باب ما أوله "الراء"
قال جمال الدين محمد بن علي الموزعي المعروف بابن نور الدين (ت: 825هـ): (باب ما أوله "الراء" ومنه "رُب" وهي حرف جر عند البصريين، وقال الكوفيون بإسميتها، واحتجوا بأنه أخبر عنها في قول الشاعر:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ..... عارًا عليك ورب قتلٍ عارُ
قالوا: ولا حجة فيه بل «عار» خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو.
وفيها لغات: ضم "الراء" وفتح "الباء" مع التشديد وهو الأصل، ومع التخفيف، وقد قرئ بذلك في قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا}.
وقال الشاعر:
أزهير إن يشب القذال فإنه ..... رب هيضلٍ لجبٍ لففت بهيضل
وتزاد فيها "التاء" كما زيدت في "ثم"، وأنشد أبو زيد:
ما وي بل ربتما غارةٍ ..... شعواء كاللذعة بالميسم
وأنشد أيضًا:
يا صاحبا رُبت إنسان حسن ..... يسأل عنك اليوم أو يسأل عن
والذي اختاره محققو المتأخرين أن معناها التكثير غالبًا، وترد للتقليل قليلًا.
وذهب الأكثرون إلى دعوى التقليل دائمًا، وذهب جماعة إلى التكثير دائمًا، فمن التكثير قول الشاعر:
رب ركبٍ قد أناخوا حولنا ..... يشربون الخمر بالماء الزلال
وقول الراجز:
ربما أوفيت في علمٍ ..... ترفعن ثوبي شمالات
وقول الآخر: فيا رب يومٍ قد لهوت وليلةٍ ..... بآنسة كأنها خط تمثال
ومنه قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة».
ومن التقليل قول أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ..... ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
أي: "رب" أبيض، وقول الشاعر في آدم وعيسى والقمر:
ألا رُب مولودٍ وليس له أب ..... وذي ولد لم يلده أبوان
وذي شامةٍ غراء في حر وجهه ..... ويكمل في ست معا وثمان
ولها أحكام:
أحدها: يكون لها صدر الكلام والاستفهام فتقول: "رب" رجلٍ جاءني ولا تقل جاءني "رب" رجل.
ثانيها: دخولها على الاسم دون الفعل ويجب كونه نكرة فتقول: "رب" رجلٍ، إلا أن تدخل عليها "ما" فيجوز ذلك فتقول: "ربما" قام زيد، و"ربما" زيد لقيته.
قال الشاعر:
ربما أوفيت في علمٍ ..... ترفعن ثوبي شمالات
وقال أبو دؤاد الإيادي:
ربما الجامل المؤبل فيهم ..... وعناجيج بينهن المهار
وأما دخولها على الضمير في قولك: "ربها" رجلًا قد لقيت، فإنه كناية عن مجهول يفسره ما بعده، وينتصب على التمييز فأشبه النكرات.
ولأجل هذا وحده البصريون في التثنية والجمع فتقول: "ربه" رجلين قد رأيتهما و"ربه" رجالًا قد رأيتهم، و"ربه" نساء قد رأيتهن، وحكى الكوفيون: التثنية والجمع والتأنيث فقالوا: "ربهما" و"ربهم"، و"ربهن".
فمن وحَّد قال: إنه كناية عن مجهول يعتمد فيه على التفسير فيغني عن تثنيته وجمعه.
ثالثها: يجب :كون النكرة موصوفة، فلا تقل "رب" رجل، وتسكت حتى تقول: "رب" رجلٍ صالح، أو "رب" رجلٍ عندك، وأما قول الشاعر:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن عارً عليك ورب قتل عارٌ
فإنما أراد: هو عارف، حذف المبتدأ، كذا قدرة البصريون.
رابعها: أنها تأتي للمضي وللحال دون الاستقبال، سواء دخلت عليها "ما" الكافة أو تجردت عنها تقول: "رب" رجل قام، ويقوم، ولا تقل: "رب" رجل سيقوم، ورجح ابن هشام دخولها على المستقبل واحتج بقول الشاعر:
فإن أهلك فرب فتى سيبكي ..... على مهذب رخص البنان
وبقوله: يا رب قائلةٍ غدا ..... يا لهف أم معاويه
وبقوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا}.
ولا حجة له في ذلك، أما البيتان فإنهما فيهما ليست داخلة للاستقبال وإنما معناه: "رب" رجل موصوف بأنه سيبكي، و"رب" امرأة موصوفة بالقول غدا، كما تقول: رجل مسيء اليوم ومحسن غدا، أي: يوصف بهذا، هكذا أوله بعضم.
وأما الآية فعنها جوابات:
أحدها: ولم يذكر ابن هشام غيره أن الفعل مؤول بالماضي كقوله تعالى: {ونفخ في الصور}، قال ابن هشام. «وفي هذا تكلف لاقتضائه أن الفعل المستقبل عبر به عن ماض متجوز عن المستقبل».
ومقتضى كلامه أن قوله «يود» عبر به عن ماض هو «ود» وأن «ود» عبر به عن «يود» فكأن المعنى: إن الكفار لم يودوا ولكنهم سيودون.
ثانيها: أنها دخلت على المستقبل في كلام الله سبحانه لصدق الوعد، فكأنه قد كان؛ لأن القرآن نزل وعده ووعيده وسائر ما فيه حقًا لا كذب فيه فجرى الكلام فيما لم يكن كمجراه في الكائن، ألا ترى قوله عز وجل: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت}، {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم}، {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم}، أنه لم يكن، وجاء في اللفظ كأنه كان لصدقه في المعنى وهو كائن لا محالة.
وهذا أبين من الأول وإن كان المأخذ واحدًا.
ثالثها: قال الرماني: إنما جاز لأن المستقبل معلوم عند الله تعالى كالماضي، وذلك لأن التكثير والتقليل إنما يكونان فيما عرف حده والمستقبل معلوم الحد عند الله سبحانه وعند المخلوقين مجهول، فجاز في كلامه سبحانه ولم يجز في كلامهم). [مصابيح المغاني: 253 - 262]