة دليلا عليها، فتقول: "أوون" أو "وأون" رفعا "وأوين" أو "وأين" جرا ونصبا، كما تقول في جمع عصا وقفا اسم رجل عصون وقفون وعصين وقفين، وليس هذا ممّا يخفى على سيبويه ولا على أصاغر الطّلبة، ولكنه كما قال أبو عثمان المازني: دخلت بغداد فألقيت عليّ مسائل فكنت أجيب فيها على مذهبي ويخطئونني على مذاهبهم، انتهى. وهكذا اتّفق لسيبويه رحمه الله تعالى.
وأما سؤال الكسائي فجوابه ما قاله سيبويه، وهو "فإذا" هو هي هذا هو وجه الكلام، مثل: {فإذا هي بيضاء}،{فإذا هي حيّة تسعى}،
وأما "فإذا" هو إيّاها إن ثبت فخارج عن القياس، واستعمال الفصحاء كالجزم بـ "لن"، والنّصب بـ "لم"، والجر بـ "لعلّ"، وسيبويه وأصحابه لا يلتفتون لمثل ذلك، وإن تكلم به بعض العرب.
وقد ذكر في توجيهه أمور:
أحدهما: لأبي بكر بن الخياط، وهو أن "إذا" ظرف فيه معنى وجدت ورأيت، فجاز له أن ينصب المفعول، وهو مع ذلك مخبر به عن الاسم بعده انتهى.
وهذا خطأ؛ لأن المعاني لا تنصب المفاعيل الصّحيحة، وإنّما تعمل في الظروف والأحوال؛ ولأنّها تحتاج على زعمه إلى فاعل وإلى مفعول آخر، فكان حقّها أن تنصب ما يليها.
والثّاني: أن ضمير النصب استعير في مكان ضمير الرّفع قاله ابن مالك، ويشهد له قراءة الحسن [إياك يُعبد] ببناء الفعل للمفعول، ولكنه لا يتأتّى فيما أجازوه من قولك "فإذا" زيد القائم بالنّصب، فينبغي أن يوجه هذا على أنه نعت مقطوع، أو حال على زيادة "أل"، وليس ذلك ممّا ينقاس، ومن جوز تعريف الحال أو زعم أن "إذا" تعمل عمل وجدت، وأنّها رفعت عبد الله بناء على أن الظّرف يعمل وإن لم يعتمد فقد أخطأ؛ لأن وجد ينصب الاسمين؛ ولأن مجيء الحال بلفظ المعرفة قليل، وهو قابل للتأويل.
والثّالث: أنه مفعول به، والأصل "فإذا" هو يساويها، أو "فإذا" هو يشابهها، ثمّ حذف الفعل فانفصل الضّمير، وهذا هو الوجه لابن مالك أيضا، ونظيره قراءة عليّ رضي الله عنه {لئن أكله الذّئب ونحن عصبة} بالنّصب، أي: نوجد عصبة، أو نرى عصبة، وأما قوله تعالى: {والّذين اتّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم}، "إذا" قيل إن التّقدير يقولون ما نعبدهم، فإنّما حسنه "أن" إضمار القول مستسهل عندهم.
والرّابع: أنه مفعول مطلق، والأصل "فإذا" هو يلسع لسعتها، ثمّ حذف الفعل، كما تقول: ما زيد إلّا شرب الإبل، ثمّ حذف المضاف، نقله الشلوبين في حواشي المفصل عن الأعلم، وقال هو أشبه ما وجه به النصب.
والخامس: أنه منصوب على الحال من الضّمير في الخبر المحذوف، والأصل "فإذا" هو ثابت مثلها، ثمّ حذف المضاف فانفصل
الضّمير، وانتصب في اللّفظ على الحال على سبيل النّيابة، كما قالوا قضيّة ولا أبا حسن لها على إضمار مثل قاله ابن الحاجب في أماليه وهو وجه غريب، أعني انتصاب الضّمير على الحال، وهو مبنيّ على إجازة الخليل له صوت صوت الحمار بالرّفع صفة لصوت بتقدير مثل.
وأما سيبويه فقال هذا قبيح ضعيف، وممّن قال بالجواز ابن مالك، إذا كان المضاف إلى معرفة كلمة مثل جاز أن تخلفها المعرفة في التنكير، فتقول: مررت برجل زهير بالخفض صفة للنكرة، وهذا زيد زهيرا بالنّصب على الحال، ومنه قولهم: تفرقوا أيادي سبا، وأيدي سبا، وإنّما سكنت "الياء" مع أنّهما منصوبان لثقلهما بالتركيب والإعلال، كما في معد يكرب وقالي قلا.
2- والثّاني: من وجهي إذا أن تكون لغير مفاجأة، فالغالب أن تكون ظرفا للمستقبل مضمنة معنى الشّرط، وتختص بالدّخول على الجملة الفعلية عكس الفجائية، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {ثمّ إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون}، وقوله تعالى: {فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون}، ويكون الفعل بعدها ماضيا كثيرا ومضارعا دون ذلك، وقد اجتمعا في قول أبي ذؤيب:
والنّفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وإنّما دخلت الشّرطيّة على الاسم، في نحو: (إذا السّماء انشقت)؛ لأنّه فاعل بفعل محذوف على شريطة التّفسير لا مبتدأ، خلافًا للأخفش
وأما قوله:
إذا باهلي تحته حنظلية ... له ولد منها فذاك المذرع
فالتقدير: "إذا" كان باهلي، وقيل حنظلية فاعل باستقر محذوفا، وباهلي فاعل بمحذوف يفسره العامل في حنظلية، ويرده أن فيه حذف المفسّر ومفسره جميعًا، ويسهله أن الظّرف يدل على المفسّر، فكأنّه لم يحذف ولا تعمل "إذا" الجزم في ضرورة، كقوله:
استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل
قيل وقد تخرج عن كل من الظّرفيّة، والاستقبال، ومعنى الشّرط.
وفي كل من هذه فصل الفصل الأول في خروجها عن الظّرفيّة.
زعم أبو الحسن في: (حتّى إذا جاؤوها)، أن "إذا" جر "بحتى"، وزعم أبو الفتح في: {إذا وقعت الواقعة} الآيات فيمن نصب {خافضة رافعة}، أن "إذا" الأولى مبتدأ، والثّانية خبر، والمنصوبين حالان، وكذا جملة {ليس} ومعموليها، والمعنى: وقت وقوع الواقعة خافضة لقوم رافعة لآخرين هو وقت رج الأرض، وقال قوم في أخطب ما يكون الأمير قائما، إن الأصل أخطب أوقات أكوان الأمير، "إذا" كان قائما، أي: وقت قيامة، ثمّ حذفت الأوقات، ونابت "ما" المصدرية عنها، ثمّ حذف الخبر المرفوع، وهو "إذا"، وتبعها كان التّامّة وفاعلها في الحذف، ثمّ نابت الحال عن الخبر، ولو كانت "إذا" على هذا التّقدير في موضع نصب لاستحال المعنى كما يستحيل "إذا" قلت أخطب أوقات أكوان الأمير يوم الجمعة "إذا" نصبت اليوم؛ لأن الزّمان لا يكون محلا للزمان.
وقالوا في قول الحماسي:
وبعد غد يا لهف نفسي من غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
إن "إذا" في موضع جر بدلا من غد، وزعم ابن مالك أنّها وقعت مفعولا في قوله عليه الصّلاة والسّلام لعائشة رضي الله عنها:«إنّي لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت عليّ غضبى»، والجمهور على أن "إذا" لا تخرج عن الظّرفيّة، وأن "حتّى" في نحو: {حتّى إذا جاؤوها}، حرف ابتداء دخل على الجملة بأسرها، ولا عمل له، وأما {إذا وقعت الواقعة}، "فإذا" الثّانية بدل من الأولى، والأولى ظرف وجوابها محذوف لفهم المعنى، وحسنه طول الكلام وتقديره بعد "إذا" الثّانية، أي: انقسمتم أقساما، {وكنتم أزواجًا ثلاثة}، وأما "إذا" في البيت فظرف للهف، وأما الّتي في المثال ففي موضع نصب؛ لأنا لا نقدر زمانا مضافا إلى ما يكون إذ لا موجب لهذا التّقدير، وأما الحديث فـ "إذا" ظرف لمحذوف، وهو مفعول أعلم، وتقديره شأنك ونحوه، كما تعلق "إذ" بالحديث في: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه}.
الفصل الثّاني
في خروجها عن الاستقبال.
وذلك على وجهين:
أحدهما: أن تجيء للماضي كما جاءت "إذ" للمستقبل في قول بعضهم، وذلك كقوله تعالى: {ولا على الّذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا}،{وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا إليها}، وقوله:
وندمان يزيد الكأس طيبا ... سقيت إذا تغورت النّجوم
والثّاني: أن تجيء للحال، وذلك بعد القسم، نحو: {واللّيل إذا يغشى}،{والنجم إذا هوى}، قيل: لأنّها لو كانت للاستقبال لم تكن ظرفا لفعل القسم؛ لأنّه إنشاء لا إخبار عن قسم يأتي؛ لأن قسم الله سبحانه قديم، ولا لكون محذوف هو حال من {واللّيل}،{والنجم}؛ لأن الحال والاستقبال متنافيان، و"إذا" بطل هذان الوجهان تعين أنه ظرف لأحدهما على أن المراد به الحال انتهى.
والصّحيح أنه لا يصح التّعليق بـ أقسم الإنشائي؛ لأن القديم لا زمان له لا حال ولا غيره، بل هو سابق على الزّمان، وأنه لا يمتنع التّعليق بـ كائنا مع بقاء "إذا" على الاستقبال، بدليل صحة مجيء الحال المقدرة باتّفاق، كـ مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أي: مقدرا الصّيد به غدا، أي: مقدرا الصّيد به غدا كذا يقدرون، وأوضح منه أن يقال: مريدا به الصّيد غدا، كما فسر قمتم في:{إذا قمتم إلى الصّلاة} بأردتم.
مسألة في ناصب "إذا" مذهبان:
أحدهما: أنه شرطها، وهو قول المحقّقين، فتكون بمنزلة "متى" و"حيثما" و"أيان"، وقول أبي البقاء إنّه مردود بأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف غير وارد؛ لأن "إذا" عند هؤلاء غير مضافة ،كما يقوله الجميع إذا جزمت ،كقوله: ... وإذا تصبك خصاصة فتحمل
والثّاني: أنه ما في جوابها من فعل أو شبهة، وهو قول الأكثرين، ويرد عليهم أمور:
أحدها: أن الشّرط والجزاء عبارة عن جملتين تربط بينهما الأداة، وعلى قولهم تصير الجملتان واحدة؛ لأن الظّرف عندهم من جملة الجواب، والمعمول داخل في جملة عامله.
والثّاني: أنه ممتنع في قول زهير:
بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ... ولا سابقًا شيئا إذا كان جائيا
لأن الجواب محذوف وتقديره "إذا" كان جائيا فلا أسبقه، ولا يصح أن يقال لا أسبق شيئا وقت مجيئه؛ لأن الشّيء إنّما يسبق قبل مجيئه، وهذا لازم لهم أيضا إن أجابوا بأنّها غير شرطيّة وأنّها معمولة لما قبلها وهو سابق، وأما على القول الأول فهي شرطيّة محذوفة الجواب، وعاملها إمّا خبر كان أو نفس كان، إن قلنا بدلالتها على الحدث.
والثّالث: أنه يلزمهم، في نحو "إذا" جئتني اليوم أكرمتك غدا، أن يعمل أكرمتك في ظرفين متضادين، وذلك باطل عقلا، إذ الحدث الواحد
المعين لا يقع بتمامه في زمانين، وقصدا إذ المراد وقوع الإكرام في الغد لا في اليوم، فإن قلت فما ناصب اليوم على القول الأول، وكيف يعمل العامل الواحد في ظرفي زمان؟ قلنا لم يتضادا كما في الوجه السّابق، وعمل العامل في ظرفي زمان يجوز، إذا كان أحدهما أعم من الآخر، نحو: أتيك يوم الجمعة سحر وليس بدلا، لجواز سير عليه يوم الجمعة، سحر برفع الأول ونصب الثّاني نص عليه سيبويه، وأنشد للفرزدق:
متى تردن يومًا سفار تجد بها ... أديهم يرمي المستجيز المعورا
فيوما يمتنع أن يكون بدلا من متى؛ لعدم اقترانه بحرف الشّرط، ولهذا يمتنع في اليوم في المثال أن يكون بدلا من "إذا"، ويمتنع أن يكون ظرفا لتجد؛ لئلّا ينفصل ترد من معموله، وهو سفار بالأجنبي، فتعين أنه ظرف ثان لترد، والرّابع أن الجواب ورد مقرونا بـ "إذا" الفجائية، نحو: {ثمّ إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون}، وبالحرف النّاسخ، نحو: "إذا" جئتني اليوم فإنّي أكرمك، وكل منهما لا يعمل ما بعده فيما قبله، وورد أيضا والصالح فيه للعمل صفة، كقوله تعالى: {فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذٍ يوم عسير}، ولا تعمل الصّفة فيما قبل الموصوف، وتخريج بعضهم هذه الآية على أن "إذا" مبتدأ وما بعد "الفاء" خبر لا يصح إلّا على قول أبي الحسن ومن تابعه في جواز تصرف "إذا"، وجواز زيادة "الفاء" في خبر المبتدأ؛ لأن عسر اليوم ليس مسببا عن النقر، والجيد أن تخرج على حذف الجواب مدلولا عليه بعسير، أي: عسر الأمر، وأما قول أبي البقاء إنّه يكون مدلولا عليه بـ ذلك، فإنّه إشارة إلى النقر فمردود لأدائه إلى اتّحاد السّبب والمسبب وذلك ممتنع، وأما نحو: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، فمؤول على إقامة السّبب مقام المسبّب لاشتهار المسبّب، أي: فقد استحق الثّواب العظيم المستقر للمهاجرين.
قال أبو حيّان: ورد مقرونا "بما" النافية، نحو: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات ما كان حجتهم} الآية، و"ما" النافية لها الصّدر انتهى.
وليس هذا بجواب وإلّا لاقترن "بالفاء"، مثل: {وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين}، وإنّما الجواب محذوف، أي: عمدوا إلى الحجج الباطلة.
وقول بعضهم إنّه جواب على إضمار "الفاء"، مثل: {إن ترك خيرا الوصيّة للوالدين}، مردود بأن "الفاء" لا تحذف إلّا ضرورة،
كقوله:
من يفعل الحسنات الله يشكرها ...
والوصيّة في الآية نائب عن فاعل كتب، وللوالدين متعلق بها لا خبر، والجواب محذوف، أي: فليوص، وقول ابن الحاجب: إن "إذا" هذه غير شرطيّة فلا تحتاج إلى جواب، وإن عاملها ما بعد "ما" النافية كما عمل ما بعد "لا" في يوم من قوله تعالى: {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذٍ للمجرمين}، وإن ذلك من التّوسّع في الظّرف مردود بثلاثة أمور:
أحدها: أن مثل هذا التّوسّع خاص بالشعر، كقوله:
... ونحن عن فضلك ما استغنينا
والثّاني: أن "ما" لا تقاس على "لا"، فإن "ما" لها الصّدر مطلقًا بإجماع البصريين، واختلفوا في "لا"، فقيل لها الصّدر مطلقًا، وقيل ليس لها الصّدر مطلقًا؛ لتوسطها بين العامل والمعمول، في نحو: إن "لا" تقم أقم، وجاء "بلا" زاد،
وقوله:
ألا إن قرطا على آلة ... ألا إنّني كيده لا أكيد
وقيل إن وقعت في صدر جواب القسم فلها الصّدر؛ لحلولها محل أدوات الصّدر، وإلّا فلا، وهذا هو الصّحيح، وعليه اعتمد سيبويه، إذ جعل انتصاب حب العراق في قوله:
آليت حب العراق الدّهر أطعمه ...
على التّوسّع، وإسقاط الخافض وهو "على"، ولم يجعله من باب زيدا ضربته؛ لأن التّقدير: "لا" أطعمه، و"لا" هذه لها الصّدر، فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وما لا يعمل لا يفسر في هذا الباب عاملا.
والثّالث: أن "لا" في الآية حرف ناسخ مثله في نحو: "لا" رجل، والحرف النّاسخ لا يتقدمه معمول ما بعده ولو لم يكن نافيا، "لا" يجوز زيدا إنّي أضرب، فكيف وهو حرف نفي، بل أبلغ من هذا أن العامل الّذي بعده مصدر، وهم يطلقون القول بأن المصدر لا يعمل فيما قبله، وإنّما العامل محذوف، أي: اذكر يوم أو يعذبون يوم، ونظير ما أورده أبو حيّان على الأكثرين أن يورد عليهم قوله تعالى: {وقال الّذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنّكم لفي خلق جديد}، فيقال لا يصح لجديد أن يعمل في "إذا"؛ لأن "إن" و"لام" الابتداء يمنعان من ذلك؛ لأن لهما الصّدر، وأيضًا فالصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، والجواب أيضا أن الجواب محذوف مدلول عليه بجديد، أي: "إذا" مزقتم تجددون؛ لأن الحرف النّاسخ لا يكون في أول الجواب إلّا وهو مقرون "بالفاء"، نحو: {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم}.
وأما {وإن أطعتموهم إنّكم لمشركون}، فالجملة جواب لقسم محذوف مقدّر قبل الشّرط بدليل: {وإن لم ينتهوا عمّا يقولون ليمسن} الآية، ولا يسوغ أن يقال قدرها خالية من معنى الشّرط فتستغني عن جواب، وتكون معمولة لما قبلها، وهو: {قال} أو {ندلكم} أو {ينبئكم}؛ لأن هذه الأفعال لم تقع في ذلك الوقت.
الفصل الثّالث
في خروج "إذا" عن الشّرطيّة
ومثاله قوله تعالى: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون}، وقوله تعالى: {والّذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}، فـ "إذا" فيهما ظرف لخبر المبتدأ بعدها ولو كانت شرطيّة، والجملة الاسمية جوابا لاقترنت "بالفاء"، مثل: {وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير}، وقول بعضهم إنّه على إضمار "الفاء" تقدم رده، وقول آخر إن الضّمير توكيد لا مبتدأ، وإن ما بعده الجواب ظاهر التعسف، وقول آخر إن جوابها محذوف مدلول عليه بالجملة بعدها تكلّف من غير ضرورة، ومن ذلك "إذا" الّتي بعدها القسم، نحو: {واللّيل إذا يغشى}،{والنجم إذا هوى}، "إذ" لو كانت شرطيّة كان ما قبلها جوابا في المعنى، كما في قولك: آتيك "إذا" أتيتني، فيكون التّقدير: "إذا" يغشى اللّيل، و"إذا" هوى النّجم، أقسمت وهذا ممتنع لوجهين:
أحدهما: أن القسم الإنشائي لا يقبل التّعليق؛ لأن الإنشاء إيقاع، والمعلّق يحتمل الوقوع وعدمه، فأما "إن" جائني فواللّه لأكرمنه، فالجواب في المعنى فعل الإكرام؛ لأنّه المسبّب عن الشّرط، وإنّما دخل القسم بينهما لمجرّد التوكيد، ولا يمكن ادّعاء مثل ذلك هنا؛ لأن جواب واللّيل ثابت دائما، وجواب والنجم ماض مستمر الانتفاء، فلا يمكن تسببهما عن أمر مستقبل، وهو فعل الشّرط.
والثّاني: أن الجواب خبري، فلا يدل عليه الإنشاء لتباين حقيقتهما).[مغني اللبيب: 2 / 48 - 110]