باب ما أوله "العين"
فصل "عن":
قال جمال الدين محمد بن علي الموزعي المعروف بابن نور الدين (ت: 825هـ): (باب ما أوله "العين" فصل "عن":
تستعمل على ثلاثة أوجه:
أحدها: تكون اسمًا بمعنى جانب:
وهو إمَّا أن تدخل عليها "من" وهو كثير، قال الشاعر:
فقلت للركب لما أن علا بهم ..... من عن يمين الحبيا نظرة قبل
وقال قطري بن الفجاءة:
فلقد أراني للرماح دريئة ..... من عن يميني مرةً وأمامي
و"من" الداخلة على "عن" زائدة عند ابن مالك ولابتداء الغاية عند غيره، قالوا: فإذا قيل: قعدت "عن" يمينه، فالمعنى: "في" جانب يمينه، فذلك محتمل للملاصقة ولخلافها، فإن جئت بـ "من" تعين كون القعود ملاصقًا لأول الناحية.
وإمَّا أن تدخل عليها "على" وهو نادر.
قالوا: والمحفوظ منه بيت واحد، وهو قوله:
..... على عن يميني مرت الطير سُنحًا .....
الوجه الثاني: تستعمل حرفًا مصدريًا في لغة بني تميم فيقول في نحو: أعجبني "أن" تفعل: "عن" تفعل، قال ذو الرمة:
أعن ترسمت من خرقاء منزلةً ..... ماءُ الصبابة من عينيك مسجوم
وكذا يفعلون في "أن" المشددة فيقولون: أشهد "عن" محمدًا رسول الله، ويسمى ذلك عنعنة تميم.
الوجه الثالث: تكون حرفًا جارًا وهي تدل على الانحطاط والنزول، تقول: نزلت "عن" الجبل و"عن" ظهر الدابة، وأخذت العلم "عن" زيد؛ لأن المأخوذ منه أعلى رتبة من الآخذ.
وتنقسم معانيها إلى أحد عشر معنى:
أحدها: المجاوزة ولم يذكر البصريون سواء نحو: سافرت "عن" البلد ورغبت "عن" كذا.
الثاني: الاستعلاء كقوله تعالى: {فإنما يبخل عن نفسه} ونحو قول ذي الأصبع العدواني:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ ..... عني ولا أنت دياني فتخزوني
ومن المعروف أن يقال: أفضل عليه بمال، ومنه قوله تعالى: {إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي}، أي: قدمته عليه، وحكى الرماني عن أبي عبيدة أن «أحببت» من: أحب البعير إحبابًا، إذا برك فلم يثر، فعن متعلقة باعتبار معناه: أي: إني تثبطت "عن" ذكر ربي، فعلى هذا فـ «حب الخير» مفعوله لأجله.
الثالث: التعليل، نحو قوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه}، وقوله تعالى: {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك}، ومنه عندي قول امرئ القيس:
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها ..... نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
أي: لم تشد وسطها بمنطقة للخدمة، لكرمها على أهلها.
الرابع: تكون بمعنى "بعد" لأنها تقاربها في المعنى، كقوله تعالى: {عما قليلٍ ليصبحن نادمين}، وقوله تعالى: {يحرفون الكلم عن مواضعه}، بدليل قوله تعالى: {من بعد مواضعه}، في موضع آخر، وكقوله تعالى: {لتركبن طبقًا عن طبقٍ}، أي حالة "بعد" حالة، وكقول الحارث بن عباد:
قربًا مربط النعامة مني ..... لقحت حرب وائلٍ عن حيال
أي: "بعد" حيال، وقول العجاج:
..... ومنهلٍ وردته عن منهل .....
وقيل: ومنه قول امرئ القيس:
..... .... لم تنتطق عن تفضل .....
قيل: ومنه قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره}.
الخامس: البدل، كقوله تعالى: {واتقوا يومًا لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا}، وفي الحديث: «صومي عن أمك».
السادس: مرادفة "في" الظرفية كقول الشاعر:
وآس سراة الحي حيث لقيتهم ..... ولا تك عن حمل الرباعة وانيا
قيل: بدليل قوله تعالى: {ولا تنيا في ذكري}، قال ابن هشام: والظاهر أن معنى: ونى "عن" ذكري، جاوزه ولم يدخله، وونى "فيه"، دخل "فيه" وفتر.
السابع: مرادفة "من" كقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} وقوله تعالى: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا}، بدليل قوله تعالى:{فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر}، وقوله تعالى: {ربنا تقبل منا}.
الثامن: مرادفة "الباء"، كقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى}، قال ابن هشام: والظاهر أنها على حقيقتها وأن المعنى: وما يصدر قوله "عن" الهوى.
التاسع: الاستعانة، قاله ابن مالك وغيره ومثله بـ: رميت "عن" القوس؛ لأنهم يقولون أيضًا: رميت بالقوس، حكاها الفراء، قال امرؤ القيس:
..... تصد وتبدي عن أسيلٍ .....
أي بأسيل، وفيه رد على الحريري في إنكاره أن يقال ذلك إلا إذا كانت القوس هي المرمية، وحكي أيضًا: رميت "على" القوس.
العاشر: تكون زائدة للتعويض عن "عن" أخرى محذوفة كقول الشاعر:
أتجزع نفسٌ أن أتاها حمامها ..... فهلا التي عن بين جنبيك تدفع
قال ابن جني: أراد فهلا تدفع "عن" التي بين جنبيك، فحذفت من أول الموصول وزيدت بعده.
الحادي عشر: تكون زائدة، كقول الله سبحانه: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} في قول أبي عبيد، ومنع سيبويه زيادتها فقال: تقول: نبئت "عن" زيد ونبئت زيدًا، فليست ها هنا بمنزلة "الباء" في: {كفى بالله} لأن "عن" و"على"، لا يفعل بهما ذلك ولا "من" "في" الواجب، فمعنى كلامه أنهما لا يزادان البتة). [مصابيح المغاني: 273 - 280]